الفصل السابع
( نورا قاسم )
مرتْ أيام كئيبة على وتيرة واحدة ، كان حسام فيها قد ترك المستشفى ولم يحضر للجامعة ، ورغم الازدحام والضوضاء لكنني شعرتُ أنني وحيدة ، شعرتُ أن حياتي كانتْ راكدة ، وفى حاجة لأن يُلقى أحدهم حجرا في مياهي الراكدة ، كنتُ أبدد الوقت ما بين المحاضرات وكتابة البحث وأحيأنا كنت أزور مكة ، في كل ليلة كنتُ أنتظر اتصالا من حسام أو حتى رسالة وهو الشيء الذي لم يحدث ، وكلّما عزمتُ على مهاتفته كان الشيء القابع بداخلي يتحرك ويحذرني من المعصية ، بينما شيء آخر يشدني أن افعل ، حين أخلو بنفسي وأبدأ في المذاكرة أتذكر كل ما مرّ بي من أحداث ، فكنتُ أكفُّ عن المذاكرة وتأخذني الخواطر .
ذات ليلة بعد أن صليتُ العشاء وفتحتُ كتابي لأذاكر سمعتُ هاتفي يرن ، لم يكن اتصالا ، كانتْ رسالة ، كلمة واحدة قصيرة موجزة لكنها كانتْ كفيلة بأن تريحني وتهون علىّ غيابه هذه الأيام :
ـ وحشتينى .
وبدأتُ أفكر كيفَ أردّ على رسالته ، وماذا أقول ، ثم كتبتُ كلمة واحدة :
ـ شكرا .
وضغطتُ زر الإرسال .
كانتْ تعصف بقلبي أحاسيس شتى ما بين الخوف واللوم وشيء آخر لا أعرف اسمه ولا معناه ، ونمتُ نوما عميقا تلونه أحلام وأمنيات .في اليوم التالي كنتُ في الجامعة ، بدأت المحاضرة ، انتهتْ ، قمتُ بتقديم البحث ، بدأتْ محاضرة أخرى ، استمعتُ لأستاذ المادة بجسدي فقط كعادتي ، كنتُ شاردة ساهمة أفكر في أشياء تسحر العقول وتسكر النفوس ، كنتُ أفكر في تلك الأحاسيس التي تعتريني حينما أتذكر اسمه حتى انتهتْ المحاضرة ، خرجتُ متوجهة إلى أحد المقاعد وجلست ، لم يدمْ جلوسي طويلا لأنني سمعتُ هاتفي يرن ، وكان المتصل حسام :
ـ نورا ... ازيك .
قلتُ بشفتين مرتعشتين :
ـ الحمد لله ... وأنت ؟
قال مسرعا :
ـ اقفي قدام باب الجامعة ... بوابة ( ص ) هتلاقى عربية مستنياكى .
قلتُ في عدم فهم :
ـ عربية إيه ؟
أجاب :
ـ عاوز أشوفك ...
لمّا طال صمتي أردف :
ـ متخفيش ... أنا بعت السواق بالعربية ... هيجيبك لحد الفيلا .
ثم أغلق الخط .
كنتُ أرتعش ودقات قلبي تتلاحق ، وفى داخلي ذلك الشيء الذي يمنعني ، لكنني توجهتُ إلى باب الجامعة كالمسحورة كعادتي ، توقفتْ سيارة أنيقة وأشار لي سائقها أن أركب ، وكان رجلا متقدم السن أشيب الرأس ، وبعد ساعة توقفتْ السيارة بداخل الفيلا ، صعدتُ إلى الطابق الثاني ، وتركني السائق حينما رأتني والدة حسام ورحبتْ بي وأمرتْ خادما بإحضار العصير ، ثم جاء حسام وكان في صحة جيدة ، جلس على الأريكة بجواري ، فقلتُ مرتبكة :
ـ اومال فين الشلة ؟
أجاب :
ـ أكيد هييجو كمان شويه ... بس بصراحة أنا عاوز أتكلم معاكي لوحدنا .
قلتُ وأنا أنظر في أصابع يدي المضطربة :
ـ لوحدنا إزاي يعنى ؟
قال وهو يقترب منّى :
ـ هو لحد دلوقتى قلبك مقلكيش حاجة.
قلتُ وقد شعرتُ بسخونة تلهب وجنتيّ :
ـ انت ... انت ... اه انت خفيت اهو ... كويس
مدّ يده ووضعها على يدي المرتعشة وضغط عليها برقة وحنان وقال :
ـ ياه ... دا انتى خايفة أوى
نزعتُ يدي من يده وقلتُ :
ـ لو سمحت يا حسام ... أنا مبحبش كده .
قال في ثقة بعد أن مال نحوى :
ـ كده إزاي يعنى ؟
قلتُ وأنا أمدّ ثوبي ناحية الحذاء الممزق :
ـ مينفعش أصلاً تلمسنى كده ... مش كده يبقى حرام ؟
قال :
ـ حرام ؟! .... انتى عايشة فى سنة كام ؟
قلتُ في ارتباك :
ـ لو سمحت يا حسام متترقيش عليا
قال بعد أن ثبت نظره في عينيّ :
ـ أنا مش قصدى ... بس قصدى مين اللى قالك الحب حرام ؟
قلتُ في نبرة مهتزة :
ـ حب إزاي يعنى ؟
قال بلهجة واثقة :
ـ أيوه احنا بنحب بعض يا نورا .
ارتبكتُ أكثر وتلاحقتْ أنفاسي واهتزتْ أنامي وأنا أقول :
ـ لا لا ...ايه ده؟ ... أنا مش بحب حد أصلاً .
قال وقد وضع يده على يدي مرة أخرى :
ـ لا انتى بتحبينى .... خايفة ليه تقولى ... ما تسيبى قلبى هو اللى يتكلم ويقول انك بتحبينى .
كان الرجلان اللذان بداخلي في ذروة الصراع ، أحدهما يشدني نحو خوفي وخجلي ، والآخر يشدّني نحو تصديق ما يحدث في قصص الحب وأفلام الغرام ، أفقتُ من سكرتي وأنا أنزع يدي من يده ، لم أتكلم فتراجع هو في جلسته وقال :
ـ انتى هتفضلى لأمتى تخبّى اللى جواكى ... أنتي لو قادرة تخبى أنا مش هقدر أخبى اكتر من كده ... أنا بحبك ... بحبك من ساعة من شفتك أول مرة في المحاضرة .... حبيت فيكى كسوفك وأخلاقك وشخصيتك الجميلة اللى زى قلبك ... حبيت عنيكى دى اللى مش بتفارقنى ابدا ... حتى كلمة أصلاً حبيتها علشانك .
شعرتُ بأن الزمن قد توقف ، وكل شيء حولي صار جامدا ثابتا لا يتحرك إلا دموعي التي تدفقتْ تهطل كالمطر ، ونهضتُ فشعرتُ بدوار يأكل رأسي وقلتُ :
ـ أنا همشى .
كنتُ في سكرة وأنا أنصرف ، لذلك لم أكن أعلم ماذا يقول ، لكنى أعتقد أنه كان يريدني أن أبقى ، وسمعته بوضوح ينادى على السائق ، حين خرجتُ من باب الفيلا كان يتبعني السائق بسيارته ، وأوصلني إلى باب الجامعة ، ثم سرتُ على قدمي إلى محطة الزهور وركبت سيارة ووصلتُ الشقة .حينما طلبت منى زوجة أبى أن أقوم بأعمال المطبخ لم أتزمر أو أغضب ، أسرعتُ وأخرجتُ كل تلك الأحاسيس في غسل الأطباق وتجهيز الطعام ، وتعجبتُ حين حضر أبى مبكرا من العمل وقد أحضر معه فواكه وبخور على غير عادته وتناولنا الغداء وقبل أن أنهض قال أبى :
ـ حضرى نفسك يا نورا علشان .
ظننته سيخبرني أنه سيزور حماته المريضة ويريدني أن أذهب معه ، لكن حاجبيّ ارتفعا تعجبا حين سمعته يقول :
ـ الليلة فيه عريس جاى يطلب أيدك .المؤلف السيد عبد الكريم