الفصل الثامن عشر

221 20 5
                                    

الفصل الثامن عشر
( معتز الصياد )

بعد شهر كنا نجلس في مكتب عادل بيه الذي نفث دخان سجائره في لذة ، ثم نادى بصوت مرتفع :
ـ مراد ... يا مراد .
دلف مراد وأدى التحية العسكرية قائلا :
ـ تحت أمرك يا عادل بيه .
قال عادل وقد ارتخى في جلسته :
ـ أخبار عبد المجيد بيه إيه ؟
أجاب مراد بعد أن مال للأمام :
ـ استوى على اخره ... عمال يزعق زى العيل الصغير ... بس معاه 3 محامين .
قال عادل في تحدٍ :
ـ 3 محامين ؟!...... ممممم .... عامه سيبه كمان شويه عبال ما تعملنا قهوة ...اغلي البن يا مراد .... أغليه
قال مراد مؤديا التحية العسكرية :
ـ حاضر يافندم .
قال عادل قبل أن ينصرف مراد :
ـ بعد ما تقدّملى القهوة خلي عبد المجيد يدخل بس لوحده ...فاهم ؟
أجاب مراد في وقار :
ـ تحت أمرك .
ثم انصرف ، فتوجهتُ بنظري إلى عادل وسألته :
ـ عادل ... متأكد انه هيعترف ؟
أجاب وهو ينظر إلى دخان سيجارته المتطاير :
ـ عيب يا معتز ... أنا حضّرت كل حاجة .... بس انت متأكد من الخواجة يوجين
قلتُ مسرعا :
ـ انت رحت معايا إسكندرية وقابلته والكلام كان قدامك يا عادل .
قال عادل بعد صمتٍ قصير :
ـ يبقي عبد المجيد هيقع ...متقلقش .
قلتُ في ترددٍ وخوف :
ـ طيب ولو أنكر ؟
أجاب وهو يطفئ سيجارته في المنفضة :
ـ عمرى ما طمعت إن متهم يعترف من أول مرة ... لازم ينكر ... بس هخليه يلف حوالين نفسه ....استحالة هطلب التحقيق معاه كمتهم إلا لو فيه دليل عليه ... عبد المجيد ده واحد معروف في السوق وله معارف وعلاقات وراجل ذكي ومش سهل ... وأنا مش هعلب لعبة معاه إلا لو كنت متأكد إني هكسب .
أخذتُ نفسا وعميقا ودعوتُ الله في سرى أن ينتهي هذا الموضوع ويظهر الحق ، سمعتُ صوت من يستأذن في الدخول ، ثم قدّم مراد القهوة وقال :
ـ القهوة يا فندم .
قال عادل في جدية :
ـ نادى على عبد المجيد بيه .
بعد قليل دلف إلى غرفة المكتب رجل ممتلئ الجسم طويل القامة أصلع الرأس في بذلة أنيقة ينظر بعينين حادتين ، ثم قال وقد بدا على وجهه غضب واضح :
ـ جرى إيه يا عادل بيه ... مش أنا اللى اترمى الرمية دى ... وكمان باعتلى ضبط وإحضار للشركة بتاعتي .... دا تصرف ممكن تندم عليه .
كان الرجل مهيبا قوي الشخصية يتحدث في غضب ، لكن لمحتُ شفته السفلى ترتعش قليلا ، ثم سمعتُ عادل يقول :
ـ تفضل اقعد يا عبد المجيد بيه ...احنا مش هنعطلك ... هناخد اقولك وتمشي .
قال الرجل وهو يجلس :
ـ بس دى مش طريقة ابدا ... وكمان رافض دخول المحامين ...أنا ....
قاطعه عادل قائلا :
ـ يا عبد المجيد بيه ... الموضوع مش مستاهل محامين .... دى تهمة عبيطة موجهة ليك ... وأنا عارف انك فوق اى شبهات..... بس مجرد روتين مش اكتر .
بدا الهدوء على وجه الرجل ثم قال :
ـ تهمة إيه ؟
سأله عادل :
ـ انت من مواليد الإسكندرية ... جيت القاهرة امتي ؟
أجاب الرجل :
ليه ؟.... دا تحقيق بقا وأنا ارفض ...
قاطعه عادل مرة أخري قائلا في نبرة حادة :
ـ انت متهم في جريمة قتل... ولو عطلتني عن التحقيق هسجنك على ذمة التحقيق ....اهدى كده وجاوب على الأسئلة علشان تروح .... جيت القاهرة امتي وليه ؟
قال الرجل في ثبات أو محاولا أن يكون ثابتا :
ـ أنا مش هتكلم إلا في وجود المحامين .
قال عادل في مكر :
ـ وجودهم زى عدمه يا عبد المجيد بيه ... هم ميعرفوش حاجة عن التهمة ... وهيتفاجئوا لمّا يعرفوا انك قتلت.
هنا قال الرجل بشفتين مرتعشتين :
ـ قتلت ؟!
رفع عادل صوته مناديا على مراد الذي سرعان ما دلف إلى غرفة المكتب ، فقال له عادل :
ـ خلى المحامين يتفضلوا .
لم يمضِ وقت طويل حتى دلف إلى الغرفة ثلاثة رجال أنيقين في بذلات سوداء ، وقدّم كل منهم نفسه لنا ، ثم جلسوا على أريكة بجوارنا ،
قال عادل :
ـ يلا بقا ... جاوب يا عبد المجيد بيه .
قال أحد الرجال المتأنقين :
ـ مفيش اى إجابة إلا بعد دراسة التهمة الموجهه لعبد المجيد بيه
قال عادل في جدية :
ـ دا فى المحكمة ... تطلب التأجيل فى المحكمة ...لكن دا تحقيق ... يعني يجاوب او يتحبس على ذمة التحقيق لحين رفع القضية للنيابة ... ومش جايز يكون مجرد اتهام باطل من أعداء عبد المجيد بيه .... عايز أعرف جيت سكنت في القاهرة امتى وليه ؟
أجاب الرجل وقد انكسر كبرياؤه قليلا :
ـ من 14 سنة تقريبا .
سأله عادل في برود :
ـ ليه ؟
أجاب الرجل :
ـ شغل .
سأله عادل :
ـ سكنت فين ؟
أجاب :
ـ فى الفيلا بتاعتي .
قال عادل متهكما :
ـ مش صعب شوية إني أصدق انك كنت صياد عند المعلم رجب ومعاك فيلا هنا .
قال في ارتباك حاول أن يخفيه :
ـ أنا مكنتش صياد ...أنا كنت صاحب أكبر شركة تصدير سمك على مستوى الجمهورية ... وعيب أوى .........
ـ العيب انك تكذب يا عبد المجيد بيه .
هكذا قاطعه عادل ثم أردف :
ـ انت خايف تقول انك كنت فقير وغنيت فجأة ... أنا مش بحقق فى تهمة اختلاس لا سمح الله ...أنا بحقق فى تهمة بسيطة أوى ...قتل مش اكتر
هنا قال أحد الرجال الأنيقين في حماسة بعد أن سال لعابه :
ـ دى تهمة بدون أي دليل ... وأنا ارفض توجيه أي تهمة لموكلي
قال عادل رافعا صوته :
ـ مراد ...يا مراد .
حينما دلف مراد وأدى التحية العسكرية أشار له عادل ناحية الباب ، فاتجه مراد إلى باب الغرفة وجلب رجلا كهلا ضخم الجثة ، فدلف الرجل الضخم في خوفٍ وتردد ، أمره عادل بالجلوس ثم قال محدثا الضخم :
ـ تعرف الراجل ده يا معلم رجب ؟
هنا ساد صمت كصمت القبور، وتلوّن وجه عبد المجيد بيه باللون الأحمر كأن دم جسمه كله تجمع في وجهه ، بينما كان المعلم رجل الضخم يتأمل وجه عبد المجيد ثم قال :
ـ ده عبد المجيد ..أيوه عبد المجيد .
قال عادل في ذكاء :
ـ اسمه عبد المجيد بيه يا عم رجب ...عبد المجيد بيه اللى طول عمره رجل أعمال من ساعة ما كان في الإسكندرية ... ولا انت لما كنت تعرفه مكنش بقي رجل أعمال ؟
أجاب الرجل :
ـ اللى أعرفه انه كان شغال عندى .
مال عادل للإمام سائلا المعلم رجل ليُكمل :
ـ وبعدين ؟
قال الرجل :
ـ وبعدين اختفى فجأة .
سأله عادل ساخرا :
ـ إيه حكاية الاختفاء ده يا عم رجب ... هم ليه كل اللى بيشتغلوا عندك بيختفوا ؟... مش انت قلتُلى ان فيه واحد اختفي قبله ؟
أجاب المعلم رجب :
ـ أيوه يا سعادة البيه .
سأل عادل :
ـ مين بقا ؟
أجاب :
ـ محمود الصياد .
هنا قال عبد المجيد بيه في غضب واهتزاز :
ـ أنا معرفش حد اسمه محمود الصياد خالص .
قال عادل في برود وسخرية :
ـ وهو حد قالك انك تعرفه ...ولا الاسم فكرك بحاجة ؟
ثم أكمل محدثا المعلم رجب :
ـ مين اللى اختفى الأول ؟... محمود الصياد ولا عبد المجيد بيه ؟
أجاب الرجل :
ـ عبد المجيد يا سعادة البيه .
نهض عادل وأشعل سيجارة جديدة وقال :
ـ يا عم رجب قلتلك اسمه عبد المجيد بيه ... بيه يا عم رجب .
قال المعلم رجب :
ـ بيه بيه يا سعادة البيه .
قال عادل وهو يدور حول المكتب :
ـ تفضل انت يا معلم رجب .
نهض المعلم رجب كديناصور وهو يقول متهللا :
ـ اروّح يا سعادة البيه ؟
أجابه عادل :
ـ لا يا عم رجب ... خليك شويه امكن نحتاجك تاني ... خلي مراد يعملك قهوة ... بس خليه يغلي البن يا عم رجب .
قال الرجل متوسلا :
ـ أنا مش عايز قهوة يا سعادة البيه... أنا عايز أروّح .
قال عادل بعد أن جلس خلف مكتبه :
ـ بس خليك شويه يا عم رجب .. قعدتك حلوة .. وقعدتك بتفكر عبد الجيد بيه بأيام إسكندرية ...يا سلام أحلى أيام والله ... تفضل استني بره .
عبقري فعلا يا عادل ، يا لك من شيطان !
استطعتَ بكل ثقة وبرود أن تهوي بكبرياء الرجل من السماء إلى الأرض ، هكذا حدثتُ نفسي ، ثم سمعتُ عادل يقول :
ـ ليه بقا يا عبد المجيد بيه كنت بتجيب سمك وتوديه الشقة بتاعت الدور التالت ؟
أجاب الرجل في غضب :
ـ سمك ايه وشقة الدور التالت ايه؟ ... انت عايز توصل لايه بالظبط ؟
أجابه وهو يدس تحت أنفه صورة تقريبية للرجل الذي كان يأتي بالأسماك لوالد نورا رحمه الله :
ـ الراجل ده كان بيتردد على شقة الدور التالت ... ويجيب معاه سمك محدش طلبه .
حاول عبد المجيد بيه أن يخفي ارتعاشه يده وهو يمسك بالصورة وقال :
ـ دى اهانة يا عادل بيه ...إزاي تشبهني بواحد زى ده ...لو كلفت نفسك وبصيت كويس فى الصورة هتلاقي مفيش شبه خالص بيني وبين الصورة .

فتح عادل درج المكتب وأخرج شيئا ما وضعه على المكتب أمامه ثم قال :
ـ فعلا مفيش شبه خالص .. بس لو لبست الباروكة دى  ولزقت الشنب ده هتلاقي فيه شبه .
قالها وهو يمدّ يده ( بباروكة ) الشعر المستعار والشارب اللاصق ، فقال الرجل في عصبية :
ـ لااااا كده كتير أوى وعيب أوى ... انت عايزني ألبس باروكة والزق شنب علشان ابقي شبه القاتل اللى بتدور عليه ... انت بتضيع وقتك ياعادل بيه ... لما تيجى تدور وسط الشرفاء ورجال الأعمال اللى سمعتهم تشهد بيها البلد كلها يبقى انت بتضيع وقتك ... أنصحك بلاش تضيع وقتك ...وترمي الباروكة والشنب دول وتدور على القاتل بتاعك وسط المجرمين .
قال عادل في استهتار متعمد :
ـ طيب تنصحني أرمي الباروكة والشنب في الشارع ولا أرجعهم في شقة الدور الخامس اللى مكتوبة باسمك وبتدعي انك بتستعملها مخزن للشركة ... ولا دى كمان مش شقتك ؟
أجاب مسرعا :
ـ شقتي ... بس أنا أول مرة أشوف الباروكة والشنب دول ؟
قال عادل في جدية :
ـ ماشى ... أنا هجيبلك واحد شاف الباروكة والشنب دول قبل كده .
ثم نادى صارخا ومازال ينظر في وجه عبد المجيد بيه :
ـ يا مراد ... مراد .. انت يازفت .
هرول مراد إلى داخل غرفة المكتب قائلا في قلق :
ـ أمرك يا بيه .
أشار عادل ناحية الباب ، فاتجه مراد بدوره إلى الباب وجذب رجلا يبدو عليه الوقار ، فقال عادل :
ـ اقعد يا حاج الحناوي واحكي كل حاجة قدام عبد المجيد بيه .
قال الحاج الحناوي :
ـ بس يا بيه أنا حكيت كل حاجة .
قال عادل وهو نظر إلى عينيّ عبد المجيد بيه نظرات ثابتة ثاقبة :
ـ أنا عاوز عبدالمجيد بيه يسمع .
قال الحاج الحناوي :
ـ زمان يا بيه جالي الراجل اللى قاعد قدّامك ده بس كان له شعر بني وشنب عريض أسود ... وفهمّني إنه من أهل الخير ويحب يساعد الناس اللى بتكسب لقمتها بالحلال ... ساعتها أنا كنت غلبان معايا مطعم يدوبك متر في مترين ...هو اتبرعلى بمبلغ كبير علشان أوسع المحل وأكبّره...قالى انه جرب السمك بتاعي ومبسوط منّي ...علشان كده هيساعدني أوسع المحل ... وفعلا ادّاني فلوس كتير أوى ...وكبّرتُ المحل ..بس كان له شرط غريب ... انه كل يومين او تلاتة هييجى ياخد مني 3 كيلو سمك يوزعهم على الغلابة ...مش هو ده الغريب يا بيه ...الغريب انه قالي انه هو هيوزع السمك ده بنفسه على الغلابة ويفهمهم انه شغال عندى ديليفرى في المعطم ...ساعتها أنا استغربت أوى وقلتُله طيب وليه ... قالي علشان مش عايز الناس الغلابة يعرفوا انهم بياخدوا صدقة منه ... علشان كده اداني اسماء الناس اللى بيوزع عليهم السمك وأكد عليا إنه لو حد منهم وجه سألني مين بيطلب السمك ده ...أقولهم الاوردر بيوصل باسمائهم ... وان رقم غريب بيطلب الاوردر و...
قاطعه عادل قائلا :
ـ ادّاك أسماء مين ؟
أجاب الحاج الحناوى :
ـ اسم قاسم عبدالعزيز .
نظر عادل نحوى ، فاتجهتُ ناحية الباب وأشرتُ إلى نورا التي كانتْ تجلس في إحدى زوايا الطرقة ، فحضرتْ مبتسمة وأمسكتُ يدها برفق ودلفنا إلى غرفة المكتب ، حينما رأنا عبد المجيد بيه حملق في نورا وارتبك ونهض محتقن الوجه وقد تصبب العرق منه ، فقال عادل مسرعا :
ـ وطبعا يا عبد المجيد بيه ... نورا استلمت منك السمك اكتر من مرة ... صح يا نورا .
فأومأتْ نورا برأسها موافقة ، فقال عادل :
ـ انتَ قتلت الراجل ومسبتش وراك أي دليل ... يعني كان ممكن متظهرش تاني .... إيه الحكمة انك تظهر تانى وتودى سمك لأي حد سكن الشقة بعد جريمة القتل ؟
خرّ عبد المجيد بيه على المقعد وه يرتعش ، ووضع وجهه بين يديه وقال :
ـ علشان القتيل كان بيجيلى فى كوابيس ويصرخ فى وشى ويقول أنا جعان ....جعان عاوز اكل سمك ...

المؤلف .. السيد عبد الكريم
البارت الجديد هيكون يوم الخميس بعون الله

نصف ملتزمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن