الفصل الخامس
مر يومين عليه وهو يعيش داخل صومعة اختلقها له عقله حتى يعيد عليه فيها كل ما مر به يذكره بأوجاعه كطرف سكين حاد ينغزه بقسوة كلما وجد فى قلبه لين او شوق لتنفيذ رغبة والديه منه بأن يترك لنفسه الفرصة مرة اخرى للسعادة والتجربة لعله خير له هذه المرة لكن يقف عقله له بالمرصاد فى كل لحظة ضعف منه..
مثلما يفعل به الان وهو جالس فوق مقعده فى محل عمله غافلا عن كل المحيط به وبيده سيجارة تنساها بين انامله وهو يعانى مرة اخرى داخل ذكرى من عدة ذكريات لايام قاسية عاناها مع زوجته اخذت تهاجمه الان دون هوادة رغم محاولاته نفضها بعيد لكن اخذت تهاجمه بشراسة حتى استلم لها اخيرا
يتذكر حين نهض من فراشه ثم يسير بأتجاه الباب بخطوات بطيئة متثاقلة يعلم ما بأنتظاره ككل يوم تقريبا وقد صدق حدسه حين وجدها تجلس فى مكانها المعتاد كانها اصبحت تجد متعتها حين يراها بحالتها تلك تستلذ بتعذبيه وجلده بحقيقة اصبح لا يجد مفرا منها والفضل لها فى هذا
ليزفر بقوة يمرر كفه فوق وجهه بقوه قبل ان يقترب منها ببطء يراقب وجهها شديد الاحمرار وعينيها المنتفخة من اثر بكائها يراهن نفسه بأنها لم تتحرك من مكانها تجلس على حالها هذا منذ استيقاظها حتى تضمن رؤيته لها وقت استيقاظه ليقف مكانه زافر انفاسه ولكن هذه المرة ببطء وهدوء هو فى امس الحاجة له قبل ان يتحدث اليها قائلا بهدوء لكن اتى صوته مرتجفاً رغما عنه
:تانى يا امانى....اخرته ايه بس اللى بتعمليه فيا وفيكى ده يا بنت الناس
لم تجيبه بل تعالت شهقات بكائها اكثر كأنها كانت فى انتظار حديثه هذا لها حتى تبدء فى نوبتها المعتادة فاقترب منها جالسا فى المقعد المقابل لها قائلا بصوت حزين متوسلا
:كفاية ابوس ايدك بقى وارحمينى....انتى على الحال ده من يوم ما عرفنا....انتى كده بتموتنى بالبطيئ
رفعت عينيها المتورمة تسمح انفها الاحمر بمنديلها قائلة بحدة وقسوة لا تتناسب مع مظهرها ولا بدموعها المنهمرة تلك
:انا اللى بموتك بالبطيىء.....ليه خير... اومال لو انا اللى فيه عيب ومش انت كنت هتعمل ....
صرخ بها يوقفها عن باقى حديثها المهين له قائلا بغضب وقسوة
:اخرسى خالص متكمليش....ايه فاكرة ايه...هفضل متحمل منك كده لحد امتى
تجعدت ملامح وجهها حزنا وهى تنكمش على نفسها خوفا هامسة بانكسار اجادت صنعه تلعب به على وتر شعوره بالذنب ككل مرة
:بقى كده يا صالح بتزعلقى .. مش متحمل منى كلمتين افضفض بيهم عن نفسى
لكنه هذه المرة قد فاض به الكيل ولم يعد يحتمل المزيد منها يتحشرج صوته وتتوحش نظرات عينيه يضغط فوق اسنانه بغضب هامسا
: علشان كلامك بقى سم وعشتنا مع بعض بقت نار بتحرقنى وبتحرقك ..ومبقاش ليها غير حل واحد بس ..
شحب وجهها تتوسع عينيها خشية وقد علمت بما هو اتى من حديثه لذا اسرعت تحتضنه بقوة صارخة برجاء حتى توقف كلماته تلك
:لاا ..يا صالح علشان خاطرى ..انا اسفة مش هتكلم تانى كده بس بلاش تقولها وحياة اغلى حاجة عندك
زفر بقوة يغمض عينيه محاولا تهدئة غضبه ونفوره منها والذى اصبح يزداد يوما عن يوما بتصرفاتها وكلماتها الجارحة التى كانت تطفىء بها كل يوم شيئ من صبره عليها واحتماله وهى تقتل به احساسه كرجل دون كلل منها او تردد يمنع نفسه عن تلك الخطوة المصيرية معها ظناً منه بأنها ستراعى بعد ذلك فى تعاملها معه لكن هيهات ظنه هذا وهو يراها تعود لممارسة هوايتها المفضلة وخلق جو من الدراما المأسوية بينهم يوما بعد اخر اصابه بالبرود والنفور من التواجد معها فى مكان واحد يغيب فى عمله قدرا الامكان هرباً منها ومن حياتهم معا
حتى سمعها تتحدث الى شقيقتها فى احدى الايام قد فسرت بروده هذا معها على انه استسلام منه لها ثم اخذت تتباهى زهواً فى حديثها بما تفعله معه وكيف انها اصبحت قاب قوسين او ادنى من تملكه وجعله خاتما بأصبعها كما ارادت منذ البداية لينهى فى لحظة كل شيئ بينهم دون تردد ناطقا بتلك الكلمة التى كانت له كالتحرر من جحيم ظل به لاشهر يتحمل فيها افعالها وتقلباتها كلها لاحساسه بالذنب نحوها وانه كان سببا فى حرمانها من نعمة تتمناها كل امرأة
لذا لا يمكن ان يعيد الماضى مرة اخرى... لا يمكنه ان يعانى تلك الاوجاع مرة اخرى... ليس عندما تكون هى المعنية هذه المرة بالامر ...لن يحتمل ان يرى فى عينيها مارأه فى عينى غيرها عندما علمت بالامر...لذا..
نهض بحزم يجمع اشيائه من فوق المكتب سريعا يغادر وعلى وجهه الاصرار والتصميم فقد حسم امره وحان الوقت لانقاذ نفسه من السقوط فى تلك الدوامة وانهاء اوجاعه وانين قلبه والى الابد ولا سبيل لهذا سوى القيام بامر واحد لامفر منه
*****************
جلست حول المائدة تتلاعب بطعامها بشرود ووجه شاحب وعيون مسهدة لتربت زوجة خالها بحنو فوق كفها قائلة
:كلى يا فرح ..وسبيها لله .. كله هيتم بأمره واذنه
صدحت ضحكة غليظة قاسية من مليجى وهو يخرج من غرفته لايرتدى سوى ملابسه الداخلية يهتف بعدها بسخرية وتهكم
:اتعلفى ياختى يمكن تعجبى عريس الغفلة .. اللى ماحد شاف وشه لا هو ولا ابوه من يومها
نهضت فرح وافقة تهتف به بعنف وحدة وهى تتجه ناحية غرفتها
:البركة فيك وفى فضايحك .. وهو فى عاقل يفكر يجى يحط ايده فى ايدك و يناسبك
ثم توجهت الى غرفتها فلا طاقة لها لمجادلة اخرى معه يكفيها ماحدث بينهم من قبل وتلك المشاجرة والتى وانتهت ككل مرة بتطاوله بالضرب عليها لذا تركته واغلقت الباب خلفها بعنف ارتجت له اركان الشقة ليصرخ بها غاضبا
:ارزعى ياختى الباب ..ماهو ده اللى باخده منكم ..جتك القرف انت واختك فى ساعة واحدة
ثم التفت الى زوجته ينهرها بحدة
:جرى ايه ياعين امك..انتوا قاعدين تتسمموا ومش عاملين حسابى ولا ايه ...فين الاكل يا ولية
نهضت كريمة سريعا قائلة بتخبط
:لا يا خويا ازى ..الاكل جاهز ومتحضر ..ثوانى ويكون ادامك
ثم اسرعت ناحية المطبخ تختفى داخله تتعال بعدها صوت طرقات فوق الباب الخارجى ليهتف مليجى فى ولده الصغير بخشونة
:قوم ياض افتح الباب ..تلاقيها المعدولة التانية رجعت
ثم رفع كوب من المياه الى شفتيه يرتشفه لكنه عاود بصقه فورا بقوة حين هتف طفله بلهفة
:ده عم صالح اللى جه يابا
نهض فورا يعدل من وضع ملابسه يسرع فى اتجاه الباب هاتفا بترحاب وتذلف
:اهلا يا صالح باشا ...اهلا بكبرنا وابن كبرنا ..اتفضل
دلف صالح الى الى الداخل يمد يده نحوه ملقيا بالسلام قائلا بعدها بهدوء
:كنت عاوزك يا مليجى فى كلمتين ..بس قبلها لو امكن انى اقعد مع فرح دقيقتين ..يبقى كتر خيرك
فغر مليجى فاه مذهولا فلاول مرة فى حياته يتم احترامه والاستأذان منه فى امر ما لذا اسرع بنفض ذهوله هاتفا بغبطة واعتزاز
:طبعا ..دانت تأمر يا صالح باشا ...البيت بيتك ياحبيبى
ثم صاح مناديا لفرح بغلظة وبصوته الاجش عدة مرات حتى ارتفع صوتها بقوة تصيح من الداخل
: ارحمنى بقى عاوز ايه تانى ...دى كانت ساعة سودا يوم ما طلبونى منك للجواز..
فتحت الباب تظهر من خلاله وهى تكمل بحدة وعنف
: ريح نفسك بقى انا مش عوزاها اصلا الجوااازة دى
مطت حروف اخر كلماتها تتسع عينيها بصدمة حين رأته واقفا امامها بكل هيبته يتطلع اليها وأبتسامة ملتوية صغيرة فوق شفتيه جعلتها تخفض عينيها عنه ارضا بأرتباك وهى تهمم من بين انفاسها حانقة تلعن نفسها وخالها كعهدها فى كل مرة تراه فيها قبل ان يصيح مليجى ملتفت الى صالح قائلا
: شوفت يا صالح باشا اهى على الحال ده من ساعة الحوار اياه ..مش طايقة حد منا يكلمها كلمة ومفيش على بلسانها اللى عاوز قطعه غير الكلمتين دول
ثم اشار ناحية غرفة جانبية قائلا بترحاب
:اتفضل انت يا خويا فى اوضة الجلوس ..نورتنا والله ..البيت نور
دلف صالح الى داخل الغرفة لكن ليس قبل ان يرمقها بنظرة ارتجفت لها اوصالها لاحظها مليجى هو الاخر ليبتسم لها بشماتة مشيرا لها وهو يهمس
:ادخلى يا ختى العريس عاوزك فى كلمتين وابقى ورينى بقى هتقولى له ايه فى اللى سمعه منك ده؟!
شعرت بدموع الخيبة تحرق عينيها ترتفع الغصة بحلقها تكاد تخنقها وهى تتطلع فى عينيه الشامتة تهمس له هى الاخرى بحرقة
: ينتقم منك ربنا ياشيخ ..على كل اللى بتعمله فينا ده ..انت ايه شيطان
ثم دلفت سريعا الى داخل الغرفة دون ان تمهله الفرصة للرد تقف جامدة مكانها حين رأت صالح يقف وقد اعطى ظهره لها ووجهه ناحية النافذة يضع يديه فى جيبى بنطاله للحظات ساد فيها صمت كان قاتلا بالنسبة لها وهى تقف خلفه تفرك كفيها معا باضطراب حتى انتهت قدرتها على التحمل لتهمس تناديه بصوت خرج منها مرتعش فيأتى حديثه دون مقدمات او يلتفت نحوها قائلا بهدوء شديد بعث فى داخلها الاضطراب اكثر
: انا كنت جاى النهاردة علشان عايز اكلم معاكى كلمتين ..
صمت زافرا بقوة وهو يخفض رأسه ينظر ارضاً ترى عضلات ظهره مشدودة بتوتر كأنه يعانى صعوبة فى ايجاد تلك الكلمات حتى يلقيها عليها ..كلمات ادركتها من توتر جسده دون ان ينطق بها ..فليس من السهولة على من هو فى مثل اخلاقه وشهامته ان يقوم بجرح الاخرين او يصيب كرامتهم بمقتل لذا اوجدت له العذر تشعر بالشفقة عليه اكثر من حالها هى وهو يلتفت اليها ببطء يضع انامله بين خصلات شعره قائلا بأضطراب
:شوفى يافرح ..انا لولا الظروف وان ...انا كنت عاوز اقولك يعنى انى ..
التفت مرة اخرى مواليا ظهره لها زافرا مرة اخرى لترتعش شفتيها وهى تضمها بشدة حتى تمنع نفسها من تجهش باكية قلبها يهفو له ويرق لحاله المضطرب لذا قررت ان تريحه من معاناته تلك هامسة بصوت مرتجف متحشرج
: الموضوع مش مستاهل كل ده ..انا خلاص فهمت انت عاوز تقول ايه..
زفر صالح ببطء يلتفت اليها مواجها ترتفع على شفتيه تلك الابتسامة الصغيرة ثانياً ولكن ما جعل قلبها يرتجف بتخبط بين جنباتها هى تلك النظرة بعينيه وقد رأت للحظة الانكسار والالم بهما لكن سرعان مااختفت فوراً قبل حتى ان تتمكن من التحقق مما رأته فقد حل مكانهم سريعا نظرة عنيفة مشتعلة قائلا ببطء
: مافتكرش يا فرح انك فهمتى حاجة ولا هتفهمى انه مش سهل عليا اللى بعمله هنا دلوقت ..انا ...انا
اغمض عينيه زافرا بقوة تخرج الحروف من فمه كانها نار تكويه لا يجدها بالسهولة كما كان يتخيل قبل حضوره اليها لذا فتح عينيه سريعا قائلا بحزم وهو يتحرك من مكانه ينوى المغادرة المكان فورا
:انسى انى جيت هنا من الاساس..انسى اى حاجة اتقالت انا همشى
مر من جوارها سريعاً لكن اوقفه عند الباب متجمداً صوتها حين صرخت به بحرقة غاضبة وقد قررت ان تلقى هى فى وجهه الكلمات بعد ان رفض ان ينطقها كما لو كانت لا تستحق منه تعبه او اهتمامه فى حين كانت هى تقف مكانها بقلبها الاحمق تختلق له الاعذار ترفق بحاله
:طبعا يا صالح باشا هنساها متقلقش..وهو زيها زى الكلمتين اللى اتقالوا من كام يوم..احنا اساسا اعتبرناهم كده من ساعتها .. كلمتين فى الهوا وتقالوا ..
قست نبراتها تكمل قائلة بسخرية وتهكم
:ماهو مش معقولة صالح باشا هيرضى بالبت فرح بنت لبيبة ولا يناسب خالها مليجى العايق ..بس عاوزة اقولك ان رفضته انت فى غيرك شاريه وراضى به كمان
شعرت بحاجتها لكلماتها الاخيرة تلك كرد اعتبار لها ..اردته ان تعلم ويدرك جيدا ان هناك من يريدها وراضيا بها برغم كل ما قالته سابقاً
شهقت بفزع حين عاد الى مكانها فى لمح البصر كأعصار غاضب شرس يمسك بذراعها بعنف بقبضته ضاغطا بشدة فوقها وهو يفح من بين انفاسه بنبرة باردة قاسية
:وده بقى مين يا ست فرح ان شاء الله اللى يبقى شارى ..تقصدى انور ظاظا مش كده .. انطقى
صرخ بها لترتجف وهى تتلعثم بأرتباك تحاول اظهار نفسها ثابتة لا تخاف منه ولا من غضبه المنبعث من عينيه يكاد يحرقها بلهيبه
: اقصد اللى اقصد ..اظن ده ميهمكش ..ولا مش مصدق.. ان ان ممكن حد ...
قطعت حديثها ترتجف خوفاً كأرنب محاصر حين اقترب بوجهه منها على حين غرة منها انفاسه تلف وجهها كالنيران المحرقة يهمس ضاغطا فوق اسنانه بغيظ وهو يقربها منه رغم مقاومتها الواهنة
:بت انتى ..مطلعيش جنانى عليكى ..واتكلمى معايا عدل