الثالث

32 1 0
                                    

"يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ!

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

_ أبو نواس.

_______________

وصلت "هند" مكانها المنشود، أنتبه لها الحارس ونهض من مكانه فورًا يرحب بها بأحترام.
_ أهلاً يا ست هانم.

أمأت برأسها وهي تقول.
_ أزيك يا عم عواد ؟؟

أبتسم "عواد" بحرارة وهو يقول.
_ بخير يا ست هانم والله.

_ بتعمل اللي بقولك عليه يا عم عواد ؟؟

هز "عواد" رأسه مسرعاً يقول.
_ أه والله يا هانم، على طول بسقي الزرع وأكنس جمب المكان، حتي حضرتك بنفسك هتدخلي وتشوفي.

أبتسمت وهي تخرج من حقيبة اليد خاصتها بضع ورقات مالية، وضعتها فى كفه فقال بفرح.
_ ربنا يبارك لك يا ست هانم، من يد ما نعدمها.

تركته ودفعت البوابة الحديدية وهي تدلف عبرها، مشيت خطوات قليلة وأنعطفت يساراً حتي ظهرت أمامها المقابر ..

أجتاحتها البرودة فجأة، رهبةٍ لذلك المكان، وأزدادت تلك البرودة أكثر حين وقعت عينيها على أسم فقيدتها أعلي لوحة خشبية بيضاء، "ميادة إبراهيم عبدالمنعم".

أقتربت وهي تمسح على أسمها بأنامل مرتجفة، وقد مر أمام عينيها شريط طويل من أيام الصبا والطفولة، الكثير من الأحلام والخطط لهما معاً، والكثير من الضحكات الصاخبة والمناوشات التي لا تنتهي، والبكاء ولحظات اليأس أيضاً، عناقها الذي كان يخفف عنها الكثير، كل شئ كأنه كان بالأمس، لم تستطع أن تصدق بعد أنها رحلت، وأنها ودعتها وهي ترتدي كفنها الأبيض وليس فستان زفافها كما وعدتها يوماً أنها مَن ستُلبسها أياه.

لمعت مقلتيها بتلك العبارات المتحجرة بهما، كم تمنت لو هطلت هذه الدموع التي سجنتها داخلها منذ ذاك اليوم، لكانت رحلت عنها تلك الغصة المريرة بقلبها، لكانت هدأت قليلاً تلك البراكين المشتعلة بصدرها، ولكنها ما عادت تهبط خارجياً، بل تسقط داخلها وتحرك روحها، وتذكرها برفيقة دربها الوحيدة التي أُخذت غدراً وأخذت معها جزءًا كبير من روحها، وأخلفت من بعدها فراغٍ أصاب قلبها وأصبح يتسع كالفجوة يوماً بعد يوم.

أتي في مخيلتها وميض من ذكرى ذلك اليوم المشؤوم، وذلك الخبر الذي وقع على مسامع الجميع كالصاعقة، حين تعالت أصوات الصراخ والعويل من بعض نساء الحي، حتي والدة "هند" من شدة صدمتها صرخت في مَن أتي إليهم بالخبر بأنه كاذب، وأخذت تدب على صدرها فى نحيبٍ متعالي، لقد كانت تحبها كثيراً وتعتبرها أبنة ثانية لها، الجميع حَزِنَ وبشدة على تلك الفتاة اليافعة وعلى ما حدث لها.

# مـا _بـيـن_ الأبيــض_ والأســود.( متوقفة حالياً)Where stories live. Discover now