لفت انتباهها تلك الفتاة التي تراقبها منذ يومين، تجلس دائما بمفردها، يبدو أن الحزن والهم أخذ منها ما أخذ، تبكي في صمت مهيب، لا تحاول إشراك أحد أمرها، حزنت لحزنها، حتي أنها كانت تلاحظ تلك الدمعات التي تخدعها، لا تشعر بها إلا وهي تجري علي خديها استجابة لحال تلك المسكينة، قررت أن تُكمل مراجعة وردها، لا تريد التطفل علي أحد، علها لا تريد أحد معها، لكن نفسها، ضميرها، إحساسها المرهف، أبَي إلا أن يحاول مجرد محاولة، تذكرت قول والدها الدائم لها...
"تذكري يا جميلتي أنه من سار بين الناس جابرًا للخواطر، أدركه الله في جوف المخاطر"..
حزمت أمرها علي الذهاب إلي تلك الفتاة في محاولة منها للتخفيف عنها.
ياسمين بتردد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتبهت الفتاة لصوتها، لتمسح دمعات قلبها قبل عينيها بأسي، موليةً لها وجهها، لتكمل بابتسامة رقيقة، تناقض تماماً ما تحمله بداخلها: وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته.
ياسمين: ممكن أقعد معاكي شوية لو مش هزعجك؟!
الفتاة بفرحة: طبعاً، اتفضلي..
لاحظت ياسمين تلك الفرحة العارمة التي غمرت قلبها وجوارحها، لتفهم بعدها أن الوحدة كانت سبباً من تلك الأسباب التي تمنع فرحتها.
لاحظ الأب تصرف ابنته، لينظر إليها بفخر وحب، تاركاً لها الأمر، علها تخفف حزناً عن قلب تلك الفتاة.
ياسمين بمرح، وهي تجلس بجوار الفتاة علي هذا الكرسي البسيط، الذي ابتدأ به والدها مقهاه الصغير: الجميل زعلان ليه بقا؟!!
ابتسمت الفتاة بأسي، لتتحدث ياسمين ثانية: لاحظتك من يومين، كل يوم بتيجي تقعدي هنا، تطلبي القهوة، وتقعدي لوحدك، لاحظت إنك زعلانة دائماً، مهمومة، بتبكي في صمت، لاحظت إنك في عالم تاني دائماً، بس عالم أقسي من اللي إحنا فيه كمان، أنا مش حابة أتطفل، بس لو حبيتي تتكلمي، أنا موجودة، ومعاكي، علني أقدر أساعدك، وتقدري تعتبريني أختك، أنا مستعدة تماماً، أنا مش عندي أخوات، وهكون مبسوطة جدا لو بقيتي أختي.
ابتسمت الفتاة برقة وهدوء، فرحة مختلطة بالأسي والألم: أنا بجد مش عارفة اقولك ايه!! بس عايزة أقولك إنتي جيتي في وقتك، أدارت وجهها لتكمل بحسرة وهي تشبك أصابعها ببعضها بحزن: أنا فعلاً تعبت، تعبت من السكوت، الكتمان، الحزن، تعرفي يا....
ياسمين بابتسامة: ياسمين، أختك ياسمين.
الفتاة بابتسامة مثلها: وأنا غيداء، تعرفي اسمك جميل خالص يا ياسمين، بحب الاسم دا جدا.
ياسمين: أحبتك الجنة، وخالقها، وعباد خالقها يا جميلتي.
أكملت الفتاة حديثها: تعرفي يا ياسمين، الحزن دا زي قوالب الطوب، واحدة فوق واحدة، بيكون سور جامد علي القلب، وكل ما تزيد الهموم، يزيد ارتفاع السور دا، فيزيد الحمل علي القلب، لحد ما تضيق بالإنسان، تلاقيه بيتمني الموت، ويرجع يستغفر لأنه عارف إنه غلط.
ياسمين بتأثر: يا حبيبتي، الحياة من غير همومها، صعابها، مشاكلها، صدقيني هتكون مملة، هي دي الحياة، وهي دي الدنيا، هموم، وابتلاءات، علشان يتعرف مين الصابر من الجاذع، مين حمد وشكر رغم الصعاب، ومين استسلم من أول جولة، لكن الموثوق فيه إن ربك كبير، وهو رحيم بعباده، علي قدر التعب، هيكون الجبر.
غيداء بتمني: ودا عشمي فيه.... ثم أكملت بعد صمت قصير: ياسمين أنا هقولك مشكلتي، أنا حبيتك، ووثقت فيكي، وأنا فعلا محتاجة أتكلم، محتاجة اخد رأي حد، محتاجة أفضي قلبي لهموم جديدة مش بتنتهي.
ياسمين بمرح: وأنا كلي آذان صاغية، بس هخلي الحاج يوسف بعملنا فنجانين قهوة من ايديه الحلوين دول.
ابتسمت بحب: هو عم يوسف والدك؟!!
ياسمين: أيوة!
غيداء: ربنا يباركلك فيه يا حبيبتي.
أمنت علي دعوتها، لتذهب إلي والدها، نظرت إلي صوتها الذي ارتفع قليلاً وهي تسألها عن قهوتها التي نسيت سؤالها وهي قريبة منها.
ابتسمت بخفة علي طفولتها، ومرحها مع والدها.
ياسمين بمرح: أنا جييييت!!
غيداء بابتسامة خرجت من قلبها، فقد اشتاقت إليها كثيراً: أنرتي يا حبيبتي.
ياسمين: كنا بنقول إيه بقا؟!
غيداء: بصي يا ياسمين، أنا ظروف عيلتي صعبة، إحنا بنتين، وبابا، وماما....
بابا تعبان، تعبان نفسياً أكثر من تعبه الجسدي، ماما ضاغطة عليه جامد، كل شيء عندها الفلوس، مش بتفكر في تعبه، ولا صحته، عايزاه طول الليل والنهار شغال، لو شافته رجع البيت مرة تقابله بأسطوانة محفوظة، بناتك، هتجهزهم إزاي، مش انت اللي عايز تعلم، ماما كانت عايزة تزوجني لابن خالي، مش عايزة أكمل تعليمي، عايزة تزوجني من وأنا لسة في ثالثة إعدادي، لكن بابا اللي عارضها، ورفض، ومقابل الرفض دا، معيشاه، ومعيشانا معاه في هم، ونكد، بابا تعبان خالص، وكل يوم صحته في النازل، حتي مش بقا قادر علي أي شغل أصلاً، نفسيتي تعبانة خالص، مش قادرة حتي اساعده، كل يوم اشوفه وهو بيدخل في غيبوبة بسبب إنه ناسي نفسه وعلاجه، مش بقدر أعمل حاجة ليه!
بدأت دموعها تنهال علي خديها بغزارة، لتقاطعها ياسمين بتأثر: بصي يا غيداء، الأول أنا عايزة أقولك إن الحال من بعضه، هحكيلك عني أنا بقا، أشارت تجاه والدها: شايفة الراجل اللي هناك دا، علشان يقدر يقف كدا في مكان نظيف، يبقي بتاعه، من غير إهانة ولا نظرات شفقة، أو نظرات مرض من الناس عمل إيه؟!
عبرت عن تساؤلها وفضولها بملامحها فقط دون حديث، لتكمل الأخري: الراجل دا دفع عمره كله والله يا غيداء، من شغله كعامل نظافة في الشوارع، الناس منها اللي بتقلل منه، ومنها اللي بتعامله كأنه حد بيطلب منهم صدقة، ومنهم اللي ييجي بمنتهي قلة الذوق والبجاحة يرمي الزبالة تاني مكان ما هو نظف علشان يخليه يرجع يعيد تاني، لحد ما وصلت بيه مرة إنه اترمي بالحجارة من ناس عديمة الإنسانية، وعديمة الدين....
لم تستطع الصمود، وارتداء ثوب القوة أكثر من ذلك، إلا أن الذكريات السيئة، فتحت جرح قلبها الذي لم يلتئم بعد، لتسيل دماؤه، حاملة معها دموع عينيها الساخنة، تكوي قلبها قبل خديها.
غيداء بحرج: أنا آسفة بجد، مش قصدي إني اجرحك وأقلب عليكي أحزانك ومواجعك والله.
ياسمين: لا يا حبيبتي، إنتي مش عملتي حاجة، بس اللي عايزة اقوله ليكي، إن هي دي الدنيا، ومش هتتغير، مش بتريح حد، ولا بتعطي حد اللي هو عايزة، علشان هي دنيا، بتتمتع بتعب اللي فيها، لكن عزاءنا يا بنتي إنها دنيا، وكدا كدا هتنتهي، وعشمنا في ربنا كبير إننا نرتاح في الجنة يا حبيبتي.
غيداء بتفهم: فعلا معاكي حق والله، ودا اللي مقوينا ومصبرنا لحد دلوقتي.
ياسمين: تعرفي يا غيداء، إنتي ممكن تساعدي والدك، حتي لو بطريقة غير مباشرة، أي حاجة تقدري تعمليها اعمليها، ومن غير ما تظهري لوالدك دا علشان مش يحس إنه مقصر معاكي، ثم أكملت بتساؤل: إنتي بتدرسي ايه يا غيداء؟!
غيداء: تمريض، مش كنت حباه، ولا عايزة ادخله، بس دخلت علشان الاقي وظيفة واقدر اساعد والدي...
ياسمين: اللهم بارك، التمريض جميل جدا يا بنتي والله، وكمان تقدري تلاقي شغل دلوقتي حتي وإنتي لسة بتدرسي.
غيداء بتأثر: والله مش قادرة اتقبله يا ياسمين، دا غير إن ناس كتير الله يسامحهم بيقفلوني منه اكثر، بيقعدوا يقولوا كلام مش كويس عنه، وإنه فيه وفيه...
ياسمين بتفهم: بصي يا غيداء، أولا عايزة اقولك مقولة كدا أنا واخداها قاعدة أساسية في حياتي، وماشية عليها، وصدقيني ارتاحت أوي بعد ما فهمتها وأمنت بيها..
(رضا الناس غاية لا تدرك... ورضا الله غاية تدرك)
يا غيداء اللي بيكون كل همه وتفكيره كلام الناس، ونظرتهم ليه، حياته دائما هتكون تعيسة، لأن الناس عمرها ما بيعجبها حاجة، لو عملتي حاجة هينتقدوكي، عملتي عكسها هيلوموكي، هم دول الناس، اوعي تزعلي إنك في تمريض، أو تحسي بالنقص، بصي للتمريض من نظرته الحقيقية، إيه دور التمريض، إيه كان هيحصل لو التمريض مش موجود، مش تبصيله من نظرة الناس ليه، واللي هم أصلا ميعرفوش حقيقة التمريض إيه!! خلي ليكي نظرة، رأي، وجهة نظر، فكري بعقلك إنتي...
غيداء بتأثر: كلامك مريح اوي يا ياسمين بجد، اللهم بارك.
ياسمين بمزاح وهي تتمثل الغرور: طبعاً طبعاً اووومال.
غيداء بضحكة: أنا همشي أنا لأن القاعدة سرقتني، واتاخرت، وشكرا جزيلا علي القهوة، بجد عم يوسف احسن حد اشرب من ايده قهوة بجد، والكافيه بتاعه محترم خالص، أول مرة اقعد في كافيه أصلا، هدوء، وكمان حبيت فكرة إن مكان البنات غير الشباب، ربنا يزيدكم يا رب.
ياسمين: يا روحي دي شهادة نعتز بيها والله، الله يصلح حالك يا جميلة، ويشرفني وجودك عندنا، وعايزاكي تنشفي كدا.
غيداء بابتسامة علي كلمتها الأخيرة: حاضر."هي نظرة؛ مسؤولة عن كل خطواتك في الحياة، فإذا كانت تلك النظرة مصوبة إلي الناس، اهتمامها كله بكلماتهم، فلا تنتظر السعادة، والراحة، بل عليك الاستسلام والانسياق خلف درب التشتت، وإن كانت نظرة جامدة للناس، لينة للحق، لينة مادامت لله، فلتبشر، ولتنطلق بشغف كي تصل نهاية الطريق"
أنت تقرأ
تجار السعادة
Ficción Generalياسمين؛ هذا هو اسمي الذي نسبه أبي إلي، وإن كان لا يعلم أنني سأحبه بشدة، فقد كانت أمي تعشق زهور الياسمين، حتي أنها كانت دائماً ما تحلم أن تملك حديقة صغيرة لتملأ أرجائها برائحة الياسمين الطيبة، لكن ليس كل حالمٍ موقنًا بتحقيق حلمه، فهناك من يطلبه الله...