قد تصيبك نوبة من السعادة تبهج قلبك، فتنسي علي إثرها حقيقة الحياة البائسة، فتتفاجئ حينما تاتي الرياح بما لا تشتهي السفن كعادتها، فتخيم الغيمات السوداء علي قلبك الذي كان يقيم حفلاً منذ قليل، فلا تتعجب يا صديقي! أليست هذه حقيقة الدنيا أذكرك بها؟! أليست هي كذلك دائما؟! تبيض حينًا! وتسود أحياناً! ثم تري جبر الله لقلبك حينما تصبر وتتحمل.
ياسمين ببكاء: يا بابا عمري ما توقعت إن كل أحلامنا، وتعبنا، وكل حاجة تروح علي الأرض في لحظة واحدة، وبسبب إيه؟! بسبب الظلم!! بسبب إن اللي ليه ظهر فعلا مش بينضرب في بطنه! أما الطيب والغلبان في الزمن دا بينضرب في كل مكان، ليه حقنا يضيع بالشكل دا؟! تعبنا ومعاناتنا، فرحتنا اللي أجلناها علشان نوصل للحظة دي، ليه مجهودنا يروح للي مش كان بيعمل ربع اللي عملناه، ليبيه.... ألقت آخر كلمة لها بنحيب شديد، مما جعل والدها يأخذها لأحضانه، ليخفف عنها ما هي فيه، وإن كان يتمزق ويتألم أكثر منها، فما أقسي كسر الخواطر! وما أقسي الظلم وخيبة الآمال!!
الأب: بس، اهدي يا بنتي، اهدي، إيه اللي ثولتيه دا يا ياسمين؟! إحنا من امتي بنقابل إرادة ربنا بالطريقة دي؟!
ينفع يا بنتي؟!
ياسمين: غصب عني يا بابا صدقني، والله غصب عني، مش مستوعبة إن تعبك يروح كدا، كمية التعب والمعاناة اللي إنت شوفتها علشان أوصل للمكانة دي، وكله يروح في غمضة عين، صدقني ضياع الحلم دا حاجة صعبة يا بابا، إنك تحلم وتحلم وتعلي في سقف طموحك لفوق، ومش بتحلم بس، بتحلم وبتسعي وتبذل كل ما تقدر تبذله من جهد، وفي الآخر يروح كله لحد مش تعب ربع تعبك لمجرد إن ليه واسطة.
الأب: ومين قالك إن تعبنا ضاع؟! لسة يا بنتي الوقت قدامنا نجني ثمرة تعبنا وجهدنا، طول ما لسة في نفس خارج ونفس داخل لينا، يبقي لسة مفيش حاجة ضاعت مننا، كمان يا بنتي اوعي تنسي إن ربنا وعدك إنه عمره ما هيضيع تعبك، وعد ربنا كفاية، واوعي تفتكري إننا مش لينا ظهر، إحنا لينا ربنا فوق أي حد، وحقنا، ونتيجة جهدنا وتعبنا هناخدها، وفوقها مكافئة صبرنا، اصبري يا بنتي، اصبري ربك كبير، اوعي تزعلي، واحتسبي تعبك وكسرة خاطرك دا عند ربنا، والله المستعان.
ياسمين وقد هدأ حديث والدها من روعها قليلا، لكن إحباط الطموح وكسر الخاطر أقسي من الذبح لو يعلمون: الحمد لله علي كل حال يا بابا، ربنا يعوضنا خير في تعبنا يا رب.
الأب: هيعوضنا يا بنتي إن شاء الله، وأنا بالنسبة ليا فخور جدا باللي وصلتي ليه، وشايف إن تعبي جه بفائدة حتي لو مش عرفتي تتعيني، ولو مش هتكملي كمان.
ياسمين بسرعة: لا يا بابا، بإذن الله هبدأ ماجستير في أسرع وقت وهكمل وهتعين، وبأذن الله لما أوصل هقولها للكل بأعلي صوت.
الأب بحب: ربنا يعينك يا بنتي يا رب.
💚صلي علي النبي وتبسم، تبسم يا جدع، اللاه💚
ظهر الهلع علي وجهها وهي تري الأطفال لأول مرة، أطفال لم تمر علي ولادتهم ساعات، أتوا لتصبح مسؤولة عنها، صحتهم وشفائهم بين يديها بعد الله سبحانه وتعالي، تري هذا الطفل الذي يبكي بينما تضرب إحدي الممرضات بشدة علي ظهره، كانت تظنها في البداية تضربه وتقسوا عليه، لتعلم مع الوقت أن هذه الطريقة إحدي سبل العلاج له، بل وأهمها، لكن قلبها الرقيق لم يعتد الأمر بعد، ولم يستطع التحمل!
حفص: مش تقلقي يا غيداء، اللي هي بتعمله للطفل دا اسمه علاج طبيعي، لازم يتعمل ليه لأنه كدا بيجمع المخاط اللي موجود علي رئة الطفل فتقدر تخرجه بالتشفيط.
غيداء بإيماءة متأثرة.
حفص: هتتعودي، أنا كنت زيك بل أسوأ، وبعدين لازم تجمدي انتي لسة مش روحتي الغسيل كمان.
غيداء بقلق: الله المستعان، ربنا يستر.
🥺ممكن تدعولي، أنا في حاجة ماسة إلي الدعاء🥺
بعد مرور أسبوعين، وقد ساد الحزن علي هذا البيت البسيط حينما مرض صاحبه، لكن مرضه هذه المرة لم يكن عاديا لتسعفه ابنته سريعا بحقنة الأنسولين الخاصة به فيفيق من جديد، إلا أن الوضع زاد سوءا، ربنا كانت تلك القاسية القلب التي جعلت حياته ما هي إلا مشقة وتعب، لا راحة فيها ولا فرحة، لم ترض أبدا بما قسمه الله لها، بل كان نظرها دائماً لما لدي غيرها، فلبئس ما تفعل هي!! أليس هو بزوجها؟!! أليس أبا لبناتها؟!ما هي إلا أيام حتي فارقت تلك النفس الطيبة، التي لم تنل حظها من الراحة في الحياه، ذهبت ووجهها تعلوه علامات الكفاح والمشقة، ليكون الموت راحة لها بإذن الله.
كانت تبكي قهراً وحزنا، تبكي علي نفسها وعلي قطعة قلبها التي تركتها، تبكي علي وردة أيامها، نور حياتها الذي انطفئ إلي الأبد، قاطعها رنين هاتفها الذي كانت تعلم هوية المتصل، فهي صديقتها حفص التي لم تكف عن السؤال عنها ومعاونتها بعد أسبوع واحد فقط تعرفتا فيه...
غيداء بنحيب: السلام عليكم...
حفص: وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته، غيداء أنا حاسة باللي انتي فيه، بس رجاء استهدي بالله، ادعيله يا غيداء، كلنا لها والله، هوني علي نفسك يا حبيبتي، صدقيني والدك لو كان موجود عمره ما كان هيقدر يشوف دمعتك أبدا، تخيلي إنه دلوقتي حاسس بكل اللي اللي انتي فيه دا..
غيداء: بحاول يا حفص، مش قااااادرة، صدقيني صعب، أنا تعبانة أوي أوي، أنا بعد بابا ولا حاجة، هتعذب من بعده، هبقي زي الجارية يا حفص.
حفص: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اهدي يا غيداء، اهدي يا حبيبتي، طيب عرفيني عنوانك علشان عايزة اجيلك...
أملتها العنوان لتغلق الخط، بعد أن أخبرتها الأخري أنها في طريقها إليها.*بعد نصف ساعة تقريباً*
كانت تنظر إلي هذا البيت القديم الذي يظهر بساطة سكانه الشديدة، دقت الباب لمرتين، لتفتح تلك السيدة التي يظهر علي ملامح وجهها القسوة، أو ربما لا! لكن هذا ما استنبطته هي من ملامح وجهها!!
حفص: السلام عليكم، اوي حضرتك يا طنط، هو دا بيت غيداء؟!
السيدة: أيوة هو، أدارت وجهها نحو الداخل وهي تصيح: يا غيداء.... انتي يا بت....
أتت مسرعة وهي تعلم سبب صياحها هذا، لتنظر إليها ويكأنها تسألها أليس بإمكانها أن تحسن معاملتها أمام صديقتها علي الأقل؟! نظرت سريعاً إلي غيداء لتخفي أثار الموقف، وتخرجها من الاحراج الذي هي فيه.
غيداء: حفصتي، وحشتيني اوي، اتفضلي تعالي، أخذتها من يدها معها لتلك الغرفة الصغيرة، التي تكاد تسع سريرين صغيرين وخزانة ملابس قديمة.
حفص بتأثر علي حالها الذي يظهر مدي حبها لأبيها علي ملامحها الحزينة، عينيها المتورمتين من البكاء، ويكأنها طائر قُص جناحيه ليصبح عاجزاً عن الطيران، فحجبت عنه الحياه: غيداء، اشتقت إليك!
لم تتفوه بأية كلمة سوي أنها ارتمت في أحضانها لتسمح ببراكين دفينة داخل قلبها المكسور بالخروج.
احتضنتها حفصة بشدة، وهي تمسد علي ظهرها بحنان، لتخرج دموعها الأخري علي صوت بكاء صديقتها الحار، والذي يوحي بالكثير من الصفعات التي تلقتها تلك الفتاة من الحياة.
حفص وهي تربت علي ظهرها بحنان: اهدي يا حبيبتي، اهدي، قدر الله وما شاء فعل، صدقيني ربنا مش بيعمل غير الخير، ولكل أجل كتاب، دا أجله، ودا عمره يا غيداء، ودا بردو قضاء ربنا هنعترض عليه؟!
غيداء ببحة أثر البكاء: الحمد لله، بابا كان كل حاجة ليا في الدنيا، هو اللي كان مصبرني علي الحياة، بعد بابا أنا هتعب اوييي، بس بابا ارتاح والله، ا ملي اللي يرضي ربنا مهما كان الشخص اللي قدامك، وصدقيني ربنا مش بيضيع والله.
غيداء: أنا تعبانة اوي يا حفص، تعبانة بجد.
حفص: لا بأس عليكي يا عيون حفص، بسم الله علي قلبك حتي يهدأ يا حبيبتي، أبعد الله الحزن والتعب عنك يا رب، يلا نخرج أنا وإنتي، اخرجي من البيت غيري جو، نتمشي شوية وارجعك تاني.
غيداء: مش قادرة لا.
حفص: صدقيني لو خرجتي هترتاحي، قاعدتك كدا طول الوقت هتتعبك اكتر، لازم تخرجي علشان تقدري تقومي وتشوفي حالك، يلا معايا وهنرجع علطول.
وافقت بعد معاناة من صديقتها وإلحاح عليها..
حفص: يلا هنتظرك قدام البيت لحد لما تلبسي وتيجي، عايزة اتفرج شوية علي الأراضي والجو الجميل دا.
أنت تقرأ
تجار السعادة
Ficción Generalياسمين؛ هذا هو اسمي الذي نسبه أبي إلي، وإن كان لا يعلم أنني سأحبه بشدة، فقد كانت أمي تعشق زهور الياسمين، حتي أنها كانت دائماً ما تحلم أن تملك حديقة صغيرة لتملأ أرجائها برائحة الياسمين الطيبة، لكن ليس كل حالمٍ موقنًا بتحقيق حلمه، فهناك من يطلبه الله...