في صباح أحد الأيام، حينما كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل بلطف عبر نوافذ المنزل، جلست نمارق بين أكوام الأوراق القديمة والملفات المتربة التي تراكمت على مر السنين. كانت تبحث عن وثيقة معينة تحمل أهمية خاصة لمشروعها الجديد، ولكن الأوراق المبعثرة أخذتها في رحلة عبر الزمن، حيث تذكرت فيها الأيام الجميلة والمرة على حد سواء.
بدأت نمارق بتنظيف الأتربة عن الأوراق، تقلبها بعناية، وتسترجع ذكريات قديمة. كانت تفتح كل ملف بحذر، تتمعن في كل ورقة، تحاول فك شيفرات الماضي المدفون بين سطورها. وبينما كانت تتصفح الصفحات الصفراء المتربة، توقفت عيناها عند صورة مألوفة ظهرت في إحدى الصحف القديمة. رفعت الصحيفة ببطء، محاولة إزالة الغبار الذي غطى العنوان والصورة، وكانت تلك اللحظة التي تجمد فيها الزمن بالنسبة لها.
نظرت نمارق بذهول إلى الصورة، إذ كانت صورة سامي، الشخص الذي تعرفه جيدًا. كان مرفقًا بالمقال الصحفي القديم، وعنوان المقال كان يتحدث عن حادث مرور مروع وقع في يوم مشؤوم، اليوم الذي فقدت فيه نمارق زوجها وابنها الحبيبين. بدأت تقرأ تفاصيل الحادث، وكلما تعمقت في القراءة، ازدادت دهشتها وذهولها.
اكتشفت الحقيقة التي لم تكن تتوقعها أبدًا: سامي كان هو سائق الشاحنة التي تسببت في الكارثة. كان هذا الاكتشاف كالصاعقة التي ضربت قلبها وعقلها معًا. شعرت بدمائها تتجمد في عروقها، وبدأت يدها ترتجف، وأسقطت الصحيفة على الأرض.
تجمعت كل الأفكار والأسئلة في ذهن نمارق دفعة واحدة. كيف لم تعرف هذا السر طيلة هذه السنوات؟ كيف عاش سامي معها ومع هذا الحمل الثقيل من الذنب؟ كانت تتساءل عن كيفية استطاعته إخفاء هذه الحقيقة الرهيبة كل هذه المدة. هل كان يشعر بالندم؟ وهل كان يحاول تعويضها عن خسارتها بطريقة ما؟
بقيت نمارق جالسة في مكانها، مشدوهة أمام الحقيقة التي اكتشفتها للتو. استرجعت الأحداث ببطء، محاولة ربط القطع المتناثرة من الأحجية. تذكرت كيف كانت تشعر بوجود شيء غريب وغير مفسر في سلوك سامي منذ تلك الحادثة، وكيف أنه كان يحاول دائمًا أن يكون قريبًا منها ويساعدها في كل شيء. الآن فقط فهمت سبب شعوره الدائم بالندم ومحاولته تعويضها عن خسارتها.
قررت نمارق مواجهة سامي، ولكنها كانت تحتاج إلى بعض الوقت لتستوعب الحقيقة الجديدة ولتقرر كيفية التعامل معها. جلست في غرفتها، محاولة تهدئة أفكارها، تأملت في السقف وهي تسترجع كل لحظة قضتها مع سامي منذ الحادث. تذكرت لحظات الفرح والحزن، الضحك والبكاء، وتساءلت كيف ستؤثر هذه الحقيقة على علاقتها به.
وفي اليوم التالي، عندما حل المساء، اختارت نمارق الجلوس في الحديقة الخلفية للمنزل، حيث الأزهار المتفتحة والشجيرات الخضراء كانت تحيط بهما، كأنها شاهد صامت على اللحظة الحاسمة. كان الجو هادئًا، لا يكسره سوى صوت الرياح الخفيفة وهي تتلاعب بأوراق الأشجار. قررت أن هذا هو الوقت المناسب لإخبار سامي.
نادته بهدوء، وقالت بصوت هادئ: "سامي، أحتاج أن نتحدث." جلس سامي بجانبها، وعيناه تبحثان عن علامات توتر أو قلق في وجهها. بدأت نمارق حديثها ببطء، محاولًة العثور على الكلمات المناسبة لتواجهه بالحقيقة التي اكتشفتها.
قالت بصوت مهزوز: "أمس، بينما كنت أرتب بعض الأوراق القديمة، وجدت شيئًا أعتقد أنك بحاجة لمعرفة أنني أعرفه الآن." ثم أخرجت الصحيفة القديمة من جيبها، ووضعتها على الطاولة أمام سامي.
نظر سامي إلى الصحيفة، وبدأت عيناه تتسعان من الصدمة والذهول. عندما رأى صورته مع المقال، أدرك أن الحقيقة التي حاول إخفاءها لسنوات قد انكشفت أخيرًا. بدأت الدموع تنهمر من عينيه، ولم يستطع السيطرة على ارتجاف يديه.
اعترف سامي بكل شيء بصوت متهدج، وأخبر نمارق كيف أن الحادث كان خطأً فادحًا، وكيف أنه عانى من الذنب والندم طوال هذه السنين. بكى بحرقة، معتذرًا عن الألم الذي سببه لها، وكيف أنه لم يستطع أن يخبرها الحقيقة خوفًا من فقدانها إلى الأبد.
كانت نمارق تستمع إلى كل كلمة، وعيناها ممتلئتان بالدموع. شعرت بمزيج من الألم والغضب والحزن، لكنها أيضًا شعرت ببعض الراحة لأنها أخيرًا عرفت الحقيقة. أخبرت سامي بأنها تحتاج إلى بعض الوقت لتستوعب كل ما سمعته، وأنها لم تقرر بعد كيف ستتعامل مع هذا الكشف.
تركت نمارق سامي في الحديقة، وعادت إلى غرفتها لتفكر بعمق في كل شيء. بقيت لعدة أيام في حالة من الصمت والتأمل، محاولة التوصل إلى قرار. استشارت بعض الأصدقاء المقربين، واستعانت بذكرياتها وأفكارها لتصل إلى قرار نهائي.
أنت تقرأ
ظل الحادث
Romanceتدور القصة حول نمارق، الفتاة اليتيمة التي عاشت في معاناة لا تنتهي، حيث واجهت الحياة بكل قسوتها ومرارتها. على مدى سنوات طويلة، كانت الحياة تقذفها بصفعات متتالية، وكأنها تجسد كل ما هو ضدها، دون أن تمد يد العون أو تمنحها لحظة من الرحمة.