كانت نمارق واقفة تحت السماء الملبدة بالغيوم، والمطر ينهمر بغزارة، كما لو أن السماء تبكي بشدة. لم تكن تحمل مظلة ولا ترتدي معطفًا يحميها من البلل، بل كانت واقفة بشموخ، عيناها مغلقتان، ووجهها مرفوع نحو السماء، مستسلمة للقطرات الباردة التي تلامس بشرتها.
في تلك اللحظة، كانت مشاعرها خليطًا معقدًا من الحزن والراحة. كل قطرة ماء كانت تحمل معها ذكرى، شعورًا، أو لحظة مرت بها. شعرت وكأن المطر يغسل روحها من الداخل، يطهرها من الأوجاع والهموم المتراكمة. كانت تتنفس بعمق، تستنشق رائحة الأرض المبللة، وتشعر بنسيم الرياح الباردة يعانق جسدها.
في داخلها، كانت تعيش حالة من السكون والصخب في آنٍ واحد. كانت مشاعرها تتضارب بين الحزن الذي يثقل قلبها والراحة التي يجلبها المطر. كان هناك شيء مريح في تلك الوحدة تحت المطر، شيء يجعلها تشعر بأنها على اتصال مع الطبيعة ومع نفسها. وكأن المطر يحمل رسائل سرية من الكون، يخبرها أن كل شيء سيمضي، وأن اللحظات الصعبة ستنتهي.
كانت تتذكر لحظات من الماضي، أفراحها وأحزانها، الأشخاص الذين مروا في حياتها، والأحلام التي لم تتحقق. كانت الدموع تختلط مع قطرات المطر، ولا يمكن التمييز بينها. ولكنها كانت تشعر بتحرر غريب، كأنها تتخلص من ثقل السنين.
كل قطرة كانت تشعر بها كأنها لمسة خفيفة على جلدها، تحمل معها شعورًا بالحنان والاهتمام. كانت تلك اللحظات تحت المطر تمنحها نوعًا من السلام الداخلي، وتجعلها تشعر بالقوة رغم الهشاشة التي تعتريها. كانت تدرك أن الوقوف تحت المطر لن يغير من الواقع شيئًا، ولكنه يمنحها لحظات نادرة من التواصل مع نفسها، مع أحلامها، ومع الآمال التي لم تمت بعد.
في النهاية، شعرت بأن المطر هو صديقها، هو مرآتها التي تعكس ما في داخلها، هو الصمت الذي يتحدث بلغتها. ووسط كل ذلك الضجيج، وجدت هدوءها، وجدت نفسها.
دخلت المنزل بعد توقف المطر عن النزول، جسدها يرتجف قليلاً من البرودة وملابسها ملتصقة ببشرتها. تخلصت من حذائها المبلل عند الباب، وخلعت ملابسها المبتلة بسرعة، واستبدلتها بملابس جافة دافئة. كانت المدفأة تشتعل بنيران هادئة، فجلست أمامها، متكئة على الأريكة، محاولة استعادة دفء جسدها وروحها.
بينما كانت تحدق في ألسنة اللهب، بدأت أفكارها تسرح بها من مكان إلى آخر. تذكرت لحظات الطفولة، وصور الأشخاص الذين افتقدتهم. كانت تلك اللحظات تحت المطر قد أيقظت في داخلها مشاعر متناقضة، وجعلتها تتأمل في قراراتها وأحلامها. كانت هناك عدة قرارات تدور في رأسها، تتصارع بين الحلم والواقع، لكنها لم تكن قادرة على تأكيد أي منها في تلك اللحظة. شعرت بارتباك يسيطر عليها، وكأنها تبحث عن طريق واضح في ضباب كثيف.
فجأة، قطعت صوت الطرقات الخفيفة على الباب حبل أفكارها. كان الوقت متأخرًا، ولم تكن تتوقع أي زائر. نهضت بحذر، توجهت نحو الباب بخطوات مترددة، تتساءل من يمكن أن يكون في هذا الوقت. عند فتحها الباب، ظهرت أمامها سارة، إستقبلتها بابتسامة دافئة ووجه مشرق. كانت سارة تحمل بين يديها صحنًا مغطى، تفوح منه رائحة شهية.
![](https://img.wattpad.com/cover/373338624-288-k304888.jpg)
أنت تقرأ
ظل الحادث
Romantizmتدور القصة حول نمارق، الفتاة اليتيمة التي عاشت في معاناة لا تنتهي، حيث واجهت الحياة بكل قسوتها ومرارتها. على مدى سنوات طويلة، كانت الحياة تقذفها بصفعات متتالية، وكأنها تجسد كل ما هو ضدها، دون أن تمد يد العون أو تمنحها لحظة من الرحمة.