لم تكن دانية تتخيل أن تأتي لها فرصة كتلك التي قد جاءتها، وفي ذلك السن الصغير فقد كانت في العشرينات من عمرها، وتخرجت من كلية طب بيطري حديثًا، وبعدها لم تتوقف فقررت أن تُحضر للماجستير، وقد تنبأ لها الدكتور المشرف على رسالتها بمستقبل باهر نظرًا لأن بحثها الذي كانت تعمل عليه فريد من نوعه، وبعد حصولها على الماجستير استلمت عملًا كطبيبة بيطرية في إحدى المستشفيات بعد بحث وعناء طويل، وقد فوجئت ذات يوم باتصال صاحب مزرعة كبيرة بها يطلب منها أن تعمل لديهم لمدة قدرها شهر على سبيل التجربة ليروا إن كانت ستستمر معهم أم لا وبمرتب مجزي، ثم قررت أن تستشير خالتها التي تعيش معها والتي لم يكن لها أحد سواها؛ فقد توفي والدها وهي بسن صغير وبعدها تزوجت والدتها وسافرت مع زوجها الذي كان يعمل بالخارج، وبعد ذلك أنجبت والدتها منه ثلاثة ابناء ولم تراهم دانية سوى مرات قليلة، وبالكاد كان لها اخوة ولكن بالاسم فقط.
جلست دانية مع خالتها وقالت:
ـ أود أن أستشيركِ في أمر هام يا خالتي
ـ تفضلي يا عزيزتي ما هو؟
ـ لقد جاءت لي فرصة أن استلم عملًا في مزرعة كبيرة لمدة قدرها شهر على سبيل التجربة، وبعد ذلك سيتحدد إن كنت سأكمل معهم أم لا
قالت خالتها بسعادة:
ـ حقًا.. هذا خبر جميل!
ـ نعم ولكن هناك مشكلة؛ فتلك المزرعة بعيدة فهي تقع في مدينة الفيوم وتبعد عن هنا في حدود ثلاثة ساعات، والمسؤول عن المزرعة اقترح عليّ أن أبيت هناك
تغير وجه خالتها للعبوس وقالت مع ذلك:
ـ إنها مسافة بعيدة حقًا، ولكن هذا مستقبلكِ وأعتقد أن تلك الفرصة هي ما كنتِ تسعين إليها لتثبتِ مهاراتك، وتُطبقي من خلالها أبحاثك التي قمتِ بها أثناء دراستك على أرض الواقع
ـ لقد تم اختياري من أجل تلك الأبحاث من الأساس، ولكن المشكلة هي إنني لا أريد أن أترككِ وحدكِ يا خالتي
ـ لا تحملي همي؛ فأنا هنا بين جيراني وأصدقائي ولن أشعر بالوحدة طالما هم بجانبي.
كانت خالتها محقة في تلك النقطة لأن أصدقائها وأحبائها كُثر بالفعل، ولم يتركوها يومًا منذ أن طلقها زوجها منذ عشر سنوات مضت، وقد كان ذلك بسبب عدم قدرتها على الإنجاب فتخلى زوجها عن عشرة تلك السنين في سبيل أن ينجب طفلًا يحمل اسمه، وقد رضيت هي بما قسمه الله لها، وعندما جاءتها أختها ذات يوم تطلب منها أن تعتني بدانية ابنتها؛ لم تتأخر واعتبرت دانية ابنة لها التي رزقها الله بها.
قالت لها دانية:
ـ أعلم أنهم لن يتركوكِ وحدكِ ولكن قلبي لن يكون مطمئن وأنتِ بعيدة عني هكذا
ـ إنه شهر فقط يا عزيزتي، اعتبريها رحلة كتلك الرحلات التي تسافرين بها مع صديقاتك وتغيبين عني بها
ـ ولكن تلك الرحلات لم تكن تتعدى الأيام
ـ الشهر سيمر سريعًا ياعزيزتي لا تقلقي، عليكِ فقط التركيز على عملك وتحقيق هدفك حتى تطبقي أبحاثك على أرض الواقع كما أردتِ دومًا، ومن يعلم فربما يعجبهم عملكِ وتُصبحين طبيبة المزرعة الدائمة، ووقتها سآتي لأعيش معكِ هناك.
أخذت دانية تفكر في حديث خالتها، حيث أن العمل بتلك المزرعة كانت فرصة لن تُعوض بالتأكيد.
سألت دانية قبل سفرها على تلك المزرعة وماجعل قلبها يطمئن قليلًا هو منتجات المزرعة التي كانت متاحة في العديد من المحافظات؛ فكانت المزرعة معروفة بنزاهتها وشغلها الدقيق وشاملة لكل شيء، وبالطبع لم تنسى أن تستشير( أستاذ فكري) والذي كان يدرس لها بالجامعة ولم يبخل عليها بالاستشارة كعادته فقد كان يعتبرها كابنته، وقد أثنى هو على المزرعة ونزاهتها، ولم تُكذب دانية خبر فاتصلت بمسؤول المزرعة الذي تحدث معها من قبل، وأخبرته بموافقتها على العمل لديهم، وقد أكد عليها هو أنه سيرسل لها سيارة لتقلها إلى هناك وعندما اعترضت أخبرها أن ذلك أفضل لأن المشوار صعب جدًا عن طريق المواصلات العادية لذلك وافقت.
***
حزمت دانية حقيبتها واستعدت للذهاب، وجلست قبلها مع خالتها طويلًا تأخذ منها التعليمات الازمة، والتي أوصتها بالكثير من أجل سلامتها فتلك هي المرة الأولى التي تغيب عنها كل تلك المدة، ثم جاء هشام المسؤول عن اصطحابها إلى المزرعة بسيارة كبيرة، ونظرت دانية بدهشة إلى السيارة التي كانت تبدو باهظة الثمن، وسألت هشام:
ـ كم ستستغرق هذه الرحلة تحديدًا؟
ـ ألم يخبركِ مدير المزرعة.. الأستاذ عز الدين؟
ـ نعم أخبرني، ولكني كنت أود التأكد
ـ الرحلة ستستغرق حوالي ثلاثة ساعات أو ربما أكثر، ألم تسمعي عن قريتنا من قبل؟
كم تمنت دانية أن يخبرها أو ربما أقل، ثم قالت:
- لا، فأنا لا أعرف سوى اسم القرية التي بها المزرعة فقط، أليس اسم القرية (قرية الرباح) ؟
ـ بلى صحيح
ـ ولكن أين تقع قرية الرباح في الفيوم تحديدًا؟
ـ هي تبتعد عن قرية تونس بمسافة ليست بقصيرة
ـ قرية تونس!!
ـ إنها قرية شهيرة بالفيوم وهي تبعد نحو ستون كيلو مترًا عن مدينة الفيوم نفسها
ـ بلى فهمت، وهل الأستاذ عز الدين هو المسؤول عن المزرعة وحده؟
- بلى وهو أيضًا بالمناسبة ابن صاحب المزرعة الحاج محمد
ـ حقًا! لم أكن أعرف ذلك
ـ إن شاء الله ستعجبكِ قريتنا كثيرًا؛ فهي مختلفة وجميلة
ـ إن شاء الله
ـ وقد أمر الأستاذ عز الدين بتجهيز منزل صغير لكِ بداخل المزرعة لتمكثين به طوال فترة عملك معنا
ـ هذا كرم كبير منه.
ثم أشار هشام للسائق وانطلقت السيارة في رحلتها، والتي كانت بداية رحلة دانية إلى أرض غريبة عنها كُليًا، ولم تكن تعلم أن تلك الرحلة ستغير من مصيرها على المستوى المهني.. والشخصي أيضًا.
طال مكوثهم بالسيارة وأرادت دانية أن تعرف من هشام بعض من التفاصيل ولكنه كان يرد عليها بردود مقتضبة، كم تمنت لو تقف على جانب الطريق حتى يتسنى لها محادثة خالتها من هاتف عمومي لتطمئن عليها، اندهشت من حالها فلم يكن قد مَر سوى بضعة ساعات؛ فأخذت تفكر ماذا ستفعل إذن وهي ستبتعد عنها كل تلك المدة؟
ثم خطر لها أن تسأل هشام عما إذا كان متاح وجود الهاتف بقريتهم فقالت:
ـ هل الهاتف متاح بقريتكم حتى يتسنى لي الاطمئنان على خالتي؟
ـ بلى.. فهناك هاتف في قصر محمد باشا.
اطمئن قلبها قليلًا؛ فبذلك ستستطيع الاطمئنان على خالتها كل يوم.
عندما اقتربوا من قرية تونس بمحافظة الفيوم؛ أعطى هشام لدانية العصير لتشربه فشربته، وأخذ هو يصف لها قرية تونس ويتحدث عن جمالها.. عن تلك اللوحة الطبيعية في أحضان الريف المصري، واستمعت له دانية باهتمام وهي تنظر حولها مبهورة، ثم شعرت بالنعاس وبعدها بدقائق غطت في نوم عميق.
***
استيقظت دانية على صوت هشام وهو يقول:
ـ لقد وصلنا إلى القرية يا دكتورة دانية.
أخذت تتلفت حولها لتشاهد القرية فوجدتها جميلة وهادئة ذات هواء نقي منعش؛ فأخذت تستنشق هوائها بعمق وشعرت براحة كبيرة، ثم تراءت لها المزرعة من بعيد والتي كانت كبيرة بحق، ورأت قصر كبير يتوسطها والذي كان ساحرًا لم ترى مثله كمعمار ضخم وعتيق الطراز من قبل؛ فسألت هشام:
ـ هل هذا هو قصر الحاج محمد؟
- بلى هو قصر الحاج محمد الرباح
ـ وهل سُميت القرية على اسم والده؟!
ـ لقد سُميت القرية على اسم جده الكبير، نظرًا لمساهمته الكبيرة في نهضة القرية؛ لتصبح كما ترين الآن.
بعد قليل كانوا بالفعل أمام القصر الكبير، فقال هشام لها:
ـ ها قد وصلنا.. تفضلي.
ثم نظرت دانية فوجدت شخص يقف أمام القصر في انتظارها يبدو في أواخر العشرينات من عمره وكان وسيم بحق، وجدته يقول لها:
- أنا عز الدين.. مرحبا بكِ في قريتنا المتواضعة
- أشكرك
ـ تفضلي معي.
دلفت دانية إلى القصر وانبهرت به للغاية، وأخذت تتأمل اللوحات المعلقة على الحائط، والتي كانت ذات ذوق رفيع لم تشاهد مثله من قبل، ثم أخذت تشاهد الأثاث الفخم وقالت مبهورة بصوت مسموع دون قصد منها:
ـ جميل جدًا
سمعها الحاج محمد صاحب القصر فقال:
ـ يُسعدني أنه قد أعجبكِ القصر
التفتت له وهي محرجة وقالت:
ـ إنه ذو ذوق رفيع
ـ أشكركِ ومرحبا بكِ يا دكتورة دانية في قريتنا، أليس هذا اسمكِ؟
ـ بلى
ـ تفضلي اجلسي حتى أشرح لكِ كل شيء عن مزرعتنا
جلست دانية تستمع له وهو يقول:
ـ في البداية أحب أن أوضح لكِ أن القرية هنا صغيرة، والناس هنا لا يتدخلون في ما لا يعنيهم، وأنا لا أحب المشاكل لذلك أريد منكِ أن تركزي فقط على عملك.. هل هذا واضح؟
اندهشت من طريقة حديثه، ثم قالت:
ـ بلى
ـ أظن أن هشام قد شرح لكِ أين ستمكثين؟
- بلى لقد أوضح لي تلك النقطة
ـ حسنًا، سأخبركِ الآن كل شيء يتعلق بالمزرعة.
أخذ محمد يتحدث معها عن المزرعة وطال حديثهما، وبعد أن انتهى؛ ذهبت دانية إلى منزلها الصغير بالقرب من القصر، وبرغم صغر حجمه إلا إنها كانت سعيدة به، فقد كان مُريح وأثاثه بسيط للغاية، وبعد نصف ساعة جاءتها فتاة تحمل الطعام والذي كانت رائحته شهية للغاية؛ فأكلت دانية بنهم وبعدها أخذت تتعرف على منزلها الصغير، وتضع أشيائها به، وبعدها خلدت إلى النوم سريعًا دون أرق على غير عادتها بالرغم من أن المكان كان جديد عليها تمامًا.
يتبع
أنت تقرأ
جدار قارون
Mystery / Thrillerدانية طبيبة بيطرية سمحت لها الظروف أن تعمل بمزرعة كبيرة تقع في قرية بعيدة ومجهولة. وبالرغم من تصميم دانية على تنفيذ مهمتها وتحقيق حلمها، إلا إن لغز القرية وما يخفونه أهلها سيشغلها ويغير أهدافها ويحول مسار حياتها للأبد فما قصة تلك القرية وألغازها الع...