الفصل السادس

146 12 0
                                    

وقف سيف أمام أخيه ويديه خلف ظهره كعادته عندما يرتكب خطأ ما، ثم خرج عز الدين عن صمته أخيرًا وقال له:
ـ لقد تعمدت أن تخالف وعدك معي بالابتعاد عن تلك الفتاة
ـ لقد كنت اصطحبها في مشوار هام فقط لاغير
ـ كفاك مبررات
ـ صدقني لقد كنا...
قاطعه وقال بحدة:
ـ من اليوم لن تتحدث إليها ولن يجمعكما مكان واحد، هل هذا مفهوم؟
ـ لا ليس مفهوم، أنا لست طفلًا لتعاملني هكذا، لقد سئمت ما تفعله معي وأوامرك التي تفرضها عليّ، وكأنني خادمك وليس أخيك
ـ أتعترف الآن بأنك أخي، وتخبرها هي بأنك السائس!!
ـ لقد أخبرتها بذلك حتى أكون إلى جانبها وأراها وهي تعمل عن قرب، ولأعرف إن كانت جيدة أم لا؟
ـ هل تظنني أبله لأصدق أن هشام هو من اقترح فكرة أن نأتي بطبيب بيطري من القاهرة، هل تظنني أيضًا لا أعلم أنك من رشحت دانية تلك كطبيبة للمزرعة وهي بالكاد تفهم بالطب؟
ـ لا إنها جديرة بذلك المنصب بالفعل؛ فهي اكتشفت مما يعاني الخيل
قال عز الدين بسخرية:
ـ وما الذي اكتشفته؟
ـ اكتشفت أن الخيل نُقل لها عدوى فيروسية، وفي الغالب كان وقت إصابتهم عندما كانوا عند عبد المجيد باشا
ـ ماذا تقول، هل تقصد أنهم كانوا يقصدون إصابتهم؟!
ـ للأسف هذا هو ما حدث فلو كان هذا الفيروس حدث محض صدفة كان قد أصاب خيولهم هم أيضًا
ـ لقد أصبحت الصورة واضحة الآن؛ فهو قد أخذ بعض الخيول من عندنا بحجة أن يُحسن نسل الخيول عنده، ثم بعث لنا بالخيول المصابة، وبذلك يقضي على خيولنا المتأصلة النادرة، ويصبح هو الوحيد صاحب سلالة الخيول النادرة بالقرية
ـ هو وابنه فهد يُدمرون الشر لنا، ويحقدون علينا؛ لذلك لن يتوانوا عن أذيتنا بشتى الطرق
ـ هذا صحيح، ولكن هذا سبب أدعى لأن تبتعد عن تلك الفتاة؛ حتى نتجنب المشاكل التي من الممكن أن تحدث؛ فهل ستفعل ما أُخبرك به؟
التزم سيف الصمت فقد كان ذلك صعب للغاية عليه، فقال عز الدين:
ـ لماذا لا تجيبني، هل أكلت القطة لسانك؟
تردد سيف قليلًا ثم قال في النهاية:
ـ لن أستطيع الابتعاد عنها؛ فأنا أحبها
لم يتفاجأ عز الدين من جوابه، وقال:
ـ منذ متى وأنت تحبها؟
ـ منذ أن كنت أدرس بالجامعة بالقاهرة
قال عز الدين بقلق:
ـ هل كانت زميلتك، هل كانت تعرفك قبل أن تأتي إلى هنا؟!
ـ لا.. لا تعرفني ولم تراني وجهًا لوجه من قبل فقد كنت أراها من بعيد وأراقبها وهي تتحدث مع من حولي ولم أحاول أن أتحدث معها يومًا، ولكن كم تمنيت ذلك
سكت قليلًا يتذكر تلك الأيام ثم أكمل وقال:
ـ كنت كل يوم أضع أكثر من سيناريو لأتعرف عليها ولكن لم أجرؤ يومًا على تنفيذه
ـ أنت تعلم جيدًا أن هذا الوضع خاطىء وغير صحيح
ـ ليس بيدي يا أخي ماحدث كان دون إرادتي؛ فأنا أحبها كثيرًا أكثر مما تتخيل، أنت تعرف أنني حُرمت من رؤية والدتي وتوفيت وأنا صغير، ولم أوفق يومًا بوجود الحب بحياتي مع الأسف
لم يعرف عز الدين ماذا يقول له فقد رق قلبه لحاله، ثم قال في النهاية:
ـ أنت تعرف جيدًا التقاليد هنا في القرية لذلك يجب أن تبتعد عنها قبل أن تتعلق بها أكثر من ذلك؛ فهذا الحب محكوم عليه بالإعدام
ـ أمحكوم عليه بالإعدام من أجل تقاليد وقوانين عمياء!!
ـ أنت لست أول شخص يحدث له ذلك، ولا تنسى أنها ستعود من حيث أتت ذات يوم ولن تراها هنا مرًة أخرى؛ لذلك لا تتقرب منها دون فائدة، وانتزع حبها من قلبك لأنها حتى وإن أحبتك ستنساك لا مفر.
نظر له سيف بقلق عندما ذكر تلك النقطة ثم قال:
ـ أنا لا أريدها أن تنساني، أريدها أن تظل إلى جانبي هنا فهي أحبت القرية و...
ـ حتى وإن أحبت القرية فهي ستشتاق يومًا لبيئتها ومكانها الأصلي فلا تتعب حالك وتتعلق بأمل واهٍ، ابتعد عنها يا سيف حتى لا يتدخل والدك في الأمر؛ فهو بدأ يلاحظ سلوكك المتغير وأنت تعلم جيدًا بأنه إذا تدخل سيحل تلك المشكلة على طريقته الخاصة وذلك لن يرضيك.
لم يجد سيف مايقوله فتركه وغادر القصر كله، كان يعلم أن محاولاته كلها للتقرب منها دون فائدة في ظل عادات وتقاليد قريتهم، حيث أن سكان القرية لم يتقبلوا يومًا فكرة وجود شخص غريب بينهم من خارج القرية، حتى وإن تحتم وجوده كما حدث مع دانية فهم يتقبلون ذلك الوضع على مضض.
جلس سيف على الدرج أمام بوابة القصر في يأس ووضع رأسه بين كفيه في حزن، لم يعرف كيف سيبتعد عنها وهو من أراد تواجدها هنا إلى جانبه من البداية؛ للتقرب منها ولتشعر به وبما يجيش بصدره.
***
لم تستطع دانية أن تنام تلك الليلة من كثرة التفكير، فقد كان حديث فهد يشغلها وعدم رد سيف عليها شغل بالها أكثر، اقتربت من نافذتها ونظرت من خلالها نحو القصر فوجدت سيف يجلس على الدرج وكان يبدو عليه الحزن، رق قلبها لحاله وتساءلت عن سر جلوسه على باب القصر هكذا، ثم نهض هو وأخذ ينظر نحو نافذتها طويلًا حتى شكت أنه رآها، تراجعت خطوة فوجدته يتقدم نحو منزلها حتى وقف أمام بابها، ووقفت هي خلف الباب تكاد تجزم بشعورها بأنفاسه، وظل هو واقفًا هكذا في تردد هل يطرق بابها أم لا، ثم في النهاية عدل عن قراره ومضى، سمعت دانية وقع خطواته فأسرعت نحو النافذة لتراه، كان يوليها ظهره ويمشي بخطوات متثاقلة وكأنه محمل بهم كبير يثقل كاهله، ودت لو تذهب خلفه لترى ما به ولكنها قالت لنفسها: سأذهب إليه بأية صفة!
كانت في حيرة شديدة من أمرها، وخشيت من إحساس جاءها فجأة، وهو أنها لن تراه مرًة أخرى، نفضت عن رأسها الفكرة فلم تكن تتحمل التفكير بذلك الأمر، وبذات الوقت استنكرت شعورها كثيرًا.
***

جدار قارون حيث تعيش القصص. اكتشف الآن