الفصل السابع

119 13 1
                                    

ذهب سيف من فوره لعم علي، والذي فوجىء بقدومه فقال له سيف:
ـ ألم ترى دانية اليوم يا عم علي؟
ـ بلى رأيتها، لقد زارتني بالمتجر وسألتني عنك، وقد أخبرتني أنك مريض.. هل أنت مريض حقًا؟!
ـ لا لست مريض، ولكن إن كانت قد جاءتك ثم رحلت فأين هي؟ إنها لم تعود للمزرعة إلى الآن
ـ ماذا.. كيف ذلك؟!
ثم انتبه علي لشيءٍ ما فقال:
ـ لقد تذكرت شيئًا
ـ ما هو؟
ـ لقد رأيت فهد وأصدقائه يمشون خلفها، وقتها اندهشت منهم وشعرت بالقلق عليها، ولكني كذبت نفسي وقلت إنه شيء عادي.
أخذ سيف يفكر ثم قال بقلق:
ـ لا.. ليس شيء عادي على الإطلاق.
ثم غادر من فوره وقد قرر زيارة فهد بقصره ليعرف ماذا حدث لدانية.
عندما قابل سيف فهد قال له فور رؤيته:
ـ أين الضيفة يا فهد؟
ـ الضيفة!! أنا لا أفهم
ـ لا تكذب يا فهد وأخبرني ماذا فعلت بها؟.. إنها مجرد ضيفة جاءت في مهمة وسترحل عما قريب
ـ أنا لا أكذب ولا أعرف حقًا أين هي
ـ لقد رآكم عم علي وأنتم تمشون خلفها أنت وأصدقائك
ـ هذا صحيح فنحن عندما رأيناها تغادر من عنده استشطنا غضبًا من مجيئها وذهابها بالقرية هكذا، وقد أصبحت خطرًا علينا كلنا فذهبنا خلفها لنتحدث معها؛ فإذا بها هربت منا وفجأة اختفت ولم نجد لها أثرًا
ـ أين حدث ذلك تحديدًا؟
قال فهد مجاوبًا إياه دون أن يجادله، فقد خشي من عصبيته الواضحة:
ـ سأحاول التذكر.
غادر سيف بعد أن علم من فهد المكان الذي اختفت فيه دانية، وجلس عبد المجيد مع ابنه وقال:
ـ ماذا كان يريد ابن الرباح؟
ـ كان يسأل عن تلك الطبيبة
ـ الطبيبة.. ولم سألك عنها أنت تحديدًا؟!
ـ يشك أن لي يد في اختفاءها
ـ وهل هذا صحيح؟
ـ بالطبع لا.. هل تشك في أنا ونسيت أنهم هم من أخطأوا من البداية باستقبالهم لتلك الغريبة في مزرعتهم
ـ لقد أخبر الحاج محمد الجميع بقدومها، ولم يخفي حاجته لوجودها بمزرعته
ـ هذا هو الظاهر فقط، أما عن الحقيقة فإن الأستاذ سيف يحبها، ولا أعتقد أنه سيجعلها تغادر ويطبق معها النظام المعتد عليه في تلك الحالة
ـ ماذا.. ما تقوله كارثة بكل ما تحملها الكلمة من معنى، وهل يعلم الحاج محمد بذلك؟!
ـ بالتأكيد، فابنه لن يفعل شيئًا دون علمه
ـ أنا لن أقف أشاهد تخريب قريتنا وأسكت، قريتنا لن يعرف بأمرها أحد وأنا سأحميها وأتصرف في ذلك الأمر
ابتسم فهد لأنه وصل لما يريده وقال:
ـ أحسنت يا أبي.
***

ذهب سيف إلى حيث المكان الذي وصفه له فهد، وأخذ يبحث عن دانية فلم يجدها؛ فطرأ له أنها ربما تكون قد اختبأت بإحدى المنازل المهجورة بداخل ذلك الشارع فدخل إلى إحدى المنازل بالفعل وأخذ يبحث عنها ولم يجدها؛ فذهب إلى الآخر ثم الآخر وقد استبد به القلق وبلغ منه مبلغه، كان يشعر أن جزء من قلبه مفقود ولا يعرف مكانه؛ فأخذ ينادي عليها بأعلى صوت يمتلكه، وكاد صوته من علوه أن يخترق الجدران، إلى أن فجأة سمع صوتها وهي تأن وتتألم فقال بلهفة :
ـ دانية أين أنتِ؟
أتاه صوتها ضعيفًا وبالكاد قالت:
- أنا هنا بأسفل لقد وقعت من أعلى
تنهد في ارتياح وقد هدأ قلبه قليلًا، ثم قال:
ـ هل أنتِ بخير؟
- قدمي اليمنى تؤلمني كثيرًا أخشى أنها كُسِرت
- لا تتحركِ سآتي إليكِ.
اقترب منها وبالكاد رآها على ضوء الشارع الخافت، ثم حملها بين ذراعيه برفق فقد كانت تتأوه من الألم، ثم غادرا المنزل القديم  وفي طريقهم إلى  المزرعة قال لها :
- لقد قلقت عليكِ كثيرًا وكنت سأجن من الخوف عليكِ
- هل قلقت عليّ حقًا؟
- بلى كثيرًا لقد خشيت أن أفقدكِ
ـ ولكن كيف وجدتني؟!
ـ عندما طال غيابك؛ خطر لي أن أذهب لعم علي وأسأله عنكِ، وهو من أخبرني بأنكِ ربما تكونين بتلك المنطقة
ـ أنا آسفة أنني قد سببت لك المتاعب، وآسفة أيضًا لأنك نزلت من بيتك من أجلي وأنت مريض
ـ لا عليكِ.. المهم الآن سلامتك، هل تشكين من شيء آخر غير قدمكِ؟
ـ لا إنها قدمي فقط التي تؤلمني كثيرًا
ـ ألف سلامة عليكِ يا..
كاد أن يقول يا حبيبتي وانتظرت هي أن تسمعها منه فقد كانت بادية على وجهه، ولكنه استدرك حاله وقال:
ـ ألف سلامة عليكِ يا دانية
شعرت بالحزن لأنه خذلها فقالت:
ـ أشكرك
ـ أخبريني، كيف انتهى بكِ الحال بذلك المكان؟!
ـ  لقد كان فهد هذا الذي التقينا به من قبل وكان معه بعض الأشخاص يتبعونني ويلاحقونني، ولا أعلم السبب في ذلك فخِفت منهم واختبأت بذلك المنزل المتهالك، ثم وقعت كما رأيت
- المهم الآن أنكِ بخير
- هل تعرف أولئك الأشخاص لم كانوا يلاحقونني؟
- هم لم يكونوا يقصدون إيذائك
- وما أدراك بذلك، لقد رأيت الشر بأعينهم
ـ ليس هناك شيء.. صدقيني
- ماذا تخفي عني؟! أخبرني
- أنتِ متعبة، ويجب أن تستريحي ونأتي لكِ بالطبيب ليرى قدمكِ
- لماذا تتهرب دائمًا من الإجابة على أسئلتي، أنت تعرف شيئًا وتخفيه عني، أريد أن أعرف ماذا يحدث، وأريد أن أعرف أيضًا لمَ كنت مختفي كل ذلك الوقت؟
ثم رق صوتها وهي تقول:
ـ لقد غبت عنا كثيرًا
تأثر بنبرة صوتها وقال:
ـ لم يكن بيدي أن أبتعد، لقد كان رغمًا عني فقد كنت متعب وعندي بعض المشاكل
ـ هذا فقط؟!
ـ بلى
ـ حسنًا انزلني هنا، سأحاول المشي وحدي
ـ بالطبع لا فهذا خطر على قدمكِ، لقد كدنا نصل
ـ هل تخاف عليّ؟
ـ بلى بالطبع
ـ ولمَ؟
ـ ولمَ ماذا؟
ـ لمَ تخاف عليّ؟
احتار بماذا يخبرها، ثم لاحت له بوابة القصر أمامه فقال:
ـ لقد وصلنا
ثم رأى هشام  فقال له:
ـ اتصل بالطبيب على الفور وأخبره أن يحضر
قال هشام بقلق وهو ينظر نحو دانية:
ـ ماذا حدث؟
ـ سأخبرك ولكن ليس الآن، هيا اتصل بالطبيب وأخبره أن يأتي على الفور
نظرت دانية له وهو يتحدث مع هشام ولمست القلق في عينيه عليها فسألت نفسها:
ـ لم يكابر إذن؟!
وضع سيف دانية في سريرها، واستدعى الخادمة لتساعدها في تغيير ملابسها المتسخة، وكانت دانية تتأوه من الألم فقالت الفتاة لها:
ـ ألف سلامة عليكِ
ـ أشكرك
ابتسمت الفتاة وقالت بخبث:
ـ هل تعلمين؟.. تلك هي المرة الأولى التي أرى بها سيف بيه مهتم بأحد هكذا
أخذت دانية تردد الكلمة في فكرها: سيف بيه؟!
فسألتها تحاول الفهم منها:
ـ أتظنين ذلك؟!
ـ بلى بالطبع فهو منذ أن عاد من القاهرة وهو مُتغير كثيرًا، وحاول محمد باشا أن يعرف ما السبب في تغيره لكن دون جدوى
ـ الحاج محمد والده أليس كذلك؟!
تلون وجه الفتاة وتغيرت ملامحها، وشعرت بأنها أخطأت بتحدثها معها فقد باحت بكل شيء، وقد كان هشام مُشدد عليهم ألا يخبروا أحدًا بأن سيف هو ابن الحاج محمد، وأخبرهم أن يقولوا أنه يعمل كسائس بالمزرعة.
قالت الفتاة بعد ما شعرت بفداحة خطؤها:
ـ هل تريدين مني شيئًا آخر؟
ـ لا شكرًا.
أخذت دانية تربط الأحداث ببعضها وقالت في نفسها: كيف لم ألاحظ ذلك، ولكن لمَ أخفى ذلك عني؟ ما عدت أفهم شيئًا، ماعدت أفهم شيئًا
دخل سيف برفقة الطبيب، وقال الطبيب:
ـ مما تشكين يا آنسة؟
نظرت إلى سيف بعتاب وقالت:
ـ أنا متعبة كثيرًا.. كثيرًا للغاية
نظر لها سيف بقلق وتساؤل، ثم قام الطبيب بفحصها وقال:
ـ قدمكِ متورمة وبها كسر سنضطر لتجبيسها.
كانت تشعر بالألم من قدمها ولكن ألم نفسها كان أكبر، أرادت أن تصرخ بسيف لم كذب عليها.. لم أهانها بهذا الشكل؟ فكان كل من حولها يعلمون من يكون إلا هي.
انتهى الطبيب من تجبيس قدمها، ثم قال:
ـ يجب أن ترتاحي في السرير لمدة أسبوعين، وإن أردتِ الحركة  فاللضرورة القصوى فقط حتى تمتثلي للشفاء سريعًا
ـ ألا يمكنني التحرك قبل أسبوعين؟
ـ كما أخبرتك للضرورة القصوى فقط؛ فإصابة قدمكِ لا يُستهان بها
قال سيف:
ـ لا تقلق يا دكتور، هي لن تتحرك من مكانها فأنا لن أدعها تفعل ذلك
ـ حسنًا هي يجب أن تلتزم بهذا العلاج والتعليمات الآتية
كتب الطبيب بعض التعليمات على ظهر الروشتة الطبية، وقال:
ـ تفضلوا ها هي
ـ شكرًا لك يا دكتور، ونحن آسفون على إزعاجك
ـ ليس هناك إزعاج يا أستاذ سيف، وبلغ محمد باشا تحياتي
نظرت له دانية لترى معالم وجهه فوجدته ارتبك ثم قال:
ـ حسنًا سأبلغه.
خرج سيف مع الطبيب ليوصله للباب، وعندما عاد نظر إلى دانية مطولًا وقال:
ـ لقد قلقت عليكِ كثيرًا، لا تذهبي وحدكِ في أي مكان بعد الآن.
كانت سعيدة بقلقه عليها، لكنها مع ذلك قررت أن تسأله لترتاح:
ـ سيف.. هل أنت ابن الحاج محمد؟
تفاجأ سيف من سؤالها، ثم قال:
ـ ماذا تقولين، من أخبرك بذلك؟!
ـ أنا عرفت.. فقد ربطت كل الأحداث ببعضها وتوصلت لذلك الاستنتاج
ـ حسنًا.. أنا بالفعل ابنه
ـ لم أخفيت عني تلك الحقيقة؟
ـ هذا أمر يطول شرحه
ـ وأنا مستعدة لسماعه، هيا تفضل إشرح لي
هم سيف بالحديث ولكن دخل هشام وقال:
ـ الأستاذ عز الدين يريدك الآن ضروري
ـ أخبره أنني قادم.. تفضل أنت وسآتي خلفك
ـ لقد أمرني أن تأتي الآن معي، الأمر هام حقًا يا سيف
تبادل النظر مع دانية ولم يعرف ماذا يفعل؛ فقال هشام بنفاد صبر:
ـ هيا يا سيف أرجوك
قال سيف لدانية:
ـ سأذهب الآن وسآتي لاحقًا، اهتمي بنفسكِ ولا تتحركِ دون داعٍ.
لم ترد عليه ومضى هو مع هشام وتركها في حيرة من أمرها، وأخذت تحدث نفسها وتقول: كان سيخبرني بكل شيء كنت سأعلم الحقيقة، ولكن حتى لو عرفتها هل سأسامحه بعد أن كذِب عليّ؟

جدار قارون حيث تعيش القصص. اكتشف الآن