عندما عاد سيف إلى المزرعة برفقة دانية وجد هشام في انتظاره فاستأذن منها وذهب مع هشام ليرى ماذا يريد منه؛ بعد أن تأكد من عودتها لمسكنها.
وقف سيف مع هشام بالاسطبل بعد أن تأكد الأخير من خلو أحد به ثم قال :
- لقد حذرني الأستاذ عز الدين من مغادرة دكتورة دانية المزرعة وعندما علم أنك ذهبت معها في جولة بالقرية؛ ثار للغاية وطلب رؤيتك فور عودتك ليحذرك من أن تفعل ذلك مرًة أخرى
ـ لقد عرفت منك ماذا يريد مني؛ فلماذا أذهب إليه إذن؟
ـ وهل ستنفذ مطلبه؟
ـ لقد عرفت ما يريده لكن ليس بالضرورة أن أنفذ كل ما يقوله؛ فأنا لديّ عقل لأفكر به وأعرف عندما أُخطىء
ـ سيف.. نحن لا نريد أن نفتعل المشاكل مع عز الدين
ـ لن يحدث شيء، وطالما لا نقترف الأخطاء لا تقلق
ـ حسنًا وهل كل شيء يسير على ما يرام؟
ـ أعتقد ذلك
ـ ماذا تعني؟
ـ لقد رآنا اليوم فهد وبنو عمومته
ـ ماذا تقول.. وكيف لم تخبرني من بداية حديثنا؟!
ـ ولماذا القلق؟!
- إنه لا يعلم بوجودها هنا بالمزرعة عندنا وبأية صفة هي موجودة بالقرية؛ فقد أخبر الأستاذ عز الدين جميع أهل القرية بقدومها، ولكن فهد وبنو عمومته كانوا خارج القرية وقتها
ـ ومنذ متى ونحن نعمل حساب لفهد هذا؛ ذو الشخصية السطحية!
ـ نحن نهتم لوالده يا سيف؛ فهو كبير عائلة السيوفي وله ثقله في القرية
ـ ونحن لم نُخطىء فقد أعلمنا الجميع بقدومها، وليس خطؤنا أن فهد لم يعلم بالأمر لأنه كان خارج القرية؛ فلا تحمل همًا لذلك الأمر
ـ سأحاول أن لا أقلق
- ثم إنني لا أريد إثارة المتاعب أكثر منك
ـ هذا واضح، ولكن يجب أن تعلم أنك من الممكن أن تكون السبب في أذية تلك الفتاة؛ فالناس لن تتقبل وجودها هنا بالقرية بتلك السهولة
- لن يجرؤ أحد على الاقتراب منها؛ فهي في ضيافة الحاج محمد الرباح
ـ بلى بالطبع.. هذا شيء مفروغ منه، ولكن هذا لا يمنع أن نأخذ حذرنا.
شرد سيف يفكر في حديث هشام، وما كان صمته سوى تأكيد منه على أن هشام معه حق فيما قاله.
***
عندما عادت دانية لمنزلها الصغير جاءتها الخادمة بالطعام. كانت جائعة فأكلت بنهم ولكن تلك المرة شعرت أن للطعام مذاق جميل، لم يكن الطعام مختلف عما تأكله بالقاهرة ولكنه شهي أكثر، أخذت تفكر أن كل شيء بتلك القرية جميل؛ من هوائها لطعامها حتى الخيول التي تُشرف على علاجها تبدو متأصلة ومختلفة، القرية كلها كانت مختلفة عن القاهرة كثيرًا؛ فكانت وكأنها تنتمي للطبيعة كليًا.
استيقظت دانية في اليوم التالي وهي سعيدة ومتفائلة كثيرًا وقررت أن تُطبق شيء جديد مع الخيل بذلك اليوم، أخذت تمر على الخيول وتتفحصها، ثم لاحظت وجود سيف والذي كان يداعب المُهر سكر الذي أعجبها من قبل فسألته :
ـ كيف حال ذلك المهر الصغير؟
- كما ترين.. إنه حزين اليوم لأن والدته مريضة
ـ ماذا حدث لها؟.. لقد كانت بخير عندما رأيتها من قبل
ـ هي كانت مريضة من قبل قدومكِ إلينا.. أظن أنها قد أصابتها العدوى
ـ ولكني لم ألاحظ ذلك عند رؤيتها
ـ أنا لاحظت مرضها لأنني أراها كل يوم وأعلم أن حالتها تسوء يومًا بعد يوم ولا أعرف لها علاج
ـ ولكني فحصتها، ولم ألاحظ عليها علامات المرض!
ـ زعفرانة مرضها نفسي أكثر منه جسدي
ـ اسمها زعفرانة!
ـ نعم هذا ما أطلقه عليها عز.. أقصد الأستاذ عز الدين
ـ ولكن ما حدث لها لتمرض هكذا؟
شرد سيف قليلًا، ثم قال:
ـ لقد أهانها شخص ما عندما ركبها
قالت بغضب:
ـ هل قام بضربها؟
ـ بلى ولم تتحمل ذلك على كرامتها؛ فأوقتعه من على ظهرها وتأذت قدمه بشدة، ومنذ يومها وهي تشعر بالذنب بسبب ما حدث
ـ أنا أشعر أنك تفسر ما حدث من وجهة نظرك
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أقصد أنك ترى ما حدث معها من منظورك أنت؛ فربما تكون أوقعته بالفعل لأنه قام بضربها، ولكن ليس بالضرورة أنها تعاني الآن بسبب شعورها بالذنب
ـ أنا أعرفها جيدًا؛ فهي صديقتي ولا تخفي عني شيئًا.
اندهشت من حديثه فلم تكن تتصور أنه بتلك الرقة، ثم قالت:
ـ منذ متى وهي على ذلك الحال؟
ـ منذ ستة أشهر تقريبًا
ـ إنها فترة طويلة.. أنا لاحظت أنها هزيلة بعض الشيء
ـ هذا لأنها ترفض الطعام، ولا تأكل إلا معي أنا فقط، وقبل أن تعود إلى هنا لم تكن تأكل على الإطلاق
ـ تعود! ..ألم تكن هنا طوال الوقت؟
ـ لا مع الأسف، لقد كانت لدى ناس لم تعرف قيمتها وهم من فعلوا بها ذلك.
لاحظت من حديثه أنه غاضب بشدة، وكأن بينه وبين من فعل بها ذلك عداوة ما، ولكن لم تشأ أن تتدخل في تلك التفاصيل، ثم قالت:
ـ لا تقلق عليها أنا سأشرف على علاجها بنفسي وستكون بخير حال بإذن الله
ـ أتمنى ذلك فأنا أخشى على سكر من ألم الفقد فهو لن يتحمله.
لم تعرف دانية سبب شعورها بأنه يتحدث عن نفسه هو وليس سكر!!.. ثم قررت أن تحاول أن تخرجه من تلك الحالة فقالت:
- أنا أريد أن استكمل جولة أمس فقد أحببت القرية كثيرًا، ما رأيك أن ترافقني؟
وجدته يفكر فقالت على الفور:
ـ هذا بالطبع إذا لم يكن لديك عمل ما
ـ لا ليس لديّ أي شيء
ـ حسنًا بعد انتهاء العمل نذهب سويًا.. اتفقنا
ـ اتفقنا.
في ذلك اليوم أنجزت دانية الكثير من العمل، ولاحظت عز الدين وهو يراقبها عندما كانت تتحدث مع سيف، ولم تشعر بالارتياح لذلك ولكنها قامت بعملها على أكمل وجه، وبعد انتهائها من العمل قالت لسيف:
ـ هل نبدأ الجولة الآن؟
- و لكن ألستِ متعبة من العمل؟
ـ لا على الإطلاق؛ فأنا أحب عملي كثيرًا، لذلك لا أشعر بالتعب منه
ـ أنتِ مثلي تمامًا
ـ حسنًا هيا بنا فأنا أريد أن أرى القرية كلها؛ فأنا أحببتها كثيرًا ليتني وُلدت بها.
لم يستطع سيف أن يرفض طلبها ذلك برغم ما يحفه من مخاطر، خاصًة بعد مقولتها الأخيرة تلك؛ فقد كانت أمنيته أن تعشق هي القرية وتتعلق بها كثيرًا إلى درجة أن تحبها وتختار أن تعيش بها طوال الوقت.
***
أخذا الاثنان يتمشيا في أنحاء القرية وتلفتت دانية حولها وقالت:
ـ أين سبل الترفيه عندكم؟ فأنا لا أرى أية سبل للترفيه
- نحن لا نحتاج لوسائل الإلهاء تلك
- وأين هي سُبل المتعة عندكم؟!.. فأنا سألت الخادمة من قبل عما إذا كان يوجد تلفاز؛ فقالت لي: ماذا تعني بتلفاز؟!
ـ هي بالفعل لا تعرف ماذا يكون التلفاز
ـ أعذرني في حديثي، نحن الآن على مشارف الثمانينات فكيف لا تعرفون ما هو التلفاز؟!
ـ أنا أعرف ما هو التلفاز، ولكن أغلب أهل القرية لا يعرفونه
ـ لماذا؟! .. إنه شيء جميل
ـ إنهم في الحقيقة لا يريدون التعرف عليه
ـ أنا لا أفهم
ـ إنه وسيلة للإلهاء ونحن هنا ليس لدينا الوقت لذلك؛ فالعمل يشغلنا بالنهار وعندما يحين الليل نرتاح فيه
ـ وكيف تعيشون حياتكم، كيف تستمتعون بها؟!
- من أحب الدنيا فاليتهيأ للذل
- من قائل هذه العبارة.. أنت؟
- لا.. بل ( بشر الحافى الزاهد) هو صاحب هذه المقولة
ـ بشر الحافي الزاهد!! أنا لم أسمع به من قبل
ـ إنه أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري واسمه الحقيقي (بشر بن الحارث بن عبد الرحمن) وسُمي ببشر الحافي لأنه كان لا يلبس نعلًا بل يمشي حافيًا، وكان عابد ورع زاهد
ـ وهل أنتم هنا كلكم كذلك؟.. من الزاهدين في الدنيا
ـ إنه ليس زهد في الدنيا بالمعنى الحرفي، ولكننا لا نفكر بالدنيا طوال الوقت وكيفية الاستمتاع بها
ـ أنا لم أقصد أن نحب الدنيا ونفكر بأنانية، ما أقصده هو أننا طالما قمنا بأداء عباداتنا وعملنا؛ لمَ لا نقوم بالترفيه عن أنفسنا بعد ذلك في وقت فراغنا؟
ـ بالتأكيد نحن نفعل ذلك، ولكن على طريقتنا الخاصة؛ فنحن هنا نهتم بزيارة الأقارب وصلة الرحم، ونعد الكثير من الأنشطة المفيدة التي ترفه عننا
اندهشت من حديثه كثيرًا فسألته:
ـ هل تحب القراءة؟
ـ بلى كثيرًا
ـ ماذا تقرأ؟
ـ أنا أقرأ في جميع المجالات ولديّ مكتبة كبيرة
ـ هذا ما تشغل به نفسك.. إذن فأنت مثقف
ـ أحاول أن أكون كذلك
ـ سامحني على فضولي، ما هو مؤهلك التعليمي؟
- أنا حاصل على بكالريوس زراعة، وأحب الزراعة والخيل كثيرًا
ـ شيء جميل، وهل كنت تعمل أثناء دراستك؟
ـ لا.. أنا بدأت العمل بعد الدراسة؛ فقد كان أبي يهتم بتعليمي، ولم يكن يريد أن أنشغل عن دراستي لذلك أنا اجتهدت وكنت من أوائل الدفعة لأرفع رأسه.
لم تستطع دانية أن تخفي انبهارها بشخصه؛ فلم تكن تتخيل أن يكون كذلك، خاصًة وأنها أخذت عنه فكرة خاطئة عند بداية معرفتها به؛ فقد كانت تظن أن شخصيتة سطحية ومن هؤلاء الشباب الفخورون بوسامتهم.
وجدته يأخذها عند متجر صغير ثم قال لها:
ـ تعالي لأُعرفكِ على صديقي المقرب.
كان يقف في المتجر الصغير رجل مُسن وبسيط الحال وفور أن رآهما تهلل وجهه وقال:
ـ سيف.. مرحبا بك يابُني كم اشتقت لك
ـ وأنا أيضًا.. أنظر لقد أتيت لك بضيفة، إنها دانية طبيبة بيطرية تعمل لدينا بالمزرعة
ـ مرحبا بكِ يا بنيتي، لقد أنرتِ قريتنا
ـ أشكرك
قال سيف:
ـ هذا عم عليّ.. إنه أبي الروحي
قال عم علي بامتنان:
ـ هذا من ذوقك يا بني .. الله وحده يعلم بمحبتك الكبيرة بقلبي
ـ أعلم يا عم علي، وأنا أحبك كثيرًا أيضًا
ـ تفضلا استريحا في متجري المتواضع.
غاب عنهما قليلًا ثم جاءهم بمشروب وقال:
ـ تفضلا تناولا هذا المشروب سيعجبكما كثيرًا
قالت دانية:
ـ شكرًا يا عم علي
ـ لا شكر على واجب يا بُنيتي.. دقائق وستأتي ابنتي بالغداء وسأخبرها أن تقوم بعمل حسابكما معي
قال دانية على الفور:
ـ لا تتعبها يا عم علي فنحن لن نجلس طويلًا؛ فأنا يجب أن أعود إلى المزرعة الآن
ـ لن تغادرا من هنا دون غداء، لقد قررت أن نتناول الطعام معًا وإلا سأغضب منكما
نظرت دانية في تساؤل نحو سيف فقال لها:
ـ لا مفر فأنا لم أنجح يومًا في مجادلته
ثم قال لعم علي:
ـ سنأكل معك ولكن بشرط ألا تُكلف حالك
ـ ليس هناك تكلفة فنحن اليوم سنأكل أكلة لذيذة من اختراع ابنتي سهر
ـ هكذا اطمئننت كثيرًا؛ فأنا أعلم أن سهر ماهرة في تحضير الطعام
قال عم علي بفخر :
ـ كثيرًا.. فهي تشبه والدتها في كل شيء
ـ بالمناسبة كيف حال والدة سهر الآن؟
ـ مازالت مريضة يا بُني ولا تريد الذهاب إلى الطبيب، إنها عنيدة كثيرًا
تدخلت دانية وقالت:
ـ عذرًا على مقاطعتكما.. مما تشكو؟
ـ إنها تشكو من ألم بجسدها، وقد كان الألم في بادىء الأمر محتمل ولكنها أصبحت الآن تعاني أكثر
قالت دانية باهتمام:
ـ بما أخبرها الطبيب؟
ـ لم تذهب إلى الطبيب من الأساس؛ فهي تكره الأطباء والمستشفيات
ـ هل هناك مشكلة إذا فحصتها أنا؟
ـ أنتِ!!
ـ أنا طبيبة بيطرية أينعم، ولكن هذا لا يمنع أنني لديّ خبرة لا بأس بها في الأمور الطبية بما يتعلق بالبشر، ولا تقلق على الإطلاق فأنا لن أصف لها أي علاج؛ فأنا سأحاول فقط أن أضع يدي على علتها حتى تمشي هي في الطريق الصحيح، وتستشير طبيب إن احتاج الأمر
ـ أنا لا أعرف كيف أشكركِ.. بارك الله فيكي يا بُنيتي
ـ ليس هناك داعِ للشكر .. المطلوب من حضرتك فقط أن تهيأ لها الوضع حتى أراها
تدخل سيف وقال:
ـ ليس بالضرورة أن نخبرها بالحقيقة
قال علي:
ـ ماذا تقصد؟
ـ أقصد أن نذهب إليها في زيارة فقط للاطمئنان عليها ثم تقوم دانية بفحصها بطريقة لطيفة بعيدًا عن مسمى الطبيب
ـ فكرة رائعة أنا موافقة
ـ وأنا تعجبني تلك الفكرة.. حسنًا سنستقبلكم في بيتنا قريبًا، وإن شاء الله شِفاها يكون على يديكِ يا بُنيتي
ـ أشكرك لثقتك في يا عم علي.
أثناء تناولهم الغداء لاحظ علي نظرات سيف لدانية وتمنى في سره أن يألف الله بين قلبيهما ويجمعهما على الخير، وأن تكون دانية من نصيب سيف.
بالرغم من أن الطعام كان بسيطًا إلا أن دانية كانت سعيدة وأبدت استحسانها به، ولكن ما كان يزعجها حقًا هي نظرات سيف لها، فقد أربكتها نظراته وأشعلت وجنتيها نارًا، واحمرار وجنتيها هو ما جعل سيف لاينفك ينظر إليها، وكأنه يشحن عينيه برؤيتها ويصبر نفسه بوجودها إلى جانبه؛ لأنه كان يشعر بالوحدة من دونها.
عادا الاثنين إلى المزرعة بعد قضاء ذلك الوقت الممتع برفقة عم علي بطيبة قلبه وبساطته.
عندما وصلا إلى المزرعة وجد سيف هشام في انتظاره مثل المرة السابقة، ونظراته كانت تحمل معانٍ كثيرة، ثم قال هشام له :
ـ الأستاذ عز الدين ينتظرك بمكتبه
لاحظت دانية قلق سيف فقالت له:
ـ هل هناك مشكلة؟
ـ لا أبدًا لا تقلقي.. اذهبي أنتِ لتستريحي وأنا سأرى ماذا يريد عز الدين.
اندهشت لجرأته لنطقه اسم رئيسه بالعمل هكذا دون ألقاب، ثم ودعته وذهبت، وبعد أن تركتهما بخطوات نظرت خلفها لتجد سيف وإلى جانبه هشام يجريان نحو القصر بسرعة تُنبأ بحدوث مشكلة ما، لم تفهم ما يحدث أو ما ذلك الخطأ الذي اقترفه سيف ليريده عز الدين هكذا على وجه السرعة؟!.. ثم تساءلت في نفسها تُرى ماذا يريد شخص مثل عز الدين من سيف بوقت متأخر كهذا وبعيدًا عن أوقات العمل الرسمية!!.
***
يتبع
أنت تقرأ
جدار قارون
Mistério / Suspenseدانية طبيبة بيطرية سمحت لها الظروف أن تعمل بمزرعة كبيرة تقع في قرية بعيدة ومجهولة. وبالرغم من تصميم دانية على تنفيذ مهمتها وتحقيق حلمها، إلا إن لغز القرية وما يخفونه أهلها سيشغلها ويغير أهدافها ويحول مسار حياتها للأبد فما قصة تلك القرية وألغازها الع...