الفصل الرابع
التربية الأولى الجنسية تبدأ بأدب الاستئذان... أحمد راتب النابلسي.
(منتصف الليل)
(مدينة الجبال)
(أمام المستشفى العام لمدينة الجبال.)
هل تعلم تلك الفتاة كيف يشعر، وهو واقف كالطود متخصراً بكلتا يديه على جانبيه فوق حزام سرواله الجينز الأزرق الباهت؟! هل تعلم كم من رغبة متناقضة تقتات على أعصابه الملتهبة بضراوة، وهو يرنو قعودها البائس على قارعة الطريق، منحنية الجذع، منكسة الرأس، تبكي بحرقة؟! رغبة في الإشفاق...رغبة في المنح...رغبة في الأخذ...رغبة في التفهم...رغبة في الغضب... رغبة في العقاب... أي كان! فقط العقاب لمن كان السبب في وضعه برمته، لو فقط يعرف هوية عدوه الحقيقي! رغبة في الحب... أجل الحب! لكن ليس حبا شهوانيا بقدر ما هو حبا عاطفيا، يمنح الحنان حد الشبع، يمنح الأمان حد القناعة... حبا نقيا، وفيا، وطاهرا. ذاك الذي يصاحب حلما يبدو له أسطورياً بحياة سوية، لا يشوبها سوى اللمم، فكيف السبيل إلى ذلك، وهو يتخبط في حيرة لم يجد لها مرسى ولا بر؟! كيف يصدق حلما داعب جنبات خياله وسط زنزانة مظلمة كانت من اختياره، عقابا لنفسه على جرائم لم يكن ليقترفها لولا جور والده؟! كيف السبيل إلى ما تمثله تلك التي تبكي بؤسا آخر على قارعة الطريق؟! ولماذا هي بالذات؟! هل قررت إشراق أخيرا لعب دور الأم، واختارت له شريكة حياة؟! إن كان حقا كذلك فلماذا؟! وبأي حق تدّعي أنها أدرى بما يحتاجه قلبه المغبون بها وشريكها في الجرم؟! هل حقا أصبحت أما؟! متى ولماذا؟! هل حقا سيحب فتاة ويرغب بالزواج منها؟! هو والحب؟! ابن الخطيئة وحياة سوية؟! ابن الخطيئة والحب؟!
نفث من فمه زفرة طويلة عبرت مسلكها فرارا من جحيم تغلي به أحشاؤه، ثم اقترب منها يقول لها بنبرة لم يدر كيف يصبغها برقة لم ينشأ عليها فخرجت فاترة (كفاك بكاء) ضم شفتيه وهو يراقب اهتزاز كتفيها، فزفر نفسا آخر يستدرك بحنق في تصاعد (إنه منتصف الليل بالله عليك، وعلى قارعة الطريق، سيقبضون علينا ويتهموننا بالفساد.) رفعت رأسها إليه، فهاله احمرار مقلتيها وانتفاخهما وخديها الأسمرين المبلولين، لذا أضاف بسخط يتهرب به من ملاحظة عقله الغريبة (حتى لو قدمنا لهم هوياتنا لن تبرر رفقتنا معا في هذه الساعة من الليل، وهنا.) قطبت جبينها تشهق بخفة، وشفتها السفلى في ارتعاش مستمر حتى وهي تسأل بنبرة متهدجة (وماذا سيحدث إن لم نقدم لهم الهوية؟) أصابته الحيرة من قولها، فاستفسر منها (ألا تحملين معك هويتك؟) حدقت به لبرهة قبل أن تستأنف نحيبها مجددًا، تجيب من بين شهقات بكائها (ألا تفهم ما يقال لك؟! أم أنت تتعمد إيذائي؟!) بسط ذراعيه متسائلاً بدهشة (ماذا فعلت مجددًا؟!) قلبت شفتها السفلى فبدت كطفلة صغيرة تائهة عن أهلها بالفعل، تجيبه ببكاء مؤلم (ما الذي لم تفهمه في أنني ضائعة؟! وتائهة عن أهلي؟! كبرت في البئر ولم يكفلني أحد، وبالتالي لم يهتم أحد بدراستي أو استخراج أوراقي الثبوتية.) رفع حاجبيه بقوة، يهتف بعدم تصديق (وتلك المرأة، آمنة، والدرويش؟!) مسحت خديها ترد عليه مفسرة بغضب (الخالة امرأة لا تفقه أمرا، أمية مثلي والدرويش!.... درويش يرعاني من بعيد.) نسي نفسه في خضم تفكيره العميق، وجلس جوارها مستسلما يمسد جانب فكه فراقبته بتأني يخالف قلبها الذي يعدو في سباق مرهق لها، تستشعر الدفء من جانبه بطوله الملاحظ، والذي تكفل بصد رياح الخريف الباردة عنها. التفت إليها فجأة يهتف بفضول، فشهقت بخفة تفر من حصار ظلمتيه (واسم سترة، من أين حصلت عليه؟!) زمت شفتيها ثم ردت عليه بوجوم (أذكر القليل من طفولتي، فلم أنس اسمي، وكنت أرفض حين كانت الخالة تناديني باسم مغاير حتى استسلمت، وبدأت بمناداتي باسمي.) ما زال ابهامه في رحلة دعك حول فكه بينما يسألها بتركيز (وماذا تذكرين أيضا؟!) انهالت عليها الصور، والمشاهد، القليل كما أخبرته قبلا؛ حضن دافئ لامرأة تظن أنها والدتها! ربته حانية على رأسها من رجل تظن أنه والدها! وجهيهما يكاد الطشاش يطمس ملامحهما، ففقدت صورهما الواضحة، كما هو الحال مع باقي إخوتها باستثناء واحد فقط لم تنس وجهه أبدا، ملامحه حُفرت حفرا دامغا في عقلها الذي لم يتجاوز حينها الست سنوات. غامت عيناها بالكابوس الذي يزورها بين الفينة والأخرى، كأنه يحرص على عدم نسيانها، ويحذرها من فقدان ذكرى وحيدة كانت فارقة، لكن لمن؟! لا تعلم، قد يكون من أجل صاحب الجسد المسجى على الأرض، فرد آخر تشعر أنه من أشقائها، فرد آخر طمست ملامحه مع مرور الزمن في خيالها، فلم يبق منهم سوى بقايا في طي النسيان. نسيانٌ لم يستطع أن يسلبها ذكرى المشهد المؤلم، وما أقساه من ألم يكبر مع نضج إدراكها حين اكتشفت أن ما شهدته في صغرها، وأخافها يزداد بشاعة مع توالي السنين ونضج عقلها الذي فهم أخيرا أنه كان... اغتصاباً. (أنا أحدثك!) أجفلت على إشاراته أمام وجهها، يستطرد بريبة (بماذا شردتِ؟) تلفتت حولهما ثم انتفضت واقفة، تنفض ثيابها وتقول له بارتباك (هل نسيت الشرطة؟! يجب أن نعود حالا، لقد تأخر الوقت كثيرا.) صمت يراقبها بتمعن من مكانه على الأرض، فأضافت بقلق وتوجس (أنا خائفة، قد يعتدي علينا أحد في هذا الوقت من الليل.) انتفض ليهل عليها بطوله الفارع، يستنكر بامتعاض (كيف ترينني؟! طفلا صغيرا جوارك؟!) ثم أصدر صوتا ساخرا من حلقه، فلاح شبح بسمة على جانب ثغرها الرقيق، وهي تعلق (بهذه الملامح؟ أجل.) بشكل ما سرت نسمة دافئة، وتخللت خلايا صدره لتدغدغ كيانه بسرور خفي، أحسن اخفاءه بينما يجيبها بنفس التهكم (طريفة! تقدمي أمامي لكي لا يتعدى عليك أحد.) أطاعته لتطلق العنان لبسمتها لتملأ وجهها المحمر تعباً وبؤساً، ونفس النسمة تجتاح أحشاءها بالدفء هي الأخرى؛ يكفيها ما يغمرها من شعور، ولأول مرة في حياتها بعدما سمعت عنه كثيرا، ولم تستشعره سوى اللحظة والتو ... الأمان؟! أما هو فلم يسمح لنفسه بالبهجة، وإن لفّته فورة الفخر باستعراض عضلاته، فالتي أمامه تخفي عنه أمورا أخرى، قد يكون أحد مفاتيحه الضائعة، ولن يكون يونس آل عيسى إن لم يجمعها جميعها.
أنت تقرأ
الستر من الحق..3..سلسلة نساء صالحات .. منى لطيفي نصر الدين
Romanceجميع الحقوق محفوظة للكاتبة .... لا تنسوا صلاتكم... فالرواية تنتظر وأجر الصلاة في وقتها يطير..... أنصح و بشدة قراءة الجزئين السالفين من أجل فهم بعض الأحداث... سألوا الحكيم عن بئر السواد، ما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ فقال لهم الحكيم مغموما؛ تعالوا والتفوا...