الفصل الخامس

326 27 1
                                    



الفصل الخامس

كل شيء وقع أراده الله وكل شيء أراده الله وقع، وكل واقع متعلق بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق...- محمد راتب النابلسي.

(العاشرة ليلا)

(المدينة السياحية)

يقف على حافة جرف مطل على واد جاف مخيف بظلمته...تنفسه حاد!... بدنه يرتعش! ...دموعه مدرارا!... عيناه جاحظتان، وزائغتان! يكاد لا يرى أمامه من هول أحاسيسه الجارفة، يده على الهاتف فوق أذنه، ينتظر، لا يعلم ماذا ومن؟!.... لكنه ينتظر.... الأمل؟!... الشفاء؟!... حياة أخرى؟! ...الموت؟!... الحياة؟! لكنه ينتظر فأتته كلمة واحدة ونسفت أساس بؤسه مرة واحدة، وأيقظته من كابوس سراب ابتلعه مرة واحدة، إنها كلمة جعلته يفتح فمه ليشهق.... ليتنفس، كلمة أعادته إلى رشدٍ فقده في ظل معركة ليست عادلة بالمرة، معركة شعر أنه خسر فيها الكثير، ودون فرصة حتى للمقاومة، فوعى على خسارة أضخم، كانت ستكشف الستار عن مدى حقارة كل خسارة أخرى أمامها... كلمة هزت أحشاءه كما لم يفعل أي حديث غيره، أو أمر قبله... كلمة واحدة، وما أثقلها وأعظمها من حروف تشكلت لتكون اسما كان وما يزال وسيبقى فردا منفردا بذاته... الله.

***

(قبل ساعتين من الزمن)

جفلته زغرودة شقت صمت البناية فنظر إلى والدته التي ابتسمت له بتوتر، فأشفق عليها وعلى نفسه. همست أخته نزهة، وهي تلمح تلصص الجيران الذين لم يكونوا في حاجة لزغرودة والدتها ليخرجوا من شققهم فضولا، فموكب العرس المشكل من عشرات السيارات مرفقين بفرقة فلكلورية لا تنقطع أهازيجها أعلمت كل من مروا به بأن شاب وشابة لابد من أنهما معروفان ومهمان تزوجا (أمي، العالم بأكمله عرف بزواج أخي، فلا تتعبي حنجرتك.) قد تكون نزهة غير عابئة بما نطقت به أو حتى لم تقصد به خبثا أو سخرية لكن السكاكين لا تنفك تطعن كبرياءه آلافاً من الطعنات، وهو يلتقط نظرة التوتر المقيتة تهز مقلتي والدته كل لحظة، تكاد توقف كل شخص على قارعة الطريق لتخبره بزواجه، لم يكفها الحفل الضخم، ولا الحاضرين الذين تعدوا الألفين أغلبهم لا يعرفهم ولم يسبق له أن قابلهم، ولم يكفها سيل من السيارات جابوا بهم المدينة تقودهم سيارة العروسين والمكتوب عليها اسمه واسم عروسه.... عروسه! تأمل بنظرة عميقة تصلب أطرافها المكسوة بثياب بيضاء فخمة وأنيقة، تضم ذراعيها إلى صدرها شاردة بجمود. عروس رغم اختفائها وهروبها منه خلال الأيام الماضية، سوى أمام قاضي العدل لعقد قرانهما، ورغم تحجر قسمات وجهها، ورفضها الذي لا يخطئه أحد ويتجاهله الجميع، وهو من ضمنهم إلا أنها عروس من الدرجة الأولى كالحفل تماما. فأين هو من كل هذا؟! اكتفى بالتوقف جوار مدخل الرواق المفضي إلى قعر البيت يشاهد آخر مشاهد المسرحية، قلبه واثق من كونها ختام الادعاء، والستارة ستنسدل أخيرا، وقد حدث حين همست نوران بشيء ما شحب له وجه والدتها التي سحبت أختها بنفس التوتر البائس، تقول لها بحروف مرتبكة بوضوح (هيا أختي، لندع العروسين لحالهما يكفينا تطفلا عليهما.) عبست غالية تومئ بحيرة، ونزهة تعقب بريبة وهي تنظر إلى نوران (ألن نساعد العروس في تغيير قفطانها؟! إنه تقليدي مثقل بالأحجار ومعقد بطرحته لن...) بترت كلماتها، وهي تُسحب من كفها بكف والدتها التي من الظاهر أنها تفهمت قلق شقيقتها، ترد عليها بسرعة (زوجها سيساعدها .... هيا بنا...) تحركن على مضض وقلق بينما غالية تتلكأ جوار ابنها تهمس له بتوسل قضى على آخر ذرة تحمُّل عالقة في جوفه الملتهب (لا تخذلني بني، بارك الله لكما وعليكما.) ظل مكانه يشيع خطواتها المتعثرة بحسرة، وتعب.... أجل! يشعر بنفسه مستنزفاً، مرهقاً، وخائر القوى. رمش بجفنيه على صوت الباب الموصد خلفهن فتنهد بأسى والتفت إلى الجامدة تتفحص الشقة بطريقة أشعرته بمدى تقززها الذي أثار حيرته فعقد جبينه بتفكير. رفعت كفيها إلى طرفي طرحتها المثبتة أعلى رأسها بتاج ذهبي رقيق، وضمتهما إلى صدرها تشعر ببشرة جسدها تقشعر خوفا، وقرفاً، تتكالب عليها الأفكار والتخيلات من كل اتجاه، بين خوفها منه ومن شيء قد ينتظره منها، وبين ما سمعته عنه من شائعات لا تعرف مدى صدقها، لكنها ستستغلها شر استغلال، فهي في حرب شعواء، وكل شيء مباح في الحرب خصوصا حربها هي. تنهد مجددًا، وعقله يأمره بالانسحاب في تلك اللحظة على الأقل من أجل تعبه، بالرغم من حاجته الملحة للتحدث إليها لكنه لا يجد في نفسه طاقة للمواجهة. هم بالجلوس على أحد الكراسي الجلدية الموزعة في المساحة الواسعة وسط الشقة قبل أن تتجمد أطرافه قبل أن يصل جسده المنهك إلى غايته، مديراً رأسه إليها جاحظا بمقلتيه (هل أحضرت أحدا هنا؟) بلع ريقه وهو يعود مستقيما ببدنه، يمنحها نظرةً تتساءل باستجداء أن تخيب فهمه، أن لا تؤكد ما فطن إليه، لكنها الحرب بل الطوفان، ولا تمانع في الانضمام لضحاياه (أنا أعرف كل شيء فلا تحاول أن تنكر!) احتدمت أنفاسه يرد عليها بجفاء (وماذا تعرفين أنت؟) ارتعدت وذراعاها ما يزالان مضمومين إلى صدرها، تقول له بتلجلج (ما يكفي لندرك أن كل ما حدث حتى هذه اللحظة، مجرد مسرحية ساخرة حاولوا جهدهم إقناع الناس بها لدرجة أنهم صدقوا أنفسهم.) رمقها بنظرة كانت كل شيء سوى التهكم، كل شيء سوى السخرية أو التشفي بينما يسألها (بما أنك كشفت الستار عن الحقيقة، فلا داعي لمناقشة أسبابي التي "تعرفينها" ولننتقل لما هو مجهول ولا "أعرفه") كان يضغط على الكلمات المعينة، وهي تنظر إليه بحدة (ما هي أسبابك كي تقبلين القيام بدورك في هذه المهزلة؟ ما الذي يدفع بفتاة شابة جميلة كاملة بالنسبة للمعايير المجتمعية إلى الزواج من .... ) أسدل جفنيه يضغط عليهما بشدة حتى اسودت ملامحه لدرجة كانت ستدفع بها إلى البكاء، فقد اكتشفت في نفسها قدرة على البكاء كانت قد فقدتها في مرحلة ما في حياتها، لكنها شدت أزرها بقوتها الواهية، تضع أساسا لما هو قادم حسب تفكيرها العقيم، فأنى لها من تفكير سَوي وسط الحرب؟! تشنجت ملامح وجهها، تنطق من بين أسنانها بغل ضغطت به على السكين حتى أعمق نقطة في أحشائه (مهما كانت دوافعي ليست بالقذارة التي تلفك من رأسك إلى أخمص قدميك.) فغر شفتيه صدمة، وقد تصلبت كل عضلة في جسمه يصغي لما ظل يشعر به طوال حياته، لما ظل يهرب منه طوال حياته حتى وجده الآن كجدار من حديد يصدم رأسه بقوة زعزعته ودمرت الباقية المتبقية من مقاومته، فانهارت جميع دفاعاته مرة واحدة. أما هي فمسترسلة دون رحمة، ودون رأفة تأخذها بمن أخطأت تقديره في صف العدو أو الصديق (من الأفضل أن نتفق، أنت في حالك وأنا في حالي، ودعهم يكملون المسرحية كما يشاءون ففي النهاية الجمهور ليس له سوى ما يعرض فوق الخشبة.) اندفع التهكم صارخاً من ملامح وجهه، ونبرة صوته المبحوحة (متأكدة من موافقتي أنت يا ابنة الخالة.) اختلجت عضلة جانب أنفها، وهي تبلع ريقها، وتشد على قبضتيها المندستين تحت إبطيها، فتهربت منه تلحظ ما حوله دونه، وتجيبه غير مدركة لما تقوله، أو هي حقا تمنع عقلها من الإدراك كنوع من التهرب ونكران الذات... بل نكران الذنب (أنت مجبور أو ...س ... س ...) ترددت، فحثها بوجوم (ماذا ستفعلين يا نوران؟!) رفعت رأسها فجأة، ودفعت الكلمات السامة من حلقها بتصميم (سأثبت الأقاويل، فمن أصدق من زوجة مفجوعة وحزينة على حال زوجها ال ....؟!) خانها لسانها ولم يستطع التقيد بأمرها المجحف من وجهة نظر ضميرها، والتفوه بها حرفيا بينما هو يلاحق أنفاسه اللاهثة مستفسرا منها بصدمة (هل تفعلين ذلك بعائلتك؟! بخالتك غالية يا نوران؟!) حبست أنفاسها، وضغطت على صدرها ترمقه بنظرات فارغة وتائهة تماما كنبرة صوتها الواجمة (عائلتي؟! لقد رأيتهم بنفسك لا يهتمون سوى بالمظاهر.) لا يحيد عنها بقتامة نظراته المصدومة، وهي تكمل بشيء من التيه والهدر (فلنمنحهم ما يريدونه، زوج سوي وزوجة طبيعية، زواج ناجح وأسرة عادية، فقط أخبرني بالله عليك...) شهق بخفوت يدخل الهواء إلى سعير رئتيه، متابعا اشمئزازها وهي ترجوه الصدق (هل دخل أحد ما هذه الشقة؟ لن أستطيع البقاء هنا، لقد كانت شقتك قبل سنوات، قد تكون....) (لا!) نطقها قاطعة، فاصلة، وحادة كالسيف، فانحنت أخيرا والأنفاس تتلاحق بين خروج وولوج سريع مرهق لها، لكنه لم يكترث لها... حقا لم يفعل، فمن اكترث له؟! أطلق سراح الحروف ممزقة ما تبقى من كبرياء احتسبه لنفسه وَهْما، قبل أن ينطلق هاربا كأنه في حرب حقيقية، وهو المهزوم فيها شر هزيمة (لم يدخل هذه الشقة سوى أمي غالية، وجارح مرة واحدة، ولا أظنك ستقرفين منه، فأنت أدرى بطبعه.)

الستر من الحق..3..سلسلة نساء صالحات .. منى لطيفي نصر الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن