الفصل الثاني
إن الله سبحانه وتعالى حينما يكشف لعبده يوم القيامة عن حكمة ما ساقه له من شدائد، ينبغي أن يذوب كما تذوب الشمعة محبة لله..... محمد راتب النابلسي.
(المدينة السياحية)
عض شفته السفلى، وهو ينتظر انفتاح الباب الذي لم يتأخر، ووجد أكثر شخص يحبه من صميم قلبه، يهتف بسرور ناضح من مقلتيه اللامعتين ببراءة مشوبة بمشاكسة محببة (خالي! كيف حالك؟ اشتقت إليك.) اندفع إليه الصبي في عمر العشر سنوات، فحمله أسامة بفرح يضاهي سرور الصغير، يجيبه بمرح (وأنا أيضا يا بطل، اشتقت إلى مشاكساتك.) ضحك الصغير هاتفا (سأبدأ الدراسة غدا، وأنا متحمس جدا.) هم أسامة بالرد عليه لكنه تراجع ونبرة أخته الجافة تنسف المرح في الأجواء (عامر! تعال إلى هنا، والدك يناديك.) انسل الصبي مرغما من بين ذراعي خاله، وانصرف تحت أنظار أسامة الجامدة، وأخته التي نطقت بنفس الجفاء (أمي تنتظرك في غرفتها.) وانسحبت هكذا، دون كلمة زائدة، فزفر بقنوط وهو يتجه إلى غرفة والدته. لمحها على سجادة الصلاة تبكي بحرقة، فأسرع إليها يجثو على ركبتيه، ومد يديه إليها كي يسحب كفيها، فانتفضت مبتعدة عنه. جحظت مقلتاه يرمقها بنظرات موجعة وقلبه يصرخ بلوعة "رباه ارحمني، ليس أنت يا أمي! لا، ليس أنت!" (أ....مي... ماذا!) ضمت ذراعيها إلى صدرها، ووجهها قد احمر من البكاء حتى ظهر وسط قماش طرحتها البيضاء كحبة طماطم ناضجة في قلب القطن الأبيض ثم نظرت إليه بمقلتين تحملان من العذاب الأليم لهما معا ما يكسر الظهر؛ هي من أذنبت حين أساءت الخيار، و يا له من سوء، نتائجه لا تنفك تمتد، وتمتد كسيقان اللبلاب السام. ردد سؤاله وهو يبحث في عذاب بحريْها المتفجر عن مرسى كان له جنة، وإن كانت مؤقتة (أ...م...) فرفعت اصبعها تقاطعه بحرقة (لا تقل أمي! ولا تنطقها حتى تستحقها.) مقلتاه في اتساع مستمر، ودقات قلبه تتسارع بهلع يتوقع مصابها ولا يصدقه يا الله! لا يريد أن يصدقه. (لما...ذا...) التفتت إليه بعدما هوت كفاها إلى حجرها، تجيبه بنبرة تشبعت من ألم فؤادها (لقد ظننت بأن فراقي عن ذاك المجرم أنقذك منه، وزواجي من رجل صالح لكي يؤمن لك تربية سوية غير الفساد الذي كان سيلقنه لك ذاك الحقير، قد ....) شهقت ثم أكملت بوجع (قد يصلح ما أفسده وأفسدته أنا باختياري له زوجا لي رغم كل تحذيرات عائلتي لكن اتضح أنني كنت واهمة، وأنا أغطي على ما هو حتوم.) بلع ريقه من فزعه، وأمه ترمقه بمرار تردف بلوعة (لطالما أصابتني الريبة من جفاء أختك وزوجها تجاهك... أختك التي كانت تحبك، وتحسبك قدوة لها، انقلب حالها على حين غفلة ولم أفهم موقفها، ولا موقف زوجها، وكنت أتشاجر معهما من أجلك، فيتهربان مني ولو لم أسمع حديث صديقتها لها اليوم لبقيت ما تبقى من حياتي على جهلي، وعمى بصري وبصيرتي.) ما يزال جامدا مكانه كمنحوتة بائسة، يراقب وضعها المزري، فتنهش أحشائه بالمزيد من السكاكين المتوحشة (أنت ابني، وحبيب قلبي، مصابه أعظم خساراتي من زواجي، وحبي لشخص أخجل حتى من مجرد ذكرى عابرة لحب كننته لحقير مثله، يا إلهي! لقد عاد الماضي بجحيم ظلمته ليحيط بي! وكأن زوجي صالح رحمه الله لم يكن في حياتي بعد الحقير، وكأن ما عشته من أيام وردية بعد السواد لم تكن، أنا...) لم تستطع الاستمرار، وعادت تبكي بألم فاض به فانقض عليها، يضمها رغما عنها، ويهمس لها بنبرة لا تختلف عن كم الهم والوجوم في صدر والدته، وأشد! (أتوسل إليك يا أمي، ليس أنت ... أتوسل إليك، فقط أخبريني ماذا أفعل لكي تعود لك أيامك الوردية؟ ليس أنت يا أمي، أنت أملي الوحيد وملجئي الوحيد في هذه الدنيا التي أكرهها، إن غبت عني اختفت آخر شعلات النور في حياتي ...أتوسل إليك أماه؟! لا تتركيني ...ليس أنت ...ليس أنت.) علا صوت نحيبها يصاحبها تنهداته الموجعة، وهو يضمها بقوةِ من يتشبث بقشة، يضع فيها كل آماله للنجاة، فعادا بذكراهما لأيامٍ كانت عذاباً خالصاً عبر بهما خندقا من نار أحرقتهما، ولا أحد علم بمصابهما، فآه من دنيا... دُنيا! وآه من بغْي البشر. رفعت رأسها عن صدره، تقول له بتوسل تشكل كالحقد على قسمات وجهها (لا تسمح لهم بأذيتي بني، ليس بعد كل ما عشناه أنا وأنت ونجونا منه، لا تسمح لهم! إنهم يأكلون لحمنا خلف ظهورنا بحديث يهتز له عرش الرحمن، وتشيب له الرؤوس، لم نسمح بما وقع على رؤوسنا وطمرناه بقوة لينصهر بالعدم، فكيف نسمح لهم بالثرثرة ونشر الإشعاعات!؟) أغمض عينيه يدفن فيهما الخيبة، والخجل، وهمّ بالاعتراف علّ الحديث مع من كانت له المرسى دوماً يخفف عنه، لكنها اهتزت وانتفضت من مكانها تقفل فمه بكفها، وتهتف بألم وصل مداه ناشراً الرعشة عبر أوردتها (لا! إنها إشاعات، مجرد إشاعات، أتوسل أليك بني! قوتي خبت، ولم أعد كما كنت، الدنيا هدّتني ولم أعد أقوى على الرد والصد، أرجوك ولدي...أرجوك!) غاصت بنحيبها، وكفها ينزلق عن فمه المزموم بشدة، دموعه المدرار على وجنتيه يشعر بها كشلال من الحمم، تحفر أخاديد تمتد لأعماق أحشائه، وبعد برهة من الزمن أو أطول، رفع وجهها مجددًا إليه يطمئنها بنبرة بحت من شدة تألم صاحبها (أقوالهم محض هراء أماه!) شهقت تدخل الهواء إلى رئتيها، وهتفت بلهفة كما تمسكت بفلذة كبدها (إذن أثبت لهم ذلك؟) قطب جبينه بريبة يلهث، وهي تكمل بتصميم (تزوج وأثبت لهم العكس.) انتفض يهم بالابتعاد عنها، فتمسكت به تسحبه إليها، وترجوه بنبرة مثيرة للشفقة (أتوسل إليك بني ...دعني أُقبل رجليك...) اهتز مرة أخرى يمنعها عن نيتها، متسائلا بصدمة مفجعة لقلبه المكلوم (ماذا تفعلين أماه؟!) دفعت يديه ونزلت تبحث عن قدميه المندسين داخل حذائه، وهو يبعدهما عنها، لا يصدق الى أي حد قد وصل اليأس بوالدته منه (أتوسل إليك يا ولدي... إلا ما سمعته، لن أقبل بتلك الخسارة ...لن أقبل بها ...الذل أهون علي، الموت أهون علي ... الموت رحمة .... آآآه!) تجمدت على وضعية السجود تبكي ألامها وأوجاع قلبها، فانحدر إليها يضع رأسه على ظهرها، هامسا لها بخفوت (أماه .... آآه أماه! والموت أهون علي مما أراك عليه الآن، لو تعلمين فقط.) اهتز بدنها وهسيس نحيبها لا ينقطع، فاستدرك بيأس (لو طلبت مني قتل نفسي يا أمي سأفعلها وقلبي راض لأنها رغبتك.) رفعت جسدها بعنف، تهتف بكَبَد (وتقابل ربنا عاصيا تستحق العذاب فأخسر معركتي في الدنيا والآخرة وبصفة نهائية، يا ربي ارحمني! أنت أعلم بمصابي.) ظلت تضرب على صدرها بحدة، فأمسك بكفيها يرجوها بلوعة (أمي كفّي عن ذلك! سأفعل أي شيء تطلبينه مني ... أرجوك أمي!) بلعت ريقها بينما تشعر بأطرافها ثقيلة باستثناء لسانها الذي طالبه بتأكيد (ستتزوج؟!) رفع كتفيه مستسلما يجيبها بقلة حيلة وبكاء غزير غلف معالم رجولته أمام مرآى والدته، فاختفت اللحية الخفيفة والحاجبين اللذان تضاعف حجمهما وبدا لها وجه الصبي الصغير، طفلها وصغيرها، فرحة قلبها ونور عينيها. ما تزال تذكر مقلتيه البنيتين حين تمتلئان بدموع تتغرغر حتى تفيض بحزن وألم لم تفهمه بداية حتى جاء اليوم الذي اكتشفت فيه الفاجعة. (إن كان ذلك سيرضيك عني سأفعله ...بالتأكيد سأفعله.) سحبته تضمه إليه متنهدة بحرقة تجلت في نبرة صوتها (بل أريدك أن تعيش بشكل طبيعي على الفطرة التي خلقك الله عليها، أريدك أن تكسب معركتك مع الدنيا، وتفوز برضوان ربك ...أريد ...وأريد ...وأريد.) دفعته عنها دون أن تتركه ثم حضنت وجهه، تكمل ببسمة أمل شقت طريقها بين حفر اليأس والبؤس على قسماتها (في ما يخصك أريد كل شيء، أريد لك السماء بعلوها والأرض بوسعها، أريد لك من كل خير وفير، أريد لك العزة والكرامة، وأعلى المراتب دنيا وآخرة.) بادلها بسمتها الواجمة وربت على ظهر كفيها، يسألها بتردد (وهل أستحق ذلك يا أمي؟ هل فعلا أستحق؟) أومأت له بينما تقول له بحكمة (إن لم يكن من أجلك، فمن أجلي، إن فقدت الأمل بنفسك فلا تفقد الأمل بي، هل تحبني حقا بني؟! هل تبحث عن بهجتي ورضاي؟!) طوق خصرها بقوة، ووضع رأسه على صدرها مؤكدا لها شعوره (لو فقط تعلمين يا أمي؟! لو أستطيع فتح قلبي كي يريك ما يحمله لك، أنت الأمل، والراحة، والسلام لحناياه، لو فقط تعلمين؟!) أحنت جذعها تتكوم على نصفه العلوي المندس بين خصرها وصدرها، ترد عليه بشجن (أصدقك بني ...أصدقك ...لم يصبني اليأس منك يوما .... لم أفعل ولا للحظة مع كل ما حدث.) رفعته تسترسل بنبرة تحكمت بقوتها (سأطلب لك فتاة مناسبة، قد لا ترى أنت ذلك لكن حدسا ما يشعرني بأنكما ستجدان الرفقة الحسنة لدى بعضكما، أطعني بني، وحاول من صميم قلبك، والله لن يخيب مساعيك ...وسيجبر كسرنا أنا وأنت.) عبس متسائلا بحيرة (من تكون الفتاة يا أمي؟) ردت عليه، وهي تمسح دموعه كما كانت تفعل وهو طفل صغير (ابنة خالتك راجية ...نوران.) قفز حاجباه بذهول يعقب دون وعي (المجمد المتنقل؟!) أجفل على ضربة من كف والدته على كتفه تعاتبه بينما بواقي الشهقات ما تزال تسيطر على صدرها (تحشم يا ولد! أنت من بين كل الناس يجب أن تشعر بمصاب غيرك.) هتف بدهشة، وهو يمسح برقة ما تبقى من دموعها (وما بها مدللة أبيها؟!) غامت مقلتاها بحسرة على صغيرها لكنها ردت عليه بما يخص ابنة أختها (لا أعلم لكن من ذاق مرارة الظلم يحفظ العلامات، وابنة خالتك تحمل منها الكثير.) استقام واقفا، وأمسك بيديها كي يوقفها، وهو يناقشها مرجئا التفكير بنفسه حتى حين (لا تكوني واثقة من موافقتها، فنوران فتاة صعبة، وعنيدة.) جلست على السرير، وجذبته ليجلس أمامها تجيبه بغموض (لا عليك أنت من ذاك الأمر، أنا وخالتك كفيلتان بها، فقط عاهدني على بذل جهدك لإنجاح زواجك بني، عاهدني على فعل كل شيء من أجل حياة كريمة لا تشوبها شائبة.) كيف يكتسب تلك الثقة؟ كيف؟! لكنه قبل ظهر كفيها يهادنها بطاعة صادقة (أعدك أمي أن أفعل كل ما بوسعي.) هم بالمغادرة، فمنعته تقول له بعبوس (لا تخرج الآن... انتظر حتى تجف دموعك، ويستعيد وجهك لونه الطبيعي، سأرد لك اعتبارك أمام أختك وزوجها، وسنخرس كل لسان تحرك لينهش لحمك.) ابتسم لها بحزن وقد أسقط بيده، فما يملك أغلى من والدته!؟ وفكره ينحصر في خوف من خسارتها فيخسر آخر خيط يربطه بخالقه، وبقعة النور التي ما تزال ضمن أحلام يراها بعيدة عن فؤاده المعلول.
![](https://img.wattpad.com/cover/372761766-288-k674336.jpg)
أنت تقرأ
الستر من الحق..3..سلسلة نساء صالحات .. منى لطيفي نصر الدين
Romanceجميع الحقوق محفوظة للكاتبة .... لا تنسوا صلاتكم... فالرواية تنتظر وأجر الصلاة في وقتها يطير..... أنصح و بشدة قراءة الجزئين السالفين من أجل فهم بعض الأحداث... سألوا الحكيم عن بئر السواد، ما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ فقال لهم الحكيم مغموما؛ تعالوا والتفوا...