الفصل الثامن
إن أردنا أن نعرف الله فينبغي أن نتفكر بآياته الكونية، وأن ننظر إلى أفعاله آياته التكوينية، وأن نتدبر القرآن فهو آياته القرآنية، وحينما نعرف الله نعرف كل شيء... محمد راتب النابلسي
(قبل ساعات)
غلف البرود قلبه وهو يتأمل والده المتسطح على السرير، يبدو كمن يصارع الموت وبالرغم من ذلك لا يملك من أمره سوى السماح للصقيع بأن ينتشر عبر أوردته. لماذا يلوم نفسه وهذا الرجل لم يحاول يوما أداء دور الوالد في حياته؟! أو حتى إبداء نوع من المشاعر كالتي منحها لعيسى في صغره قبل أن يُصدم هو الآخر بالواقع المر. عقد حاجبيه على إثر فكرة داهمته على حين غفلة؛ عيسى كان الوحيد بينهم من حظي بنوع من الاهتمام منه، وإن كان مزيفا، أو نفاقا، لكنه على الأقل حظي بصورة للاهتمام الأبوي بخلافه وإبراهيم. لماذا يا ترى؟! لماذا عيسى تحديدا؟! تشنجت عضلات وجهه حين فتح والده مقلتيه وركز بنظره عليه رأسا وكأنه علم سابقا بوجوده، وظلا يتبادلان النظرات بصمت امتد للحظات؛ منه غامضة حادة في وهنها ومن ابنه باردة، وجامدة لا تحيد عن موقفها. (أحيانا أتساءل، ماذا لو؟) خاطبه إسماعيل بجمود ثم تلكأ يطبق على شفتيه قبل أن يكمل والآخر يحاصره بظلمتيه (ماذا لو حظينا بأب طبيعي كجدي مثلا؟! هل ستكون حياتنا أفضل مما هي الآن؟) بلع والده ريقه، فحادت عينا ابنه نحو شفتيه المبيضتين، تتحركان بكلمات واجمة (هل تعرف أنك أول من شككت به حين عرفت بخيانة والدتك؟ لطالما كنت باردا، متباعدا، وكأنك في برج عالي تراقب رعيتك بصمت.) ضغط إسماعيل على فكيه ومال على سريره، ليرد عليه بنبرة متمهلة تشع برودا (مهما دافعت عن جرائمك لا تمحوها علة ولا حجة! اسمعها مني جيدا، وإن لم تصدقها من ابنك بكرك، إبراهيم آل عيسى شقيقي.) أبرزها بتعمد ووضوح، فلمح اهتزاز حدقتيه، وهو يكمل بثقة (والدتي لم تخنك وأبناؤك جميعهم من صلبك؛ إبراهيم وأنا وعيسى، أفق من غفلتك يا... والدي، أنت على فراش المرض والعمر مهما بقي منه يقربك من القبر، افتح عينيك واستوعب كمّ الألم الذي أغرقتنا به جميعا.) ما يزال على حدة كلامه الهادئ ظاهريا والآخر متجمد مكانه، جاحظ بمقلتيه، وحواسه في استنفار عجيب (الخزي الذي لحق بنا لم يجلبه علينا سواك فلا تبحث عن مشجب يحمل عنك اخفاقاتك!) قاطعه قائلا باندفاع مقيت (والدتك لم تكن بالطهر الذي تظنونه، لكنكم لا تريدون رؤيتها على حقيقتها.) استقام إسماعيل فحمل والده جذعه العلوي قليلا، يكمل بحدة وغضب رغم ارتعاش نبرته (لا تهرب! قف واسمع حقيقة أمك التي تفخر بها، لم تكن سوى أنانية متكبرة، مدللة جدِّها الطماع، إنسان وصولي مثّل على جدي الحكمة والنخوة بينما هو إنسان حقير لا يحركه سوى أطماعه، هو وحفيدته دمرا سمعة الفتاة الوحيدة التي أحببتها وكنت أنوي الزواج بها، وأنا كالغبي صدقتهما وانسقت خلفهما، وحين اكتشفت الحقيقة عدت إلى الفتاة أطلب سماحها، وهي قبلت بي، وقبلت بأن أتزوجها خفية عن أهلي فقط لتظل معي!) صمت يلهث من وهنه وإسماعيل لا تتغير ملامحه عن الجمود، لا ينكر بعضاً من قوله فهو أدرى بشخصية والدته الفخورة بنفسها لكنه يرفض تصديق دنوها لذاك السوء الذي يتحدث عنه. أراح والده ظهره على سريره يكمل بنوع من السهو الواجم، وكأنه ينعي حياته التي ضاعت هباء (كنت أمير هذه الجبال، والجميع يلهث خلفي، وكل من وثقت بهم خانوني أولهم جدي الذي رباني بقسوته أمام عين والدي، وأنا تقبلتها كرجل شجاع ليفخر بي، فأضحت أحلامي أكبر من أحلام جدي، كنت سأفعل ما لم يفعله أحد من سلالتنا لكنهم خانوني جميعهم!) هز إسماعيل رأسه، يجيبه بحسرة (أحلامك تبرر بها الوسائل في سبيل تحقيقها، أليس كذلك؟) نظر إليه بينما يرد عليه بجفاء (السطوة تتطلب بعض التنازلات، وحينما تكون المدينة في قبضتك تتحكم بمقاليدها كيف تشاء.) جعد إسماعيل جانب أنفه، يقول له بقوة (حججك الطاغية ذاتها لكن الحقيقة أن الحرام حرام، والضلال ضلال، والمبادئ لا تتجزأ مهما كانت الغاية سامية، في النهاية الطريق إليها هو الأهم لكن أنّى لك أن تفهم ذلك؟!) ثم بسط ذراعيه، يشاركه النعي في وجدانه (بالله عليك أنظر إلى حالك، ماذا كسبت من كل ذلك؟ لو كنت على حق لانتصرت في مسعاك لكنك تدحرجت على نفس المنحدر الذي اخترته لنفسك حتى هوى بك في قعر الخسارة والحسرة.) رفع والده قبضته يخفي بها فمه حين انتابته نوبة سعال، فلاذ ابنه بالصمت رافضا شعور الشفقة الذي ألمّ بقلبه. تمالك نفسه بمشقة ثم قال له بحقد (أخبرتك بسبب فشلي، لم أحسن اختيار صحبتي، صحبة الخذلان... خونة!) ضم إسماعيل ذراعيه إلى صدره، معقبا بسخرية (ما بالك بصحبة الخمر والضلال، كيف سيكون مصيرها؟) عبس بضنك ثم أطبق على فمه صامتا، وإسماعيل يكمل بتعبير مبهم (ومع ابن آل منصور الأكبر، أستطيع التخيل.) نظر إليه بحدة يهتف بغل (بل الخائن شقيقه الأصغر، حسن! صديق العمر كما اعتبرته قبل أن يطعنني في ظهري بنصل الغدر.) قطب إسماعيل جبينه مركزا عليه بنظراته وعقله بينما يراوغه بالحديث (ألم تكن تعرف غيره من عائلة آل منصور؟) مسد والده على صدره، يجيبه بامتعاض (بل أعرفهم جميعهم لكن كبيرهم كان أعقلهم، على الأقل هو أخبرني بالحقيقة وفضلني على شقيقه الخائن.) أخذ إسماعيل نفسا عميقا يهدئ به ضربات قلبه التي بدأت تحتد وهو يسأله (ماذا أخبرك به كبير آل منصور الذي فضلك عن شقيقه؟) هتف زاجرا (قد تسخر من الأمر لكن هو الذي أخبرني عن حب صديقي حسن لزوجتي، وتخطيطه لأن يزوجني شقيقة لهما وحتى بعد أن بلغ عني حسن، وفررت، هو من تواصل معي وعمل وسيطا لأعمالي بعد أن رفضني أبي وجدي اللذين من أجلهما سلكت كل طريق خطير لكي أوسع من نفوذ العائلة.) مسد إسماعيل جبينه، وسأله ضاغطا على نفسه بقوة (هناك شيء يحيرني؛ لماذا أنت متأكد من أن إبراهيم ليس ابنك؟ فما أخبرتني به قبل قليل يدل على أنك كنت تشك بنسبي إليك أنا أيضا.) بلع ريقه وقد لمعت ظلمتاه بعتمة الحقد (لسنوات وأنا أتعذب بسبب خيانتهما لي، وكنت أشك في من كنت أفتخر بهم رجالا من صلبي.) رفع إسماعيل يده يقاطعه بحيرة (تمهل! شككت بنا جميعنا؟ كيف ذلك وأنت كنت تدلل عيسى الذي لم يعرفك على حقيقتك حتى وعى على صدمة عمره!) عقد والده جبينه، يسأله بدوره بجفاء (ماذا تقصد أنت؟ أنا لم أعلم بعلاقتهما إلا قبل أن أصبح مطاردا بقليل، استيقظت صباح يوم اجتمعت في ليله بحسن وآخرين، ووجدت نفسي متزوجاً من شقيقته آمنة، لا أعرف حتى كيف؟) اقترب إسماعيل منه بدون وعي ووالده يكمل بكره (لم أفهم شيئا، وكنت مذهولا وأنا أجد نفسي قربها وهي تبكي وتولول تتهمني باغتصابها وأنا ثمل، فخرجت من الغرفة ووجدت شقيقها الأكبر ينتظرني وفي يده عقد زواج عليه توقيعي وبصمتي، وأخبرني بأنه كان ينوي قتلي بسبب ما فعلته بشقيقته لولا ذاك العقد الذي وجده فبدأ يخبرني بخطط حسن ليوقع بي ويستولي على أموالي بسبب عشقه لزوجتي، وقد أفلح في مخططه وزوجني من شقيقته بينما أنا ثمل.) فغر إسماعيل شفتيه ببلاهة لحظية أصابت إدراكه، متسائلا بدهشة (وكيف تأكدت من أن إبراهيم هو ابن صديقك؟) أسدل جفنيه تعبا وقد ظهر عليه الوهن والهم؛ بياض شعره وانكماش بشرته الشاحبة يضيفون إلى عمره الكثير؛ ثم فتحهما يرد عليه بما أثقل على قلبه (قبل أن يقبض عليّ بمدة، وفي أحد لقاءاتي بكبير آل منصور، أحضر لي تحليل الدم لكل واحد منكم، تحليل إثبات النسب كما يسمونه، ذاك التحليل الذي لم نكن نعلم عنه شيئا إلا في السنوات الأخيرة، وتأكدت من أن إبراهيم ليس من صلبي.) ضم إسماعيل شفتيه، يقر بتهكم مرير (ولهذا أقنعك بقتل إبراهيم.) احتدت مقلتاه التعبة هاتفاً بحقد (بالتأكيد! فهو ابن حسن، ويعيش دور كبير آل عيسى بكل ما منحه النسب من رفاهيات! تمنيت موته وموت والدته الفاجرة!) (أبي!) قاطعه إسماعيل بغضب فصمت الآخر يلهث، لا يعلم أمن تعبه، أم من وقع الكلمة التي لم يسمعها منذ زمن! رفع إسماعيل رأسه محاولا تدارك أنفاسه المتلاحقة كي يهدئ من أعصابه الثائرة ثم تحرك برجليه جيئة وذهابا قبل أن يتوقف ويميل على فراش والده الحائر من حاله، يسأله بغضب (هل واجهت صديقك حسن هذا مرة واحدة بعد ما أخبرك به شقيقه؟) تجلت الحيرة بين معالم وجهه المتجعد وهو يجيبه (لا، بحثت عنه ولم أجده ثم عرفت بأنه وشى بي لدى الشرطة عن أعمال لنا مشتركة، كانت بها بعض المعاملات المخالفة للقانون، فهربتُ قبل أن يقبض علي.) ابتسم إسماعيل بسمة فاترة انقلبت إلى ضحكة علت بسخرية بائسة، ووالده يرمقه بتوجس ودهشة حتى مسح على وجهه من فرط ما ألم به من حرقة وحلّ ربطة عنقه ليعبئ رئتيه بالهواء قبل أن يقترب منه ليخاطبه بوجوم بائس (طوال هذه السنوات من العزلة في السجن، ألم تفكر للحظة واحدة بأنه ربما صديقك حسن لم يخنك، وبالتالي زوجتك لم تفعل! وأن كل شيء كان مخططا له ممن اعتبر نفسه قديسا بريئا أمامك ليستغلك يا أمير الجبال؟) أجابه بغضب حاقد رافضا السماح لجدار الوهم بالانهيار مهما تخلله من صدع (مستحيل فهو أخذني إلى غرفة حسن وسحب صندوقا من تحت سريره مليئا بخواطر كتبها ورسائل باسمها.) رفع إسماعيل حاجبه بينما يسأله بعدم تصديق (رسائل مبعوثة من أمي؟) هز رأسه يرد عليه بضيق (بل منه هو!) لحق الحاجب الآخر بأخيه، مستفسرا منه بدهشة (إذن.. ماذا!) جعد والده جبينه بعدم فهم، فتابع إسماعيل بصبر يحسد عليه (تلك الرسائل ليست بدليل خيانة، ولها تفاسير عدة محتملة، منها أن الرجل قد يكون أحبها قبل أن تتزوج أنت بها، وحتى إن أحبها بعد زواجها أمي لا علاقة لها بالأمر، لقد وجد فيكم ذاك الحقير مرتعا مجهزا لخططه المريضة، وهذا ذنبكم أنتم! أنت وصديقك وأمي.) ارتعبت مقلتاه وازدادت سحنته شحوبا وقد ألجمت الصدمة لسانه، فالحقد والغدر طغيا على كامل حواسه حتى أعميا بصيرته، وفطنته. زفر إسماعيل بقنوط ثم اقترب أكثر ليدنو منه مضيفا بحسرة، ولأول مرة يشعر حقا بالشفقة على والده لما ينتظره من جحيم الندم (من وثقت بحديثه ليس سوى مجرم شاذ، ومنحرف اغتصب شقيقه الأصغر غانم آل منصور، ورغم تجاربي الكثيرة، ومعرفتي بواقع الدنيا وحال البشر إلا أنني استغربت بعض الشيء كيف أقنع أهله ببراءته وأقنعهم بطرد ابنهم الصغير المُغتصب من منزلهم والتبرؤ منه؟ لكن الآن!) أشار إليه ثم تابع بأسى (الآن بطل عجبي!) ارتسم الرعب على ملامح والده بينما يستنكر (مستحيل! لماذا سيكذب علي؟ ما الذي سيكسبه من ذلك؟) جعد إسماعيل ذقنه يدّعي التفكير قائلا بسخرية (لنرى ما هي مكاسبه من خداعك؟ ربما مخططك الجهنمي بالاستيلاء على المدينة يتضارب مع مصالحه بترأس بئر السواد؟ فهذا يعتبر دافعا قويا للقتل وليس فقط الخداع، وخير دليل على ذلك، رغبته في إزالة العقبة الجديدة؛ إبراهيم شقيقي، بما أن أهل الجبال قد تجمعوا حوله، فهذا يعني عودة عهد آل عيسى العادل، وطبعا لا أتحدث عن عهدك الذي لم تلحق باستغلاله لحسن حظ الجبال وأهاليها.) استقام بجذعه يضم ذراعيه مجددًا، وهو يكمل باستخفاف (أشهد له بالدهاء الخارق، فلقد رأى فيك ما لم يره غيرك، صاحب نفوذ مطلق، وغير ملتزم بالطرق الصحيحة كبقية أهله وهذا يعني شيئا واحدا، أن كل التجارة السوداء ستخضع لصاحب النفوذ الأكبر في المدينة... أميرها!) شهق والده بإدراك صادم، فابتسم إسماعيل بحزن يضيف (لقد دمر أهله ولم يكترث بهم! الأولى بك معرفة أن من يبيع شقيقه بتلك الطريقة يبيع الغريب بأسوأ من ذلك!) لهث والده بشدة حتى بدأت الزرقة تزحف على شحوب بشرته، فأسرع إسماعيل لوضع قناع الاكسجين على فمه ويده الأخرى تمسد على صدره، وفي تلك اللحظة بالذات تلاقت نظراتهما في حديث خاص، وعميق متشبع بأحاسيس فوضوية ومختلطة بين استجداء ووقوف على أسوار النهاية التي تلوح برايات الاستسلام، وأخرى على قدر لومها على قدر قلة حيلتها، فاكتفت بالشفقة والبكاء ولو من وراء حجاب.
***
(الحاضر)
(منزل آل عيسى)
(غرفة تغريد)
صمت وجل اكتنف ألسنتهم كالجمود الذي شاع عبر أطرافهم، أختهم الوحيدة على سريرها تضم ركبتيها إلى صدرها ودموعها متحجرة في مقلتيها الجامدتين واخوتها الرجال حولها، كل واحد منهم يحاول استيعاب ما ألقى به الآخر خارج جعبته، وكان آخرهم إسماعيل الذي وضع آخر القطع في الجانب الخاص بهم من الأحجية الغريبة ثم أضاف بعد الصمت المهيب ساخرا (هل تعلمون أكثر ما يثير السخرية في الأمر؟) نظروا إليه منتزعين أنفسهم من سواد أفكارهم، فاستطرد بوجوم (كنت أظن أن معاملته القاسية لنا جراء شكه بنسبنا إلى أن اكتشفت خلاف ذلك.) ثم تنهد بقنوط، يكمل (بينما هو يعتقد بأن القسوة والشدة من ضمن التربية الصحيحة لتقويم الرجال... وما كان لينه مع عيسى سوى لصغر سنه، وكان سيلقى نفس المصير في كبره.) رافق آخر حديثه ببسمة حزينة، فتدخل إبراهيم قائلا بتشجيع بعد ما لمحه من هم وقع بهم (لكن أتعلمون ما المفرح في الأمر كله؟) ابتسم بصدق حين نظروا إليه باستجداء، باحثين بلهفة عن نقطة فرج وفرح وسط عتمة الألم والوجع المحيط بهم، فبسط يده وسحب تغريد ليقبل أعلى رأسها، مستدركا بحنو (أن تغريد ويونس أبناء شرعيين، الحمد لله على ذلك.) تبسموا ذات البسمة الحزينة، فقالت تغريد بوجوم (أتمنى فقط أن يعود يونس، لماذا لا يترك كل شيء ويعود إلينا؟ ليعيش حياته كما يجب؟ هو والفتاة!) بترت حديثها بتردد، فمسد على رأسها بحنو يفسر لها (يجب أن ينهي ما بدأه، وهناك أمور ما تزال غامضة، حين نكشف كل شيء على حقيقته ستهنأ قلوبنا بسكينتها.) تابع قوله بوقفة حازمة كبقية حديثه (شاء الله أن أتولى أمور هذه الجبال، ويجب أن أقوم بواجبي على أكمل وجه، وتلك البقعة المسماة بئر السواد سأسعى لمحوها، لقد كنت مخطئا في هدفي حين طاردت المجرمين عبر الجبال جاهلا بأن رأس الحية يعيش وسط المدينة ويعيث فيها فسادا.) انتفضت تغريد تفارق السرير، قائلة له بلهفة لم تستطع اخفاءها (وأنا أريد رؤية الفتاة، أقصد خالتي.) أشار لها محذرا (تمهلي يا تغريد، لا نريد إحداث ضجة حول الأمر، ولا أن نتسبب بمشكلة ليونس، طارق سيجن جنونه لذا سنتريث إلى أن نجمع جميع الخيوط بأكملها، وأنا سأجتمع بالضابط الممتاز وليعيننا الله على القادم.) أومأت له بعبوس يذكره دوما ببداية معرفته بها، فقبل رأسها مضيفا قبل أن ينسحب (سآوي إلى فراشي، فلا طاقة لي بعد برؤية أمي، سأتحدث معها لاحقا بإذن الله لكي لا أجرحها بنفاد صبري حاليا، تصبحون على خير.) ربت إسماعيل على وجنتها بلطف يقول لها هو الآخر قبل أن ينسحب (نامي، سيكون كل شيء بخير بإذن الله.) بقي عيسى على سهوه، فوقفت تغريد أمامه، تعبر عن استغرابها بدهشة (غريب فعلا كل ما سمعته، كيف لرجل أن يدمر عائلتين بنفاقه وخبثه، غريب؟) تنبه إليها عيسى فرد عليها بأسف مرير (لا يجد الشيطان طريقه إلا نحو البيوت الهشة فيعيث فيها فسادا، ويزيد على خرابها دماراً.) ثم هز كتفيه بينما يستدرك بامتعاض وهو يغادر (كبائر الذنوب سواء منه أو من أمي، ماذا ستكون النتيجة؟) زفرت تغريد بوجوم يموج مع الإثارة بصدرها، لا تخفي سر بهجتها لكونها ابنة شرعية مع أنها ما تزال غاضبة منه لاغتصابه لوالدتها، حتى إن جهلت بالتفاصيل ثم اكتشافها لوجود خالة لها، وبقية أهل نبذوها مجبورين... كل خفف بشكل ما من نقتمها وألمها. علت نغمة الرسائل من هاتفها، فأسرعت إليه تقرأ سؤاله اليومي عن حالها والذي يفلح دائما في إدخال البهجة والسرور بعشقه واهتمامه بها إلى قلبها. تنهدت باسمة وهي تضم الهاتف إلى صدرها ثم همست بخشوع (الحمد لله)
***
(بئر السواد)
(انتظر! ألم تكن تبحث عن الحقيقة؟ لماذا تفر منها الآن؟) هتفت إشراق بتوتر، وهي تلحق به مسرعة من غرفته إلى غرفتهن حيث توقف أمام بابها يحمل أواني الطعام، مخاطبا سترة بلطف (شكرا لك على الطعام، إنه لذيذ.) تسلمت منه الأواني، محمرة الخدين وباسمة بحياء بينما تهز رأسها بخفة أمام بسمته المترددة، وكأنه لتوه يتعلم كيف يبتسم. (أنت تتهمني دون وجه حق!) قاطعتهما والدته المحتضنة لقطها البني المفضل بين كفيها فاختفت بسمته بينما يلتفت إليها، متسائلا بوجوم مخلفا سترة خلفه متسمرة مكانها تراقب الوضع بحيرة (هل أخفيت عني أنني ابن شرعي أم لا؟) بلعت ريقها بتوتر، فاستدرك بحدة أجفلتها (هل تركتني طوال حياتي أصدق بأنك مومس، نعم أم لا؟) أحنت رأسها بانكسار غريب عليها، فتنهد مستدركا وهو ينصرف (هذه الحقيقة الوحيدة التي كنت أبحث عنها، والآن لم يعد يهمني بعدها شيء آخر.) شعرت إشراق بلمسة حنونة على كتفها، فرفعت رأسها إلى سترة الباسمة لها بإشفاق تهمس لها برقة (إنه مثلك طيب القلب مهما أظهر عكس ذلك، سيعود ويسمعك فقط لا تستسلمي.) في تلك اللحظة تفاجأت سترة من بسمة الأخرى الحانية، المقرونة بدموع علقت بأطراف رموش عينيها تسلل شجونها لنبرة صوتها المبهمة المعنى (على الأقل، كنت محقة في أمر واحد، خيرا إن شاء الله.. خيرا.) شيعتها سترة بنظرة حائرة ثم إلى الذي وقف بالقرب من باب غرفته ينظر نحوها بطريقة زادت من اضطراب ضربات قلبها، فعادت أدراجها، تفر منه و.... منها.
***
(منزل البروفيسور)
(منتصف الليل)
فتحت صباح إحدى مقلتيها لتهمس له بينما تقاوم التثاؤب (لا أظنه سيتصل، نم حبيبي.) التفت إليها مزيلا ناظريه عن هاتفه ليمنحها نظرة فوق عويناته بينما يميل رأسه نحوها، يجيبها بخفوت (أشعر بأنه سيتصل، وأنا أستغل الوقت بقراءة بعض المقالات، عودي إلى نومك، واعذريني إن أزعجتك.) أسدلت جفنيها والبسمة ترخي ستارها على شفتيها مغمغمة بنعاس (لا بأس.) ابتسم لبسمتها وعاد إلى ما كان يفعله، منتظرا على أملٍ تحقق بعد دقائق حين ومضت الشاشة بالرقم المخفي. (السلام عليكم.) بادره البروفيسور بحماس، فرد عليه أسامة بتأثر واضح (كنت تنتظرني، كيف تأكدت من أنني سأتصل الليلة؟) أزال البروفيسور عويناته ليضعها على المنضدة المجاورة مجيبا بهدوء (هل ستصدقني إن أخبرتك بأن قلبي أشعرني بذلك؟) أتاه الرد سريعا وصادقا (أجل أصدقك.) تبسم البروفيسور بدفء حقيقي، يسأله بينما يرخي جسده على المخدة خلفه (إذن، ماذا تحمل لي من أخبار عن نفسك يا غريب؟) امتد الصمت المريب بينهما عبر الأثير، فضم البروفيسور حاجبيه بحيرة تحولت إلى دهشة حين شهق أسامة بخفة حاول بها مداراة بكائه الحارق، فارتخت قسمات وجه الأول وهو يستطرد بإقرار (لقد وقفت بين يدي الله لأول مرة في حياتك، أليس كذلك؟) لم يستطع أسامة كبت شهقته الأخرى، فكانت واضحة للبروفيسور الذي لمعت مقلتاه بدوره، هامسا له بلطف (تنفس يا غريب! تنفس جيدا.) أطاعه بتلقائية، فهدأت خلايا صدره، والبروفيسور يردف بسؤال (هل تستطيع وصف حالك حينها؟) بلع أسامة ريقه مستلقيا على سريره، إحدى كفيه على جبهته والأخرى تمسك بالهاتف، يجيبه بدهشة لم تفارقه بعد (ما أزال أستغرب حالي، بعد أن أبت أطرافي طاعتي، وأبت الاقتراب من السجادة أجدها بعد أول تكبيرة تسلم مقاليدها وتستسلم دون عراك، بل وبطواعية مذهلة! راغبة، ملهوفة، وعطشى، فكنت كمن انسل من جسده وراح يراقبه من بعيد كيف يشكو كل جزء مني إلى خالقه، قلب مكلوم، صدر محتدم، ولسان علِق بعد الحمد لله من سورة الفاتحة، وكأنني لا أحفظ بعدها! وعينين تفجرتا ببحور شعرتُ بها طاهرة غسلت روحي من نجاسة خطاياها، ونزلت كالبلسم على جروحي المتقيحة بملوحتها! آآآآه لقد صدقت بروفيسور! لا يفهم سوى من ذاق، وأنا ذقت واشتقت أكثر، لا علم لي بمدى صحة صلاتي، فأنا لم أستطع إكمال السورة فركعت، ولم أستطع الرجوع من الركوع إلا حين منيت نفسي بالسجود، وهناك وجدت جنتي وراحة فؤادي رغم أنني لم أتحدث بكلمة واحدة بعد تسبيحي، سوى مناجاتي باسمه يا الله! أشكو إليه يا الله! أستجير به يا الله! خاضعا ومستسلما له وحده... لا تسألني كيف؟ لكنني شعرت بكل ما أردت قوله في نطقي لكلمة واحدة .... يا الله!) اعتدل البروفيسور جالسا دون أن يجد في نفسه إرادة على كبت دموعه، لكنه تمالك نفسه فلم يظهر في نبرته سوى الهدوء، وهو يخاطبه بتفهم (أفهمك يا غريب، والله أعلم بما في داخلك، وأعلم بكل ما قلته في اسمه، هنيئا لك، والحمد لله على نعمه.) كان أسامة مستلقيا، وكفه المطبقة على جبينه قد نزلت فوق عينيه المبتلتين، والمحمرتين وكأنهما كما قال قد تفجرتا ببحور لن تجف (في المرات القادمة بإذن الله ستستطيع الحديث وإكمال السور، والدعاء والشكوى، فقط حافظ على الصلاة يا غريب، وعزز ذلك بالتعرف إلى الله من خلال الكتب، وأهمها القرآن فهو كلام الله إلى عباده، حاول البحث عن تفسير الآيات، وتدبر معانيها، كما أن هناك علماء جمعوا بين العلم الشرعي ومختلف العلوم الأخرى، ودروسهم رائعة، حين تحيط نفسك بكل هذا الخير صدقني يا غريب ستخرج بنفس جديدة كليا تتشكل على فطرة الله.) ساد الصمت بينهما للحظة فاستدرك البروفيسور مستفسرا منه (هل أنت معي؟) التمس بعض التردد من نبرة صوته ففكر بأنه ما يزال رهين تأثره (أخبرني عن أسماء كتب لتفسير القرآن الكريم، وأسماء علماء الشرع.) رفع البروفيسور أحد حاجبيه مجيبا بمرح (ابعث لي رقمك لكي أرسل لك لائحتي الشخصية، وسأختار لك مقاطع رائعة.) ابتسم أسامة من بين دموعه، بسمة اتسعت رويدا رويدا حتى تحولت إلى ضحكة رنانة، فشاركه البروفيسور الضحك بخفوت مخافة إيقاظ زوجته وطفلته (حمممم... حسنا، سأبعث لك برقم لكن لا تتعب ذكاءك فلن تجد له صاحباً.) قال له الآخر بمزاح مدعيا الدهشة واللوم (غفر الله لك، أنا لم أقصد ذلك، أنت فهمتني بشكل صحيح.) ثم ضحك مجددًا فضحك الآخر تغمره مشاعر ودية خالصة لذاك الرجل الذي تأكد من إحساسه به سابقا بأنه سيترك في حياته الأثر البليغ، فيكفيه أنه من عرفه على ربه، تلك منزلة لا يسمو إليها إلا كل ذو حظ عظيم. (صدقا يا غريب.) نطقها البروفيسور بجدية فانتبه أسامة لبقية حديثه (لقد أمسكت بأول الحبل فلا تفلته حتى لو اضطررت للعض عليه بنواجذك.) تنهد أسامة بتعب، يرد عليه بشجن (هل رأيت هالكا من العطش لا محالة إن وجد نهرا عذبا ورقراقا، فهل سيفارقه؟) التفت البروفيسور إلى زوجته ودس ذراعه بسلاسة تحت رقبتها ليسحبها فوق صدره، فاستسلمت لحركته دون وعي والبسمة الهادئة متشبثة بثغرها ثم رد عليه بسرور دغدغ جنبات قلبه (لقد فهمتَ واستوعبت، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه... يا غريب!).
***
(بعد أسبوع)
(مدينة الجبال)
(دار الأيتام بيت الجبل)
ما إن أعادت سهر أحد الرضع إلى مكانه حتى لفت انتباهها مشهد بعيد عنهما عبر النافذة، فتتبعت السيدة التي تعلمها مسار نظراتها قبل أن تنزع مقلتيها عن مساعدة مديرة الدار برفقة زوجها، تزفر بإشفاق على حال سهر فأشارت أمامها بكفيها لتنظر إليها وتسألها بالإشارة بما يشغل بالها، فكان الرد منها تنهيدة يائسة وكلمات مقتضبة (لا شيء، أكملي قصتك.) ابتسمت، وهي تشير لها بكفيها بما معناه (أبدا، بعدها عوقبت ككل مرة.) جعدت سهر ذقنها تقول لها بإحباط (وما علاقة كسرك لحلية والدتك، وعقابك بقطع لسانك؟) مطت المرأة شفتيها بامتعاض ثم كتبت لها لتفهم تعبيرها بوضوح (هذه مشكلتك، أنك أنانية.) شهقت سهر مستنكرة (أنانية؟ أنا؟!) أومأت لها السيدة بتأكيد، وهي تحرك يديها في الهواء مع محاولات النطق بلسانها المبتور بعدما تعودت على رفقة سهر (دائما ما تصرين على ما تريدين أنت، معرفته أو الحصول عليه، لا تفكرين سوى بمشاكلك، ومصائب حياتك، احباطاتك ومشاعرك، حتى الناس لا ترين فيهم سوى ما عندهم وليس لديك أنت، يعني أنت! أنت! وفقط أنت!) عبست السيدة في وجه المدهوشة كليا، حتى أصبحت قسمات وجهها تثير الضحك ثم زفرت تستدير عنها لتجلس وتنشغل بترتيب الملابس. أطلقت سهر نفسا طويلا احتبس في صدرها جراء الدهشة من هجوم المرأة الحانق ثم رمشت ببلاهة تجهل كيف تشعر، لا تجرؤ على الغضب منها، لا هي ولا غيرها من أهل الدار. طوال الأسبوع المنصرم وهي لا تنفك تنجرف وتغوص بين أفراده، تسمع قصصهم التي يشيب لها الرأس، وترى بعينيها المعنى الحقيقي للألم والوجع؛ صغار تخلّوا عنهم ذويهم لأي سبب حقا كان أم باطلا، عن بنات تعرضن للاعتداء فنُبِذن من قبل أهاليهن، فضاع منهن من ضاع ولجأ إلى الدار من لجأ. والغريب في الأمر أن غالبية المتطوعين والعاملين في الدار من ذوي الهمم، وكأنها رسالة من الخالق أن النقص في النعم كما يحسبه البشر إنما حقيقته رحمة من الله بصاحبها تدفع به إلى الشعور بالرأفة بغيره وترقق قلبه تجاههم على عكس الإنسان الطبيعي كما يحسبه البشر إلا من رحم ربي ينسى نفسه وأن في الدنيا حفر وعقبات، وأن التجبر والتكبر يعميان البصيرة ثم البصر، حتى يجد نفسه في حفرة أعمق من أن يرفع فيها ناظريه. حركت قدميها وجلست قبالتها تقول لها بعبوس، وهي تساعدها في الترتيب (لماذا قلت ذلك؟) رمقتها المرأة من بين جفونها وهي مستمرة في ما تفعله دون أن تجيبها، فضمت سهر شفتيها واستطردت (لو كنت أنانية كما تقولين ما بقيت هنا، لم أعد حتى أتخيل يومي دونكم.) وضعت السيدة قطعة الثياب فوق حجرها تقاطعها بإشارة من يدها (لماذا تبقين هنا ولا تكذبي؟ أليس من أجل معرفة الحظ الذي حالف فتاة ككريمة ناقصة في نظرك، بزوج مثل زوجها الوسيم! وأنا قصة أخرى تسليك أثناء البحث، كيف فقدت المرأة المسكينة لسانها؟) كانت السيدة تتأوه بسخط بين إشاراتها بينما سهر تعود لتندهش بنفس الشكل المسبق وتهتف بصدمة (هل ترينني سيئة لهذه الدرجة؟) ردت المرأة وكلها يهتز مع اهتزاز كفيها (أنا أواجهك بأفعالك، فهل أنا محقة أم لا؟) تهدل كتفا سهر تعبس بحنق للحظات أجابتها بتبرم ساخط بعدها (حسنا أنت محقة، لكنك لستِ مسكينة أبدا.) نطقتها سهر وانكمشت على نفسها، وهي تترقب اتساع مقلتي السيدة قبل أن تضحك حتى ظهر نصف لسانها المقطوع، والأولى تنظر إليه بخوف ممزوج بامتعاض، فصمتت السيدة لتغلق فمها ثم أشارت لها، وهي تهز رأسها بيأس (رزقني الله الصبر عليك يا بلائي.) فابتسمت سهر تسألها بتردد (هل ستخبرينني إذن؟) فكرت للحظة ثم أشارت لها بمكر (سأطلب منك بعض الأمور، إن فعلتها على أحسن وجه، سأخبرك في النهاية، هذا وعد.) تحمست سهر هاتفة بلهفة (قولي وسأفعل!) اتسعت بسمة السيدة ولمعت مقلتاها بمكر شديد.
***
(في زاوية خلفية من حديقة الدار)
توحشت ملامح رباب كتوحش نبرتها التي انطلقت من بين نواجذها، وهي تشد على الهاتف (ألا تسمع ما أقوله لك؟! لقد حاولت معها، وهي لا تعطيني فرصة، وترفض مصاحبتي إلى أي مكان سوى الدار التي وافقت عليها من أجل أن تثق بي.) زمت شفتيها بغضب، ومسدت على تنورة سترة التي أعارتها إياها بل ووضعت كل ملابسها الرثة تحت تصرفها ثم أمالت رأسها تنصت إلى فحيح الأفعى قبل أن ترد عليه بضيق (الأمر ليس بالسهولة التي تظنها، إنها فتاة ملتزمة وقنوعة، لا يهمها مال ولا شهوة، بسيطة جدا، وأقصى أحلامها الستر، فكيف ستفضحها؟) تحول الغضب إلى هلع و خوف حين أنصتت إلى رده فهتفت بجزع (لا...لن أعود، أنا ما أزال أحاول، لن أعود! لا أستطيع، لا!) أبعدت الهاتف عن أذنها قليلا بسبب صراخ محدثها قبل أن يقفل في وجهها، فنظرت إليه بين كفيها المرتعشين ومقلتاها يغشاهما البلل، فتشوش عليها الرؤية. احتدمت الشهقات في صدرها، وتجمعت الأهوال في أحشائها، لا تلمح لكربتها فرجا قريباً، تفكر بأن الوضع بلغ بها ذروته فإما هي أو غيرها، فكيف الخيار، وأين الصواب؟! (إذن متى ستطلبين العون؟ ...قبل أن تفضحي المستورة أم بعدها؟) شهقت رباب بحدة وهي تلتفت على إثر نبرة قوية تكبت من الغضب الكثير، كي لا تفتك بها بسبب ما سمعته منها للتو، فهي قد لمحت ظلها وهي تتنصت بشكل يومي على اجتماعاتها بالضحايا، فسلبت اهتمامها كل يوم أكثر، حتى أصبحت توجه لها الحديث بإيحاء كي تشجعها على التقدم أول خطوة نحوها، وكل يوم تتوقع منها التحرك لكنها لا تفعل، فانتظرت ظلها في يومها ذاك وحين لم يظهر لها جهة النوافذ قررت الخروج والبحث عنها فسمعت هتافا غاضباً اقتربت منه حتى تبينت فحوى مكالمتها الهاتفية. القصة المكررة بشكل يوجع القلوب ويقرف النفوس، ضحية أوقعها الجهل تحت براثن الوحوش يستغلونها لتوقع بأخريات. (تعلمين بأنني أستطيع إبلاغ الشرطة والقبض عليك حالا، فلا أقوى من فتيات ناقمات على الظلم، صرخة واحدة ويتجمعن هنا وذكر كلمة مما سمعته الآن كفيل بأن يفتكن بك دون أي شعور بالشفقة أو الرحمة.) جثت رباب على ركبتيها تخفي وجهها بيديها لتنتحب، فاقتربت منها الطبيبة وتخصرت قربها تنفخ بأسى قبل أن تنحني نحوها لتمسكها، وهي تستدرك بلطف (اهدئي، هيا قفي، هيا!) وقفت بتعب وهي تنطق بحزن وغم (أنا خائفة، لا أعلم ماذا أفعل؟ أنت لا تعرفين مدى المصيبة التي علقت بها.) مسحت على وجنتي رباب دموعها بينما تجيبها بحزم (مهما كانت نوع المصيبة لا تشفع لك تدمير حياة شخص آخر، حينها ستتحولين من مظلومة إلى ظالمة ويختفي كل فرق بينك وبينهم، أنت الآن ضحية لكن حين تظلمين أحدا تحت أي مسمى وحجة ستصبحين وحشاً، مجرمة مثلهم، هل هذا ما تريدين التحول إليه؟ هل تريدين لمظلمتك وحقك أن يضيعا، ويطاردك بدلاً من ذلك القصاص لمن ظلمتهم؟) مع كل كلمة كان رأس رباب يومئ سلبا واستنكارا، فزعة مما كانت تخشى مواجهته قبلا حتى ربتت على كتفها، تضيف بإشفاق (رافقيني، سنجلس في مكان على انفراد كي تحكِي لي قصتك التي أنا أكيدة من سماعها مرارا، لكل مشكلة حل، الله المستعان.)
***
(منزل عائلة الحاج مسعود خلف.)
كان على وشك الخروج حين منعه صوت والده الجاف ظاهريا (إلى أين يا جاسر؟ التذلل لشقيقك العاق مجددًا؟) متأكد هو من موقف والده المزيف أمامهم، مدّعيا البرود والغضب بينما هو في عمق روحه يحترق كمدا، ويتمنى لو يضم جارح إلى حضنه ويشم رائحته. أطرق جاسر برأسه يفكر بسخرية من غيرة جارح، فشقيقه الأحمق يغار منه، يحسبه متمرغا بحضن وحنان والديه، جاهلا بالحقيقة المرة، أنه مثله طُرد من حضنهما ولم يُمنح العفو، حتى لو كان هو من عاد إلى المنزل بقي منفيا ومغضوبا عليه كشقيقه تماما، إن لم يكن أكثر منه، وأسوأ وضعا. ذنب طفولي أهوج حرمه أحضان والديه كما حرمهما بسماتهما الصادقة، وكأنهما يريان فيه ابنهما المفقود فيعاقبانه معه حتى لو كان تحت سقفهما، والآخر بعيدا. لا يسمحان لنفسيهما بتفضيله على شقيقه بالحنو أو العفو... عفو عُلِّق إلى حين عودة الضال، فينزل العفو بكليهما رحمة بهم جميعا. وهو يُحمِّل نفسه وزر ما اقترفاه لكونه الأكبر ثم ذنب عودته من دونه، وهو المسؤول عنه أمامهما وإن لم يفرق بينهما سوى سنة ونصف، يبقى هو البكر والكبير، وبالتالي المتحمل للمسؤولية أمام والديه، غير مدركين بحال بكرهما الذي لم يعدُ عن كونه فتى غرا غير ناضج حين وُضع تحت الضغط جَبُن، وهذا لم يكن فيه خذلانا على قدر ما كان متوقعاً منه. (ليس عاقا يا والدي، هو فقط ناقم وكما كنت السبب في نقمته، سأعيده إلى كنف أهله.) ضم والده شفتيه وضغط عليهما يلجم ما كان ينوي قوله، فغاص قلب ابنه في حزن عميق، يمني نفسه بعودة إلى ماض سعيد، يضمه وشقيقه أخيرا تحت كنف والديهما، لكن كيف؟! كيف يطفئ غضب جارح الجارف ويقنعه بطلب العفو من والده وهو الناقم عليه أولهم؟! تغضنت ملامح جاسر وهو يقف على حقيقة كامنة، أن عودة جارح دون تدخل والده لجبر كسوره ومداواة جراحه من سابع المستحيلات وهذا يوصله إلى نتيجة حتمية أن جهوده الشخصية يجب أن تتحول إلى والده وليس شقيقه. اقبلت عليهما والدته تخاطبه بضيق ناقم (تحدث إليه يا جاسر! ما يفعله لن يفيده بشيء، ألا تكفي تساؤلات الناس والعائلة عن سبب رحيله عنا لنضيف عليها سبب زواجه من...؟) (اسكتي يا امرأة!) قاطعها زوجها زاجرا، فمسح جاسر على وجهه يقول لها بقنوط (بالله عليك أمي، أنا أبذل كل غال ونفيس كي أعيده إلينا فلا تصعبيها علي، ما يعانيه من عذاب يكفيه!) تخصرت، تهتف بسخط (هو من أراد الجحيم لنفسه، تكبره عن العودة إلى والديه ثم زواجه من فتاة فضحتنا بين الناس.) انتفض زوجها واقفا، يصيح بسخط بينما هي تعبس بغضب دون تراجع أو خجل(الفضيحة حدثت بسببك، وبسبب خططك البائسة! ولا تصدقي فيَّ الغباء لأنني أدرى بكل أفكارك العقيمة.) ما تزال تتخصر بتأهب، ترد عليه بسخط وطغيان (لست من راحت تطوف على الدجالين أقدم لهم ابنتي قربانا من أجل رضا الشيطان ليلهو بها حثالة القوم!) اقترب منها زوجها محمر الوجه، ومسود الملامح، يهتف بنبرة علت حتى زلزلت جدران البيت فأسرع جاسر يحول بينهما (بل أنت الشيطان بعينه، أعماك الحقد، ورفضت وحيدة شقيقي الوحيد بسبب بنات شقيقاتك، ولم أكن لهن رافضا بل تركت لك جارح لكي تزوجيه كما تشائين، لكن لا! كان يجب أن تفرضي سطوتك وكأن هذا البيت ليس فيه رجل يحكمه! أقسم برب العزة بنات شقيقاتك لن يطأن بيتي ككنات ما دمت حيا إلا أصبحت مطلقة في آخر عمرك!) شهقت زوجته بصدمة، تضرب على صدرها بينما تستنكر بسخط (تهددني يا مسعود بعد كل هذه السنوات من العشرة تهددني بالطلاق، من أجل ابنة سامية؟ هل ما يزال قلبك يحن إليها؟ من اختارت شقيقك ورفضتك فلم تجد سوى شبيهتها كي تعوض بها حرمانك؟) تجمدت ملامح زوجها بصدمة شلت لسانه، فلم ينطق سوى جاسر العالق بينهما بعدما التفت إلى أمه مستفسرا منه بصدمة لا تختلف عن خاصة والده (أمي! ما هذا الهراء الذي تقولينه؟) رفعت ذراعيها تلوح بهما في الهواء فيصدح رنين الأساور ينافس نغمة الغضب في نبرت صوتها (هي من أخبرت النساء، تتباهى بجمالها الذي ورّثته لوحيدتها، وكيف أن عمها يحبها بسبب الشبه بمن رفضت كبير آل خلف بعظمة شأنه، واختارت الأوسم والمدلل بين الشقيقين!) اتسعت مقلتا الحاج مسعود بسخط ونقمة فاقداً أعصابه ورزانته (اللعنة عليك وعليها وعلى النسوة النمامة، وعلى ألسنتكن المطعمة بالسم القاتل! أ بسبب هذا الهراء دمرتن حياة الفتاة المسكينة؟ لا بارك الله فيكن ولا في اجتماعاتكن، لا ينجم عنها سوى المصائب وخراب البيوت!) بلع جاسر ريقه وهو ينظر إليهما بالتناوب، غير قادر على الإتيان برد فعل مناسب، ووالدته تهتف دون رادع (هي من دمرت ابنتها لوحدها، ولا أستطيع منع نفسي من الشماتة بها، ملكة الحسن والجمال حبيبة شباب آل خلف!) رفع زوجها ذراعه دون وعي يهم بصفعها، فهب جاسر ليمسك به مدركا لمدى انفجار أعصابه (أسألك بالله يا والدي اهدأ! بالله عليك وحد الله!) نطق الشهادتين ثم استغفر ربه بينما يمسح على وجه حين تذكر اللعنات التي أطلقها في فورة غضبه غير قادر على تمالك لهاثه بينما زوجته تضم شفتيها عابسة بخوف، لا تصدق لسانها الذي أفلت من عقاله كعادته. تنفس جاسر بغم بلغ به المدى ثم استدار إلى والدته يخاطبها بهدوء خادع تجسد فيه اليأس والحزن بكل معانيه (الآن فهمت لماذا تعرض جارح لما تعرضت له بلسم!) شهقت مجددًا وقد ابيضت سحنتها شحوبا يوازي شحوب الآخر الذي تجمدت أطرافه تماما وجاسر يلقي بقنبلته كاملة، يستجدي فيها الخلاص من جحرهم المظلم (أجل يا والدتي العزيزة، حين تشمتين بمصيبة أحد تذكري أن ابنك جارح هجم عليه وحش من وحوش الشوارع الضارية ليعتدي عليه تماما مثل ما حدث مع بلسم لكنه لم يستسلم، ودافع عن نفسه وحاربه حتى أزهق روحه.) ابتعد عنهما ليقف أمامهما يتجرع مرآى صدمتهما بوجع وكمد بينما يكمل بخزي وبؤس (ومن شدة رعبه لاذ بمكبات النفايات واختبأ فيها لأسابيع، جارح ابنكما المدلل، وشقيقي أنا عاش بين النفايات يختبئ فيها ويقتات منها خوفا من الوحوش والشرطة لأنني جبنت وتركته لوحده كي أطلب منكما العفو، فهلا رحمتماه أخيرا علّه ينعم بحياته، ويعود إليه شق من جارح الذي كان واختفى، ولم يتبق منه سوى شبح ناقم مشمئز طوال الوقت؟ لا أسألكما العفو عني لكن أتوسل إليكما أنقذا ما تبقى من ابنكما.) ثم استدار عنهما راحلا وقد اكتفى، اكتفى من كل شيء وكفى!
***
(مصنع آل عيسى)
(غرفة مكتب إبراهيم)
(لكن هذا ليس عدلا كيف نتركها طعما بعد كل ما علمناه؟) هتف يونس باستنكار غاضب، فعقد الرجال حواجبهم حيرة من تأهبه الغريب. تحدث طارق يفسر له بهدوء (يونس أنصت وافهم! لو أخرجناها من هناك كل ما خطط له ذاك الدرويش سيذهب سدى، وبالتالي نحن أيضا سنخسر.) زفر يونس بقنوط، فربت إبراهيم على كتفه يستشعر وجود خطب ما يحدث مع أخيه (كل ما توصلنا إليه دلالة على أن الدرويش أو حسن آل منصور تكبد عناء كبيرا كي يدمر شقيقه ذاك.) قاطعه يونس بلهفة فضحته أمامهم، وأكد حدسهم (ولينقذ شقيقته أيضا، لقد مر أسبوع وأنا أتتبع خطواتها إلى كل مكان، هناك رجال يراقبونها في كل ركن وهي غير منتبهة البتة، لو أمر ذلك المجرم بخطفها أو إيذائها في أي وقت سيحدث بكل بساطة ونحن نتفرج.) مال طارق نحو يونس متمعنا بوجهه، فبات قريبا منه رغم طاولة الاجتماعات الفاصلة بينهما، يسأله بجدية (هل تحمل مشاعر للفتاة يا يونس؟) اتسعت عينا يونس وأخواه يحاولان إخفاء أثر الفكاهة عليهما، فاعتدل يفكر في رد مقنع، ودون صبر استدرك طارق بحزم (إن كنت كذلك يجب أن تتراجع عن العملية لأنك ستفسدها.) اهتز بدنه بشكل أخافه هو شخصيا، فكيف يطلب منه تركها، البعد عنها، وأين؟! بين براثن وحوش البئر. لا!.. وألف لا!(أنا لن أبرح مكاني فلا تحاول، وما أشعر به ليس من شأن أحد، وبالتأكيد لن أفسد شيئا.) تناظر الرجال فيما بينهم، فتحدث إسماعيل مغيرا دفة الحديث (ما نزال نجهل حقيقة أخيرة.) فلح في مسعاه حين التفتوا إليه باهتمام فاستدرك بتفكير (ماذا يملك الدرويش ضد شقيقه كي يقهره ويحمي سترة؟) هزوا رؤوسهم بحيرة، ويونس يرد عليه بينما يلقي نظرة على ساعة يده (سأعرف هذا حين يظهر، لا أعلم كيف يختفي هكذا حتى عن أعين الشرطة؟) منح طارق نظرة ذات معنى رد عليها بجفاء (كما كان والدك يختفي لسنوات طوال بين الجبال وكما كان يشتري العناصر الفاسدة من الأمن لصالحه، لكننا في النهاية نجدهم ونقبض عليهم، أليس كذلك؟) مط يونس شفتيه بوجوم وهو ينهض من مكانه، فسأله إبراهيم بحيرة (إلى أين؟) توتر فرد عنه الضابط بتهكم (إلى المستشفى، اقترب موعد نهاية دوامها.) عبس يونس وتوحشت ملامحه، فدفع إبراهيم طارق في كتفه ينهره بمرح ليخفف من وطأة الوضع الحرج عنه (تراجع يا رجل واتركه لشأنه!) ضحك طارق يتقبل مزاح صديقه معقبا بمرح خلاف جفائه المعتاد (أبناء آل عيسى و ... المشاعر، هذا ليس جديدا.) اندهش يونس من حديث الضابط الذي انسلخ من جديته المعهودة قبل أن يزداد ذهولا حين غمزه إبراهيم بمرح يجيبه برد فاق عبث صديقه (لا تدفع بي لأذكرك فأتذكر بدوري ألم الرصاصة في كتفي، والحقيقة أن يونس يذكرني بك حينها لذا من الأفضل لو تتراجع.) قهقه طارق وظلمة عينيه تبرق بعشق رجل الجبل ثم شاكسه (إذن الأحرى أن تفعل معه مثل ما فعلت معي.) هز إبراهيم رأسه متشبثا ببهجة قسامته، وسأله بمزاح مبطن بجدية (وهل كنتُ محقا في ما فعلته؟) بلع طارق ريقه ليتمالك ضحكاته الصاخبة ومد يده مصافحا إياه، يقر بود وامتنان(كل الحق يا صديقي، كل الحق!) صافحه ساحبا إياه بخفة في ضمة لم تكتمل فقط معبرة عن الود والوفاء بينهما، فالتفت يونس المذهول لينظر إلى إسماعيل باستفسار أجاب عليه الأخير باسما بهدوء (لا تسأل؟) أومأ ينفض عنه الأمر، وقال لهم بعبوس قبل أن ينسحب (سأظل أراقبها، على الأقل حتى أعرف الحقيقة من الدرويش، عن اذنكم!) ودّعوه وانصرف، فتوجه إسماعيل إلى طارق بحديثه (جارح حدثني من المستشفى، وسأذهب لأقابله لكنني أعرف ما يريده، يريد الابتعاد بزوجته إلى المدينة السياحية.) امتعض طارق بملامحه معقبا بضيق (للأسف لا نملك سوى شهادتها، وبعد أن نقبض على الدجال في حالة تلبس يمكنها التعرف عليه، أهلها أفسدوا الأمر حين اتفقوا مع الطبيب على إخفاء دلالات الاغتصاب، كان ذلك إثباتا مؤكدا على هوية المغتصب، لكن لا أنصح بإخراجها من المدينة، قد نقبض عليهم في أي وقت، وسيكون عليها الإدلاء بشهادتها.) أومأ له إسماعيل بتفهم ثم انصرف فخاطب طارق إبراهيم بجدية (أخوك يحب الفتاة وأنت أدرى بالمشاعر تفسد الأمور، وتشوش على فطنة الرجل.) مسد إبراهيم رقبته بإرهاق بينما يجيبه بحزن وخوف على أخيه (على قدر سعادتي من أجله على قدر خوفي عليه ... الله المستعان.)
***
(في أروقة الشركة)
تفقد الساعة مجددًا وهو يسرع من خطواته يتفادى لقاء تغريد، ولكي يلحق بسترة. دقات قلبه لا تنفك تهدأ مع ذكراها كما لا يخفي صدق الضابط عن نفسه وإن لم يعترف بذلك إكراما لكبريائه، فهو أصبح يخشى عليها منه قبل غيره... كيف تمكنت من التسلل إلى قلبه بذلك العمق وتلك القوة؟ الحق يقال كل ما يملأ قلبه نحوها مؤخرا لا يصب في مصلحة أحد، لا هي ولا هو إلا في حالة واحدة إن أصبحت زوجته، لذا حفاظا على سلامة الجميع نأى بنفسه عنها، دون أن يبتعد كليا وبالتالي يتعذب بشكل مقيت، حتى كوابيسه المنحرفة عن ذكرى يكرهها ويحقد على صاحبتها تحولت إلى أحلام تُجسّد أمنيات اليقظة، طفت بها خلايا صدره إلى أن أغرقت به خلايا عقله، واجتاحت خياله لتحوله من صحراء قاحلة إلى جنان غناء مغرية. تناقضات عدة! يعلم ذلك! فوَيْلهُ من مشاعر تكتسحه بقوة، وتؤجج فيه ذكرى سنوات عاشها في الحرمان داخل السجن بعد علاقات شحيحة محرمة في ريعان شبابه، لم يكتمل أغلبها لغثيان يصيبه كلما استعرض له خياله مشهد تحرش الحثالة زميلة والدته به أم صديقتها لم يعد متأكدا، وعلى ذكر ذلك يجب عليه السّماع من أمه، وقد حان الوقت لطرح أسئلة كثيرة انحسرت في حلقه بسبب خذلانها له. سيفعل كل شيء، وكل أمر يُصلح من حاله ويجعله جديرا بها، هي سترته...لقد اكتشف بأنها سَتْرُه بالفعل، ولن يقبل بغيرها غطاء على كرامته النازفة ألما ووجعا وسترا لعيوب فُرضت عليه، سيتعالج بها، وبنقائها وطيبة قلبها الكبير عكس حجمها الضئيل. توقف خطوة قبل أن يصطدم بجسد لمح ظله أثناء سهوه، فرفع رأسه إليه مكتشفاً بأنه أحد إخوته، أول من قابله ولم يره بعدها ولا مرة واحدة، من تعرف عليه مع أول نظرة نحوه في ذاك الملهى الليلي، وهو بدوره تعرف عليه بنفس الطريقة، قلبين من شدة وجعهما من والد جائر التقيا في موعد مع الألم، والشوق فتعرفا على بعضهما رأسا. انجرفت به مشاهد الذكرى إلى ما بعد ذلك في تلك الليلة التي يعتبرها يونس منعطفا خطيرا في حياته المظلمة فابتسم بمكر مرح، والآخر يهز رأسه بنوع من اللوم و...التهكم (أنا أذكر تفقدك لي وانتظارك لسيارة الإسعاف بالمناسبة.) جعد ذقنه وهز كتفيه مجيبا بنفس المرح الذي غمر قلبه المستحسن لإحساس المشاكسة الذي يجربه لأول مرة في حياته، فبينما تتسم علاقته بأخويه الأكبر منه بالمراعاة وحب أقرب لحب أبوي، كونه الأصغر منهما، يرى بأن علاقته بقرينه ستجسد معنى الأخوّة أكثر؛ مشاكسات تحمل بين طياتها الحب والود العميق بين الأخوين. (لم أنفِ ذلك لكن عليك الاعتراف بأنت سائق فاشل.) ضم عيسى ذراعيه لصدره، يرد عليه بحنق مزعوم بينما يفكر بأن تغريد بالفعل تشبهه كثيرا (لقد باغتني، وسيسعدني إعادة الكرة في المستقبل القريب.) رفع يونس يديه هاتفا بسخرية (لا! أنا في غنى عن حرب تقوم علي إن تسببت بأذى لمدلل آل عيسى.) ثم استدار يهم باستئناف خطواته مستعجلا، فأوقفه عيسى بنبرته العميقة تخفي من الود والتفهم ما جعل يونس يستدير إليه مجددًا (لقد نلت كفايتي من دلال آل عيسى، وهناك من يستحقه أكثر مني لو وافق أخيرا على الانضمام إليهم.) بلل شفتيه وطرف بجفنيه مرة واحدة متأثرا وبعمق بما قاله، وبالرغم من أنه سمعه من أخويه وجدّه مرات عدة إلا أن سماعه من عيسى بشكل ما حفر في قلبه موضعا جديدا لخضرة الجنان، لقد بات قلبه حديقة غناء بسبب اخوته وجده، لقد أفلحوا بإعادة أرضه البور المقفرة إلى واحة غناء، ورغما عنه سقط صريع حنو، نخوتهم، ورغبتهم الصادقة في ضمه إلي جنتهم، وما أجملها من جنة مُغرية! أومأ له بتأثر، يجيبه بتعبير مبهم قبل أن ينصرف (إن شاء الله، احرس مكاني بينكم إلى أن آتي إليكم.... يا أخي.) شيعه بنظرات لامعة بدموع لن تخرج للعلن فهي تخص أعماق القلوب وحقيقة مشاعرها، هامسا لنفسه بينما ينصرف لأشغاله هو الآخر (سأحرسه بحياتي ... يا أخي.)
***
(المدينة السياحية)
(شقة أسامة)
مسدت على بدلتها ذات التنورة المنسدلة إلى أسفل كعبيها بقليل، عليها سترة من نفس خامة الثوب واللون البني ثم رفعت كفيها لترتب طرفي الوشاح الطويل الملتف حول رأسها بإتقان لكي يخفي منطقة الصدر فلا يظهر سوى أزرار السترة السفلية. تحركت ثم عاودت النظر إلى مرآتها تفكر هل تكحل عينيها بما أنها الآن متزوجة كما أخبرتها والدتها أثناء تلبية دعوة أبنة خالتها! اجتماع عائلي كارثي بكل المقاييس، وكأن الممثلين والمتفرجين على حد سواء ضجروا ولم تعد المسرحية مسلية بالقدر الكافي، فسقطت الأقنعة وكلٌّ واحد منهم يطرح تساؤلاته بشكل "يراه مناسباً" مثل والدتها التي تلقي كل لحظة بسؤال من المفترض أنه "عادي جدا" في ظروف "طبيعية جدا" وليس في ظروفهم "غير الطبيعية بتاتا": هل يدللك زوجك يا ابنتي؟ وأنت هل تهتمين به؟ كيف حالك والزواج؟... وهي كتمثال عابس ببرود يرميها بنظرات تشع بتهديد خطير جعلها تبلع لسانها، وتمرر راية السباق لشقيقتها، ولأن الأخيرة خالتها وحماتها طرحت أسئلة من نوع محرج بجدارة لكن الحق يقال كانت تحسن الصياغة، فلم تجرؤ نوران على الرد بغير إيماءة مجاملة: أتمنى أن يكون أسامة متفهما لك حبيبة خالتك؟! إذا حدث وأغضبك أخبريني وسأشد له أذنيه! أدعو الله أن أحمل أطفالكما قبل أن أموت! وكلٌّ ما فات نقرة وابنة خالتها نزهة نقرة لحالها، منفردة في طبعها المتناقض كليا بين حزمها في كل ما هو "عيب" وأسلوبها المباشر الفج حين انفردت بها في المطبخ تحت شعار صداقة لم تجمع بينهما يوما، حتى مقالتها الساذجة "نحن فتاتان مثل بعضنا ومتزوجتان" لم تستسغها نوران كي تتقبل سؤالها الصريح بطريقة فجة أو على الأقل هذا ما شعرت به:
إذن، هل حدث الأمر؟ أقصد، هل؟ أنت تعرفين! فابتهلت نوران سرا أن تتراجع، آملة في ادعائها الجهل جدارا صلبا لها لكن على ما يبدو هي أملهم الوحيد المتبقي لتهدئة حروبهم النفسية لأنها وكما بدا لها من حمرة وجهها واتساع فتحتي أنفها كانت مجبرة على اعتصار شجاعتها لتطرح السؤال بكلمات واضحة لا مجال للفرار منها: هل دخل بك أخي؟ هذا ما نريد معرفته. تبلدت قسمات وجه نوران وانقطعت أنفاسها، وبطريقة ما اعتبرت نزهة صدمتها اللحظية وامتقاع وجهها حياء فأطلقت زغرودة أجفلتها واهتز لها بدنها قبل أن تصدم بحضن لتُنْتَزع منه إلى آخر، تتلقى المباركات الجديدة حتى والدها فاجأها بدمعات علقت بطرفي مقلتيه وهو يضمها إلى صدره رغم تشجنها، وفي تلك اللحظة وجدت نفسها تبحث عنه... شريكها في الجرم، غير مدركة لحقيقة بحثها عنه شخصيا في تلك اللحظة التي اكتشفت فيها مدى خوف عائلتها غير المسبوق عليها أكثرهم والدها، فوجدته جالسا بهدوء يبتسم بغرابة، كغرابة حاله طوال الأسبوع الماضي، يبيت الليل يبكي في غرفته وهي تتجاهل حتى تكتفي نفسها من التجاهل، فتتسحب على أطراف قدميها لتتحسس حاله وتراقب ما يفعله بإحساس تخلى عن دهشته التي اكتنفتها أول مرة لمحته فيها وهو يصلي.... أجل يا لدهشتها! أسامة يصلي بخشوع لم تر عليه أحدا قبلا حتى والدها الذي كان مثالا للالتزام في حياتها. مرت عليها الساعات حتى أذان الفجر كالدقائق وهي تراقب حركاته وسكناته وانفصاله عن الدنيا، فتنتظر بفضول قاتل كي يرتفع من السجود، فيرتد رأسها ذهولا من بكائه الحارق، لقد كان بالفعل يبكي وبحرقة تحولت إلى سكينة بعد توالي الليالي لتستشعر بها تحتل ملامحه وثغره الباسم ببسمة جديدة لم تلمح لها طرفا من قبل. أسبوع مر عليها بأيامه ولياليه وهي تراقبه دون وعي منها، فتتلصص على الكتب التي يحضرها كل مرة يختفى فيها ويعود بطعام جاهز لكي لا يُتعبها حسب قوله، فلا يتركها من يديه حتى وهو يأكل، يظل الكتاب تلو الآخر في قبضته يقرأه بشغف، وكأن الكتب ستختفي أو تنتهي. وكم قاومت رغبتها في تصفح واحد من الكتب كي لا يظنها مهتمة بأي شكل من الأشكال، فتخسر نفسها في سبيل اهتمام جديد مرّغها في تخبط واقع، أُمية هي بأبجديته.... واقع عذّب ذكاءها بين استسلام لسطوته والبحث خلف سر السكينة التي بدأت تحتل أسامة المهرج البائس! هل هي غيرة من نوع ما أم حسد لما تصبو إليه فتخشاه عليه؟! نطقها قلبها صراحة، ماذا إن وجد زوجها نفسه التي فقدها بشكل ما، فيصبح طبيعيا لحظها المنحوس؟! حينها سيكون رجلا وسيما غنيا بل وملتزما قريبا من ربه. لم تنس شهقتها الصادمة حين خطف ذكاؤها الخارق نتيجة ما يفعله وما يحارب من أجله، حينها ستختل الموازين وتميل كفتها نحو الخسارة ويصبح أسامة جاهزا لتركها وقد احترقت ورقتها البائسة بربحها. تنفست بقوة وهي تعود إلى حاضرها يوما بعد الاجتماع العائلي الذي انتهى بملاحظات النساء بما سيفيدها كي تحافظ على زوجها، آخرهم نصيحة والدتها عن الزينة، فهي لم تكن يوما من هواة الزينة ولا أي أمر أنثوي آخر وعلى إثر المستجدات يبدو أن عليها الاكتراث. تدخل ذكاؤها المزعج مجددًا يسألها بمكر عن ماهية هذه المستجدات؟ فغمغمت بسخط تجيب انعكاسها (لا أعلم! ولا أريد أن أعلم، فقط سأتصرف.) نتشت حقيبتها اليدوية، وخرجت إلى البهو حيث يجتمعان في أغلب الأوقات التي يلتقيان فيها فوجدته يطالع هاتفه، متابعاً أحد المقاطع التي كانت ستصاب بالجنون لتعرف فحواها الذي لم يكن سوى دروس لعلماء في الشرع. تحدثت بحنق من وضعها المهدد كليا بالسقوط على رأسها، تشعر بنفسها وسط لعبة للشد والجذب بين أنانيتها الشخصية وسرورها لرغبته في إيجاد نفسه في خضم فوضى حياته. (هل أضع كحلا في عيني؟ أخبرتني أمي أنه من ضمن واجبات الزوجة.) فتح فمه ببلاهة من مظهرها الحانق وسؤالها الغريب ليس بمعناه إنما كونه يُطرح منها عليه هو! (ماذا؟) أطبق على شفتيه ببلاهة تخلص منها سريعا أمام عبوسها ثم رد عليها بما تعلمه مؤخرا (بما أنك خارجة إلى العمل فلا، الزوجة تتزين في بيتها وليس خارجه حسب ما أظن.) تخصرت مجعدة جانب أنفها، تعقب بامتعاض ساخط والنزاع قائم على أشده داخلها (حسب ما تظن؟) ابتسم لها بتوتر، يخاطبها بمزاح ذكرها بأسامة المدعي للمرح "المهرج البائس" (لمَ لا نخرج في نزهة؟) (ها!) كان دورها لتكتسحها البلاهة، فقام عن مكانه متخليا عن بسمة المهرج ليستدرك بلطف حقيقي (نوران، بما أن كلانا يبحث عن حل يناسبه في الآخر، لمَاذا لا نتخذ طريقا مغايرا قد يحقق مآربنا بشكل لا يغضب الله، وبالتالي يصلح من شئننا؟) ضيقت نوران مقلتيها بشك بينما تستفسر منه بترقب وتردد (هل أنت متأكد من أنك ما تزال تبحث فيَّ عن حل يناسبك؟) رفع أسامة حاجبه بجهل يستوضح منها (ماذا تقصدين؟) فأومأت له بلا معنى ملوحة بكفها تدعي الاستخفاف (وما الذي سنفعله في هذه النزهة؟ ألا يجدر بنا العودة للعمل؟ لقد تأخرنا وجارح كذلك؟ ماذا حدث لكما أنتما الاثنان؟ كنتما تقدسان أمانة السيد غانم رحمه الله؟!) تنهد متذكرا مكالمة جارح ثم أجابها (كلانا يراقب سير العمل من بعيد، فلا تقلقي! أما النزهة، لا يهم أين! فقط لنخرج معا، نقصد الحدائق، نتمشى ثم نتغدى خارجا، لنتحدث، ونتعرف على بعض، فنحن أقرباء يا نوران قبل أن نكون زوجين، وكلانا لا يعلم عن الآخر أي شيء.) بدا توترها عبر نظرات عينيها فأسرع يكمل بمهادنة (أي أمر ترفضين الإفصاح عنه سنجتازه، سأكتفي بما تريدين التحدث عنه.) نظرت إليه وقد تملكها الفضول لترضي وحش ذكائها في إلزام زوجها الغريب بوعده عبر الناحية المخالفة للوجهة التي اختارها بنفسه (هل تعدني بأنك ستجيب عن أسئلتي؟) تسللت تلك البسمة التي تُعد أغرب البسمات في معانيها بالنسبة إليها، حيث يميل بجانب شفتيه وكأنه يستحي، ويا له من حياء زاده جاذبية تجعلها ت... 'ت' ماذا بالضبط؟! رفعت وجهها لتتنفس وتجيبه منفضة عنها إنهاء ما بعد حرف التاء المبسوطة، ولدهشة ذكائها الخارق حتى الحرف مبسوطٌ في تعبيره. (حسنا، أنا موافقة سأغير حذائي.) نزع سترته وألقاها على ظهر الأريكة، مكتفيا بقميصه عديم الأزرار هامسا بتوتر (آمل أن تكون محقا يا بروفيسور ...آمل حقا.)
***
(مدينة الجبل)
(المستشفى، القسم النفسي)
أنت تقرأ
الستر من الحق..3..سلسلة نساء صالحات .. منى لطيفي نصر الدين
Romanceجميع الحقوق محفوظة للكاتبة .... لا تنسوا صلاتكم... فالرواية تنتظر وأجر الصلاة في وقتها يطير..... أنصح و بشدة قراءة الجزئين السالفين من أجل فهم بعض الأحداث... سألوا الحكيم عن بئر السواد، ما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ فقال لهم الحكيم مغموما؛ تعالوا والتفوا...