الفصل الأول

74 15 14
                                    

دائرة....
نفس الدائرة...
الدائرة نفسها تتكرر....
كل يوم... كل صباح... كل ظهيرة... كل مساء... و كل دقيقة و ثانية في اليوم ، نفس الشيء... يتكرر و يتكرر...
الصباح للاستيقاظ من أحلام فارغة لم أرد أن أستيقظ منها أبداً بالرغم من فراغها...لم أرد العودة الى العالم الذي أنا فيه...
و الظهيرة ل... همم... لا أعلم... لا أتذكر... و أمّا المساء للعشاء... أشتري عشاءًا رخيصًا لنفسي بعد انتهائي من عملي الجزئي الذي وجدته و ذلك عندما رُفضت في مئة مقابلة عمل...
و أعود الى أروقة المستشفى مرة أخرى و أدخل الى غرفة أخي الصغير الذي كان في الطابق الثامن و أجلس على الكرسي مجاوراً لسرير أخي الصغير الذي دخل في غيبوبة منذ عام كامل بعد أن تعرض لحادث سيارة مع أمي... و الذي صار جسده الصغير يتغذى وريدياً من ذلك الأنبوب الوريدي الكبير...
الفتى الذي كان سبباً في دفىء حياتي الفارغة بضحكاته و نكاته...
رحلت أمي و بقي جسد أخي على هذا السرير...
و بقيت أنا صامتاً هنا بين جدران حياتي...

لا أتذكر آخر مرة كنت فيها في المنزل الذي تركه لنا والدنا منذ خمسة سنوات، عندما كنت في عمر التاسعة عشر...
اه...صحيح... إنني أبلغ من العمر أربعة و عشرين...

أجلس بجانب سريره و أتناول من طبقي على فخذي في صمت... 
ثم أشعر بشيء دافئ يسيل على خذي...

اه... لقد وعدت نفسي أمام قبر والداي أن لا أبكي... لقد أخلفت بوعدي... مرة أخرى .

سحقاً.

استدرت ناحية أخي و نظرت الى وجهه...أتذكر ضحكاته...
لقد اختفت ضحكاته...
لقد نسيت شكل وجهه الضاحك...

ثم أنهض و أتوجه الى الحمام العام للمشفى، أمشي في أروقتها الفارغة... المضيئة بضوئها الخفيف.
لا أشعر بخطواتي أبداً، كأنني لم أعد أتحكم بنفسي أبداً... كما لو أني صرت دمية تمشي...
أمشي متمنياً أن أستيقظ تحت سقف منزلنا على ضحكات أخي، و صوت أمي تنادينا لتناول الإفطار، و أبي يسقي حديقة المنزل العزيزة عليه...

لقد صارت حالتي مثيرة للشفقة...

عندما وصلت الى الحمام العام للرجال في الطابق الثامن للمشفى، ناداني أحد الأطبة المسؤولين على حالة أخي ألفريد.

-  سيد أليكس، هل لي بدقيقة فقط ؟

- بالطبع ، دكتور...

ثم أردف الطبيب في كلامه بنبرة جادّة :

- لم نجدك هذا الصباح لننقل لك هذا الخبر...

- خبر؟ ماذا به أخي...؟

نظر إلي الطبيب عاقداً حاجبيه في توتر، ليردف في تنهد قائلاً:

- إن أخاك... لن يستيقظ أبداً.
ثم رحل الطبيب...

و بقيت واقفاً في مكاني...

...متوسلاً عيناي أن لا تدمعا... متوسلاً عقلي أن لا يُجَن... متوسلاً قلبي أن لا ينكسر أكثر...
بعدها عدت من الحمام الى غرفة أخي ألفريد... جلست بجوار سريره... لا أشعر بشيء... لا أسمع بشيء... لا أرى شيئاً سوى الورقة و القلم...
كتبت رسالة و تركتها بجانب رأسه على السرير.

لأخرج بعدها من الغرفة.... و أمشي في الرواق الفارغ المظلم... لأصل عند المصعد... دلفت فيه و صعدت من الطابق الثامن الى الطابق العاشر .
عندما خرجت من المصعد نظرت أمامي الى الدرج الذي يؤدي الى السقف...
لأتوجه ناحيته و أصعد على الدرج... لم أعد أشعر بالوقت أبداً...كأنه توقف...للأبد.
كان كلام الطبيب كقطرة مطر صغيرة أطفأت نار الشمعة في الظلام...
شمعتي؟... لقد كان استيقاظ أخي هو ضوء شمعتي في الظلام الذي غرقت فيه... لكنها الآن... قد انطفأت... مستحيل أن يستيقظ... و يستحيل علي أن أخرج من ذلك الظلام اللانهائي...

ما إن وصلت لسطح المستشفى الذي كان فوق الطابق العاشر....نظرت عالياً الى القمر الذي كان متوسطاً سماء الليل الباردة في فصل الشتاء من شهر أكتوبر .

ثم نظرت الى البنايات الشاهقة المضيئة....بالرغم من ألوان ضوئها...لم ترى عيناي سوى الظلام...

تقدمت للأمام بخطوات متثاقلة... و وصلت الى عند حافة السقف، ثم نظرت الى الأسفل... كانت تبدو السيارات كالنمل الذي يعمل طول النهار...و أما الناس فقد كانت تبدو كفتات الخبز...

ابتسمت ساخراً...

- هل سأبدوا كفتات الخبز ما إن أقفز من هنا؟

ثم رفعت رأسي و ملأت صدري بالهواء البارد...
لقد تركت رسالة لكل من يجدها قبل صعودي الى السطح بجواره...

* سيتم دفعكم نفقات آلفريد كريس أسبوعيًا و تلقائيًا من حسابي البنكي الى المشفى مباشرة *

كتبتها... و أنا أعلم... أنه لن يستيقظ قبل أن يخبرني الطبيب...لذلك عملت بجد لادخار أموال طائلة مع أموال أبي التقاعدي.

ثم تأهبت للسقوط لكنني توقفت عندما سمعت صراخاً قادماً من الطابق العاشر...

بقيت واقفاً و عيناي متسعتان....
لأجد أقدامي تركض مبتعدًا عن الحافة و متوجهاً الى الطابق العاشر...

و ما إن وصلت الى مصدر الصوت و الذي كان حمام الرجال في الطابق العاشر...
توقف جسدي مكانه و تجمدت أقدامي عندما رأيت الطبيب الذي كلمني قبل لحظات، غارقاً في دمائه و فاهه مفتوحة بشكل كبير إثر صراخه و عيناه شاخصتان رعباً... و رجل واقف أمام الجثة يرتدي ملابس سوداء و يضع قناع قماشي يغطي كامل رأسه... و في يده سكين حاد ملطخ بالدماء...

- م... ما هذا؟...

لأتراجع الى الوراء في تردد... ثم نظر الي المقنع في صمت... لكنه سرعان ما مشى نحوي بخطوات فارغة من الصوت.
استدرت أنا الآخر و ركضت ناحية المصعد بأقصى سرعة لدي مبتعدًا عنه بأنفاس متسارعة، و ما إن وصلت الى المصعد.... انقطع الضوء...

لقد قطع ذلك القاتل الضوء... سحقاً !

يتبع...

Wait for me عربيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن