"موتٌ وذكريات"

10 0 0
                                    

رسيل
الحلقة الثالثة{3}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}

"موتٌ وذكريات"

ـــــــــــــــــــــــــ༺༽❀❀༼༻ـــــــــــــــــــــــــ
في غُضُّونِ دقائق كانت "رسيل" على بوّابةِ المشفى، أسرعت إلى غُرفةِ العمليّات فوجدت الطاقمَ الطبّي بأكمله يحتشدُ هُناك، بينَ انهيارٍ وصراخ وأصوات تتعالَى بالاسترجاع كاد قلبُ "رسيل" يتوقّف، تراجعَت خطوةً إلى الوراء وقد عادَ صوتُ الصفيرِ مُجدّدًا يدوّي بأذنها، أغلقت أذنيها بيديها، أغمضت عينيها تُحاولُ نزعَهُ عن عقلها، نفضت رأسها، ثُمَّ أسرعت باقتحامِ هذا الحشدِ حتّى تدخل، غُطّى وجهُ المريضِ الذِي فارقَ حياته بقطعةِ قماشٍ بيضاء ولم تستطع أن تَراهُ حتّى، لم يُسعفها الزمن، تنَاهى إلى سمعها صوتُ صُراخِ رضيعٍ قادمٍ من الخارج، وأصواتُ عويلٍ كما التِي سمعتها عند موتِ أباها، أسرعت مُجدّدًا إلى الخارج، وكأنّ الماضِي يُعيدُ نفسهُ، إنّهُ نفس المشهدِ، الصُورةُ الرماديّة اللعينة عادت تتراقصُ مرّةً أُخرى في مُخيّلتها، تسدُّ أذنيها وتسحبُ خطواتها للخلف، تغمضُ عينيها وتحاولُ الهُروبَ من صوتِ الصرخاتِ بداخلها، تصطدمُ بأحدِ المارّة وتقفُ في فزع معتذرةً لهُ، ثمّ تستديرُ لتركضَ إلى بعيدًا، شلَّالاتُ الدُموعِ عادت لتُبلِّل ملامحَ وجهها السماويّةِ مُجدّدًا، وحلُ الذكرياتِ يُقطّعُ فؤادها، إلى متَى؟.. ستظلُّ مُنهزمةً أمَام ركامها؟ إلى متَى ستهربُ من نفسها؟.. هي لا تملكُ رفاهيةَ الإنهيار، لكنّ الثباتَ أصعبُ من ذلك بكثير، مرَّ طيفُ أبيها الباسمِ من أمامها وهُو يحملُ طفلةً صغيرةً ملامحها ناعمة وبريئة وقسماتها تشعُّ بالفرح، إنّها هِي نفسها، بذاتِ جدائلِ شعرها الأربعِ الطويلة والشرائطِ الزرقاء، والفُستانِ السماويِّ القصير ذا القماش القُطنِيّ، كانَ صوتهُ يتردّدُ على أذنها وكأنّه حاضرٌ أمَامها، ردَّدت وراءَ طيفيهما تلكَ الكلمات:

" الثبات يعني الهُروب، تهرب مخاوفك من جواك، هي القوَّة أصلها من ضعف"

داهمت ضحكةٌ طويلة شلَّالاتِ الدُموعِ المنهمرةِ على خدِّها، من يراها على هذهِ الحال سيحسبها مجنونة لا محالة، تلاشَى الطيفُ معَ نسمةٍ خفيفةٍ أطلَّت من النافذةِ التِي وراءها، وتلاشت معهُ تلكَ الضحكة، أسرعت نحوَ ميضأةٍ قريبةٍ منها وغسلت وجهها، أخذت نفسًا عميقًا ثُمّ عادت بخطواتٍ شبهِ ثابتة لأمامِ تلكَ الغُرفة، حيثُ تلكَ الضجّة، وتصحبها كلماتُ أبيهَا التِي تدركُ معناها جيِّدًا الآن...

❁ في مكانٍ آخر ❁

في شركةِ "الفاروقي" للصناعة، داخلَ مكتبٍ اتّخذ طابعًا رماديًّا غامقًا وفخمًا، وأمَام الواجهةِ الزُجاجيّة الكُبرى والتِي تُطلُّ على الشارعِ مُباشرةً، يقفُ رجلٌ طويلُ القامةِ، مُعتدل الوزن ذا بشرةٍ داكنة ووجهٍ فيهِ مسحةٌ جادَّة ومهيبة، تستقرُّ في عينيهِ نظرةٌ ثاقبة، يختلطُ الشعرُ الأبيض بلحيته السوداء مّما يُضفي عليهِ وقارًا واحترامًا، قد قاربَ سنّهُ الخامسةَ والسبعون، ولكن شكلهُ لا يُوحِي بذلكَ أبدًا، فكمَا يقُولون: المظاهرُ خدَّاعة، يحتسي قهوته بهدوءٍ ويرمِي بنظراتهِ للبعيد، قطعَ حبلَ أفكارهِ طرقات البابِ المُزعجة والمُتتاليَة، ممّا جعلهُ يفقدُ أعصابهُ ويقُول بعصبيّة:

_ ادخل

دخَلت السكرتيرةُ الخاصّةُ بهِ وهِي تلتقطُ أنفاسها، علمَ من اضطراباتِ وجهها أنّ هُنالكَ خطبٌ ما، فبَادر بسؤالها سريعًا قبل أن تنطق:

_ عائشة، في شنو؟

ابتلعت ريقها وهِي تقولُ بلعثمة:

= ب بنتك يا أستاذ الفاروقي، جانِي اتّصال من زوجتك بتقول فيه إنّها اتوفّت.

حَلّتِ الصدمة على ملامحهِ، توسّعت عيناهُ في فزع، لا يُصدِّقُ ما تسمعُ أذناه، لم يدرِ بعدها كيفَ وصلَ إلى سيّارتهِ حتّى بدأ في قيادتها، كان جبينهُ يتصبَّبُ عرقًا بالرُغمِ من أنّ جهاز التكييف كانَ يعملُ في أعلى درجاته...

❁ في إحدَى الكافيهات الفخمة❁

يجلسُ على طاولةٍ فخمة ويحتَسي الكابتشينو الخاص به، تُقابلهُ فتاةٌ حسناء الملامح ذاتَ ملابسَ ضيِّقة وشعرٍ خمريِّ قصير وفُستانٍ أحمرَ شفَّاف، تبتسمُ على ملءِ فمها كُلَّمَا سمعت كلمةً معسولةً من هذا الشابّ الوسيمِ والغني، جلسَ ينظرُ إليها في خُبثٍ ونفسه توسوسُ له، مرَّر اصابعَ يدهِ اليُسرى على ذقنه سريعًا ثمّ نهضَ وكأنّه ينتفضُ من فكرةٍ ما، تعجّبت من فعلهِ فسألتهُ بنبرةٍ تُحاولُ فيها ترقيقَ صوتها:

_ عثمان، أنت كويّس؟

تمالكَ نفسهُ وهُو يُجيبها:

= أممم، كويّس.

شردت في تفاصيلهِ مرّةً ثانية، قامةٌ طويلةٌ ولون أسمر فاتح، جسدٌ رياضيٌّ وملامحَ وسيمة، خفَّةُ دمه تجعلها تُحبّهُ أكثر، جاكيته الجينزِيّ برفقةِ التيشيرت الأبيض الذي تحته، وبنطالهُ الجينزيِّ المُمزّق وحذاءُ الرياضة الأبيض، هذا الاستايلُ الحديثُ بالضبط والذِي يواكبُ المُوضة، قد يبدُو هُو الشابُّ الذِي تتمنّاهُ كُلّ فتاة، نهضت وهِي تتجهُ نحوه وتقفُ بجانبه، وجّهت كاميرا هاتفها نحوَ وجهيهما وهِي تقُول:

_ عثمان عثمان، يلا ابتسم.

اصطنعَ ابتسامةً زالت سريعًا بعد التقاطها لهذهِ الصُورة، وكمَا هِي عادةُ الفتيات، حُبُّ التباهِي، فإنّها أسرعت بإضافةِ الصُورة إلى قصَّةِ الانستغرامِ الخاصَّةِ بها؛ حتّى تتبَاهَى بعلاقتها بهِ، نظرَ إليهَا في شُعورٍ بالذنب، هُوَ يُحبُّها جدًّا، ولكن أحيانًا يجدُ نفسهُ تُوسوسُ لهُ بالسُوءِ تجاهها، وهِي مشغولةٌ بقراءةِ التعليقاتِ على قصَّتها، وردَ "عُثمان" مُكالمةً من والدتهِ، ما إن استجابَ لهذهِ المُكالمة، حتّى انطلقَ كالقذيفةِ نحوَ سيّارتهِ تاركًا إيَّاها تتخبطُ في تساؤلاتها وتندهُ عليه...

❁فِي المُستشفى❁

تقفُ أمَام الطفلِ الرضيعِ الذي لم يتوقّف عن الصُراخِ لحظةً وتتساقطُ دُموعها منها دُون إرادتها، استأذنت تلكَ المرأة الكبيرةِ في السن والتِي كانت تنوحُ فوقها حتَّى تحملهُ، حملتهُ وهِي تُحاولُ اسكاتهُ وتُقبّلهُ بكُلّ عطف، هدأ بينَ ذراعيها وكأنّهُ يشعرُ بالأمانِ أخيرًا، مسحت على وجههِ بحنيّةٍ بالغة، تشعرُ بعاطفةٍ قويّةٍ تربطها بهذا الطفل، مرَّ رجلٌ وشابٌ بجانبها وكانَا مُسرعينِ، لم تُلقي لهما بالًا، حتّى...

يُتّبع...

رسيلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن