رُبما نجاة.

111 12 30
                                    

تمهيد


رياحٌ عاتية، و أمطارٌ غزيرة، ليلةُ شتاءٍ باردة، لا مصدرٌ للدفئ فيها سوى وشاحٌ مُهترئ و لا ضوءٌ يُنير ظُلمة الغرفة إلا هالة القمر المختبئة بين أحضان الغيوم، و قدّ استطاعت التسلل عبر زجاج النافذة المهشم، كتسلل الآمال في لحظةٍ مؤقتة لقلبٍ قانط ..

صوتُ صرير الباب، تزامن مع قدوم تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من أحد المتسكعين الذين يتجولون ليلاً بين الأنام باحثين عن كسرة خبزًا أو بضع قروشٍ يُكملون بهم يومهم التالي في التيهِ و الجنون..
تشبثت أقدامي بالأرض و انكتمت أنفاسي، لعله لا يشعر بوجودي، ثم ليأخذ ما يريد هذا أن وجد شيءٍ غير الغبار و الخيبات المتراكمة في كل مكان..
لكن لسوء حظي كانت خطواته قدّ أتت به حيث أقف، قطراتُ الخمر الممتزجة بمياه الأمطار تتساقط من لحيته الشعثاء بتناسقٌ يخلق سيمفونيةٌ مريبة..


بدأ يقترب نحوي بُبطءٍ جاحظُ العينين يصُك على أسنانه بحنقٍ، أغمضتُ عيناي و تراجعتُ للخلف حتى خُيل لي بأن الجدار خرج من بين أضلعي، أول ما رأيته عند نظري له مُجددًا، لمعةُ خنجره التي تنوي اطفائي للأبد على عنقي كما أن السماء توهجت بالبرق كأنها تستعدُ لأستقبال روحي، عصف الصوت بقلبي حتى شعرت أنه سينشقُ هاربًا من جسدي، صوت هذا الكهل و ليس هزيم الرعد الذي هزّ الإرجاء، يُهمهم بكلماتٍ متقطعة..

"أريدُ المال، المال فقط، أع..أعطيني كل ما تملكينه هيّا، و سأ..سأذهب على الفور"


كيف لي أن أخبره إني لا أملكُ شيئًا و أن خبزةُ الليلة كانت الخوف مُغمسةٌ بالظلام..

كان جسده واهن لشدة ما سقاه من الخمر، فدفعةٌ واحدة بيداي المرتجفتان طرحته أرضًا، أخذتُ بعضي و ركضتُ بكل ما أملك من قوىٍ مستهلكة، خرجتُ من المنزل، من الشارع، من الحي، ثم...توقفت أتساءل إلى أين..؟ لمَ أنا هاربة..؟ أليس الموت كان نجاةٌ لي من هذه الحياة الفارغة..؟ لوهلةٍ شعرتُ بأن الخوف من الموت تضمحل، لكنه عاد ليُحقق ما راودتني نفسي به، حاوطتني يداهُ بقوةٍ لا مفر منها هذه المرة، يوجه سؤاله بغضبٍ شديد مُزمجرًا...

"إلى أين هاربةٌ أنتِ مني، هيّا أعطيني كل ما لديك من مجوهرات و إلا قتلتُكِ هنا الآن"

كان الظلام يُطوق المكان و قد نجح بأختراق عقلي، أستسلمتُ له، أرخيتُ يداي و لم أعد أحاول الهرب، حبستُ أنفاسي أُهيئ نفسي على عدم وجود الهواء بعد الآن، و رددتُ بهدوءٍ تام..

"لا أملك مالًا أو مجوهرات، أن كنت تريد قتلي أفعل ذلك."

أغلقتُ جفناي، وددتُ  لو أن آخر ما رأيته في هذه الحياة نورٌ يجلي كل السواد الذي امتلأت به، لو أن اللحظةُ الأخيرة من حياتي كانت حق لغفرتُ لكل سنوات الوهم الماضية، ثم أردت أن أودع الشيء الوحيد الذي رافقني طيلة إثنان و عشرون عامًا من حياتي، "الظلام" لا أنكر أنه كان وفيٌ لي، فقد أنجبتني أمي ذات ليلةٍ مُظلمة، ثم كُتب لي أن لا أرى النهار يومًا و ها أنا أنتهي في الظلام اليوم..، لكن نورٌ ساطعٌ في آخر الشارع شدّ انتباهي، الضوء الذي لطالما بحثتُ عنه، تسرب من بين شقوق أبواب مقهىٍ رثٌّ قد تركت السنين الطويلة عليه آثارها، أن تحقيق الأماني بعد فوات الأوان لأمرٌ محزن، لكن الأمل راودني بغتةٍ و أعاد  غريزة البقاء لجسدي دون وعيٌ مني، تماسكتُ كالخيطُ الأخير من وشاحي الذي تمزق فداءٌ لي، بينمّا كان المخمور يحاول الإمساك بي..

و النور يولدُ رجلٌ بعقده الثالث، مُرتميًا بكل مافيه من شحوب و إرهاق أمام الموت الذي يصارعني، فاردًا ذراعيه يومئُ لي بعيناه.. هيّا اهربي، تعالي نحوي أن الحياة بعثت لكِ عبري...

رُبما نجاةٌ، رُبما موتٌ آخر، لكن الضيق في ذراعيه اتسع لقلبي و أحلامي بينما الحياةُ بوسعها لم تستطع أن تفعل...

بينما أخذتنا الأحاديث و التعارف لساعاتٍ عدة، كان قد تمكن النوم من مُداهمتي، و لا زلت أشعر بالحرج مما سببته من قلقٍ له هذه الليلة،  بينما كان هو مندمجٌ يُحدثني عن نفسه و يرمي بتفاصيلٌ عشوائيةٌ على طاولةٌ لديها القدرة على حمل أكثر من أكواب القهوة لقدّ تمكنت من حمل كل بعثرته و ما زال بحوزتي الكثير لكن لا أفعل، أخشى أن يحترقُ خشبها من شدة الحزن بعد ذلك، محاوطٌ كوب قهوته بكلا يداه يُناظرني، فقررتُ أن أبعد الأستحياء قليلاً أطالبه بتردد..

"سيد جالَ، هل سمحت لي أن ارتشف من فنجان قهوتكَ؟ أشعر أن النوم سيُسيطر علي."

فأجابني بكل ما يملك من آمالٌ محطمة..
و قلبٌ مثقوب، أيامٌ فارغة، و روحٌ مستنزفة..

"لا يا برونا، أنه مرٌّ لاذع كالخيبة التي سأجنيها في نهاية قصتنا، لا أريد أن ينتشر به شيءٌ من رحيقكِ يا زهرتي كما لا تفعلين ذلك بقلبي أيضًا، إياك و محاولة دس العسل في السم"


يُتبع..










ندباتُ المقهىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن