اقتباس «٢»

2.2K 74 27
                                    

جاء بوجه غير الذي رحل به، يأكل أطراف ملامحه الهم وتمضغه الحسرة وتلوكه أنياب الفجيعة، جلس تحت النخلة بصمت مُرهق الروح خائر عزيمة الفؤاد يضع كفه على جبهته يستطلع ما حوله بنظرات خالية من الاهتمام والراحة، عبست لأجله ووصمها الحزن، تابعته والقلب يخفق بشعور جديد يتسرب لكيانها ويسري في عروقها، كأن الحزن في قلبها هي يعمّر، تمنت لو خرجت وسألته عن حاله وهمه، أو تضم رأسه لصدرها بحنو غريب وأمنية غريبة مثله، فرؤيته أثارت في قلبها مشاعر عديدة و في النفس الغرائب
عادت للأريكة صامتة تسألها العجوز بقلق «حامد مجاش؟  موعتلهوش يا بتي؟»
صمت لا تعرف بما تُجيبها ثم قالت بصوت واهن تسرّب من قلبها المُرهق بالمشاعر «شوفته موجود بره تحت النخلة»
قالت العجوزة بوجه خالي من الملامح  «وديله يابتي شربة مية على ما أطلعله»
وجدت في طلبها متنفسًا لرغبتها، وقفت تطيعها والنفس هي مَن تأمرها «حاضر يا خالة»
بكوب واسع من الألمونيوم نظيف يبرق مشتهاه للشرب منه ملأته وخرجت وقفت خلف النخلة وهمست بصوت فقد حيويته «السلام عليكم»
اعتدل يلف شملته على وجهه كما اعتاد، خبأ ملامحه عنها وترك لعينيه منفذ للهرب
«وعليكم السلام»
عصا صوته مكسورة بالحزن، نبرته يكسوها همّ ثقيل، ودّت لو سألته عن حاله عن قلبه وعن روحه المفقوده في بلاد التيه «الخالة قالت أجبلك مية على ما تيجي»
صمت وإن كان يحتاج بعضًا من دفء عينيها، أو بردًا وسلامًا من قربها، نازع بين رغبتين لا غلبة فيها إلا لتيهه وتخبطه، تجرأت وسألته «في حاجة»
أجابها كأنما ينتظر سؤالها ويعدّ العدة له «لاه مفيش أنتِ بخير؟»
أجابت «الحمدلله»
قال بحزم وقد غلبه أمره واستحكم شتات النفس «جهزي نفسك ساعة وهتيجي عربية توصلك مكان ما تحبي»
واستنكرت وكان وقع القول في نفسها مُرًا ثقيلًا «همشي»
ارتبك مما وصله وشعر به، نُكّست أعلام البهجة في روحها حدادًا على الفراق الوشيك، بصلابة همست «ممكن ورقة بعنوان المكان هِنا علشان لو فيوم حبيت أزور خالتي»
قال بترحاب «حاضر»
قالت لا تنصر من مشاعرها سوى الشوق الذي يرغب في ملء قدحه من رؤيته حتى حين، ولتصبر على الفراق «ممكن تاخد الميه علشان أروح أجهز»
حرمها الرؤية لشيئًا في نفسه صرخ فأفزعه قال بنبرة منكسرة «سبيها هاخدها»
ترددت قبل أن تتركها وتركض هاربة للمنزل، بعدما سمحت لدموعها أخيرًا بالتحرر من قيد الكبرياء وكيف لا تبكي على هذا الفراغ بقلبها والذي سيزداد اتساعه برحيلها عنه، ستبقى فارغة لا تسد الوجوه حاجتها لرؤية وجهه.

♕عزف السواقي ♕حيث تعيش القصص. اكتشف الآن