الفصل الخامس
♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡*****
وقف طاهر أمام الموقد واضعًا الأواني فوق شعلاته، ثم ثبت سماعات الهاتف بأذنه قائلًا «أيوة يا حبيبتي أنا حضرت كل حاجة»
قالت أمه بلطفٍ ولين مبتسمة لأفعال طاهر ورقة قلبه «طيّب يا حبيبي أنا معاك»
تنهد طاهر براحة وهو يتأمل ما أحضره أمامه ليبدأ في العمل مُفصحًا لوالدته بعفوية «غزل بتحب ورج العنب بتاعك ياريتك قريبة يا أما، بس معلش هعمل زي ما هتجولي بالظبط»
شجّعته مؤكدة والدته ونظراتها تغطيها طبقة شفافة من الدموع «اعمله هيطلع حلو يا طاهر»
دعا طاهر وهو يبدأ في تجهيز خلطة الحشو «يارب يا أما»
قالت والدته بصدق ، تبثه الطمأنينة في أحرف كلماتها «هتعمله بجلبك يا حبيبي بنَفَس كلّه مودة و هيطلع أحلى من بتاعي»
اتسعت ابتسامته بأمل وشغف حركه بنشاط، يعلم أنها تحب ورق العنب من يد والدته لذلك قرر أن يصنعه بنفس الوصفة وبكل الاهتمام؛ ليحظى بالقليل من ابتسامتها والقليل من بهجتها التي تعينه على كتمان حزنه.
أنهت والدته الاتصال حين انتهى من صُنعه
جلس بالمطبخ أرضًا متربعًا ينتظر تذوّقه والتأكد من أن طعمه يطابق الذي تصنعه والدته لينال إعجاب غزل،هو على استعداد ليفعل الكثير لأجلها ولأجل ضحكتها التي تاهت في دروب الشقاء.
دخل يونس المطبخ فوجده جالسًا، تحرك ناحية الموقد يكشف الأواني قائلًا «ماشاء الله إيه الرضا دِه يا طاهر؟»
صارحه بصدق وهو ينهض من جلسته ويتّجه ناحيته «عملته عشان غزل يا يونس، وأمي جالت لازم أعملّك زيّه»
تذوق يونس واحدًا بنهم قبل أن يقول وهو يستدير «ربنا يخليهالي حاسة بيا»
ابتسم طاهر وتابع ملامح يونس مستكشفًا منها رأيه وإمارات الاستحسان لما صنعه، غطى يونس الطعام مُثنيًا على صنيعه «جامد يا واد يا طاهر،بس اشمعنا ورج العنب؟»
صارحه طاهر دون خبث أو إخفاء صادقًا كعادته لا يراوغ «كانت بتدوج بتاع أمي الي باجي أخده من هنا لما تبعتهولي مع رؤوف»
ابتسم يونس برفقٍ ولين متفهمًا لمشاعر طاهر البريئة وقلبه، لطالما كان طاهر أكثرهم تأثرًا حساسًا للغاية، يملك قلبًا رقيقًا، لذلك يخشى عليه رؤوف ويحاوطه دائمًا بالاهتمام والرعاية التي تصل حد الاختناق خوفًا عليه وعلى قلبه من الدنيا والناس والأذى.
عرض عليه يونس بحنو مترفقًا به «لما تحب تروح جولي أوصلك بالعربية»
تعجب طاهر ومازحه مُقلدًا رجب «وليه التنازل دِه يا بشمهندز»
ضم يونس شفتيه ممتعضًا «دلوك يجيلك على الريحة»
تحرّك يونس للخارج فقال طاهر ببساطة وتلقائية وهو يستعد لغرف طبق مما صنعه «معمول حسابه أمي متفوتهاش حاجة مأكده عليَّ»
ابتسامة يونس الواسعة كانت أبلغ رد وأثمن تعليق على قوله.
في بداية المساء غادر طاهر بعدما نام يونس تعبًا، لم يحب طاهر إقلاقه بتذكيره لوعده بتوصيله، أشفق عليه وتركه نائمًا دون إزعاج منه بإيقاظه تحرّك يملؤه الشغف ويحيطه الترقب وصل للمشفى بلهفة، طرق بابها بانتظار وكله أمل في أن يصنع لقلبها بهجةً خاصة.
تراجع خطوة حين خرج رجل غاضبًا خلفه صفوة، أفسح له المجال بعدما التقت نظراتهما ، توقفت كلمات صفوة حين رأته يقف بقلقٍ وحرج، ابتسمت كما وصّتها غزل ومنحته التحية دون عبوس أو رفض، غزل التي في أصعب حالاتها لم تنس أن تُعلّق لها على مقابلتها طاهر بتجهّم، رافضة منها تلك المعاملة لهذا الطيب الودود، كما حذرتها من أن تفعل ثانية أو تجرحه بكلمة قد تصيب قلبه بأذى، قلبه الذي هي أعلم به منها .
غضّ بصره كعادته وسألها بنبرة مرتبكة «أسف لو جيت فوقت غير مناسب»
ابتسمت صفوة رغمًا عنها حاملة على عاتقها إرضاء غزل «مفيش مشكلة»
قال بأدب وتفهّم ومراعاة «بلغي غزل إني بره وشوفيها توافج على مجابلتي ولا لاه»
هزت رأسها بالموافقة فقال بعدما حمحم «لو مش هتجدر مفيش مشكلة جوليلها كِده»
تعجبت في نفسها من هذا الشاب ومراعاته وأسلوبه الحنون، غادرت تُعلمها بوجوده فابتسمت غزل بوهن وأشارت في سرعة وهي تضع حجابها « دخّليه متسيبهوش بره»
أومأت صفوة وخرجت تبشره بقبول غزل فابتسم لسرعة الموافقة على طلبه وسُرّ لأجل ذلك… ولج بأدب غاضًا بصره محمحمًا مُلقيًا السلام كاملًا كعادته التي تحبها غزل منه «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»
ردّت خلفه مبتهلة متضرعة أن تشملها رحمة الله وتغمرها بركته، سألها بلهفة «ازيك يا بشمهندسة؟»
أجابت بابتسامة حنون دافئة احتفظت بها ولم تستطع النيران سرقتها أو حرقها كما كل شيء، تلك الابتسامة هي أخر ما تبقيّ لها من نفسها القديمة ومتعلقات سعادتها وبهجة روحها.
«ازيك يا طاهر اتفضل»
جلس بأدب قائلًا وهو يسمح لعينيه برؤيتها والاطمئنان عليها «طمنيني عليكي يا هندسة واعذريني لو جيت فوقت غير مناسب»
كعملة وحيدة نادرة لا تُقدّر بثمن حافظت على ابتسامتها لأجل هذا الخلوق الحنون وأجابت «أنا بخير يا طاهر تيجي فأي وقت»
بسرعة كشف عن هديته قائلًا «جبتلك ورج العنب الي بتحبيه يا هندسة مهانش عليا أكله من غيرك»
مسحت غزل دمعه خائنة من على خدها وقالت بنبرة مهزوزة هزمته « شكرًا يا طاهر»
كشف الطبق وقرّبه منها مشجعًا لها بينما تجلس صفوة تتابع بصمت «دوجي يا هندسة»
تناولت واحدًا وأتبعته بأخر وهو يتابع بخجل ملامحها التي تتبدل كسماء واسعة تتجمع فيها غيوم السعادة منتظرًا أن تمطر على قلبها فرحًا لكنها تتفرق ثانية وتتبدد كلما تحرك خدها واستشعرت الألم، تتذكر مصابها ولعنتها الأبدية فيعود الحزن مسيطرًا بقوة.. أغمضت عينيها تتلذذ طعمه وتتذوقه دون ملِح الألم وتوابل الحسرة
تتجرد من حزنها لتستمتع فصمت بتأثر وراقب بشغف.
فتحت عينيها على ملامحه وقالت «حلو يا طاهر تسلم إيدك»
ارتبك طاهر من تعليقها فأوضحت غزل بفطنه ولمعة حزن لا تفارق عينيها الجميلة «عارفة إنك عملته عشاني يا طاهر»
ابتلع ريقه مرتبكًا خجلًا من انكشاف أمره قبل أن يصارحها ببسمة مهزوزة «أمي جالتلي الوصفة بالضبط»
أجابته ممتنة لفعله «مش نفس الطعم بس فيه نَفس المودة ودفّا قلبي يا طاهر»
ابتسم بحزن العالم ويأسه فقالت «يسلم قلبك الطاهر يا طاهر لك من اسمك أكبر نصيب»
ثم مازحته بدموع هبطت عنوة بتجبر «هات الطبق بقا يا صعيدي ولا هتاخده؟»
منحها إياه بتأمل واضح لملامحها التي تنقبض بألم كل دقيقة، تناولته بنهم ودموعها تتساقط، تمسحها وتلتقط أنفاسها ثم تعود لتناوله ولا تنسى أن ترفق بصاحبها وتهديه بسمة مشوهة بالحزن.
نهضت صفوة منتفضة حين ازداد بكاء غزل، اندفعت ناحيتها تطوّقها فبكت غزل بحرقة مما شتت طاهر وأصابه بالغم، نهض ليهرب فتركت غزل ذراعي أختها وناشدته البقاء «طاهر استنى»
رفض أن يمنحها وجهه وأن ترى عذابه، فقالت متوسلة «منزلتش الحديقة ولا مرة وعايزة أنزل معاك»
التقط أنفاسه وأجاب «هستناكي بره يا هندسة»
بعد قليل كانت تسير جواره في حديقة المشفى وصفوة خلفهما تتابعهما متعجبة من تلك العلاقة التي لا تعرف لها مسمى وتحيّرها.
انحنت غزل وقطفت وردة بيضاء نظرت إليها طويلًا ثم منحتها لطاهر قائلة «خد دي مني يا طاهر لما شوفتها كأني شوفت قلبك قدامي»
ابتسم طاهر بخجل وتناولها منها شاكرًا فقالت غزل بحنو «شكرًا إن لسه في الدنيا قلب زي قلبك يا طاهر»
*************
«قنا»
استقبلت آيات مجيء أختها بترحاب شديد، أدخلتها الشقة التي تنعزل بها أكثر الوقت دون أن يتفوه أحد أو يعترض لكونها زوجة رؤوف فهي تعامل معاملة خاصة جدًا «ازيك يا هدى»
جلست أختها فوق أقرب أريكة واضعة ابنها فوق فخذيها قائلة «ازيك يا آيات»
ربتت آيات على ركبة أختها متسائلة «تشربوا إيه؟»
أجابتها أختها بلطف وابتسامة ودودة «مالوش لزمة»
داعبت آيات خد الصغير مُرحبة به «ازيك يا بودي وحشتني»
أجابها بابتسامة واسعة وهو يطوف بنظراته في الشقة الواسعة «كويس، فين عم رؤوف؟»
ضمت آيات شفتيها إعلانًا للأسف وهي تخبره «مش موجود»
خافت أن تخبر الصغير بوجوده في الأعلى فيركض إليه ويسبب لها مشكلة مع زوجها الذي لا يحب أن يقتحم أحد عزلته .
لوّنت الخيبة وجه الصغير وصمت فسألتها أختها «رجع مصر تاني؟»
قالت آيات وهو تنهض لتضايفهما «لاه بس برّه فمشوار»
سحبت آيات الصغير وأجلسته وحده بعدما منحته الهاتف ليلعب به، بعدها سحبت أختها للمطبخ ليعدّان المشروب.. دخلت أختها المطبخ ذاكرة الله «ماشاء الله اللهم بارك»
ابتسمت آيات وتابعت صنع العصير الطازج، لفت انتباه أختها العجان الكهربائي الكبير فسألتها «جبتيه متى يا آيات؟»
أجابتها آيات بلا مبالاة «رؤوف جابه لما لقاني بعمل معجنات كتير لفطاري في الشغل وليه هو في الفطار»
شكرت هدى صنيعه بمودة وامتنان «كتر خيره والله»
ثم التفتت لأختها بمغزى مادحة له «راجل زين جوزك يا آيات يعرف ربنا ومراعي»
صبّت آيات أكواب العصير ومنحتها واحدًا وهي تسألها «جبتي الي جولتلك عليه يا هدى؟»
لوت هدى فمها بإمتعاض وضيق مما جعل آيات ترجوها «مش وجته الي عندي خلص يا هدى»
تركت هدى كوب العصير فوق رخامة المطبخ ثم فتحت حقيبة صغيرة من القماش المخمل بكفها وأخرجت لها ما تريده، فتناولته آيات شاكرة «شكرًا يا هدى الي عندي خلص»
عاتبتها أختها زافرة بحزن «ليه يا آيات تحرميه من الخلفة وتفهّميه إن في مشكلة»
خبأت آيات الحبوب في خزانة المطبخ العلوية مُبررة لها «لسه بدري على الخلفة يا هدى مخدتش راحتي»
عاتبتها هدى ببعض الحدة وعدم الرضا « حرام عليكِ يا آيات سبع سنين ومخدتيش راحتك، مش كفاية صبر على علامك ووافج على الشغل وهو مش محتاج له»
هزت آيات كتفها قائلة بلا مبالاة «كان دِه شرطي ليه يا آيات أكمّل دراستي وهو وافج»
واجهتها هدى متخذة الحق جانبًا والصدق قولًا «أبوكي كان هيجوزك له رضي رؤوف تكملي أو لاه يا آيات حرام عليكي»
رمشت آيات متهربة من قولها، مبررة لها « حاسة مش هجدر أشيل مسئولية أطفال دلوك ولا مستعدة»
نصحتها أختها بلطف «متظلميش يا آيات رؤوف مالوش ذنب هو خبّط على بابك وأنتِ اخترتي بتدفعيه التمن ليه؟»
انفعلت آيات وقالت مهاجمة بصوتٍ عالٍ« كنت مجبرة أبوكي مسابليش حل،حط العقدة في المنشار »
أوضحت أختها برفض لقولها « أنتِ اخترتي رؤوف وعلامك يا آيات، كان فيدك ترفضي الاتنين»
قالت بحرقة «أنتِ عارفة دِه كان حلمي الوحيد أكمّل زي صحباتي»
قالت هدى بأسف «رؤوف مجصرش يا بت أبوي بتحمّليه ليه ذنب حبك لنفسك وأنانيتك واختيارك ليه»
قالت آيات حاقدة مظلمة النفس «لو مكانش جه واداني أمل مكانش حصل الي حصل»
مصمصت أختها معترضة «كان بكيفك يا بت أبوي سبتي خطيبك واخترتيه هو وعلامك أبويا طمع في النسب وأنت كمان ولما فوقتي بتدفعيه التمن »
قالت بإنفعال حاد وغضب « مش هضحي بالي دفعت تمنه عشان أخلّف وأجعد في البيت أربي»
هزت أختها رأسها غير مقتنعة بكلامها تواجهها في عتب «آيات تضحي بأيه؟ دا أنتِ مبتشليش عودة من الأرض وكل طلباتك مجابة جبل ما تطلبيها لو جبتيلهم حتة عيل هيربوه ومش هتعولي همه»
زفرت آيات شاعرة بالضغط عليها وقالت في غضب «عيال يعني ربطة بيه العمر»
شهقت هدى مستنكرة قولها، ضربت على صدرها محملقة فيها تستوعب هذيانها «جصدك إيه؟ عايزة تتطلقي يا حزينة »
مال فم آيات بابتسامة ساخرة قبل أن تقول «وأبوكي هيرضى؟ ولو رضي هيعيشني فجحيم»
سألتها أختها ببلاهة «يعني إيه مفهماش»
أجابتها آيات بابتسامة واسعة «قاعدة اهو معززة مكرمة بالوضع الي يرضيني لو جد في الأمور أمور يبقى طالعة خفيفة»
تطاير الشرر من عيني أختها وانسحبت قائلة بقسوة «ربنا فين يا بت أبوي؟ رؤوف بيتجي الله فيكِ اتجي الله فيه وخافي عقاب ربنا وحسابه وبطلي بطر»
رمت آيات كلمتها المستفزة ببرود «جولي إنك حسداني يا هدى ومستكترة عليا العز والراحة الي أنتِ معيشاش فربعهم »
وضعت هدى كفها على فمها مستنكرة ثم قالت وهي تحمل صغيرها « أنا يا آيات..؟» شعرت آيات بقليل من الندم وارتجفت برهبة ما قالته لكن أختها تابعت مستحقرة ومشفقة
«طيب يا بت أبوي صوني النعمة الي عايشة فيها عشان الحسد مياخدهاش منك»
غادرت هدى نافرة، تلعن أنانيتها لا تهتم بنداء آيات لها ولا توسلها «اقعدي يا هدى متزعليش»
لكنها تجاهلت وهبطت ركضًا، عادت آيات لشقتها أغلقتها ارتمت فوق الأريكة زافرة بضيق
************
«في المشفى بالقاهرة»
جلست في حجرتها صامتةً شاردة الذهن كعادتها مؤخرًا تملّس فوق خدها من وقتٍ لأخر لتتأكد مما تشعر به من ألم وما يخالجها من شعور بالضياع
تعجبت صفوة التي كانت تردد الآيات جوارها لتحفظها، فأختها لا تتفاعل سوى مع المدعو طاهر ولا تبتسم إلا في حضرته، تتقبل منه كل شيء وإن كان هذا الغريب متحفظ صامت لا يتفوه إلا بالقليل المفيد، يستبدل مواساته بفعل مناسب، يستعيض عن الكلمات بمواقف حقيقية تبرز اهتمامه.. وللحق هو مؤدب للغاية يغض البصر ومتفهم مراعٍ لذلك لا تقدر على منع أختها أو منعه مادام يلتزم بالحدود، وما يجعلها توافق أكثر حالة غزل معه..
رفعت غزل هاتفها حين جاءها إشعارًا بوصول رسالة فتحتها فانطلق صوت المُغنية يشدو مما جعل غزل تبتسم حد الوصول لضحكة خافتة، كانت أغنيتها المفضلة لشادية وما أثار دهشة صفوة هو أن الأغنية مجردة من الموسيقى فقط صوت المغنية.
ما احتاجت لسؤال أختها حيث أنها نطقت باسم المرسل في سعادة «طاهر»
ابتسمت صفوة ممتنة لصنيعة، يفعل ما بوسعه ليعيد الضحكة إليها ويخرجها من حالتها، تمددت غزل والأغنية جوارها تصدح، تزداد شرودًا وتوهة ًوتستغرق في الحزن..
طرقات الباب قطعت تواصل شرودها فاعتدلت منتظرة، غادرت صفوة لتفتح فهي المقيمة الدائمة معها..
ما إن فتحت الباب حتى وجدت أمامها صغيرة جميلة تسألها بصوت طفولي بريء «ممكن أشوف البشمهندسة غزل»
فتحت الباب على مصرعيه لترى غزل تلك الزائرة شديدة الجمال والدلال، ما إن لمحتها غزل حتى ابتسمت ونادتها بفرحة «تعالي يا ورد»
من خلف الصغيرة ظهر مجموعة من الأطفال يمسكون بالورود البيضاء الجميلة، عرفتهم غزل فورًا وضحكت كتحية قبول، فاندفع الصغار ناحيتها مما جعلها تترك الفراش وتجلس على ركبتيها مستقبلة محبتهم..
عانقوها جميعًا وابتعدوا لتقترب ورد وتعانقها بقوة وهي تهمس لها كلمات قصيرة مُعبرة حفظتها مُسبقًا «شكرًا يا غزل أنتِ جميلة أووي»
ضمتها غزل دامعة العينين ممتنة، لتبتعد الصغيرة قليلًا وتفرد كفها الصغير فوق ضمادة الوجه قائلة بتأثر «جدتي قالتلي إنك حلوة أووي من جوا وجمال قلبك يخطف»
همست غزل بتأثر «قوليلها شكرًا كتير»
مسحت الصغيرة دموع غزل المسترسلة بأناملها هامسةً «متبكيش أنتِ قوية»
ضمتها غزل بحنو لا تعرف كيف تعبر عن شكرها وامتنانها.
تربعت غزل مكانها أرضًا فالتف الصغار حولها يشكرونها بمحبة مقدرين صنيعها.
على الناحية الأخرى كان يرفع هاتفه شاكرًا «شكرًا يا حمزة إنك وافقت على إنك تبعت ورد وتتحمل مسئولية الولاد وخروجهم من الدار لغزل»
التقط له حمزة عدة صور لهم وأرسلها قائلًا «ولا يهمك يا متر أنا في الخدمة»
ابتسم رؤوف وأعاد الهاتف لجيبه مستنشقًا الهواء الطازج من حوله بنهم راضيًا حامدًا الله على تلك الفكرة التي ألهمه بها فسارع بتنفيذها، تستحق تلك الشجاعة أنّ تحاوط بالدفء وتتدثر بالمودة الخالصة، أن تعرف عِظَمِ صنيعها وأهميته، وأن لا يُهمل معروفها أو يُلقى على قارعة طريق النسيان والإهمال، وأن تُمنح القوة التي تعينها على المواصلة.
***************
«بمنزل رؤوف»
دخل الشقة مناديًا عليها «آيات»
نهضت من رقدتها فوق الأريكة تُجيبه متعجبةً من مجيئه وتركه خلوته، جلس جوارها يستفسر بنظرة غامضة غير مفهومة «أم عبدالله كانت هِنا؟»
ارتبكت خشية أن تكون أخبرته أختها بما تفعله من وراء ظهره، ابتلعت ريقها وقالت بصمود «جات يا رؤوف ومطولتش»
سألها ممررًا نظراته على ملامحها ببطء وصبر «مبعتليش عبدالله ليه فوق؟»
أجابت بهدوء «عادي محبتش أضايجك»
قال بحاجب مرفوع «كنتي بلغيني وشوفي»
لوت فمها بضيق وملل من استجوابه لها واعتراضه على فعلها، سحبت امتعاضها سريعًا وحبست تأففها في جوفها وقالت «حصل خير»
سألها بنظرة ثاقبة تحاصرها كقضبان حديدي «أختك كانت نازلة زعلانه ليه يا آيات؟»
انتفضت متحررة من قيود الثبات، أشهرت ضيقها في وجهه «إيه يا رؤوف هي أختي ولا أختك ما يمكن حاجة بينا»
ظل على ثباته وصبره لا يكشف عن داخله ولا يُطلعها على رد فعله بما نطقت، أجابها برزانة «لاه أختك يا آيات» نهض مغادرًا، أدركت فداحة كلماتها وغلظتها في الرد فهرولت خلفه، أمسكت بكفه وأوقفته معتذرة «متزعلش يا رؤوف مجصدش»
أجابها بجمود «مفيش مشكلة أنتِ عندك حق»
أوضحت بضيق « فهمتني غلط يا متر» قالتها وعانقته طابعةً قبلة محفوفة بالأسف الكاذب، داعب ذقنها قائلًا بفطنة ونظرة غامضة «صح أو غلط الاتنين واحد»
ابتلعت ريقها بتوتر ملحوظ متسائلة «يعني إيه؟»
أبعدها عنه وانسحب دون كلمة، رمى تحية المساء وغادر مُغلقًا باب الشقة خلفه فعادت للأريكة حائرة تقلّب الكلمات في عقلها دون فائدة، زفرت بملل وعادت راكلة كل شيء وملقية له خلف ظهرها.
بعد قليل كان رؤوف يطرق منزل هدى بأدب، منتظرًا ظهور زوجها ليفتح..
فتح الصغير متسائلًا عن هوية الطارق فابتسم رؤوف وأجاب «رؤوف الحفناوي»
قفز الصغير فرحًا برؤيته مهللًا «عم رؤوف يا أما»
وضعت هدى حجابها فوق رأسها ونهضت تُعلِم زوجها.
دقائق ونهض زوجها متعكزًا على عصا غليظة يستقبله بترحاب شديد «ازيك يا أستاذ رؤوف نورتنا»
منح رؤوف حقيبة بلاستيكية مملوءة بالحلوى للصغير قائلًا «عرفت إن عبدالله جه ومكنتش موجود فجيتله مخصوص»
رمقه الرجل بنظرة ممتنة وهو يدعوه للدخول «اتفضل يا أستاذ»
أخفض رؤوف بصره أرضًا ودخل محمحمًا،جلس في حجرة جانبية صغيرة وبسيطة وتبعه زوج هدى متعكزًا وخلفه الصغير الذي جاور رؤوف ملتصقًا به فرحّب رؤوف بمجاورته وفرد ذراعه محاوطًا كتفيه يسأله وهو يفرك فروة رأسه «ازيك يا عبد الله»
قال الصغير ببراءة «جولي بودي زي آيات»
قال رؤوف مشددًا على كلماته «لاه اسمك أحلى اسم يا عبدالله»
قطعت هدى وصلة الحديث بدخولها حاملة صنية المشروبات وضعتها ورحبت برؤوف ومجيئه «ازيك يا أستاذ نورتنا»
أجابها رؤوف «بنوركم يا أم عبدالله، مهانش عليا عبدالله يجي ومشفهوش ولا تشرفيني ومسلمش عليكي فجيت بنفسي اطمن عليكم»
رمت هدى ناحيته نظرة ممتنة تتهدل منها الحسرة والندم، لاعنة أختها التي تحرم هذا العطوف من أن يصبح له طفلًا. جلست بصمت تراقب رؤوف وهو يُحدّث الصغير ويلاعبه، شعرت بالذنب من مشاركتها أختها جرمها والذي لم يكن الجُرم الوحيد الذي تشترك فيه معها.. يحق لهذا الرجل الذي يوزع حنانه على أطفال القرية أن يحصل على ابنًا يمنحه حنانه ومحبته.
طرأ على ذهنها فجأة أن لعنة هذا الصالح أختها فهزت رأسها نافضةً الفكرة من رأسها مستعيذة من الشيطان، عرض زوج هدى عليه تناول العشاء معهم فرفض لكنه أصرّ عليه فخشي إن تشبث برأيه وقراره إحزانهما وإشعارهما ببعض السوء فقال بلطف « ماشي يا أبو عبدالله يجعله عامر»
ابتهجت هدى لموافقته، خرجت شاكرة له صنيعه وجبره زوجها ومراعاته.. قال رؤوف بابتسامة ودودة «بجالي كتير مجتش جعدت معاك يا أبو عبدالله وحشني الكلام معاك يا طيّب»
ابتسم الرجل قائلًا«ايه مانعك تشرف وتنور فأي وجت أنت زي أخوي»
عاتبه رؤوف «ليه زي؟ احنا أخوات يا طيّب»
ابتسم الرجل ببشاشة قائلًا « متأخذنيش مجامك عالي يا أستاذ»
هبط رؤوف من فوق الكنبة وجلس أرضًا قائلًا «وحّد ربك يا طيب وتعالي احكيلي عن الدنيا وناسها وأحوالها»
جاوره زوج هدى فجاءت هدى بالطعام البسيط، ابتسم رؤوف وسمى الله ثم شرع في تناول الطعام، وضع بفمه لقمة ومضغها مثنيًا شاكرًا «ربنا يحسن ما بين ايديكي يا أم عبدالله مش ناوية تعلّمي أختك كيف تعمل طبج الفول دِه»
قالت هدى بتلقائية «آيات مبتحبش الفول»
هز رؤوف رأسه مؤكدًا بتنهيدة مليئة بالألغازوالحزن «أيوه عارف مبتحبوش بس أنا بحبه ويحجلي أطلبه منها وتعمله ولا إيه يا أم عبدالله»
أكدت هدى بشرود حزين «صُح»
أطعم الصغير بفمه وهو يمازحه ويسابقه حتى انتهى وأعلن الشبع فحمد الله وشكرهما على ضيافتهما، تناول الشاي وغادر مودعًا لهم واعدًا بزيارة أخرى.
ولم ينس أن يدس بجيب الصغير حفنة من الأموال كما يفعل كل مرة يرى فيها الصغير.
وهو في طريقه للعودة قرر أن يسير بمحاذاة مقابر القرية، تسلل مقررًا زيارة أحبابه بعدما غالبه الشوق، تخطى القبور داعيًا تاليًا للآيات حتى وصل للمدفن الخاص بعائلته، وقف بصمتٍ ورهبة أمام قبرًا كُتب عليه «حامد الحفناوي»
بعد قليل خرج مُغلقًا خلفه الباب الخشبي ليصطدم حين استدار للمغادرة بجسد تلك التي كانت تشهق بقوة، لا تستطيع السيطرة على دموعها التي تحجب عنها الرؤية بوضوح، ما إن عرف هويتها ضمها بسرعة يمنحها الأمان والسكينة مستنكرًا وجودها هنا في هذا الوقت وحدها ودون إعلامه«آيات»