الفصل الرابع
غائبة تحاول أن تستعيد وعيها وترتب أفكارها المبعثرة، مررت نظراتها عليهم جميعًا بصمت تحاول أن تسترد جزءًا من إدراكها وتعود للخلف لتفهم سرّ وجودها في المشفى
التقطت حزن والدها الممزوج بغضبه ورثاء والدتها لها، ونفس أختها المكلومة ودموعها التي لا تتوقف...أغمضت عينيها تستقبل الصور في ذاكرتها وترتبها ثم فتحت عينيها وصمتت بجمود، سألها والدها بجزع «أنتِ كويسة يا حبيبتي؟»
وفعلت أمها لكن صفوة لم تفعل بل بكت بحرقة شديدة وحين نهرتها نظرات الأم، انسحبت مختنقة بغصات البكاء والرثاء المحبوس.
بللت غزل شفتيها وهمست بسؤالها اللذي طفا الآن «البنت كويسة؟»
أرادت أن تُذكّر نفسها بعملها البطولي أن ترتدي رحمتها وإنسانيتها قلادة تتباهي بها وتسد بها على الشيطان بابًا لو فتحته لصرخت الآن حتى تقطعت أحبالها الصوتية.
أجابتها والدتها بأسف لها فيه النصيب الأكبر«كويسة وبخير»
انفعل والدها يلومها بحرقة قلب أب وأنانية تفتقر للإنسانية «ضحيتي بنفسك ليه يا بنتي مالنا أحنا ومال غيرنا، عاجبك الي حصلّك؟»
أشاحت دامعة ترجوه بخفوت ونفس مُعذبة «خلاص يا بابا»
ربتت زوجته على كتفه تهدئه «خلاص الي حصل حصل ربنا يشفيها»
لكنه واصل لومها وتعذيبها «لا ، عاجبك حالها؟» التقطت غزل نفسًا قوي وصاحت بعزم قوتها «خلاص بقا خلاص مش ناقصة»
بكت بضياع وأفكار ممزقة بين واقع مرير وإنسانية يمتلأ بها فؤادها... يرمون بذور ندم شيطانية في روحها وهي التي لو تكرر الأمر لفعلت مثلما فعلت وضحّت بنفسها لأجل صغار لم يملكوا من الحياة يومًا إلا القليل.
هدأتها والدتها لكن الضغط كان أكبر من أن تتحمله وحدها والمعاناة أقوى من ضعف نفسها الآن وهي مشوّهة ومشوشة.
حين اشتدت بها المعاناة ولطمتها المفاجأة بحقيقة وضعها الجديد، تابعت البكاء دون توقف ولم تفلح معها كلمات والدتها ولا أسف والدها
فاندفع يصيح مستنجدًا بطبيب يمنحها عقار مهدئ..
بعد قليل أغمضت عينيها بسلام متمنية أن لا تفيق مرة ً ثانية فالأمر أكبر من احتمالها وتحتاج لقوة تعينها وعقار صمود يُضخّ داخل أوردتها .
************
«قنا»
ارتدى رؤوف ملابسه ووقف أمام المرآة يصفف خصلاته السوداء القصيرة متسائلًا بحنو وهو يرسل نظراته عبر المرآة لآيات المنكمشة فوق الفِراش «آيات مش هتنزلي تفطري معايا؟»
ابتسمت قائلة «لاه يا رؤوف ماليش نِفس»
استدار يرسل لها عتابه في نظرة مستنكرة وهو يقول «بس أنا عايزك تنزلي معايا ونفطر مع بعض أنا بجالي كتير غايب»
ابتسمت بإهتزاز مترددة فخطا ناحيتها وجلس جوارها متسائلًا «في إيه يا آيات دبلانة وسرحانة طول الوجت، حد مزعّلك أو حاجة مضيجاكي؟»
هزت رأسها برفض ونظرة متهربة من براثن نظراته الثاقبة الفطنة، ليكرر السؤال ببعض الصرامة والجدية«آيات متأكدة؟»
وضعت كفها الرقيق على صدره وقالت مهدئة له «مفيش يا رؤوف ممكن شوية إرهاق من الشغل»
لثّم رؤوف جبينها برقة مردفًا بحنان «سلامات»
ثم نهض واقفًا يسحبها من كفها مشجعًا «جومي انزلي معايا متجعديش وحدك هِنا»
استسلمت لرغبته مبتسمة بإمتنان لرقته وحنانه وشعوره بالمسئولية تجاهها، رؤوف الذي إن غاب عنها مدة طويلة يعود إليها مانحًا ودّه بسخاء كتعويض، يحيطها بحنانه وعنايته تكفيرًا عن غيابه وتركها وحيدة..
نهضت متجهة للخزانة تسحب منها عباءة بيتية بينما انسحب هو للخارج يهاتف أخوته ليطمئن عليهم
هتف يونس متسائلًا حين وصله صوت رؤوف «رؤوف رجب جايبلي ورج تبع العمارة وبيجولي أمضي»
هزّ رؤوف رأسه وأجابه متهكمًا بملامحه «أيوة فين المشكلة الي مخلياك ترن من الفجر؟»
تنهد يونس بصبر ثم صرخ فيه «ما أنا رجب صحاني الفجر برضك»
ابتسم رؤوف قائلًا «ماشي ما أنت بتصحى تصلي»
هتف يونس بغيظ «بصلي وأنام وأنام» كررها ليتأفف رؤوف ويسأله بملل «أيوة عايز إيه؟ منك لرجب أنا مالي؟»
سأله يونس «أيوة أنا أمضي ليه؟ وإيه الي بيجوله رجب دِه؟»
سأله رؤوف وهو يتجول في صالة شقته الواسعة «بيجول إيه رجب؟»
أجابه يونس «إن أنا بس الي ينفع أمضي من هنا ورايح»
قال رؤوف بهدوء وابتسامة هادئة ترتسم على ملامحه «ما هي العمارة بجت بإسمك»
صاح يونس مستنكرًا ما سمع «نعم! وليه بجت بإسمي وعشان إيه؟»
أجاب رؤوف بحدّة محذرًا «وطي صوتك»
التقط يونس أنفاسه وسأله من بين أسنانه بحنق«أيوة كتبتهالي ليه؟»
جلس رؤوف مسترخيًا يجيبه بهدوء «عشان أنا عايز كِده»
صاح يونس بنفاذ صبر «مش عايز، العمارة بتاعتك ومن فلوسك تكتبهالي ليه»
صمت رؤوف دون إجابة، سحب سماعاته وتركه يثرثر ثم رفعها بعد قليل ليصله صراخ يونس الممتعض «أنت أبونا علشان تدينا فلوسك؟ »
بنبرة عاتبة أجابه رؤوف «أنا أبوكم صُح يا يونس وليا فيكم أكتر ما لعدنان..»
أغمض يونس عينيه ضاربًا جبهته بيأس، لم يقصد ما وصل لرؤوف ولا أراد أن يصله بهذا الشكل، فتح عينيه وتنهد مستجمعًا أفكاره مسيطرًا على غضبه وقال مُصدقًا على قوله «صُح يا أخوي بس دِه تعبك وشقاك يا حبيبي»
أنهى الجدال بقوله الحاسم «أنا وأنتوا واحد يا يونس ليا فيكم وليكم فيا»
حاول يونس الجدال وإثنائه لكن رؤوف قطع أفكاره وأغلق على الحروف في صدر الآخر بقوله «متكترش كلام يا يونس أنا مبحبش الرغي ويلا نازل أفطر سلام»
حضرت آيات فمنحها ابتسامته الخطيرة تحية واستحسانًا لهيئتها، وضع الهاتف في جيب بنطاله ونهض ليهبطا معًا الدرج، استقبلته جدته بذراعين مفتوحتين ودعوة بالود خالصة، تقدم رؤوف وضمها ثم ابتعد مُقبلًا رأسها بتقدير «وحشتيني يا جدة»
ربتت أرضينا على كتفه وتأملته تبادله شوقه بآخر «وأنت يا حبيبي»
جلس جوارها موزعًا نظراته في المكان قبل أن يعيدهما لكنف جدته «فين سماسم ونجاة وعدنان؟»
هبط عندنان درجات السلّم يدندن كعادته فابتسم رؤوف وحاوطه بالنظرات الدافئة حتى وصل «ازيك يا ناظر»
جاورهم عدنان مُجيبًا بحنق مفتعل «اهلا يا حبيب جدتك»
سألت الجدة آيات الصامتة كعادتها والمنعزلة دائمًا «مش هتبشريني يا آيات؟»
نظرت آيات مستنجدة لرؤوف الذي أنقذها من بحر توهتها وأجاب بدلًا عنها «كله بأمر الله يا حبيبتي»
هتفت بحزن «ونعم بالله»
لكنها سألتها بنظرة ثاقبة «مروحتيش الداكتورة تاني يا آيات؟»
ضمت آيات شفتيها وصمتت لتكرر الجدة «أمك مودتكيش لحد تاني؟»
ثبّت رؤوف نظراته فوق وجه زوجته وانتظر إجابتها مثلهم، تهربت آيات من السؤال واستفاضة الإجابة تتشبث باختصار مُنقذ «بإذن الله خير يا جدة»
مصمصت الجدة وصمتت بغير رضى لاح فوق ملامحها المتغضنة، شاكسها عدنان «ما بالراحة عالبت يا أرضينا كله بإذن ربنا ومشيئته»
استرخى رؤوف في جلسته ثم أشار لزوجته رأفةً بها من نزاع قد يعكّر صفو يومها أو تلوّث شظاياه روحها «شوفي الفطور يا آيات؟»
ابتسم عدنان بتفهّم وحنو وامتنان لصنيع رؤوف، فهذا هو ولده مُحب ومراعٍ يجود من القلب ويعطي من الروح، يحمل فوق عاتقه مراضاة الجميع وراحتهم، قالت أرضينا متنهدة «عايزة أشوف عياله جبل ما أموت»
مازحها عدنان بلطف «متخافيش عمرك طويل زي أبوكي»
ابتسم رؤوف وتابع بصمت نقار والده وجدته التي مصمصت بإستياء وضجر، ليتابع عدنان «بكره ييجو وتشليهم، صغيرين يا أما ويخلفوا دلوك»
مصمصت معترضة في ضيق «بدل ما تجوله اتجوز تاني»
استنكر عدنان قولها «واه يجيب لنفسه مصيبة تاني، اش ضمنك لو اتجوز هيخلف»
أجابته بثقة «خالك أتجوز وخّلف وواد عمي…»
قاطعها عدنان مازحًا «أيوة جيبي تاريخ العيلة كله، بعدين بت الناس إيه ذنبها يكسر جلبها ليه وخاطرها؟ مفيش فيدّها حاجة يكشفوا ويسعوا وعلى الله التساهيل»
شهقت الجدة معترضة بضيق مستنكرة قوله «واه ولدي يكشف ليه؟ إيه فيه؟ »
نهض عدنان من جلسته قائلًا «طيب خليه جنبك هي المعيوبة وهو سليم»
ابتسم رؤوف بصمت وتابع رحيل والده المتأفف المحاط بغمغماته المعترضة وغمغمات جدته الحانقة، انسحب هو أيضًا حيث حصانه، تسلل للحظيرة الخلفية باحثًا مُفتشًا عنه وجده فابتسم وصهل الحصان، اقترب منه محييًا له بلطف، يملّس فوق رأسه بحنان، ثم وضع رأسه المتعب المليء بالضوضاء فوق عنق الحصان وشرد مغمض العينين، حرك جبهته وتنهد يهمس له مُفرغًا ما في رأسه ينظّم مرور الأفكار داخلها «نظرة التوهة في عنيها مبتفارجنيش يا ونس» جملة قصيرة اختصرت وجعه ومعاناته وكأن ونس سيفهم ما به وسيعرف هويتها دون بوح
رفع نظراته للسماء فخرجت من عمق الروح تنهيدة، أعاد رأسه للأسفل وهمس لحصانه «مسكينة اتكتب عليها تلومها الناس ونفسها على الصح،هتتوه يا ونس ومتوعاش طريجها »
قطع وصلة التفكير وحديث النفس وبوحه نداء آيات «رؤوف تعالى الفطور جاهز»
ابتسم رؤوف وهمس له بوعده قبل أن يرحل«جايلك تاني يا صاحبي»
********
«القاهرة»
كل يوم يذهب للمشتل منتظرًا لها يجلس وحده يتأمل المارة ويترقب حضورها، يفتش بين الوجوه عن وجهها البشوش، يرفع رأسه ويرهف السمع منتظرًا صوتها الرقيق وضحكتها الناعمة، يخبيء حكاياته وهمومه في صندوق لا يفتحه لسواها، ربما لا يمنحها منه الكثير لكنه يُلقي عليها من حيرته ويختصها بالرأي وينتظر بلهفة رؤيتها لأمر يؤرقه، يخجل من مهاتفتها رغم أنها منحته يومًا الإذن ليفعل، حتى هاتف العمل الذي حاول الاتصال به مغلق مثل مشتلها…
خشيّ أن يسأل رؤوف عنها فيُحاصر بالأسئلة، من عمق قلبه يخرج ألم لا يرتبط إلا باسمها وذلك يزعجه كثيرًا ويمنحه الحزن على طبقٍ من قلق، يشعر أن مكروهًا قد أصابها، رمى نظراته ناحية المشتل ربما سهم الأمل يصيب هدفه، فتهلل حين وجده مفتوحًا.. ركض بحماس وضحكة انفلتت من قيود القلق، حتى وصل لاهثًا يلتقط أنفاسه بصعوبة، تأمل الباب المفتوح قبل أن يدخل باحثًا عنها كعادته، تجوّل في المكان المُريح قبل أن يرفع صوته بالسلام «السلام عليكم حد هِنا»
جاءه الرد من الأعلى «وعليكم السلام»
رفع رأسه ونظراته للأعلى متسائلًا بخيبة عظيمة وحدّة حين رأى صفوة تعتلي سلّم حديدي «فين غزل؟»
رمقته بنظرة مستاءة حانقة من حدته في السؤال قبل أن تُجيبه«حضرتك عايز حاجة؟»
مرر أنامله السمراء في خصلاته موضحًا بضيق ولهفة « لاه بس عايز أسأل عن الأنسة غزل حصل ايه؟هي فين وأنتِ بدالها هنا ليه ؟»
قالت بإنفعال وجسدها يهتز فوق السلّم بغضب واضح «أنت مالك أنا هنا ليه ؟»
دار حول نفسه حائرًا قبل أن يقف ويسألها معتذرًا عن غلظته معها «أسف والله أنا بس جلجان عليها ومستغرب دي عمرها ما عملتها»
اقترب تلقائيًا وأمسك السلّم الحديدي المهتز حماية لها محافظًا على ثباته وهو يعتذر بحزن« معلش يا أنسة بس ممكن تطمنيني عليها»
زمت شفتيها وزفرت بضيق ثم أجابته بصدق «هي تعبانة شوية »
سألها بلهفة وهو يخفض بصره في أدب «ليه ألف سلامة »
تأففت قائلة متذكرة حادث أختها «حصلها حادث»
كرر سؤال والقلق يعربد داخله «حادث إيه؟ وفين؟»
هبطت السلّم وسألته بفطنة «أنت طاهر؟»
أجابها بهزة رأس مترقبًا إجابتها التي تأخرت فهتف يستعجلها بصوت عالي يناسب قلقه « حضرتك برضو مجولتليش حصلها إيه؟»
ابتعدت متجولة في المكان ترميه بالاتهامات وقذائف العتب القاسي«إزاي متعرفش؟ وأنت السبب؟»
اتسعت عيناه صدمةً من اتهامها، خطا ناحيتها يستفسر بإنزعاج «ليه حضرتك بتجولي كدِه؟ وأنا السبب إزاي؟»
قالت بحزن «حضرتك متعرفش الحريقة الي حصلت في الدار»
هز رأسه بالرفض، الحزن يرمي وشاحه الأسود فوق ملامحه فتابعت بحسرة امتزجت بفخرها بعظيم ما صنعت أختها وهي تتابع عملها «غزل أنقذت الأطفال واتصابت هي للأسف»
لا يعرف أيثني على شجاعتها وجمال قلبها أم يحزن لما أصابها، لكنه لم يجد بجعبته اللحظة سوى سؤال واحد «هي فين دلوك؟»
أجابت حابسة عنه بكائها «في المستشفى»
بنبرة عكست ألمه وحزنه سألها «هي فأي مستشفى؟ وينفع أزورها؟»
عاد للمنزل بغضب، هاتف رؤوف وعاتبه على إخفائه الأمر عنه
«مجولتليش ليه الي حصل مع غزل؟»
أجابه رؤوف بهدوء لا يعكس أسفه ولا حزنه الرابض في قلبه على هذه الشجاعة «مجاتش فرصة يا طاهر ومرضتش أحزنك بالي حصل»
أجابه طاهر بضيق «كان لازم أعرف»
سأله رؤوف منتبهًا له جيدًا «ليه لازم؟ أنت تعرفها منين؟ وإيه علاقتك بيها؟»
برر طاهر قوله، لا يستطيع شرح الأمر له ولا وصف مشاعره تجاهها «أنا الي باعتها على الأقل اطمن عليها ، أزورها»
لم تقنع أخيه إجابته فقال بهدوء غامض «تمام يا طاهر الي حصل»
أنهى طاهر الاتصال ومازال منزعجًا يحمل قدرًا من الندم داخله، رمى الهاتف وجلس يغطي وجهه بكفيه في بؤسٍ وانكسار.
*************
في الشقة المقابلة
هتفت فيروز وهي تجلس خلف مكتبها «مش هرجع يا ماما»
حاولت الأخيرة إثنائها عن الفعل وإقناعها «لازم ترجعي يا فيروز عمك مش عاجبه قعدتك لوحدك»
نفخت قائلة بملل شديد «هو من أمتى عاجبه حاجه؟ كل حاجة عايزها على هواه وأنا خلاص مش همشي على هوى حد »
أخفضت والدتها صوتها وعاتبتها بضيق «يا بنتي عيب دا فمقام والدك»
قالت بشراسة وتهكم «بس متقوليش زي والدي»
هدأتها والدتها بحنو «يا بنتي دا مربيكي»
سخرت في نفسها من جملتها وتهكمت بفظاظة ثم أنهت الاتصال «طيب يا ماما أنا مش هرجع ومبسوطة لوحدي»
صارحتها والدتها «عمك بيقول لازم ترجعي مفيش بنت تعيش لوحدها ولو مرجعتيش زي ما جابلك الشقة عن طريقه هيطلّعك منها»
جزت على أسنانها ولعنته في سرها قبل أن تُعلّن تحدّيها «هلاقي غيرها مش هغلب»
حاولت والدتها إقناعها تفاديًا للمشاكل وحماية لها من غضب عمها لكنها قاطعتها «ماما عندي كشوفات كتير هخلصها وأكلمك سلام»
تركت مكتبها وخرجت تنظر للعيادة الفارغة ببؤسٍ وحزن، تنهدت والدموع تتجمع في عينها مهددة بالنزول لكنها التقطت نفسًا عميقًا سيطرت به على نفسها مستجمعة شجاعتها في قبضة قلبها.
صعد يونس الدرج يدندن ممسكًا بحقيبة بلاستيكية مملؤة بعلب المياه الغازية الفارغة، وضعها أمام باب شقة جارته وغادر لشقته…
بعد قليل كانت فيروز تقف أمام باب الشقة متسائلة «إيه دا مين جابه؟»
ركنته جانبًا في استياء وضجر متوعدة رجب ثم عادت لشقتها منتظرة أن يطرق بابها سمينًا أو نحيف، جلست واضعة كفها على خدها في صمتٍ وملل… من بابها المفتوح رأته يركل علبة مياه غازية تجاه شقتها فانتفضت متوعدة له بشرّ،خرجت مزمجرة وقفت أمام باب شقتها صائحة «أنت يا بشمهندس أنت»
استدار يُجيبها بكل برود وهدوء «نعم يا دكتورة الكروش»
أغاظها بروده وابتسامته المستفزة، واللقب الذي ألصقه بها فصرخت «بترمي علب الكانز قدام الشقة ليه؟ فاكرها مقلب زبالة؟»
أجابها ببراءة كاذبة «أنا لجيتك بتلمي كانزات فجولت أساعدك»
استنكرت وجسدها يهتز من شدة الغضب الذي تحبسه داخل صدرها «كانزات إيه الي بلمها؟ أنت هتستعبط؟»
سقطت نظراته كدلالة على قوله فوق الكيس البلاستيكي الموضوع أمام الشقة «اهو مش دي كانزات؟»
ركلته بقدمها متبرئة من الفعلة «مش بتاعي ومعرفش مين جابه؟»
قال بدراما يثيرغيظها «الشغل مش عيب يا دكتورة »
فغرت فمها مصدومة من قوله فتابع وهو يكتم ضحكاتها ويواريها عنها «كنتي شوفيلك شغلة تانية غير الكانزات دي»
صرخت معترضة مصعوقة من كلماته «بس بس»
قال بثبات يكتم ضحكاته بأعجوبة على هيئتها «أبجي فكريني أجبلك الفاضي من العمال في الموقع الجار للجار برضك» ابتعد خطوة ونظر للأسفل مناديًا «يا رجب»
ثم اعتدل قائلًا بأسف زائف وهو يرمق صدمتها وبلاهتها بتشفي «الكانزات برضو غالية ده الكيلو ب60»
جاء رجب راكضًا يمسك سور السلّم ملتقطًا أنفاسه وهو يستفسر «في حاجة يا بشمهندز؟»
قال يونس بأسف كاذب وهو يرمقها بطرف عينيه «الدكتورة بتجمع كانزات لما يكون عندك فاضي طلعهملها أديك شايف عيادتها بتنش كيف يا رجب »
ضرب كفًا بكف قائلًا بشفقة كاذبة «ولا واحدة جاية تخس لا حول ولاجوة إلا بالله»
صرخت مؤبخة بغضب منتفضة من ذهولها «أنت مش محترم والله»
هز يونس رأسه قائلًا ببرود «بجا كدِه ده جزاتي عايز أساعدك وبجول حق الجيرة»
صاحت لاعنة «يعلن دي جيرة مهببة على دماغك والله مش لايق غيرعليك أنت تركب عربية كارو وتلف تجمعها»
فرد جسده ورفع رأسه متفاخرًا بغرور «لاه أنا بشتغل يا دكتورة»
ثم تابع بخبث «معنديش عيادة بتنش وقرّبت أشحت»
دبدبت لاعنة تصرخ في حرقة «أنت طلعتلي من أي داهية؟»
تجاهل صراخها وأجاب بنفس البرود مستنكرًا«شوف يا أخي الدكاترة خيرًا تعمل فيهم شرًا تلجى»
تابع رجب ما يحدث بإستمتاع وابتسامة بلهاء، ينقّل نظراته بينهما متحمسًا، يحفظ كل ما قيل ليتلوه على مسامع رؤوف.
صرخت في وجهه متوعدة له، ناقمة عليه ومغتاظة منه بشدة «وربي لتشوف وهردهالك»
دخلت وضربت الباب في وجهه فانفجر ضاحكًا مُعجبًا بصنيعه، ثم استدار يحذر رجب «طبعا أنت لا شوفت ولا سمعت؟»
ابتسم رجب قائلًا وهو يحك خصلاته من تحت الطاقية «مش عارف والله يا بشمهندز»
أخرج يونس ورقة من فئة المائة جنيه ومنحها له قائلًا «كدِه تعرف يا رجب دلّع نفسك بجا»
فردها رجب وقلّبها مندهشًا «واه دِه الموضوع واعر على كِده؟»
ربت يونس على كتفه قائلًا «هبهرك بس خليك معايا على الخط»
دسها رجب بجيبه شاكرًا «شكرًا يا بشمهندز»
عاد يونس لشقته مدندنًا بينما هبط رجب للأسفل، بعد قليل نهض يونس من رقدته المسترخاه أمام التلفاز على رنين هاتفه، حين قرأ اسم المتصل قال متوعدًا «والله يا رجب لو كان الي فبالي لأنزل أطلّع الميت جنيه لو في كرشك»
وضع الهاتف جواره متهربًا من الإجابة وتابع وضع حبات الفشار بفمه مسترخيًا حتى ملّ رؤوف من الاتصال فأرسل له رسالة صوتية عاجلة، فتحها يونس «أنت يا زفت ينفع الي عملته ده، أنت صغير يا يونس؟ إيه شغل العيال دِه ومع مين مع بنت؟ احترم نفسك بدل ما هاجي أكسّر دماغك دي وأنت عارف»
رمى يونس الهاتف ونهض منتفضًا يتوعد رجب، فتح باب الشقة وهبط لاعنًا في نقمة حارس العقار المتواطئ
وقف في مدخل العمارة وصاح بغضب «أنت يا رجب»
خرج الرجل راكضًا يلبي «أيوة يا بشمهندز»
فاجئه يونس بطلبه وهو يفرد كفه «هات ال100جنيه»
سأله رجب مراوغًا له «أي 100يا بشمهندز؟»
سخر منه يونس بغيظ «الي ادتهالك هاتها علشان غيرت رأيي»
حكّ رجب فروته مُفكرًا بينما هتف يونس من بين أسنانه بغيظ بلغ مداه «جاسوس حقير يا رجب هات فلوسي»
راوغه رجب مبررًا فعلته «يا بشمهندز أنا جبت بيها لبّ »
تنفس يونس بعمق قبل أن يهتف «خلاص هات اللب هتسلى بيه »
سأله رجب يلعب على ضميره بإنكساره «هتاخده مني يا بشمهندز»
حذّره يونس بنظرة متشفية «لو مجبتهاش هدخل دلوك أجيبه يا رجب»
انسحب رجب للداخل مغتاظًا، جلب له الحبّ ومنحه له قائلًا بانكسار زائف وعتب خبيث «خد يا بشمهندز»
أخذه يونس وصعد للأعلى قائلًا «هتعيش وتموت جاسوس يارجب»
ضرب رجب كفًا بكف وهو يعود لحجرته متعجبًا يهز رأسه مندهشًا من جنون يونس.
***************
«في المدرسة بقنا»
جلست صامتة شاردة الذهن بين زميلاتها كعادتها، لا تشاركهن الثرثرة ولا تتدخل فيما لا يعنيها نائية بنفسها وعقلها عن المهاترات الفارغة، عندها من المعاناة ما يستحق أن تفكر فيه ولا تنشغل بصغائر الأمور المُرهقة والمُشتتة، طلبت زميلتها وهي تنظر لما أحضرته آيات لفطورها «جيبي واحدة يا آيات من القرص الحلوة دي»
ابتسمت آيات ومنحتها لها بودّ، فتناولتها الأخرى وقلّبتها أمام نظراتها مستحسنة قبل أن تقضمها وتتذوقها مرتشفة بعدها من كوب الشاي «جميل يا آيات الله أكبر ما تجوليلي الطريجة»
ثم تشممتها قائلة «ده باينلة بالسمن البلدي»
أجابتها آيات «مش أنا الي عملاه دي عمتي هبجا اسألهالك لما أرجع»
مصمصت زميلتها قائلة بغبطة «كمان عمتك الي عملاه؟»
أجابتها آيات وهي تلملم دفاتر الطالبات وتنظمها أمامها «بتعملها لرؤوف علشان بيحبها»
هتفت صديقتها وهي تقضمها بشهية «حلوة جوي تسلم يدها والله»
ابتسمت آيات قائلة «بالهنا يا عايدة»
مالت عايدة ونصحتها بود «بجولك يا آيات ما تروحي عند عطارة الحاج فقنا وتجوليله يديكي حاجة للحمل»
قالت آيات ممتعضة من الاقتراح «عطارة إيه يا عايدة وزفت إيه؟»
أجابت عايدة بعدما ارتشفت من كوب شاييها واعتدلت تهمس لها «يا خايبة جربي بدل العلاج، بعدين بيجولوا وصفاته حلوة وبتجيب نتيجة»
تنهدت آيات وابتسمت قائلة متهربة من النقاش العقيم والذي سيؤلم رأسها دون فائدة تُرجى منه «ربنا يسهل لما أروح»
بعد إنتهاء العمل عادت فوجدته في الحظيرة الخلفية يقف في منتصفها عاري الصدر وحصانه يدور حوله، وقفت تتأمله لدقائق، تتابع بنظراتها أفعاله ومحبته لحصانه، ركضه خلفه ثم اعتلائه له وانطلاقه به بين الحقول الواسعة التي يملكونها، اختفى فدخلت المنزل مُلقية السلام على ساكنيه، هتفت سماسم بحنو «آيات غيري هدوم الشغل وتعالي خدي الغدا للغالي فوج»
قطبت آيات مستفسرة «هو متغداش؟»
عبست الجدة بغير رضا من سؤال آيات وأشاحت زافرة منها بقنوط، بينما قالت سماسم بصبر «لاه يا حبيبتي جال هيستناكي»
هزت رأسها بالموافقة ثم اعتلت الدرج لشقتها، بدلت ملابسها بأخرى بيتية ثم أدّت فرضها واستعدت للهبوط، قبل خروجها وصلتها رسالته القصيرة المختصرة «عايزك»
تنهدت دون تعليق، قرأتها وصمتت مُفكرة، رؤوف تعوّد أن يُعلِمها قبل لقائهما، لا تعرف يريدها أن تتهيأ له أو تستعد نفسيًا لقبوله، يكره مفاجئتها أم يخبرها أنه يريد حقه برضا تام وقبول منها، حقًا لا تفهمه ولا تفهم علاقتهما
هل يستأذنها أن تمنحه القليل من وقتها؟
أم تتجرد من بؤسها ورفضها وتتقبله لأنه يحتاج إليها؟
لو تفهمه؟ إن فهمته ستتحرر من قيودها وتتقبل عاطفته ؟
في تلك الليلة التي استيقظت فيها باكية، حين اقترب منها رفضته،كان أول مرة يندفع دون إعلامها مدفوعًا بعاطفته فانتبذت بعاطفتها مكانًا قصيا وهزت جذوع الذكريات فتساقط عليها الأسى، بكت بحرقة لا تريد، صدته عنها صدودًا ورغم ذلك تقبّله منها وعذر، ربت عليها بحنو أبٍ وابتعد،هجر فراشها بعدها حتى الصباح.
هبطت الدرج بسرعة حتى وصلت للمطبخ، سحبت صينية ورصّت عليها أطباقه المخصوصة والمعدّة له كما يحب ويفضل، رأته يدخل من باب المنزل يرتدي تيشرته القطني الأسود على عتباته، التقت نظراتهما
فابتسمت كتحية لقاء وموافقة على رسالته، تجاهل وتخطاها للأعلى لا يعرف أكانت ابتسامتها مهزوزة بالإرغام أم حقيقية من يقين القلب.
أنهى حمامه وتمدد ينتظر ظهورها فجاءته تمشي على استحياء ترتدي قميصًا ناعمًا ابتاعه لها تلك المرة حين غاب، سألته «مش هتتغدى؟»
أجابها بهدوء وصبر «لاه… تعالي»
قالها وفرد ذراعه اليمنى في دعوى فابتسمت ابتسامة تائهة بين المشاعر ولبّت في صمت..
بعد مدّة كان يخرج من الشقة تابعته بنظراتها وهي تعقد حزام مئزرها حول خصرها، سألته مرةً أخرى «رؤوف مش هتاكل..؟»
أجاب لا يمنحها ملامحه أو وقوفًا للحوار «لاه»
رأته يصعد للأعلى راكضًا، تاركًا كل شيء خلفه لكنها لا تعرف لما قرر الآن أن ينعزل بخلوته..
الدور العلوي مخصص له، لا يصعد أحد ولا يدخله أحد فقط سماسم الوحيدة المسموح لها بتنظيفه وترتيبه كل فترة.
ينعزل لا يكلّم أحد ولا يكلمه أحد لفترة وحده من يعرف مداها.
**********
«القاهرة»
لم يكن ذهابه هينًا على نفسه ولا يعرف حتى الآن حجم إصابتها أو ضررها من ذلك الحادث، قلبه لا يسمح له بالانتظار حتى خروجها وعقله لا يستوعب الكارثة التي حلّت عليها وكيف سيراها هكذا من الأساس، قطع الممر بخطوات ثقيلة مترددة حتى وصل للحجرة طرق بابها بشيءٍ من الاضطراب والتردد وانتظر، فتحت له صفوة التي عبست غير راضية عن وجوده لكنه متّخم بالمشاعر الآن التي تجعله لا يستوعب الواقفة أمامه ولا ضيقها
«ازيك يا أنسة؟ أنا جاي أطمن على غزل»
أجابته بإقتضاب ومازالت واقفة ترفض دخوله ولا تتقبل زيارته لكونه غريبًا «هي بخير..»
نظر للورود الحمراء التي بيده وعلبة الشوكولاتة التي أخبرته يومًا أنها تعشقها وقال بأمل «ينفع أشوفها بنفسي لو سمحتي» تدثرت نبرته بالرجاء فقالت مشفقة عليه «تمام هشوفها»
استدار يعطي الباب ظهره يهمس داعيًا أن تتقبل وجوده وتوافق على مقابلته، يريد الاطمئنان عليها والإعتذار منها
يشعر أنه يحتاج لأن يطلب مسامحتها فليته ما طلب منها الذهاب، رفضت أن تأخذ الأجر وتقبلت الجرح
تحلّت بالإنسانية لأخر قطرة قوة في روحها، كيف لقلب صغير بحجم قبضة اليد أن تسع رحمته يتامى أبرياء.
تنهد منتظرًا بلهفة،حتى خرجت صفوة مُعلنة «اتفضل يا أستاذ طاهر»
دخل بحياء، يخفض نظراته أرضًا راميًا عليها السلام كعادته، مال فمها بشبه ابتسامة وهي تراه أمامها لكن الحزن يخبيء وسامته خلف ستائره السوداء، حمحم قائلًا «ازيك يا بشمهندسة ألف سلامة عليكي»
قالت بضعف لا يليق بها «ازيك يا طاهر»
سمح لنفسه أخيرًا بأن يراها، أطلق نظراته تغتنم من ملامحها ليطمئن فعادت محملة بالخسائر الفادحة، ارتبك قليلًا واضطرب بغير هدى لكنه تماسك ومنحها الورد قائلًا «اتفضلي»
اتسعت ابتسامتها حين ضمت الورود وتشممته، تنهدت براحة ثم قالت بود «اقعد يا طاهر»
جلس فوق كرسي قرب فراشها بصمت بعدما منحها الشيكولاته، بينما جلست صفوة قريبا منهما تتابع بصمت..
رفع نظراته على استحياء يتأمل ضمادة الخد والصدغ بحزن وجانب الرقبة الواضح رغم حجابها، أغمض عينيه بأسى قبل أن يعتذر منها «أنا أسف يا غزل لو أعرف هيحصل كِده مكنتش طلبت منك؟»
هونت عليه متفهمة «مش ذنبك ولا ذنب أي حد يا طاهر دا قدر ونصيب»
أوجعه الحزن في نبرتها وانطفاء شعلة مرحها، ضعفها الواضح ونزاع روحها ما بين الندم والتقبل،فقدت جزءًا من روحها لن يعود، صمت وصمتت هي منعزلة شاردة نهض بعد قليل مستأذنًا فسمحت له على مضض، خطا ناحية باب الحجرة أمسك بالمقبض ووقف قائلًا «أنا فخور بيكي يا بشمهندسة واسمحيلي اطمن عليكي تاني»
قالها وخرج يسابق الريح،فضمت غزل الورود الحمراء متنفسة رائحتهم باكية
وقفت صفوة جوارها تملّس على رأسها مهدئة لها بكلمات دافئة حنونة حتى هدأت قليلًا وتمددت حاضنة الورود مغمضة العينين هاربة لفضاء الخيال الواسع حيث لا بكاء ولا وجع ولا عويل.
********
«بشقة يونس»
انكمش بالصالة الواسعة فوق أريكة منعزلة نسبيًا، يزفر بضيق وسأم، أفكاره لا تتصل بل تنقطع بمقص القلق، كلما حاول تهرب الكلمات وتتبعثر خواطره، لا يتذكر سواها وتشوّه جانب وجهها ونبرتها الكسيرة، والألم الذي رصف طرق عينيها تمهيدًا لمرور الأحزان وإقامتها الدائمة، عيناها الجميلة التي كانت ساحات واسعة من الفرح والسعادة والتألق، انطفأت زينتها بالفزع وتحولت لخراب تسير فيه مئة عام لا تصل لأخره.. روحها فارقتها دون رجعة هائمة في ملكوت آخر تجهل العودة ويخونها الطريق.
رمى الأوراق والأقلام جانبًا ورفع هاتفه يلوذ بحصنه المتين يُغرق نفسه في نهر العطاء الذي لا ينضب
حين أجابته بصوتها المُحب الذي يضمه عوضًا عن الذراعين، همس بتهدج «أما»
انتفضت تسأله بقلق وإنشغال عليه«مالك يا طاهر مالك يا حبيب أمك»
صمت قليلًا يسيطر على حزنه بعدما منحه صوتها الحنون الإذن بإفراغ ثقل قلبه، ورمي حموله على كتفيها بعدما أرهقه السير وحده والكتمان، يحق له الإنهيار الآن باطمئنان و دون إدعاء كاذب للقوة..
ربتت بأحرفها على قلبه الموجوع وضمته بكلماتها «حبيب أمك ايه وجع جلبك كدِه؟»
التقط أنفاسه واستجمع قواه موضحًا «فاكرة غزل يا أما الي حكتلك عنها؟»
أجابته بصبرٍ وحنو بالغ محتوية له «أيوة فكراها هو أنت بتحكي غير عنها يا حبيبي»
أوضح بنبرة منهزمة تغالب بكاءً حقيقيًا «بعتّها تشتغل في الملجأ ، حصل فيه حريجة جامدة يا أما وغزل أنقذت العيال واتأذت هي جوي يا أما »
سمح لنفسه ببعض الانهيار ليستعيد توازنه وتعتدل كفتي ميزان مشاعره..
فقالت متأثرة تشاركه الحزن «يا حبيبتي يا بتي ألف سلامة عليها»
بكى طاهر بلين قلب وشفقة وهو يخبرها بتلعثم «وشها يا أما اتشوه زي روحها، حزينة وعنيها مليانة دموع، خايف عليها من الوجع ومن ندمها»
هبطت قطرات من دموعها على كفها لا تقوى على الصمود وهو بتلك الحالة المزرية التي قليلًا ما يحياها ولا يفعلها إلا لعزيز، شاركته البكاء قائلة «سلامة جلبك وجلبها يا حبيب أمك»
مسح دموعه واستنشق بقوة ثم وصاها «ادعيلها يا أما تجوم منها»
قالت بصدق «هدعليها يا طاهر»
قال طاهر موصيًا لها «اعمليلها رز بلبن ووزعيه صدقة عندك يا أما زي ما كنتي بتعمليلنا زمان لما نعيا أو نزعل»
مسحت دموعها المتساقطة ووعدته بصدق «حاضر يا حبيبي لجلبك ولجلبها يا زرعة العمر»
ابتسم طاهر ببهجة خاصة تمنحها له كلما نادته بزرعة العمر، مسح دموعه وسألها «كيفه رؤوف يا أما كويس؟»
أجابته بتنهيدة حزينة وأسف عمّر القلب على المنطوق اسمه «زين يا ولدي»
سألها باهتمام «صحته كويسة؟»
صارحته بشكها «جاي مش هو يا طاهر، وطلع بجاله يومين فخلوته، ربنا يريح جلبه ويكفيه شر الهم»
همس طاهر بحزن «تعب هنا يا أما ومعارفش كان في الحريجة ولا لاه»
ضربت صدرها بأسف وجزع «يا ضنايا يا ولدي»
قال طاهر بعاطفة أخوية صادقة «أبجي طمنيني عليه يا أما، هسيبك دلوك يونس جه»
قالت متفهمة أنه لا يريد أن يظهر لأحد انهياره ولا يفصح عن حزنه «ماشي يا حبيبي مع السلامة هكلمكم تاني لما تروج»
جلس يونس ملتقطًا أنفاسه يسأله بحنو «عامل إيه يا طاهر؟»
أجابه بابتسامة رائقة بعدما بددت كلمات والدته حزنه وأعادته لتوازنه ورممت شروخه «تمام»
سأله يونس باهتمام ونظرة مُراقبة لانفعالات الأخر «متأثر جوي ليه كدِه؟»
صارحه طاهر بجدية وهو يلتقط الأوراق «صعبانة عليَّ يا أخوي»
ابتسم يونس متفهمًا «نصيبها ربنا يشفيها» صمت طاهر فقال يونس وهو يضيّق نظراته فوق وجهه «يكنش بتحبها يا واد ومداري عننا»
ارتبك طاهر من سؤاله وتزاحمت المشاعر في قلبه مُحدثة الصخب والشتات فصفّهم داخله وأعاد ترتيبهم قائلًا «حاسس بالذنب وزعلان عشانها»
ضحك يونس مشاكسًا له «ما هو دِه الحب»
صارحه طاهر بجهله صادقًا لا يتهرب ولا يتصنع «مش عارف يا يونس إيه هو الحب..؟»
نزع يونس قميصه قائلًا بإمتعاض «جوم طيب سخن غدا بلا حب بلا زفت»
ابتسم طاهر واضعًا الأوراق جواره ونهض قائلًا «ماشي غيّر هدومك يلا وتعالى»
******
«بقنا»
بعد صلاة الفجر كان يقتحم عدنان خلوته غير مهتم ولا يبالي برفض ابنه ، جلس متربعًا فوق الكليم المفروش أرضًا ونادى «أنت يا واد أمك»
ابتسم رؤوف وخرج مُلبيًا يستقبل والده الذي قل ما يصعد، رحّب بوجوده وانحنى يلثم ظاهر كفه بتقدير «يا مرحب يا أبوي»
نظر عدنان لسطح المنزل المُجهّز والزروع الكثيرة فيه، ثم استنشق رائحة الريحان المنتشرة وزفر قائلًا «الله.. الله»
مرر عدنان نظراته يتأمل سطح البناية المقسم لجزئين جزء يوجد به حجرتين منعزلتين وجزء مكشوف سقفه تغطيّه الأخشاب المثقوبة تدعمها أعمدة من الخشب تتسلقها الأشجار المورقة الخضراء.
جاوره رؤوف متربعًا يحذو حذوه قائلًا «اعملك شاي يا أبوي»
رفض عدنان قائلًا «مبشربوش الصبح غير من يد أمك »
ابتسم رؤوف وصمت فأولاه عدنان اهتمامه وسأله بحنو «مالك جاي مش بخير»
أنكر رؤوف قائلًا «أنا بخير مفيش»
سأله عدنان بنظرة مهتمة ثاقبة تسقط فوق بعض الحروق المتفرقة على ذراعيه «أمال إيه دِه؟»
أجابه رؤوف وهو ينظر للحروق «بسيطة يا أبوي»
ربت عدنان فوق كتفه مستفسرًا بحنو «شايل فوج طاقتك ليه وبتلفّ في الساقية ، أخواتك كبروا راعي أنت لنفسك وصحتك»
صمت رؤوف دون إجابة فتابع عدنان متفهمًا «عارف إنك بتتدفى بيهم وإنك ربيتهم، بس متشغلش نفسك بيهم وتنسى نفسك»
سأله رؤوف «احنا كبرنا يا أبوي هتبطل تشغل نفسك بينا؟»
ابتسم عدنان ابتسامة واسعة وقال «لاه»
شاكسه رؤوف «عايزك متخدش بالك غير من نجاة وتراعيلها هي بس»
ضربه عدنان على خده مستنكرًا بمزاح «بتلف وتدور يا متر وأبوك مش جاضي جدامك »
سحب رؤوف كف والده ولثمه بتقدير فنصحه والده «جدك علّمك تشيل كل الهموم وحدك وتراعي للي حواليك وعينك عليهم بس معلمكش إنك متنساش نفسك وإنها ليها حق عليك»
قطب رؤوف بصمت فنصحه والده «خد آيات وروح بيها مكان اتفسحوا»
قال رؤوف بملل وضيق «آيات مش عايزة ولا أنا أجدر أسيبكم»
ابتسم عدنان موضّحًا «مين جال مش عايزة وبعدين احنا مش صغيرين»
أوضح رؤوف وهو يشرد في شروق الشمس «آيات مبتحبش تسيب شغلها ولا تبعد عنه»
قال عدنان بحدة «تحب غصب عنها طالما أنت عايز، آيات غلبانة وطيبة يمكن عايزة بس مبتتكلمش، هديها أجازة وخدها وامشي فك عن نفسك وعنها»
راوغ غير راغبٍ في الأمر « معايا شغل لما أفضى»
واجهه والده بشكه «لسه بتدوّرعليه»
صمت رؤوف مُفكرًا لكنه حسم الأمر وأجاب صراحةً وهو ينظر لكفه العليلة ويتلمس بالكف الأخر موضعًا في رأسه بمغزى «ومش هسيبه يا أبوي»
قال والده بأسف وإشفاق «ربنا مبينساش يا ولدي ولو نسينا، شيله من رأسك عشان ترتاح ربنا هياخد الحق»
هتف بإصرار ونظرة متوعدة «لاه يا أبوي ربنا برضو شرّع القصاص»
تنهد عدنان بيأسٍ وصبر ثم قال «الي راح مكانش هيّن عارف ولايتنسى، عزّ عليا الفراق زيك ولسه جلبي ناصب العزا بس يا ولدي تايه أنت في الدنيا ومش مرتاح»
طمأن والده وهو يخفض بصره لكفه «هرتاح لما الاقيه جدي وصاني ووصيته واجبه»
تأوه عدنان متأسفًا وبنبرته بعض العتب «الله يرحمك يا أبوي الله يرحمك»
نهض عدنان مستسلمًا يقول بحنو «انزل أفطر معانا»
تنفس رؤوف الهواء الطازج وزفره معترضًا «لاه هفطر هِنا يا حبيبي»
لوّح عدنان يائسًا منه وهبط منزعجًا من عناد ابنه داعيًا له بالهداية.
**********
«قنا منزل تماضر»
في منتصف الليل كان يقف أمام المنزل مفترشًا سجادته يقيم الليل بخشوع ويبتهل في تضرع، يتلو الآيات بصوتٍ عذب ويدعو بنفسٍ راغبة أخر زادها من الدنيا الدعاء، يجلس هائمًا بنظراته في السماء..
جاءه عبود وجلس جواره بصمت يسبح الله كثيرًا ويحمده، ابتسم حامد وكرر معه التسبيح حتى صمت عبود قليلًا وقال بعدها «النار يا حامد بتاكل الجلوب برضك ، وأذاها جوا زي بره»
صمت حامد مستمعًا لهذيان عبود وكلماته التي لا يفهمها أحيانًا فيصبر ويستمع بإصغاء رفقًا وحنوًا.
نظر عبود لعينيه بقوة ثم أمسك بكفه قائلًا كأنما صدق العالم فيه «النار تاكل وتداوي يا حامد، تحرق يا ولدي بس كمان بتكوي عشان الجروح تخفّ والعلّة تروح»
ترك كفه ونظر للسماء قائلًا «جلب يتكوى عشان جلب يخفّ، وجلب كفّر عشان غيره يرضى »
صمت حامد فقبض عبود على كفه بقوة وجذبه إليه بحزم وشدّه ثم قال «يوم ما تجيك الترضية اجبلها يا حامد»
قطب حامد بصمت فترك عبود كفه ونهض يتعكز على عصاه مغادرًا تاركًا كلماته تدوي بأذنه «يوم ما تسامح جلبك هيكونلك مراية تشوف بيها يا ولدي»
تنهّد حامد وعاد لصلاته وذكره بخشوع.
#انتهى