الفصل الثامن
دللت جسدها بحمام دافيء ثم جلست أمام التلفاز تحتسي كوب شيكولاته ساخن يربت على مزاجها ويدثرها ببعض الاستمتاع، ابتسمت على بطل الفيلم الذي تتابعه منشغلة ومنغمسة في المتابعة، حتى أضاء مصباح الصالة فجأة فغطت وجهها مستاءة من اقتحام الضوء عزلتها وكشفه ستر خصوصيتها، ابتسم قائلًا «يا هلا ببنت عمي الهربانة»
كظمت غيظها وأزاحت ذراعها بقوة متحدية الضوء ومشاعرها وهذا الواقف أمامها، حدقت فيه بنظرة حادة وهي ترمي ترحيبها بوجهه كبصقة «اهلا..»
قال ببرود وهو يقترب منها مثيرًا حنقها وغيظها «دي برضو مقابلة تقابليها لجوزك مفيش حضن ولا بوسه ولا وحشتني ؟»
نهضت عازمة على تركه والإحتماء بالجدران، كان أسرع منها، حسب خطواتها واستعدّ مخمنًا حركتها التالية، قيّد ذراعها وسحبها لصدره فشهقت بوجل سيطرت عليه وقالت «عايز إيه ابعد عني»
قال وهو يحاول تقبيلها عنوة «وحشتيني»
وضعت كفها فوق فمه رافضة نافرة «سيبني وابعد عني»
زادته فعلتها غضبًا وغيظًا وإصرارًا أمسك بكفها وضغط عليه بشدة حتى ارتجفت حدقتيها ولاح الألم فيهما وتكاثر لكنها لم تنطق صمتت بقوة وتحمّل واستلذ هو برؤية عذابها واضطراب أحرفها دون إفصاح.. خفف الضغط وابتسم قائلًا «مش هترجعي أظن خدتي كل وقتك»
نظرت إليه بقلق وخوف قبل أن تقول بتوتر «لا لسه»
مال ولثّم خدها عنوة رغم نفورها تحملت وهي تعرف نتيجة رفضها وتأثيره على والدتها المريضة... أغمضت عينيها تحمي تأثير تقززها، تنفرد بالنفور في نفسها.
تجول بشفتيه على وجهها المحتقن بالغضب والمرتجف من شدته، وهو يهمس «أنا أسف مش هتتكرر يا فيرو، ارجعي وأوعدك كل حاجة هتتغير»
لم تعد تتحمل أو تطيق ثارت نفسها رافضة الهوان والذل، دفعته صارخةً بقوة نابعة من صميم الروح المشوهة بأفعاله «مش هرجع واتغير بقا متتغيرش أنت حر، ولو مطلقتنيش هخلعك»
ابتسم بشر وهو يقترب منها ببطء، راقبت حركاته بخوف لا يفارق القلب حين تراه،
التقطت أنفاسها وثبتت بتحدي وقوة، قيّد ساعدها ولواه خلف ظهرها ثم دفع جسدها للحائط فشهقت متألمة من شدة الارتطام وقوته وضع خدها على الجدار وضغط على رأسها قائلًا من بين أسنانه «عايزك تروحي المحكمة وتعمليها وأنا أقتلك قبل ما ترجعي منها»
سيطرت على دموعها بقوة وصمتت لا تقوى على الحديث لو فعلتها لانهار تماسكها كله، هدأ قليلًا وخفف الضغط من على ذراعها، ضمها بقوة قائلا بعدما حررها من قيد عنفه«أنا بحبك يا فيرو مقدرش أبعد عنك»
ارتجفت من جنونه وتقلباته، كتمت فمها بكفيها لئلا يخونها وواصل هو «ارجعي يا فيرو ومتعنديش»
حرر خصلاتها من قيدهم وتخللها بأنامله، فصرخت رافضة نافرة وشاعرة بالتقزز من لمساته، دفعته بقوتها وهربت من أمامه لكنه لحق بها في غضب أعمى.. صفعها بقوة أوقعتها أرضًا، ثم انحنى مُقيدًا بقبضته خصلاتها ليتحكم فيها ثم ضرب رأسها في الحائط فصرخت متأوهة تلعنه وتسبه تضربه بإنهيار وصراخ،تقاوم بكل ما أوتيت من قوة لولا دخول والده اللحظة لما رحمها
دخل والده فهتف رافضًا منفعلًا مستنكرًا «فهد»
جفل من هتاف والده، حرر خصلاتها فنهضت واقفة تصرخ فيه«مش هسيبك والله المرة دي هنزل أعمل محضر وأخلعك» زمجر بغضب فهرول والده بعصاه وقف بينهما حائلًا «ادخلي أوضتك يا فيروز»
دخلتها وأغلقت خلفها وهي تتوعده بالويل والعذاب، بينما صاح والده به وهو يدفعه في صدره «اتجننت مين قالك تيجي دلوقت؟ أنا مش نبهت عليك تستنى»
قال بحدّة وغضب «بتقولي هخلعك؟»
تأفف الرجل من أفعال ولده وزعق بغضب شديد من تهوره وجنون أفعاله «أنت جاي تصالحها بتضربها ليه؟»
قال بعصبية شديدة «هي الي استفزتني»
دفعه والده لا طاقة له بجدال «امشي غور لما أشوف أخرة الي هببته دا إيه»
رفض التحرك والمغادرة فصاح والده بغضب «بقولك امشي ومتجيش غير لما أقولك»
غادر لاعنًا فجلس الرجل مستغفرًا يدعو له بالهداية.
أما هي فسمحت أخيرًا لشهقاتها بالتحرر ولإنهيارها بالإنفلات، وقعت أرضًا تشهق وتبكي من عمق الروح والقلب بأحشاء تتمزق بأيادي الذل.
******
كان شرطها أن تأخذ صفوة تشاركها تلك النزهة، رضخت صفوة ممتعضة ضائقة بتلك العلاقة التي لا تندرج تحت مسمى واضح ومن اطمئنان أختها لطاهر، لا يعجبها ما يحدث ولا يروقها الأمر حتى أنها شكت أن غزل تركت خطيبها لأجله فكيف تبادر بالترك والتخلي وهي من اختارته بتصميم..طاهر لم يجاورهما قط، كان يسير أمامهما كمرشد سياحي وهما خلفه ، يترك مسافة فاصلة ويتحلى بالاحترام، لا يتخطى حدوده ولا يتسلق سورًا ضُرب بينهما من حياء واحترام، يشير ويتحدث ويشرح ويضحك مكتفيًا بسماعهما له، يدفع بسخاء ويشتري الهدايا بمحبة وافرة.. لأول مرة ترى أختها سعيدة منذ ما حدث و متفاعلة، تمرح وتلهو دون همّ يقيدها أو حزن يأخذ برأس مرحها ويجره لتراب الفقد.
جلسوا أخيرًا في مطعم اختاره طاهر، جلس منفردًا وتركهما على راحتهما بعدما وصى لهما بالطعام... أكلت غزل بشهية منذ زمن وبقيت صفوة صامتة تراقبها بفرحة..
حين أعجبها الطعام هتفت بمرح «الأكل يجنن يا صعيدي» هز طاهر رأسه ضاحكًا وعادت هي للطعام لا يغلق الهم لها شهية ولا يعبث بأفكارها ويشغلها عن الاستمتاع.
أوصلهما للسيارة وغادر.
عادت للمنزل مقررة أن تقبض على تلك السعادة بين جوانحها وتغادر، ستُبقي عليها وتودِعَها في حقائب الروح ثم ترحل.. تلك هي الصورة التي تريد أن تبقى عليها، سعيدة ومتحمسة.. ودّت صفوة لو سألتها عن عبد الرحمن وقرارها النهائي لكنها خشيت أن تُكدرها وتلوث سعادتها بالذكرى، صمتت تستمع لثرثرتها عن اليوم وإعجابها بالأماكن والطعام.
طرق والدها الباب مستئذنًا الدخول فسمحت له بانطلاق، ابتسم حين لمح بريق عينيها يعود لموطنه..«عاملة إيه يا حبيبتي؟»
أجابته بحيوية «زي الفل»
تعجب من أمرها ظنها ستبكي وتنعزل ناسجة حولها شرنقة الحزن لكنها عادت لمرحها كأن شيئًا لم يكن «لسه مصممة تسافري؟»
أجابته «أيوة يا بابا وياريت متناقشنيش»
اقترح والدها ببعض القلق «خدي أختك معاكي»
اعتذرت منهما قائلة «محتاجة أبقى لوحدي معلش»
حاول والدها الحديث ومعارضة قرارها لكنها قاطعته بلطف «عشان خاطري يا بابا أنا محتاجة السفرية دي»
تنهد والدها بإستسلام وقلّة حيلة قائلا «ماشي يا بنتي خلي بالك من نفسك»
اندفعت تجاهه شاكرة فضمها داعيًا «ربنا يريح بالك يا بنتي»
تركها تستعد لسفريتها وغادر لحجرته.. ساعدتها صفوة بحزن فهي لم تعتد بعد فراقها ولا تستسيغ رحيلها وحدها هكذا ببساطة، شعرت بها غزل فضمتها موضحة «متزعليش أنا محتاجة السفرية دي بإذن الله أرجع أحسن»
ضمتها صفوة دامعة العينين قبل أن تخرج وتتركها وحدها، وضعت غزل الهدية في الحقيبة بعدما نظرت إليها هامسةً «يا صاحب الهدية من العدل أعرفك ومن الظلم إني معرفكش»
جلست متنهدة، أمسكت بهاتفها وأرسلت لطاهر «يوم حلو يا طاهر بجد شكرًا على كل حاجة يا أحسن صعيدي في الدنيا، خلي مامتك تدعيلي يا طاهر الي تخلف وتربي حد زيك أكيد قلبها نقي، متقلقش عليا هبقى أحسن وهرجع وأدوشك»
تركت الهاتف جانبًا وارتمت فوق الفِراش فاردة ذراعيها تهمس لنفسها بكلمات الرسالة وداخلها يوقن أنه هو صاحب الهدية، أعجبتها كلماته ومست شغاف قلبها، سقطت في العمق واستقرت فتوهجت دون إرادة، ما بال كلمات هذا الرجل تروى، تتشربها جذورها فينبت الفرح وتتألق السعادة بنضارة، دقاتها تترنم وتتمايل كأعواد الورد على نسمات كلماته.. بأحرفه دفء جديد عليها وحنان لا تعرف له مثيل.. أحرفه تخترق تتغلغل وتتعمق دون إرادة،وتستقر في أعماق الروح..
ضمت جسدها بذراعيها متثائبة تهمس قبل أن تغمض عينيها «قلبي بيبعتلك السلام يا صاحب الهدية»
**********
«قنا»
دخل رؤوف الشقة بهدوء ثم أغلق خلفه وولج للداخل في صمت، تعمّد أن يتأخر في المجيء حتى وقت نومها، وضع حقيبته وعلّق مفاتيحه ثم سار بإتجاه الصالة لكنه تفاجأ بها مستيقظة أمام التلفاز.
رمى سلامه محمحمًا يعلن عن وجوده، فأجابت سلامه وهي تنتفض واقفة نظراتها تستفسر وتندهش من وقت رجوعه غير المعلوم والمحدد كالعادة.
شملها بنظرة متأنية قبل أن يجلس بإرهاقٍ وتعب، فهمست «حمدالله على السلامة يا رؤوف» أجابها بخفوت وهو يرفع نظراته عنها زاهدًا «الله يسلمك»
اقتربت قليلًا تسأل «احضرلك حاجة تاكل»
عادت نظراته إليها مرةً أخرى تتأمل،زوجته تددل نفسها في غيابه أكثر من وجوده،فتح ذراعه ودعاها بإبتسامة حنون مبادرًا هو بالمودة «تعالي»
تراجعت خطوة متوترة أمسكت بمئزرها في اضطراب ملحوظ وسارعت بإرتدائه في قلق امتزج بخوف شعر به ثم جلست جواره بعدما تبخر حنوه ونثرت رياح الخيبة شوقه، ظل ذراعه مفرودًا في جفاء تسرّب لقلبه حين قرأ فعلتها.
تيبس جسدها خوفًا وتحفزًا، لم تقترب ولم تبتعد حافظت على مسافة بينهما كسور عالي... ضمها بإجبارٍ من العقل، ما أحب أن يحرجها بعدما طلب، لم تكد تستقر شفتيه فوق جبينها حتى سحبهما ملسوعًا ببرودتها كتم تنهيدته كما حزنه ونهض تاركًا لها تضم مئزرها بكفيها.. كإشارة له بعدم الإقتراب أكثر.
نفخت بضيق مستاءة من عودته فجأة وفي هذا الوقت…
بينما أخذ حمامه وتمدد فوق الفِراش ألقى عليها نظرة خاطفة بعدما بدلت ملابسها لأخرى محتشة ثم تدثر في وجع واختناق... ظن بعد تعب السفر سينام لكن فعلتها أرّقته، رقصت بداخله رقصة موت، تنهد ولا يعرف نهاية الأمر
سبع سنوات تركها منهم أربع لدراستها، يتغاضي ويتجاهل ويعذر بحجة الدراسة وصغر سنها، حتى الصبر اكتفى منه.. أنهت دراستها ولم يتغير حالها ظلت كما هي منعزلة وغامضة فانشغل هو بمكتبه وإخوته،حتى فاق على واقع مرير زوجة برتبة رفيق صامت للرحلة، وحياة فقيرة حتى من خبز الحب الجاف وملح السكينة.
تنهد بحزن وأفكاره يشتد عراكها داخله، ماذا يفعل؟
يطلقها أم يبقيها ويتزوج؟ هو لا يحتاج لزوجة فِراش قدر ما يحتاج لرفيق يهوّن الرحلة وونسًا للعمر وعصا يتعكز عليها القلب إن هرم وشاخت مشاعره .. الإنجاب لا يحاسبها عليه حتى لا يظلم أو يطغي هو أمر مقدر ورزق من عند الله وهي تسعى، لا يلومها على ما ليس بيدها ويدافع عنها كلما استطاع..
هو يلوم روح غائبة وجسد حاضر، يريد حقه من المودة والرحمة والسكن... نهض مستعيذًا من الشيطان حين سمع صوت آذان الفجر.. هبّ واقفًا في حماسٍ ونشاط، توضأ وخرج تاركًا لها تتنفس براحة.
عاد ودخل المندرة في تعب لا يدري أنه نام إلا حينما همست سماسم جوار أُذنه بحنو «رؤوف»
فرّق بين جفنيه واعتدل، استجمع شتاته وابتسم لها، فربتت على كتفه مستفسرة بحزن «نايم هِنا ليه يا ولدي؟»
تنهد قائلًا والقلب يخطو ناحية نار الحزن بلا حذاء يقيه حروقه «جيت متأخر ونمت من غير ما أحس يا حبيبتي»
نظرت لملابسه البيتية بشكٍ قائلة «مطلعتش مطرحك ليه يا ولدي؟»
أجاب وهو يهرب بنظراته منها «جولت مفيش داعي أصحي آيات أنام هِنا للصبح»
ساورها الشك ناحية ما يقوله فجلست جواره تستقطبه بعطفها وتفهمها«مالك يا ولدي بجالك مدة متغير»
ابتسم قائلًا وهو يتهرب منها «مفيش تعب»
قطع حديثهما دخول أراضينا التي دققت فيه النظر قليلًا قبل أن تهتف «رؤوف»
نهض فورًا ليضمها لثم رأسها وظاهر كفها وهتف بحنو «كيفك يا جدة »
ربتت على كتفه ونظراتها تجاهه يملؤها الفخر«زينة الحمدلله يا حبيبي أنت كيف أحوالك وشغلك وأخواتك حلوين كِده؟»
أجابها بنظرة تائهة شاردة «يسلموا عليكي يا حبيبتي»
لثم رأسها مرتين قائلًا من بينهما «دي من الواد طاهر ودي من يونس»
ضحكت دامعة العينين في تأثر فابتسم مستأذنًا «هروح اغسل وشي وأصلي الضحى وأجيلك»
ودّعته بدعواتها ونظراتها الحنون حتى غادر، اصطدم في طريقه بزوجته التي همست بتحية الصباح في قلق ونظرات متفحصة
«صباح الخير يا رؤوف»
أجابها وهو يرفع اكمامه استعدادًا للوضوء «صباح الخير»
سألته بتوتر وهي تمسك بالمنشفة «نمت فين؟»
أجاب وهو يغسل ذراعيه «في المندرة»
سألته بإضطراب «ليه؟»
أنهى وضوءه واعتدل يواجهها بصمته، سحب المنشفة وجفف ذراعيه ونظراته تخترق وتفتش في نفسها، أشاحت ببعض الاضطراب فابتسم بسخرية وأعاد المنشفة لها في صمت زاهد في الإجابة، غادر وتركها تتخبط في التأويل وتنعق فوق رأسها غربان القلق..
صلى وجلس جوار جدته أمام صينية صغيرة وبدأ في تناول فطوره، جلست آيات بالقرب منهما تتأمله متصيدة أي انفعال أو رد فعل ينبأها بالقادم وتعرف به سبب فعلته وجفاءه لتنقذ نفسها لكنه تجاهلها وواصل الحديث مع جدته.. نهضت آيات مهرولة تجاه الدرج
فتنهد براحة بينما قالت جدته بإستياء «كانت جوازة الندامة حسرة عليك يا ولدي ما اتهنيت يوم»
صمت يستمع بحاجبين انعقدا ببؤس يفوق كلمات جدته التي لامست وترًا حساسًا داخله
تابعت الجدة «جدك جال هي دي وربط رأسه»
همس رؤوف كأنما يهمس لنفسه «النصيب يا جدة»
تدخلت سماسم التي جاءت تشاركهما الفطور «مين في البلد فربع حلاوتها يا أما، ست البنته مينجصهاش حاجة»
مصمصت الجدة بغير رضا قائلة «ياريتها ما حلوة، خدنا إيه من الحلاوة»
عاتبتها سماسم وهي تثبت عويناتها جيدًا «مالها بس البنيه ما فحالها»
تضايقت الجدة من الدفاع وقالت بعصبية مستنكرة «محبوسة فشجتها ولا بتنزل ولا بتطلع، همها شغلها وبس، جوزها يسافر يرجع متعطيش خبر، لا بتلبس ولا تجلع هي دي عيشة دي، زمان جولنا صغيرة وتتعلم ودلوك؟»
استمرت سماسم في الدفاع لأجل رؤوف «المهم مريّحة جوزها يا أما»
نفخت الجدة مستاءة من قول سماسم وهاجمت بغضب «فينها الراحة دي ده ولا كنه متجوز، حتى معرفاش تجبله حتتة عيل»
لامتها سماسم بحزن «بتاع ربنا يا أما ما أنا ياما اتعالجت كان بيدي يعني مخلفش سنين طويلة »
أشاحت الجدة في رفضٍ وامتعاض مما جعل سماسم تلكز رؤوف هامسة «ساكت ليه؟»
أجاب بحزن لمع بمقلتيه «جدتي عندها حق»
قالها ونهض حامدًا الله ودعته سماسم بنظراتها حتى اختفى ثم عادت بنظراتها للجدة تعاتبها «ليه كِده بس يا أما»
قالت الجدة بحزن عتيق ظهر على ملامحها رفيقًا لخطوط العمر « مخترش يا حبة عيني رضى جده على حساب نفسه»
قالت سماسم موضحة «آيات أحلى البنته كان رايدله الخير يا أما»
هزت الجدة رأسها مؤكدة «أيوة شافها مع أبوها جلك هي الي تليج بالاستاذ وتستاهله،خطبهاله من غير ما يشوره جولنا صغيرة جال يربيها على يده، جوزه عشان يشوف خلفه جبل ما يموت ووافج رؤوف عشان يرضيه وميكسرش كلمته، واهو مات لا شاف عيل ولا تيّل ولا رؤوف ارتاح يا ضنايا»
هدأتها سماسم بفكر منشغل على رؤوف «بتاع ربنا يا أما»
صبّت كوب الشاي ووضعت فيه القرنفل وقالت «هروح أديه لرؤوف بيحب يشربه بعد الفطار قام كربان وملحجش»
استحسنت والدتها الأمر فأذنت لها بحنو «روحي يا بتي تلاجيه عند الفرس»
تحركت سماسم وكلها يقين أنه عند فرسه لم يغادر.
********
«في المساء»
الليلة معزومة على حفل زفاف، ارتدت أجمل ثيابها وتزينت بمشغولاتها الذهبية لتلفت الانتباه، تريد سرقة الانبهار من عيونهن والاستئثار بنظرات الغبطة والحسد، أن تكون محلّ اهتمام ومحور حديث من في الحفل.. ستتأبط ذراعه في غرور وتخطو فوق شهقات إعجاب الفتيات، ستتدلل أمام أعينهن وتغيظهن الليلة.. خرجت عليه في زينتها تُعلن استعدادها فشملها بنظرة متأنية قبل أن يبتسم بإستحسان، رأت نظرات الإعجاب في عينيه تتألق وتطغي فابتهجت،وقف وخطا ناحيتها وكل نظرة تثني عليها وتحيطها بالإعجاب الشديد، عاطفته اللحظة سيطرت اقترب يلثم شفتيها فتصلبت تكتم قرفها منه وانزعاجها من فعلته، كاد يغوص في الاقتراب فنبهته «رؤوف الفرح»
ابتعد مسيطرًا على ذاته ورغبته التي تُلقيها دومًا تحت أقدامها، تركها والخيبة تسيطر تحتل الكيان وتطعن الكبد، تحرك أمامها فتحركت خلفه هبط أولًا وهي تتبعه بصمت.. صعدا السيارة وكلاهما أبعد ما يكون عن الأخر..
وصلا فسارعت بالقرب، لفّت ذراعها حول ذراعه ولم يعلق أو يندهش بل سخر داخله وصمت.. رحّبت بكل من قابلته من النسوة في إعلان صريح لوجودها ولتلفت الانتباه مُعلِمةً إياهن بمجيئها.. تضايقت كثيرًا من وقوفه المستمر مع الناس واهتمامه بالصغير والكبير..
رأت هالة فارتجفت، انحسرت ابتسامتها وتسرّب أمانها كبخار ماء، تشبثت به أكثر فانتبه يدقق ويراقب بفطنة ما يحدث وحرب النظرات.. ابتلعت ريقها خوفًا فابتسمت هالة ساخرة، طأطأت آيات وهي تسحب ذراعها لتنفرد بذاتها بعيدًا عنه لكنه رفض تحريره وشدّه قابضًا عليه في إصرار وعِناد، سلمت هالة عليه بأدب ثم اقتربت وضمتها هامسةً بتهكم «برضو مش هترتاحي»
ابتلعت آيات غصتها بينما انسحبت هالة متشفية حين رأت انقباض ملامحها بألم وزعر نظراتها.. رحل رؤوف لتجمُّع الرجال ودخلت هي لتجمع السيدات.. استقبلنها بالترحاب الشديد والتفحص المتأني الدقيق، نظراتهن تعدد ما ترتديه من أطواق ذهبية وأساور وتقيّم ملابسها باهظة الثمن.. تألق غرورها أزهر حين روته نظرات الإعجاب والحسد.. جلست جوار حنين قائلة «ازيك يا حنون؟»
رمتها حنين بنظرة حانقة وهي تجيب «اهلا يا ميس»
سألتها آيات بعجرفة وهي تتأمل طلاء أظافرها في تعالي «عاملة إيه يارب تكوني مش زعلانة»
ابتسمت حنين قائلة وهي تنظر لطلاء أظافر آيات «لاه مش زعلانة عادي» ثم صارحتها «المانكير لونه مش حلو يا ميس»
ابتسمت آيات وأجابتها «مش لازم يعجبك عاجبني» ثم نظرت لعينيها قائلة «وعاجب رؤوف»
أشاحت حنين قليلًا ثم عادت إليها هامسةً «بيجولوا الأستاذ بيدور على عروسة تجبله العيل الي نفسه فيه ما تكسبي فيا ثواب يا ميس وتجوزهوني وليكي عليا أخليه ميطلجكيش»
انتفضت آيات هامسة بعصبية ونظراتها ترعد في وجه حنين «أنتِ جليلة أدب ومش متربيه»
قالت حنين ببراءة كاذبة وبسمة خبيثة«مش بت أخت حبيبك أولى يا ميس من الغريب وبعدين هو أنا الي بجول دي الناس»
هتفت آيات بإمتعاض شديد«راعي لمذاكرتك يا حنين ومتسمعيش لحد»
تركتها وتجولت بين النسوة غيظ حنين لا يكتفي بما قالت ومكرها يُغلظ الأيمان أن تهدمها وتنتقم، تابعتها بنظراتها متوعدة حتى اختفت.
مزقت هدى الجموع بجسدها حتى ابتعدت عنهم، انعزلت في ركن محاولة الاتصال به لكن هاتفه مغلق، أعادت الهاتف لحقيبتها البسيطة وتحركت تجاه باب المنزل وقفت على عتباتها تتطلع يمينًا ويسارًا باحثة عن صغيرها أو أي طفل يمكنها أن ترسله..
فركت كفيها بتوتر داعية الله أن يرسل لها أحد اللحظة... لمحها واقفة تفتش بنظراتها فترك الرجال مستأذنًا وذهب إليها، وقف أمامها على مسافة وسألها «ازيك يا أم عبدالله»
انتبهت له فاستدارت مُجيبة «أزيك يا أستاذ»
أجابها قائلًا بود «الحمدلله محتاجة حاجة أأمريني»
صارحته بقلق «ممكن تشوفلي مؤمن، بالله عليك جوله ميقعدش كتير ويمشي»
ابتسم بلطف وقلبه يغبطها، دعا لهما بالبركة متأثرًا بخوفها واهتمامها بزوجها ومراعاتها له وعدم انشغالها عنه، طمأنها قائلًا بتقدير ورفق «متشليش هم أنا هساعده»
شكرته بإمتنان «ربنا يخليك يا أستاذ وجوله يفتح تليفونه ويطمني»
هز رأسه وانسحب من أمامها، استدارت للعودة فاصطدمت بأختها تستفسر «كنتي بتجولي إيه لرؤوف؟»
ألقت نظراتها عليه قائلة بإختناق «مجولتش حاجة، كنت بجوله يطمني على مؤمن»
استنكر نظرات آيات وكذب لسانها القول «يا سلام»
هزت هدى رأسها بضيق قائلة «براحتك تصدجي أو لاه»
كادت أن تتكلم لكن مجيء الصغير المبهج قطع حوارهما، جلست هدى أمامه تسأل «ايه الي معاك دِه يا عبدالله»
أجابها الصغير بسعادة «عم رؤوف جبهولي.. خدني معاه واخترت الي عايزه»
ابتسمت هدى في امتنان للطف رؤوف ومراعاته الصغير ثم قالت «جولتله شكرًا»
هز الصغير رأسه بتأكيد فسألته آيات «هو فين عمك رؤوف دلوك يا بودي»
قال الصغير ونظراته البريئة تلمع بالحب والمودة «بيمشي أبوي شوية بعيد عن الناس والدوشة وجلي أجي أجعد مع أمي وأطمنها» حملت هدى الصغير وتحركت متجاهلة أختها، اتجهت للناحية الأخرى تطالع الحقول من النافذة باحثة عن زوجها
حتى رأته يسير جوار رؤوف الذي يمسك بساعده ويعينه على الطريق.
أدمعت عيناها وهي تسمع صوت ضحكاته الخافتة قليلة الظهور مؤخرًا بعد حادثه وطول أمد العلاج، قبّلت صغيرها في ابتهاج وضمته حامدةً الله داعية لرؤوف الذي جعلها تسمع صوت ضحكته من جديد وتستأنس بصوته ونبرته الرائقة.
رؤوف الذي كان يمازحه بمرح ويناقشه بمشاكسة رأفةً به وتلطيفًا على قلبه، يغادر به دائرة الحزن.. وهو لا يعرف من منهما يحتاج لذلك.
وقفت آيات جوارها مستندة بساعديها على حافة النافذة تسألها «كد كده بتحبيه؟»
كتمت هدى تأففها وضيقها وأجابتها ونظراتها تعانق زوجها بعشق لتهدأ «ليه محبوش مش جوزي وأبو ولدي وستري وأماني»
قالت آيات موضحة وهي تنظر لزوجها بحسرة استنكرتها هدى وضاقت بها «مكنتيش بتحبيه جبل الجواز»
أجابت هدى وهي تطلق صغيرها في الأرض «بس بعد الجواز أداني الي يخليني أحبه وبزيادة»
لوت آيات فمها بتهكم قائلة «خدتي إيه؟ من يوم ما أتجوزتيه وأنتِ فهمّ»
نظرت إليها هدى طويلًا ثم أجابتها «خدت حاجات كتير لو تفهميها كنت جولتهالك» استشاطت آيات غضبًا وغيظًا من قولها، انتفضت متحفزة تهتف بغلظة «ما تتلمي يا هدى»
تنهدت هدى بصبر ثم أجابتها «مسكينة أنتِ يا آيات سبتي الي ميتجدرش بفلوس عشان الفلوس، ومسكين رؤوف عادل مع ظالمة ورحيم مع قاسية»
زعقت آيات بغضب وهي تضربها على كتفها «ما تتلمي يا بت»
وضعت هدى كفها موضع ضربة أختها وابتسمت بسخرية قائلة «الحق بيوجع وعايزة الحق أنتِ متستهليش حد زي رؤوف»
قالتها وابتعدت خطوة وهي تطالعها بتحدي قبل أن تستدير وتغادر تاركة آيات في جحيمها وغضبها الخاص.
*******
عادا سويًا كما ذهبا، دخل الحجرة وسحب ملابسه البيتية من الخزانة ثم غادر للمرحاض، سحبت هي ملابسها متأففة مختنقة من وجوده متمنية لو ينعزل بخلوته كما يفعل ويتركها تتنفس براحة دونه تدعو الله ألا يطلب قربًا، تذكرت كلمات أختها فاستعر الغضب من جديد داخلها، ونقمت على زوجها ولعنته داخلها ألف مرة.
أبدل ملابسه وعاد للحجرة فوجدها تلملم خصلاتها النحاسية الطويلة في كعكة بعدما ارتدت ثوب بيتي أبيض بورود ملونة، بنصف كم، يشبه ما ترتديه والدته.. أطبق شفتيه وصمت، تحرك تجاه الفِراش فنهضت وتبعته وهي تفرد المرطب على وجهها وذراعيها، تمدد قائلًا بما فاجأها وبعثر أفكارها «رايحة للدكتورة متى يا آيات تاني؟»
عقدت حاجبيها مذهولة وحانقة قبل أن تستجمع أفكارها وتجيبه باختصار حتى لا يتمادى «قريب»
قال بحدة جديدة عليها وإصرار ومض في نظراته «هي جالتلك إيه أخر مرة؟»
نفخت بسأم من سؤاله غير المتوقع ثم قالت وهي تفرد الغطاء على جسدها «عادي مفيش حاجة»
سألها بتحفز «مدتكيش أي علاج؟»
رفعت صوتها هاتفةً «من متى بتسأل»
قال غاضبًا وهو ينهض من فوق الفراش «مش معنى مبسألش وسايبك إني مش مهتم أنا بس بعذر»
حاولت الاعتراض بغضب فصاح بعصبية ونبرة أرعدتها «وطي صوتك يا آيات واتكلمي كويس»
ضمت شفتيها متراجعة عن حماقتها ابتلعت ريقها وأجابت وهي تُسقط نظراتها أرضًا «مقصدش»
قال بحسم قبل أن يخرج «طيب اعملي حسابك هتسافري معايا مصر نكشف يا آيات ونشوف»
لم ينتظر ردها خرج فانهارت جالسة تضرب الفراش بقهر مكتوم وغضب ملعون.
*************
في اليوم التالي
دار في الشقة بهاتفه يسأل بقلق ويستجوب بحزن«الواد كويس يا طاهر ولا لاه؟»
«لاه يا رؤوف تعبان»
أغمض عينيه بألم ثم أمره بوهن «جبله دكتور واتنين وعشرة يا طاهر»
حزن طاهر لأجل أخيه وأكل الهم طمأنينته، فقال بمواساة «اطمن هجبله متجلجش»
رجاه رؤوف بنبرة ممزقة ووجع ينبض بين الحروف «متسبوش يا طاهر وأنا هحاول أجي»
تنهد طاهر مطمئنًا له «اطمن يا حبيبي مش همشي من هِنا غير لما اطمن عليه»
أنهى رؤوف الاتصال وجلس شارد الذهن يقلب الأمور،يدعو بوجل ويطالع صورة الصغير متذكرًا مناداته له ببابا وكيف أخذ قلبه، خفق قلبه حنينًا له وهوى لعمق أحشائه خوفًا عليه من العلّة التي أصابت جسده فجأة.
جاءت آيات وجاورته والقلق يعربد داخلها من صمته، تحاول الحديث معه بحذر..
جلست جواره تسأل «رؤوف حصل حاجة في مصر ولا إيه أخواتك كويسين»
نظر إليها طويلًا جدًا غاص داخل بحور عسلها المحرمة عليه وصمت ببؤس وأماني تفارق قبضة اليد وأحلام تتبعثر في الطرقات وعمرٌ يمضي، نبهته بحاجبين انعقدا استياءً ومللًا «رؤوف بكلمك»
مسح وجهه ثم نظر لصورة الطفل نظرة حنون استمد منها القوة ليقول «آيات عايز أجولك حاجة؟»
بللت شفتيها بلسانها في قلق وسألت باختصار «خير؟»
تنهد بتعب وقلق مزق الأحشاء وصورة الصغير لا تفارقه وهمسه ببابا يغبر مسامعه «إيه رأيك نتبنى طفل لغاية ما ربنا يكرمنا؟»
استنكرت قوله وانتفضت ملامحها تعلن الرفض «إيه؟ لاه أكيد، هربي عيل كمان مش عيلي» رغم ضيقه وغضبه صمد وحاول بهدوء«وماله ده يتيم يا آيات هتاخدي أجر ربايته وبرّه لما يكبر مع عيالنا»
قالت برفض قاطع وحدةّ لُعنت بها حروفها المبصوقة من فمها «لاه متجبليش عيّل غريب وتدبسني في ربايته »
اسودت نظراته من قولها، ضم شفتيه في غضب طوعه وقال يستميلها وهو يمسك هاتفه متذكرًا مرض الصغير «تعالي شوفيه هياخد جلبك»
دفعت الهاتف حين قربه منها فسقط أرضًا ونهضت هي في تجاهل وغطرسة، سحقت مشاعره بقسوتها ومزقت استجدائه بغرورها، زعق نافذ الصبر «آيات»
ارتعدت، تقهقر عنادها ووقف غرورها على عتبات النفس متراجعًا، نبرتها الحادة كُسرت بالخنوع وتذللت بالهدوء «رؤوف متجبرنيش على حاجة غلط»
هتف خالعًا عنه رداء الهدوء ممزقًا الصبر «أنا مبطلبش حاجة غلط ولا حرام ولا فوج مجدرتك»
ارتبكت قليلًا لكنها تابعت بصلابة «لاه غلط ولا عشان مش عارفة أحمل هتيجي عليَّ وتظلمني»
أحنت رأسها تتوسل البكاء أن يحضر وتتلاعب بالكلمات ليتراقص المكر، تصنعت البؤس وزيفت الألم، لكنه زعق مهددًا بتهكم «بلاش الشويتين دول يا آيات»
ابتلعت ريقها بقلق تعاظم داخلها، خانتها أفكارها اللحظة وهرب منطقها، قال بحسم «عايز الطفل يا آيات وهجيبه»
عضت باطن شفتيها بغيظ ثم رمشت قائلة «وشغلي يا رؤوف»
مال فمه بسخرية مريرة وهو يلقي بقراره «أنا أصلًا عايزك تسبيه؟»
صاحت بغضب لم تستوعب خطورته «لاه وألف لاه.. مش هسيب شغلي وأربي عيّل من الشارع»
قبض على خصلاتها وسحبها ناحيته، فشهقت متفاجئة تستوعب هجومه وفعلته، قال من بين أسنانه «أنتِ معندكيش دم ولا إحساس وشغلك الي فرحانة بيه أنا سايبك تروحيه بمزاجي وعِند بعند يا آيات مش هتخطي عتبة البيت وهتاخدي أجازة مفتوحة عشان أنا جبت أخري خلاص»
حاولت فك قبضته وهي تصرخ رافضة قوله وفعله، فدفعها ناحية الكرسي بعنف قائلًا «جهزي نفسك هنروح مصر تكشفي ونخلص ورج الواد ونجيبه يا كِده يا تروحي لأبوكي»
تركها ورحل ضاربًا الباب خلفه في قوة، سبته ولعنت، بصقت خلفه بجرأة ثم بكت داعية عليه وهي تتحسس رأسها الموجوعة...
ظل يتابع الصغير بالهاتف، يطلب من طاهر أن يصوره فيفعل لكن نفسه لم تهدأ قط ولا خوفه استكان، يمسد قلبه داعيًا ويرفع رأسه للسماء متضرعًا.
هبطت آيات درجات السلّم وكلها عزم، لن تفوّت فعلته ولن تمرر جرأته عليها وإن كانت أول مرة ستجعلها آخر مرة، ولتقطع اليد التي امتدت وتجبرت بغير حق، لا تعرف ما يولمها أكثر رأسها أم كبرياؤها يتجسد في الرأس ويزيف أماكن الألم..
ترفض الإنجاب منه فيجبرها على تربية طفل شارع، ويمنعها من عملها المتعجرف، لن تفوتها له وستعرف كيف توقفه.
جلست جوار جدته بصمت كئيب تقطر من عينيها دموعًا بالإجبار وتمسحها في إعلان، تتجاهل كلماتهم متصنعة الشرود والحزن، تتسيج بالبؤس الحارق المُلفت، حتى سألتها حانية القلب سماسم بإهتمام، فابتسمت داخلها وقد أصاب هدفها المرمى «مالك يا بتي؟»
بكت في حسرة ونهنهت في حزن مما جعل الجميع يلتفت لها في تساؤل وقلق، سألت الجدة بحدة وعدم صبر «مالك يا بت؟»
مسحت دموعها وهمست بحشرجة «مفيش»
جاء تساؤل نجاة سريعًا بقدر القلق «كيف مفيش ودموعك بتخرّ من عينيكِ، رؤوف مزعلك»
صمتت في تردد واضح خبيث، عضت شفتيها علامة الاضطراب والحذر من البوح فقالت سماسم تحثها «جوليلنا يا بتي وريحينا»
رفعت نظراتها مُحددة هدفها، صوبت الكلمات لصدورهن وهي تنتحب «يرضيكي يا عمتي رؤوف عايز يجيب عيّل من الشارع يربيه»
ضربت الجدة على صدرها وشقتها المستنكرة تفارقه، فابتلعت آيات ريقها وأكملت «وليه وليه بجوله إنه مينفعش نربي غريب فبيتنا ولا نجيب عيّل منعرفش مين أهله يكبر وسطنا دِه لا عرفنا ولا عوايدنا»
لانت ملامح سماسم متفهمة كلمات رؤوف ورقته، بينما استنكرت الجدة القول وصاحت معترضة «كيف يعني؟»
أما نجاة فوقفت على الحياد، تستمع بتركيز وغموض.
بكت آيات وهي تصرّح بالتالي في تشفي غير معلن أضمرته في نفسها «ضربني هو أنا غلطت فإيه يعني؟ دا المثل بيجول يا مربي فغير ولدك يا باني فغير أرضك» ضمت نجاة شفتيها رافضة مستنكرة يملؤها الشك بينما قطبت سماسم مندهشة، وحدها الجدة شاركتها الرفض وصدقتها، صاحت «مغلطتيش فحاجة منربيش عيال غيرنا»
أكملت آيات بنظرة ظفر متألقة «بجوله تعالى نسافر نكشف ولا حتى نعمل عملية زي الناس مفيهاش حاجة ربنا جال اسعوا»
هتفت الجدة «ما يتجوز لا هو عيب ولا حرام»
كتمت آيات نقمتها وقالت ببراءة كاذبة «وماله حقه مش هحرّم حاجة حللها ربنا»
بكت مرة أخرة قائلة بحزن كاذب وانكسار باهت مزيف «نصيبي هعمل إيه المهم هو يبجا راضي ومبسوط لو عليا راضية بالي يرضيه بس كله إلا أربي عيّل غريب لا مننا ولا نعرفه» مسحت دموعها المزيفة وتوسلتهم «محدش يجول لرؤوف إني جولتلكم عشان ميزعلش أنا والله ما هاممني غيره كيف يجيب عيّل من الشارع ياكل فخيره »
تمتمت جدته بالكثير ساخطة، توعدته بغضب بينما التزمت نجاة الصمت ببعض الضيق والحزن ، وحدها سماسم تعاطفت مع اثنتيهما بنفس القدر، صدقت آيات وعذرتها واستوعبت رقة قلب رؤوف فمن المؤكد يمتلك أسبابًا لفعلته.
لم يمنحها أحد وعدًا منطوق منحتها النظرات فاكتفت به واستأذنتهم، أكيدة من أنهم لن يفعلوا وإن فعلوا ستجد ألف حجة وألف عذر وألف كذبة مضللة.. يمكنها أن تتنازل قليلًا وتمنحه نفسها برضا ودلال، تصالحه بطريقتها وعلى هواها.********
جلس حامد بينهم صامتًا حزينًا، يصب لهم الشاي ولنفسه فيتركه يبرد بين أنامله دون أن يرتشف منه، مشغولًا تائق النفس لشيئًا يملأ تنهيداته الكثيرة.. سألته تماضر بحزن «مالك يا ولدي؟»
أجابها وهو ينظر للسماء كما يفعل دائمًا «مفيش يا خالة»
جاءه قول عبود كاشفًا ما في نفسه « محتار ليه يا حامد»
ابتسم حامد وصمت فربتت تماضر على كتفه وكررت قول عبود «ليه الحيرة يا ولدي ؟»
أنكر ما في نفسه ودندن «مفيش يا خالة»
نادى على صغيره «تعالى جنبي يا واد يا قاسم»
ترك قاسم ألعابه وجاء ملبيًا، أجلسه حامد جواره وضمه مقبلًا رأسه وصمت، صارحه عبود قارئًا ما في نفسه من أفعاله «حامد خايف من الدنيا وعشمان فكرمه يا تماضر»
قالت تماضر موجهة حديثها لحامد الصامت «أهل الدنيا هما الي يخافوا منها وعليها وأهل الله حصنهم متين، املا جلبك بالله وخاف منه وحده، خوف الدنيا يدوب ويختفي..العشمان فيه مجبور يا حامد »
هز حامد رأسه بالتأكيد ذاكرًا الله طاردًا الهم من نفسه فقال عبود بحكمة وهو يدور أمامه ناظرًا للسماء «طول الصبر على البايع مذلة يا حامد
وكتر العفو يهونك فعنيهم، خليك غالي ادي بحساب وخد بحساب، وسامح الي يحبك»
اخترقت كلمات عبود الصدر وعرّت النفس، أصابت هدفًا في القلب فانتفض.. وقف عبود عن الدوران بعدما لمح نزاع نفس حامد، نظر إليه مليًا ثم ابتسم قائلًا «حبيبي يارب»
اتسعت ابتسامة حامد وفهم المغزى فقال متوكلًا عليه «حبيبي يارب»
*********
تسلل في منتصف الليل لشقته باحثًا في المطبخ عن القهوة، قلبه ارتجف فجأة وتباطأت نبضاته، توقف عن البحث محوقلًا يضغط موضع قلبه ملتقطًا الأنفاس بصعوبة بالغة، عاد للبحث من جديد فوقع أمامه من الخزانة دواء، انحني ليلتقطه ورفعه لنظراته قليلًا يقرأ..
توقف عن القراءة على نغمة هاتفه الصاخبة، دس الحبوب في جيب بنطاله البيتي وأجاب بلهفة «أيوة يا طاهر طمني»
صمت طاهر مترددًا قبل أن يبكي برثاء أفجع قلبه، ابتلع ريقه وصدره يزداد ضيقًا كرر سؤاله المتقطع بزعر وهو يمسّد صدره «يا طاهر الواد كويس»
قال طاهر بحزن ونشيج بكائه يصل برسالة الغم لقلب الأخر «البقاء لله، العمر الطويل ليك يا أخوي الواد عند الي خلقه»
#انتهى