♡الفصل السادس♡

489 61 43
                                    

♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡
الفصل السادس

شهقت متفاجئة بوجوده وتلك الصدفة القاتلة لا هي ليست صدفة بل جلدًا بسياط من نار للروح ، مسحت دموعها بسرعة مسيطرة على ارتجافة جسدها، حدقت فيه تستعيد توازنها وتبحث عن أسبابها وأعذارها، صمتت دقائق عاجزة فهزها مستفسرًا بحنق عظيم «إيه جايبك هِنا يا آيات؟  في الوجت دِه أنتِ اتجننتي؟»
نزلت نبرته الحادة كالسوط فوق الجسد، ابتلعت ريقها محاولةً التبرير، تشكّل الحروف في هيئة كلمات وتنسقها بأيادي المكر، ادّعت الانهيار متمسكة بالحيلة، تركت جسدها يهبط ونظراتها تزوغ مما جعله ينشغل عن سؤاله ويتلقفها بين ذراعيه، ساندها حتى تخطى بها المكان وخرج من كآبته وسوداويته، استعادت توازنها قليلًا ومشت جواره يمسك ذراعها في حماية وأسر، يكتم غضبه ويحبسه حتى تُدلي بأسبابها وتقنعه بحجة  تليق بتهورها.
استقبلهما والده بنظرة مستنكرة وسؤال «كنتوا فين دلوك؟»
أجاب رؤوف بثبات «عند أم عبدالله بنزورها»
تهربت آيات من نظرات عمها وانكمشت بزوجها تطلب الدعم والصدّ عنها فأشار لهما والده لا يقتنع بقوله وهو يراهما بتلك الحالة الغريبة والغضب المحبوس بين جفني ولده يزيد من شعوره بأن شيئًا حدث، وأحمرار وجه آيات يؤكد شكوكه.
أمسك رؤوف بكفها وسحبها للأعلى، تتعثر خطواتها فلا يهتم، داخله يعربد غضب لا حدّ له.. دفعها للشقة وأغلق خلفه وقف يحدّق فيها بتلك النظرة التي تخافها وتتجنبها، يعري روحها ويبحث عما تخبئه، نظرته تهزها كريح عاتية فترتجف ويتشتت تفكيرها «طالعه ليه فوجت زي دِه يا آيات وإيه موديكي الجبانة»
فركت أناملها والكلمات تتسرب من عقلها، تهرب وتتفرق بعصا القلق والخوف، تُبعد عينيها عن عينيه ململمة ما تساقط من أفكارها كالثمار، تمسحها وتقدمها له مترددة «أصل يا رؤوف…»
زعق بقوة أفزعتها، أوقفت الدماء في الشرايين وتاهت من نفسها، عقلها تجمّد وتحجرت نظراتها، خافقها اضطرب، دائمًا ما تتحاشى غضبه الذي يوازي حنانه ويضاهيه وتتجنب إثارته لكن ماذا تفعل الآن؟  فكرت أن بعض الدهاء ينقذ وينجي الطريقة ليست مهمة فالغاية أهم ، نظرت لعينيه المتقدة تستمد من عنفوانها الحيلة لتخرج من هذا الغضب سالمة، فالخطر يحتاج لسرعة بديهة وتحكّم في النفس وحزم.. جلست تدثر وجهها براحتيها تبكي من الروح بكل العزم المشوب بالخوف، رفعت وجهها  وقالت  «أنا أنا...
تحرك ليقف أمامها وليس لديه صبر، سبع سنوات تغرف من صبره  بمغرفة اللامبالاة حتى أوشك على النفاذ، وسيتضور جوعًا قريبًا ولن يصمد ولن تنجو هي «آيات»
ارتجفت حقيقةً أو ادّعت لا تعرف، لكنها مازالت تبحث وتفتش عن خدعة تنقذها
بأسى همست «بصراحة يا رؤوف هدى كانت جالتلي أروح الجبانة في الليل، عادة جديمة بتعملها الستات عشان الحمل»
لعبت بقوة مستهدفة نقاط الضعف، لكن ليس عليها لوم هي تريد النجاة وإن كانت بزورق الكذب
استنكر قولها «إيه؟وإزاي متجوليليش » رفعت نظراتها إليه تخبره «محبتش أضايجك جولت هروح لوحدي وأرجع»
قال بحدّة لا تلين «كيف يا متعلمة تصدجي التخاريف دي وتتصرفي من دماغك»
قالت في مكر وهي تطلق ناحيته نظرات بريئة «رؤوف غصب عني جولت يمكن حل وأحمل صُح وأجبلك العيل الي نفسك فيه»
زفر بضيق ثم مسح وجهه واستغفر، أمسكت بكفه وهمست «متزعلش أنت عارف مبطلعش غير لما بستأذنك بس خوفت ترفض »
تشابكت نظراتهما قليلًا قبل أن يفكها ويحركها تجاه كفيهما المتعانقان بدفء يراه ولا يحسّه ، انتزع نظراته ووجهها إليها قائلًا بقوة وحسم «متتكررش يا آيات عشان لو اتكررت هتشوفي وش تاني مشوفتهوش»
شعرت بأنها في مأزق، محاصرة ومضطهدة الروح، فأشهرت الدلال سلاحًا ينقذها «أكيد مش هكررها المهم متزعلش مني»
سحب كفه وهمّ بالمغادرة فنهضت تمنعه بضمة لظهره وهي ترجوه «خليك معايا يا رؤوف»
وقف مترددًا قبل أن يتنهد بإستسلام ويبقى لأجلها مترفقًا بها.
كرهت ما حدث ولعنت التهور النافذ من القلب، هذه سقطة في دفاتر أيامها مع رؤوف وعلامة تشبه ما تتركه لطالباتها في دفاترهن للتنبيه.. عبست أمام المرآة وهي تضع بعض الزينة.. نظرت لما ترتديه نظرة تقييمية سريعة
طبّقت بعدها شفتيها مبتلعة دموعها في جوفها تلصقها بجدار الروح، الليلة منهزمة ستقدم نفسها بإرادتها له ليعفو ويتجاهل.
تأوهت وألف خنجر يذبح ويقطع داخلها، ليس الليلة لا تريد، لا تعرف من تخون حبيبها أم زوجها.. بما تفعل تشعر أنها ترفض حبيبها كما فعلت قديمًا وتذبح بتقديمها نفسها لزوجها، وتشعر أنها خائنة للزوج بما فعلت الليلة ونتج عنه كل ذلك.
رؤوف يجعلها تكره نفسها وتكرهه، يأخذ كل شيء على طبق من ذهب ودون عناء ها هو سيأخذها دون طلب وبمباركةً منها.
الليلة تتدلل وتغوي لأجل صُفحه أم تراه ندمًا وتكفيرًا للخيانة.
التقطت بضعة أنفاس وخرجت ببسمة منزوعة السعادة ودلال يفتقر للصدق.
رمقها بنظرة لم تفهمها راضية أو منزعجة لا تعرف، جلست بأحضانه تسأل عن ما يسمعه فأجاب بنبرة لمست فيها ضيقًا
انشغل بالتلفاز أو فعل عمدًا ليصرف ذهنه عن التفكير الزائد والظنون، قيّد عقله وصبر عقله ينازع بين رغبتين أن يكمل تلك اللعبة ويأخذ حقه برضا منها أو ينهض ويتركها... حجب نفسه وأفكاره بعيدًا عنها
فسحبته لدائرتها ببضع قبلات رقيقة.
نظر لها نظرة نفذت للأعماق فارتعدت، شعرت أنه فهمها وقرأ مقصدها فرمشت متهربة.. تأمل جمالها الذي ليس عليه خلاف وأدار رأسه بعيدًا لا توق ولا ذرة اشتياق وإن احترق داخله بالرغبة.
بحق الله مَن تظنه؟  هل عرفته يومًا؟ مالت تلثمه فتركها لا يمنحها قبولًا ولا عفوًا بقرب..
رن هاتفه فنهض يستأذنها «آيات اعمليلي شاي هرد على اتصال مهم وأرجع»
ركض للأعلى يهرب منها ومن نفسه متأكدًا من أنها لن تحاول لأجله وهو لن يعود
************
وقفت أمام مرآة الخزانة بجمود، مسحتها بكفها وهي تحدّق في وجهها الذابل وعينيها الغائرة، سحبت ربطة الشعر فانهمر شعرها كشلال، تخللته بأناملها مُفكرة في كلمات أختها تزنها بميزان الأخوة تارة وميزان الشفقة تارة أخرى وبميزان الحزن مرات وفي كل مرة ترجح كفة فتتشتت وتغيب في التفسيرات وتتهتك الحقائق وتتفشى الظنون ، لا تعرف كيف تجرأت عليها آيات اليوم؟ لكنها تعرفها كانت سُتلقي قاذورات قلبها اليوم أو غدًا، تقرأ الكلمات في نظراتها كلما ذهبت إليها فتصمت بحرج وترفض زيارتها متعللة و ذلك لكونها أقل منها مالًا وجاهًا وتعليمًا.
تنهدت بأسى وعقلها يجمع بين كلمات أختها واتهامها الغليظ وكلمات رؤوف، ليتها تملك القدرة على إعلام رؤوف ليس حقدًا ولكنها تريد إنقاذها من نفسها وحسراتها، تعرف رؤوف جيدًا متفهم وعاقل قد يحتوي الأمر.. لكنها تهاب أختها ونوبات جنونها ولسانها الذي قد يجلد دون رحمة ويسلخ دون تعاطف، قد تفسر الأمر على هواها وتظنه حقدًا أو مكيدة لتدمير حياتها .
انزلقت دمعة من عينها ونظرات زوجها العطوفة تحاوطها بأسى وتحاصرها بوجل،
مسحتها مستعيدة رباطة جأشها واستدارت عائدة للواقع.. نهضت من جلستها واندست بين ذراعي زوجها الذي ضمها في صمت لا يقتحم خلوة عقلها ولا صومعة قلبها ينتظر أن تحكي له كما تفعل دائمًا،مساحة من الحرية يمنحها لها بصبر .. وضعت رأسها على صدره وهمومها تتساقط من عقلها ويتفرق الباقي، تتنهد فيربت على رأسها بحنان يأسر فؤادها، سمحت لدموعها بالتحرر ولحزنها بالانفلات بكت فاستقبل صدره انهيارها، سألها بجزع حقيقي «في إيه يا هدى؟»
نزاع نفسها وتشتتها بين خيار الحكي وخيار الصمت يزيد من حزنها ويُذهب براحتها
لو قصّت عليه قول أختها؛ لتبدد أمان روحه وذهبت سكينة فؤاده، سيلوم نفسه على عجزه ومرضه وسيغرق في دوامة الأسى والذنب، كما أن الصمت ليس خيارًا، هما صديقان مقربان لا تفضي لسواه ولا تبوح لغيره، لا تلقي بهمومها سوى عنده، هو معلمها وقائدها ورجلها فماذا تفعل؟ يشتد عذابها فيشد الحزن ناخرًا القلب فتبكي بحرقة.. هدأها بحنانه فسكنت صامتة قبل أن تحرك شفتيها متخذة قرارها والبوح بما حدث.
أجابها بما تريد معرفته ومشورته فيه «متوديلهاش البرشام تاني يا غالية»
صمتت متحيرة فتابع زوجها «هي خانت متخونيش أنتِ العيش والملح الي كلناه مع الراجل يا غالية»
قالت بصوت مبحوح بعث في نفسه الكآبة «هتزعل مني»
ذكّرها بتفهّم واحتواء«انصر أخاك ظالما أو مظلومًا» قالت بحزن جمّد القلب «مش رايحة عندها تاني»
ربت على رأسها بعدما قبّلها قائلًا «متروحيش يا حبيبتي»
ابتسمت لهمسه ثم رفعت رأسها تلتقي بنظراته تسبر أغواره وتصل لعمق أفكاره «متزعلش من كلامها»
صارحها بتنهيدة حزينة بائسة «مسكينة أختك يا غالية عدوة نفسها، عايزة كلّ حاجة، طماعة والطمع حطب لنار في الصدر مبتخمدش بتاكل فصاحبها وتهلكه»
مررت أناملها على لحيته النامية قبل أن تخبره بنظرة لامعة متألقة «أنت وعبدالله عندي بالدنيا مستبدلكمش بكنوز الأرض كلها»
ابتسم بحنو بالغ قبل يُلقي بإعتزاره مختصرًا القول والشرح  «حجك عليا »
رفعت كفه ولثمت ظاهره ونظراتهما تلتقيها فتمتزجان وتتراقصان، همست بمشاكسة لتهرب به من لوم النفس وعلّة الحسرة «مش هتحكيلي النهاردة حكايات من كتابك كليلة ودمنة» أحاط وجهها بكفيه ونظر لعينيها دقائق سكنت فيها النفس وخمد فيها عذاب الروح قبل أن يقبّل شفتيها ويبتعد هامسًا «ربنا ما يحرمني من وجودك»
عادت تتوسد صدره متثائبة تحيطه بذراعها مُشجعة «نام ورانا مشوار طويل للدكتور» تنهد مغمضًا عينيه وقلبه يناجي الله سرًا.
*********
«في القاهرة بالدار بعد مرور شهر»
           ********
جلس فوق العشب والأطفال يطوقونه، يضع أصغرهم على حجره والآخرين منهم من يلتصق به ومنهم من يجلس قربه في قناعة ، يستمعون بإنصات لحكاياته الساحرة التي تخطف الألباب، يشاكسهم ويلاعبهم، يمشط خصلات هذه ويرتب ملابس هذا.
حتى غادروا راكضين لتناول الحلوى التي أحضرها، وبقي هو مكانه يتابعهم بحنو، يحيطهم بنظرة أبوية خالصة، حتى رأها كفجر بزغ تغادر مبنى الدار متجهة للحديقة الخلفية، حاوطها الصغار أول الأمر منادين باسمها ثم تركوها فتسللت بعيدًا عن الأنظار..
نهض نافضًا كفيه، تحرك إلى حيث اختفت مترددًا لأول مرة في مقابلة أحد، يريد شكرها والإلتقاء بعينها ولو لمرة لكنه لا يخضع لتلك الإرادة، تعلّم منذ زمن ألا يخضع لنفسه ولا يطاوعها بل يفعل عكس ما تريد وترغب، تحرّك ببطء واضعًا كفيه في جيبي بنطاله يصاحب الورود التي زرعتها حتى وصل حيث تجلس، وقف متأملًا متمنيًا لو اقتحم تلك العزلة وتحدّث معها قليلًا،وبثها الصبر والعزيمة، وفهِم ما تعانيه وشاركها الحزن..
تسللت كفها لضمادة الخد وضعتها فوقها وتنهدت، أغمضت عينيها لدقائق ثم فتحتها ورفعتها للسماء تبثها الشكوى والألم الذي ينخر..
جلس على مقربةً منها يتابع باهتمام.. فضوله يكبله عن العودة ونفسه تمنعه من الإقتراب.
أخرجت هاتفها وأجابت بصوتٍ هاديء «أيوة يا عبد الرحمن، أنا بخير.. لا في الدار عند الأطفال... أيوة إيه المشكلة؟
ارتفع صوتها قليلًا  «هما ذنبهم ايه؟»
لازمت نبرتها الحدة في القول «سلام بعدين نتكلم»
رمت الهاتف جوارها تقبض بين جنباتها على الصبر والقوة، أغمضت عيناها وسبحت في أفكارها الخاصة وأحلامها لتنجو من كرات اللهب التي يقذفونها بها، الأب يلوم والحبيب يجلد والأم عاجزة تربت فقط مهونة، والأخت تبكي دون جهر، تتوارى وتفضي بألمها وحزنها لا تلومها لكنها تشفق عليها من عذاب النفس.
استنشقت الهواء المحمل برائحة الريحان فهدأت، تفجّر ينبوع من رضا في قلبها فجأة وهي تتذكر صغارها الذين افتدتهم.. فقالت لا بأس وكل البأس في قلبها المعلق بين الرضا والسخط.
فعل مثلها واستنشق وعذابها يشق عليه، لا يعرف لما تأخذ حيزًا من تفكيره ولما تلك المعذبة تحفر على جدران العقل حادثها، ألا يكفيه واحدًا يحوم حوله في صحوه ومنامه، يعيشه حاضرًا في الدنيا بعينين مفتوحتين أو غائبًا في الخيال.
ربما جسارتها أعجبته ولين قلبها شغفه، منحت دون مقابل وأفنت جمالها لأجل الحفاظ على حياة صغار ابرياء.
دعا لها واستدار مقررًا أن يمرر ممحاة النسيان على صورتها ويطوي حادثها في النفس كطي السجل... لكن قبلها سيهديها هدية خاصة إهداء لها فوق سطور الأيام.
ودّع الأطفال وتحرّك بخطوات ثابتة وهيبة لا تليق بسواه واضعًا كفيه في جيبي بنطاله يدندن مستحوذًا على الراحة ويستأثر بصفاء النفس... حتى توقفت قدماه فجأة وثبتت مكانها دون مقاومة لإرادة عقله..
«ب.. ا ب... ا..» غمرت السعادة قلبه وأخذت الأحرف عقله ورحلت في عالم  غير العالم، وضع كفه فوق قلبه يثبته بعدما أصبح على مسمعٍ منه حتى ظنه سيترك أضلعه ويغادر بجناحي السعادة، سيحلّق في فضاء من الأماني ليس له نهاية أو حدود.
استدار وظل مكانه يتابع بعينيه الصغير وهو يحاول السير ناحيته بخطوات متعثرة، يقع فينهض بإصرار نافضًا كفيه في عزم لا يلين وبأس لا يخضع لعرقلة الطريق وتعلمه الحديث للمشي.. ينادي بضحكة «ب
.. ا ب... ا»
جلس على ركبتيه مطوقًا له بحنانه منتظرًا أخر خطوة له ليصل، يفرد الصغير ذراعيه محركًا أنامله بلهفة كأنه يريد الإمساك به، ففتح رؤوف ذراعيه في استعداد ولهفة مماثلة ضاحكًا بنغمة خاصة مبهجة، حين وصل ضمه قائلًا «بابا بابا»
ضحك الصغير نهاية الطريق سعيدًا لبلوغه، حمله رؤوف ونهض به فكرر الصغير ببراءة خطفت قلبه «ب.. ا ب... ا»
لثم رؤوف خديه وجبهته شاكرًا ما صنعه في قلبه من بهجة، ثم رفع كفيه ولثمهما ممتنًا لذراعين صغيرتين دفأتا قلبه وروحه وأزاحت بعض الهم عن نفسه.. منح الصغير للمشرفة وغادر وقد سرق الصغير قلبه اليوم ببراءته، الصغير الذي جاء قطعة لحم حمراء، اليوم كبر وخطا أول خطواته تجاهه مناديًا بابا... ترى لو أخذه ليربيه ستوافق زوجته؟
***********
«بداخل مكتب رؤوف»
جاءت بحماس حين علمت أنه عاد أخيرًا، التقطت أنفاسها حين أخبروها بمجيئه كأن غيابه كان ركضًا والآن تستريح برؤيته، يا ويلها من تلك المشاعر التي يرويها هذا المُعلم والقائد بنبله وشهامته، باتت رؤيته أقصى أمانيها والتصبح برؤيته حُلم تتمنى تكراره.. ركضت في المبنى بلهفة خشية أن يغادر دون أن تراه، هذا الرجل يتحرك كثيرًا ولا يهدأ، كثير التنقل والحركة، لا يستريح
دخلت المصعد بسرعة لتتفاجىء به أمامها مبتسمًا يشاكسها وهو يحوّل بصره عنها «الأستاذة متأخرة ليه؟»
سحبت أكبر قدر من الهواء المعبق برائحته وأجابت بخجل «لو متأخرة فحضرتك متأخر لإننا واصلين مع بعض»
ابتسم قائلًا مثنيًا على كلماتها وذكائها «برافو يا أستاذة»
دقائق معدودة سحبت فيها من حوله الهواء بنهم،وقلبها على مسمعٍ منها، تخشى إطلاق نظراتها لتتأمله بينما هو صامت يتمتم بما لم يصل لأذنها... وصل المصعد للطابق المقصود فزفرت باستياء من انتهاء الوقت سريعًا، لعنت الشغف الذي يلتهم الوقت ويفترس الساعات فتفقد الشعور بالزمن و تفقد احساسك به وكأنك خارج حدود العالم.
فُتح المصعد فتحرك رؤوف ناحية مكتبه، ألقى السلام والتحية فوقف العاملين مبتسمين يرحبون بمجيئه، دخل مكتبه راميًا مزحته «رامز اخصملي أنا والأستاذة لمياء»
ثم استدار قائلًا موجّهًا لها حديثه «أظن كِده عدل»
هبطت مشاكسته الحلوة على روحها كنسمة باردة في نهارٍ قاظ، ابتهجت لأنها نالت ما للجميع دونها، أستاذها يشاكسها ويمزح معها كما الجميع «الشاي يا رامز»
قالها رؤوف وهو يجلس خلف مكتبه، بينما غادرت لمياء لمكتبها لا تصدق ما حدث للتو، غنّت لليوم السعيد وللحظ السعيد وللحياة والسماء والنجوم، دندنت بإستمتاع وعملت بحماس اندهش له الجميع.
نقر رؤوف فوق مكتبه وهو يقلّب في الأوراق، منشغلًا بالعمل وقضاياه، فجأة قفزت مقتحمه ممزقةً أفكاره كخرقة بالية وتربعت، فزفر بضيق راميًا بأوراقه واتكأ مُفكرًا، اليوم رأى هدية فأعجبته لا يعرف لما رآها فيها ونادته أن يشتريها لها ففعل.
أخرجها من الحقيبة التي كان يحملها ووضعها أمامه قام بتغليفها جيدًا وبعناية، تفنن في تجميلها حتى رضيَّ مستحسنًا صنيعه، ثم التقط قلمه المفضل وكتب ما جادت به نفسه.
*************
«في الدار»
ذهب اليوم لرؤية الصغار كما تعوّد، يحب دومًا أن ينتهي يومه بهم، يشعر بالسكينة في حضورهم، يبقى الرضا برؤيتهم مستقرًا في القلب ثابتًا في الأعماق، ترسو بهم سفينته فلا تبحر شاردة دون وجهة، في نظراتهم إليه قِبلة لروحه التائهة.. قلوبهم تجذبه لعالم البراءة والطمأنينة، أياديهم تمسح غبار الهم الذي يعلق بقلبه، يضمدون الروح ويكتمون نزيف الجروح الغائرة.
يود لو أخذ الصغير وتبناه لا يريده أن يتوقف عن قول «بابا» ولا يريد أن يتخلى بعدما وضع الصغير الأمل في أحرفه ولهفته، لا يحب أن يخذله بعدما منحه ثقته ومودته، الصغير لا يفكر ينطق بكل الحب وبصدق العاطفة لكنه يفكر ويعقل ويشعر أن الصغير يستنجد به أو هكذا يظن.
ضمه وقبّله بعدما رفعه، التقت نظراته القوية بنظراته البريئة فلانت وخضعت، ذاب كل شيء ولم يبقى إلا حنانًا خالصًا.
لاطفه وداعبه، ثم تركه أرضًا يركض وهو حوله يشجعه ويركض خلفه أحيانًا، استكفى وشبع من اللعب  فضمه وقبّل رأسه مهدهدًا ، ليت آيات توافق ليتها تفعل من أجله، كيف يغادر ويترك من تعلّق به؟ من مدّ كفه الصغيرة ليختاره أبًا وسندًا؟
تنهد ولا يعرف طريقًا للخلاص، آيات ليست وحدها من ستعترض قد تفعل جدته وتؤازها، ستستنكر عليه أن يفعل وهو يملك كل الحق في الزواج بثانية وإنجاب واحد واثنان وعشرة.
منح الصغير الذي نام فاستقرت رأسه على كتفه للمشرفة مسميًا الله ورحل لسيارته، لمحها تدخل من باب الدار، فسحب الحقيبة الورقية وعاد يفتش على مرسال وصل بينهما.. التقطت عيناه صغيرة مشاغبة ناداها ومنحها هديته ثم وصاها ووصية العم صاحب الحكايات الساحرة واجبة، أخذتها منه بعدما فهمت كلماته فمنحها عبق ودّه في قبلات حانية فوق رأسها وتركها تغادر. وقف مترددًا يذهب ويشاهد رد فعلها أم يغادر؟
تحيّر في أمره وازداد شروده وتيهه فقرر كعادته مخالفة الهوى... رحل سريعًا، واستقر داخل سيارته متنهدًا براحة ثم قادها ورحل..
أعطتها الفتاة الهدية ولم تفصح عن هوية صاحبها كما وصاها، حاولت غزل لكن الصغيرة تشبثت بوعدها له وضمت شفتيها ببراءة رافضة الحديث وحين جاهدت غزل لتصل قالت الصغيرة في شبه توسل حتى لا تضغط عليها أكثر «قالي مقولش وأنا وعدته»
ابتسمت غزل وقد فهمت الصغيرة ورجائها البريء فقبّلتها على خدها وصرفتها بعدما منحتها قالب شيكولاته.
ملكها الفضول وسيطر على حواسها فلم تقدر على تجاهل الهدية ولا تركها أو رفضها، فتحتها بلهفة وداخلها تتفجر ينابيع الدهشة، تُرى من هو هذا الغامض؟
فتحتها فظهرت لها بلورة زجاجية بيضاوية الشكل داخلها وردة حمراء يلتف حولها عقدًا أخضر، ضغطت على زر جانبي فأضاء العقد بنور أصفر زاد الوردة الحمراء تألقًا فتفتحت الوردة وخرج من بين أوراقها قلب ماسي جميل.. ضحكت غزل من فرط إعجابها بالهدية، تعلقت نظراتها المنطفئة بالقلب فأضاءت وتوجهت لبرهة خاطفة، هدية مميزة أعجبتها جدًا وأثّرت في قلبها بشدة..
أخفضت بصرها للصندوق تبحث عن هويته فالتقطت نظراتها كارت رقيق كتب فوق أسطره بخط منمق وجميل.
«يا شجاعة يبقى للورود عبقها وإن جفّت فلا تحزني»
« يا قلبًا للحب خُلِق، أطلق جناحيك يرممك الأمل»
فكسر الجناحين لا يحرم من الطيران بل يمنح استراحة لاسترداد العافية والعودة للتحليق بقوة»
*************
«في شقة الأخوة»
حجب يونس المعرفة عن رؤوف، خبأ معلوماته عن طاهر في مكان آمن، تاركًا لطاهر حرية الطيران والتحليق، بارك علاقة طاهر بغزل ليس لشيء سوى لثقته بطاهر ونظافته وبراءته،طاهر لن يفعل ما يشين وإن أحب سيحب بصدق خالص وعفّة، متمنيًا أن يفعل طاهر ما فشلا فيه، أن يعشق وتكون له قصته الخاصة يحب أن يرى ذلك ويشهد عليه، تثير مشاعره تلك القصص.. لاك قطعة الخبز قائلًا لرؤوف الذي يتحرك في المطبخ ليصنع لهم غداء يتجمعون حوله«مجبتش آيات ليه؟»
رفع رؤوف له نظرات قوية مستفسرًا «مين جلك هجيبها؟»
ابتسم بمكر قائلًا وهو يقطّع الخضراوات «أمي جالت ممكن تجيبها فنضّف الشجة ومخليهاش زريبة»
ابتسم رؤوف بصمت بينما أكمل يونس بإمتعاض «خدام الي جابوكوا أنا»
صمت رؤوف بصبر كعادته يستمع دون تعليق وينفعل بملامحه دون كلمات، ليسأله يونس بفضول «أيوة مجبتهاش ليه برضك؟»
أجابه رؤوف بجدية وهو يهرس حبات الثوم بسكينه «معايا شغل ومش فاضي هتيجي تتحبس ليه وهي محبوسة فجنا؟ هخلّص وأرجع»
لوى يونس فمه بإمتعاض غير راضيًا ولا يقدر على التحدث أكثر مع أخيه خوفًا عليه ومنه، حتى سؤاله رماه بكل الحذر
سأل رؤوف يبدد التوتر ويزيح الأسئلة «طاهر هيجي متى؟»
أجاب يونس وهو يدس أعواد الجرجير بفمه «مش عارف بس جال نستناه على الغدا»
سمعوا صوت الباب فترقبوا دخول ثالثهم الذي ما إن لمح رؤوف حتى اندفع ناحيته يضمه بمودة حقيقية لا تشوبها شبهة رياء
ابتسم رؤوف بحنو وبادله عناقه بلطفٍ شديد وتقدير بينما يتابع يونس بمصمصة شفاه قائلا «نص ساعة وهتتناجروا فبعض زي الديوك»
ضحك طاهر ساخرًا منه وهو يراه يدس أعواد الجرجير بفمه «ومالك كدِه زي البهيمة فغيط برسيم»
ابتسم رؤوف فتابع طاهر ممازحًا ينشر البهجة حولهم «رؤوف شكل يونس مش بيفكرك بحاجة؟»
قلّب رؤوف قطع الكبدة واستدار يتأمل يونس دون تعبير واضح ثم استدار للموقد قائلًا بإبتسامة «فيه شبه من الجدّي بتاع أمك»
أكّد طاهر ضاحكًا «أخوك بياكل في الجرجير كيف البرسيم بالضبط»
أمسك يونس بحبة طماطم مستوية ورماها ناحية طاهر الذي تفاداها فالتصقت بظهر رؤوف، ضحك طاهر معلقًا بإستهزاء على فعلته  «جبته لنفسك يا بشمهندز»
نهض يونس حين استدار رؤوف جازًا على أسنانه، اعتذر يونس بتلعثم «مجصدكش يا متر»
قالها وركض للخارج لكنّ طاهر أمسك به ومنعه قائلًا من بين ضحكاته «بتضرب أخوك الكبير مفيش أدب ولا رباية والله لأجول لجدتك»
دفعه يونس بخفه وهو يوبخه «اطلع منها أنت»
أمسك به رؤوف وسحبه لاويًا ذراعه خلف ظهره بعدما سلّمه له طاهر وتابع بإستحسان تأديب رؤوف له خاصة بعدما استلم رجب أذنه ساعة يشكو يونس ومصائبه، ضربه رؤوف فوق رأسه قائلًا «بلاويك كترت معارفش ألمّ وراك، في شغلك وفي البيت، وبعدين؟»
اقترح رؤوف بإبتسامة واسعة
«أنا أجوّزك تتأدب»
ضحك يونس قائلًا وهو يحاول الإفلات من قبضة رؤوف والهرب «مين جال الجواز تأديب دا بالنسبالك أنت بس»
بهتت ابتسامة طاهر وابتلع ريقة مبدلًا نظراته لرؤوف الذي ظلّ كما هو ثابتًا غامض التعبير لا يبرز انفعاله بل يستره برداء القوة، ضربه رؤوف على رأسه قائلًا «صُح عشان كِده هجوزك جوازه زي بتاعتي»
هرب يونس بعدما تخلّى رؤوف وعاد لطعامه، قال بعناد طفولي «وأعيش تعيس العمر كله»
أمسك طاهر بكتف يونس يمنعه من الهزار السخيف ومواصلة المزاح الذي لايصيب سوى القلب بالتعاسة «يونس»
توقف يونس عن تهكمه، ابتلع كلماته اللاذعة وغادر بينما حاول طاهر تبديد حزن رؤوف بسؤاله «الأكل استوى يا متر ولا لسه؟»
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، يونس يرفض تمامًا أن يظل رؤوف هكذا وحده شارد وحيد وهائم، فهو أول من يؤيد زواج رؤوف بأخرى، كلما كبر أخيه دون أطفال وانشغل بحياته أشفق عليه وشعر بالحسرة لأجله، لا يعرف تلك العلاقة البائسة سببها مَن؟  أخيه أم آيات؟
يفني جسده في العمل وعقله في التفكير، يحاوطهما وينشغل بهمومهما وينسى نفسه، لا هي تهتم به ولا هو يتحدث مستسلم لقدره.
خرج طاهر ليفترش الأرض وعاتبه ككل مرة «ليه كِده يا يونس؟»
لم يظهر الندم على ملامح يونس بل تابع بلا اهتمام «أنا جولت إيه غلط؟ دا شكل واحد متجوز؟»
حين خرج رؤوف بالأطباق لكزه طاهر ليصمت حفاظًا على مشاعر رؤوف
لم يبدو على رؤوف أنه تأثر بما قال يونس أو حتى سمعه من الأساس تعامل كأن شيئًا لم يحدث وتجمع معهما على الطعام يمازحهم كعادته ويسأل عن أخبارهما.
******
«بقنا»
استلقى فوق العشب على ظهره يتوسد كفيه وجواره قاسم يفعل مثله، ينظر إلى السماء مرددًا «الله.. الله»
تحرك قاسم وتوسد ذراع والده المثنيّ تحت رأسه وأشار للقمر «الجمر فيه نخلة وتحتها راجل»
ابتسم حامد دون تعقيب فحرّك قاسم أنامله كأنه يحرك النجوم ويلعب بها، ينقلها على هواه ثم فاجئه بسؤاله العفوي «هي أمي شيفانا يا أبوي؟»
عبس قليلًا بشرود ثم أجاب بتأكيد خافت «أيوة»
حكى قاسم قائلًا «النهاردة في الجامع الشيخ جال هيزرعوا نخل وشجر عن الجامع الكبير واتكلم عن الصدقات الجارية»
ابتسم حامد بإستحسان فتابع الصغير ببعض الحزن والإحباط الذي مس قلب حامد « كان نفسي أعمل لأمي نخلة وشجرة ليمون بس الفلوس مش هتجضي»
التفت له حامد قائلًا بضيق «هديك فلوس تعمل الي عايزه»
قال الصغير ببراءة وهو يحرك أنامله كأنما يرسم فوق صفحة السماء «لاه أنا عايز أعملها بفلوسي الي محوشها»
استنكر حامد قوله وسأله بإندهاش «ليه يا قاسم؟»
فسّر قاسم بعفوية وابتسامة خلابة «جدتي تماضر جالتلي إن الهدية بتوصلّهم باسم صاحبها وأنا عايزها تروح لها ويجولولها من قاسم، عايزها تفتكرني»
نهض حامد جالسًا يتنفس ممررًا الحزن من صدره في زفرات حارقة، التفت لطفله الذي قلّده حتى في الجلوس وضمه مقبلا رأسه، سأله قاسم ببراءة «هي فكراني صُح يا أبوي ومنستنيش؟ هتعرفني لما توصلها هديتي؟»
عجز عن الرد حين اخترق سهم الكلمات قلبه وفتت تماسكه وبعثر حكمته، اكتفى بضم الصغير بصمت ووجع يذبح الفؤاد
بصوت مبحوح خلّصه من براثن الكدر قال «هتعرفك وهتفرح يا حبيبي»
نادت تماضرعليهما فنهض حامد وساعدها في الوصول لمكان جلوسهما..
جلست جوارهما والصمت يحيط بهم
قطعته تماضر قائلة «أتجوز يا حامد»
قطب بصمت فلأول مرة تطلبها خالته صراحةً منه دون مواربة، فاقدة كل ذرة صبر، أوضحت بتنهيدة «اخترلك وليف يضلل على روحك يا ولدي»
تنهد بصمتٍ وعجز، فقالت بحسرة تملأ النفس «العمر بيجري هتفضل لحالك كتير  ؟  تايه في الدنيا »
قال بحزنٍ ملك القلب ونخر فيه « كلكم حوليا وقاسم أنا مش لحالي»
قالت موضحة تعري قلبه «لاه لحالك، إيه عازة الناس دي كلها وجلبك وحيد وروحك هايمة، ومفيش لروحك ونس الجريب مش جريب وبينكم سور يا ولدي مبيتهدمش والصبر الكتير من غير رجا يجيب العلّة»
ابتسم بوهن أصاب العطب في الروح «زهجتي مني يا تماضر ومن قاسم»
ابتسمت قائلة وهي تمدّ كفها لتلمس كتفه «عارف إنك نور العين وضيها»
لثم كفها بصمت فقالت تكشف ما يغطيه «فكّر يا نور العين»
صارحها بوجعه «لو فكرت يا خالة هلاجي فين الي ترد الروح عن توهتها وتملا الجلب ونس»
ابتسمت قائلة بيقين وأمل «هتلاجيها يا نور العين»
قال بمرارة تستقر بجوفه «إن رضت بيا هترضى بقاسم؟هتكونله أم »
ضحكت تمنحه اليقين والأمل من جديد «وتكونلك أنت أم لو ملكت جلبها»
بحزن همس «ودِه أملكه كيف يا تماضر دا أنا جلبي معارفش أملكه»
قالت باسمة ببشاشة «الحبيبة تجاور الجلب وتملكه غصب»
قال ممازحًا لها بمرح لا يفقده «لاه بلاها ولا تجاوره ولا تسرجه ولا تملكه ولا تكونلي أم، معاي تلت أمهات كفاية»
استاءت من قوله وعناده وأشاحت ممتعضة فقاطعه عبود ضاحكًا «سبيه يا تماضر الكداب جلبه هينشغل خلاص ومهيبجاش بيده»
نهض حامد يركض خلفه محاولًا الإمساك به بينما يقهقه عبود بمتعة كما الأطفال، شاركهم قاسم الركض والمزاح «بتطلعلي منين أنت؟ أدوّر عليك ملاجكش ودلوك تطلع زي عفريت العلبة»
وقف عبود يلهث فضمه حامد بحنو قائلا «متغبش عني، بدور عليك كتير»
قال عبود بنبرته المتكسرة «لو جولت عبود كنت جيت»
مازحه حامد وهو يعود ليجلس جوار خالته «ودلوك مجولتش عبود جيت كيف؟»
مال عبود واضعًا كفه فوق كتفه ونظر لعينيه بإمعان قائلًا «جولتها بجلبك يا حامد فسمعتها»
شده حامد من كفه وسحبه ليجلسه جواره ونهض هو قائلا «اجعد جايبلك التفاح الي بتحبه والعسلية»
هلل عبود فضحكت تماضر،تحرك حامد فزعق عبود يوقفه عن السير والمتابعة «الجلب بالجلب هيتوصل يا حامد، والروح هتتعلج بالمحبوب والسماح دوا هيريح الجلب العليل»
أكمل حامد خطواته تاركًا كلمات عبود عنده لا تُحدث الصخب بقلبه ولا تأثيرها يتعدى خدشًا في جدار القلب.
لحق به قاسم قائلًا «عايز أركب فرس يا بوي زي ما وعدتني؟»
ترك حامد ما ينشغل به وانتبه قائلًا «حاضر بس مش دلوك»
دبدب قاسم بقدميه في اعتراض «لاه أنت وعدتني»
زفر حامد بإحباط ويأس من صعوبة إقناع صغيره وقال «طيب يلا بينا»
ركض قاسم خلفه بحماس وهمّة عالية، منح حامد ما أحضره لعبود وأمسك بكف خالته لثّمه واستأذن مغادرًا بصغيره.
تسلّق الحائط متسللًا للحظيرة تملأ روحه نشوة المغامرة، قفز داخل الحظيرة ثم فتح الباب المغلق من الداخل وهمس لقاسم أن يدخل هو الآخر
سأله قاسم مستمتعًا بتلك المغامرة «هنسرق؟»
ابتسم حامد وسحبه هامسًا «شوية وهنرجعه»نظر قاسم للمنزل الكبير متسائلًا «بيت مين دِه يا أبوي؟»
راوغه حامد بمزاح «أنت عايز البيت ولا الفرس؟»
وقف قاسم أمام الحصان منبهرًا تتسع عيناه بسعادة مخلوطة بالإعجاب، اقترب منه وملّس فوق ما طالته كفه من جسد الحصان مُبديًا إعجابه به «جميل جوي يا أبوي؟» شاركه حامد الإعجاب وهو يُهيء الحصان للمغادرة «أيوة جميل»
فغر قاسم فمه وهو يملّس على شعر الحصان مستشعرًا نعومته، امتطى حامد الحصان بخفة ومهارة ثم سحب صغيره قائلًا «يلا غمّض عينيك يا قاسم»
فعل قاسم ما قاله ضاحكًا فسمى حامد الله وخرج بسرقته متهاديًا بالفرس.
حين رأتهما من نافذة الحجرة التي تطلّ على الحظيرة الخلفية يمتطيان الفرس بحماس وينطلقان بمتعة وضحكات تركت صداها ببساطة كأنهما ليس بسارقين، الكبير ملثم والصغير ملامحه يغطيها الظلام
سارعت بمهاتفته لتخبره بتلك السرقة،أنفاسها توقفت قبل أن تعود وتخبره بقلق «رؤوف»
أجابها دون لهفة بل بصبر يتخذه معها وسيلة للوصول «نعم يا آيات»
قالت متلعثمة تتحرك في أرجاء الشقة  «الفرس بتاعك»
سألها بهدوء غريب وبساطة «ماله  ؟»
أجابته بسرعة  «في واحد دخل الزريبة وأخده وكان معاه عيل صغير»
سألها بنفس الهدوء الذي أغاظها فهي تعرف مقدار حبه للفرس وتعلقه به،حبًا يعلنه ويجاهر به في أفعاله «معاه عيل؟»
أجابته «أيوة»
قال يطمئنها «ماشي هشوف الكاميرات متشغليش بالك نامي أنتِ»
أجابت بغيظ من تهكمه «ماشي تصبح على خير»
أنهت الاتصال ووضعت الهاتف نادمةً على الاتصال به وإخباره»
************
«القاهرة»
جلست فيروز جوار والدتها لاهثة، لثمت جبينها واعتدلت تتأمل شحوبها ببعض القلق المخلوط بالندم «أنتِ كويسة يا ماما؟»
أجابت والدتها بقوة تبقت في صوتها لم يسلبها منها المرض «الحمدلله»
سألت وهي تمرر كفها على رأس والدتها بحنو وعينين تغشاهما سحابة دموع «حصل إيه يا ماما؟»
طمأنتها والدتها محتوية شتاتها وخوفها «ولا حاجة فجأة وقعت»
أمسكت بحقيبة الدواء متسائلة «الدكتور قال إيه؟  »
جاءها صوت طرد الأمان من داخلها «بيقول ضغط مرتفع يا دكتورة شوفي أنتِ بقا السبب؟»
رفعت عينيها متأففة، ثم أدارت رأسها متجاهلة له تقول لوالدتها «سلامتك يا حبيبتي»
جلس الرجل قائلًا بحنق «مسألتيش يعني إيه السبب الي رفع ضغطها ولا وصلها للحالة  دي؟»
لوت فمها مطلقة زفرة حادة قبل أن تخبره بسخرية وبرود لتغيظه  «أكيد أنا مفيش غيري يا عمي»
جز على أسنانه بغضب من طريقتها في الحديث وبرودها الذي يشعل حرائق غضبه وقال «وعادي عندك؟ مش فارقة معاكي ولا هامك صحتها طبعًا»
أجفلت من اتهامه لها، انتفضت هاتفة بغضب «لا مش عادي ومحدش يهمني في الدنيا غيرها اطلع أنت منها بس»
صرخ بغضب من تجرأها عليه«اتكلمي بأدب والزمي حدك»
عقدت ساعديها أمام صدرها واستعدلت لمواجهته ورميه برصاص كلماتها
فشدت والدتها كفها تتوسلها بنظراتها التوقف، زفرت فيروز مسيطرة على غضبها وهمست مستغفرة بدموع مختنقة..
قال غاضبًا وهو يغادر الحجرة « أقعدي هِنا مع والدتك لغاية ما تخف وبعدها لينا كلام»
حاولت الرفض والوقوف أمامه بكل أسلحتها التي أعدّتها لكنها رضخت رفقًا بوالدتها وزيادة اطمئنان عليها.
رحل فانهارت جالسة تريد البكاء ولا تقدر لن تنحني له ولن يُذل كبرياؤها.
لن ترضخ له كما السابق، لن تكون قطعة شطرنج يحركها كيفما شاء.
تنفست بقوة مسيطرة على دموعها والتفتت لوالدتها تطمئنها بابتسامتها الرقيقة نامت والدتها فنهضت فيروز متحركة
**********
تحرّك بين الحقول يمزق الظلام بجسده مدندنًا بأشعاره يتبعه عبود مسبحًا هائمًا في ملكوته، وقف في نهاية الطريق صامتًا بترقب يتطلع حوله مُرهفًا السمع، وقف عبود جواره نظراته تستفسر عن سبب الوقوف والصمت، كتم حامد فم عبود بكفه وأشار إليه ليصمت ففعل برهبة..
، تحرّك قليلًا ناحية الهمس يتبع سمعه وما يصل إليه من كلمات بعضها يتضح كلما اقترب وأخرى مكتومة  «أبوس يدك سيبني»
حتى أعلنت الصرخة المُحملة بالإستغاثةعن الحدث ومكانه  «الحجوني يا ناس»

#انتهى


♕عزف السواقي ♕حيث تعيش القصص. اكتشف الآن