الفصل السابع
تحرّك بين الحقول يمزق الظلام بجسده مدندنًا بأشعاره يتبعه عبودمسبحًا هائمًا في ملكوته، وقف في نهاية الطريق صامتًا بترقب يتطلعحوله مُرهفًا السمع، وقف عبود جواره نظراته تستفسر عن سببالوقوف والصمت، كتم حامد فم عبود بكفه وأشار إليه ليصمت ففعلبرهبة..
، تحرّك قليلًا ناحية الهمس يتبع سمعه وما يصل إليه من كلماتبعضها يتضح كلما اقترب وأخرى مكتومة «أبوس يدك سيبني»
حتى أعلنت الصرخة المُحملة بالاستغاثة عن الحدث ومكانه «الحجوني يا ناس»
اقتحم حامد المنزل القديم المتطرف راميًا ضوء هاتفه على وجوههم«في إيه هِنا؟»
انتفضت السيدة في إستغاثة، تعلقت نظراتها به مستنجدة، حررالرجل فمها فركضت تجاه حامد واختبأت خلفه في حماية، بينما أشهرالرجل مدّيته في وجهه «عايز إيه يا عم أنت؟»
حرّك حامد كفه في استعداد قائلًا «حبيبي يارب» قبل أن يستفسرالرجل
ضربه حامد مستغلًا ترنحه وعدم ثباته الذي يوشي بتناوله العقاقير، فقد وعيه فتركه ونهض يلهث،بصق فوق جسده واستدار يمسح الدماءعن أنفه، اندفعت السيدة شاكرة «متشكرة يا عمدة»
وقف بالخارج جوار عبود الذي هلل بنصره ورقص في حركة دائريةقائلا «حبيبي يا رب»
منحته السيدة منديلًا من القماش وهي تتأمله على ضوء عمود الإنارة بإعجاب واضح «خد امسح الدم»
رفض وابتعد عنها غاضًا بصره شاكرًا «لاه شكرًا»
اقتربت منه تحاول لكنه ابتعد عنها ورفض في لهجة غاضبة «جولتلك شكرًا»
وقف عبود ممتعضًا يتأملها بنظرة نافرة وامتعاض واضح، سألهاحامد بجدية امتزجت بالضيق «ايه جايبك هِنا يا ست في الوجت دِه ولمين؟»
أجابته بنظرة تقييمية مكدسة بالإعجاب«جاية لأخوي عايش هِنا، ملحجتش عربية في الموجف غير ابن الحرام دِه وجلي هوصلك مكان ماعايزه»
زفر بضيق لا يعرف مصدره وقال «ماشي ياست أخوكي ساكن فين واحنا نوصلك ليه؟»
أجابته وهي تحوّل بصرها عنه «ف…..»
لفّ شاله حول رأسه قائلًا «المكان بعيد والوجت اتأخر دلوك هتيجي معانا تبيتي في أمان والصبح نوصلك»
ترددت قليلًا فشجعها قائلًا «بيت خالتي جريب من هِنا متجلجيش ياست»
أومأت قائلة ببعض الراحة «ماشي شكرًا يا عمدة»
سار وعبود جواره وهي خلفهما حتى وصلوا للمنزل، دخل فقالت تماضر بعبوس «ايه الريحة العفشة الي هبّت دي يا حامد»
أجابها حامد «مفيش يا خالة»
عادت لصمتها وتسبيحها الذي قطعه بطلبه في أدب « بجولك يا خالة غريبة استنجدت بينا على الطريج فجبناها لغاية ما يطلع الصبح» قطبت تماضر في تفكير ثم تنهدت مستسلمة تُعلن موافقتها دون رضامن القلب «يا مرحب يا ولدي بعابر السبيل»
خرج حامد قائلًا «ادخلي يا ست»
شكرته ودخلت رامية تحية المساء على تماضر التي زاد امتعاضها لكنها سيطرت عليه وأجابت «مساء النور»
أشارت لها تماضر ببعض الحدّة غير المفهومة «اغلجي الباب زين وتعالي يا بتي»
فعلت كما طلبت فأشارت تماضر لها «اتمددي على الفرشة لغايةالصبح»
جلست على مضض بقلق من نبرة تماضر الحازمة وعبوسها الذي يوشي برفضها وجودها.
ظلت تراقب تماضر بعين الحذر حتى كفّت عن الذكر والمناجاة ونامت، فنهضت على أطراف أناملها تتجول في المنزل الصغير البسيط بحذر وانتباه شديد، تكتم أنفاسها كل حين وكلما مرّت جوار تماضر النائمة، تعجبت داخلها من تلك السيدة التي تتقلب بذكر الله، كيف لها أن تكون منتبهة حتى في نومها هكذا ولا تغفل عن التسبيح
دخلت الحجرة الصغيرة الوحيدة وفتشتها بعناية، لن تخرج من هنا حتى تأخذ تذكارًا وتمهّد سبيل للعودة، ستجعله يفتّش عنها دون جهد منها أو عناء.
تحت الملابس بالخزانة المتهالكة وجدت صرّة من القماش، ابتسمت بظفر وهي تفك عقدتها، وجدت بعض الأوراق و خاتمًا ذهبيًا بفص أحمر لامع ومميز، تأملته مُعجبة بتفاصيله وإتقان صنعه قبل أن تدسه وتخبئه في عناية، قلّبت الملابس والأغراض فوجدت القليل من المال، أخذته وعادت لموضعها جوار تماضر تنتظر، بعد قليل شعرت بحركة في الخارج فوقفت تتقصى من النافذة التي فوق رأسها، وجدته يتوضأ هو وصغيره ذاكرًا الله مرددًا بنبرة يملؤها السرور «حبيبي يارب»
أضمرت في نفسها إعجابًا لهذا الرجل الذي أنقذها الليلة ومنحها الأمان، تمنت ألا تغدر أو تخون لكنها تريده أن يبحث عنها ويجدها وحينها تصطاده في عقر دارها.
تابعته بنظراتها حتى رحل بصغيره، بعدها استيقظت العجوز ونهضت بصمت، توضأت من مياه موضوعة جوارها وأقامت الصلاة، ظلت مكانها ساكنة تراقب بصمت وحذر حتى مزق النهار رداء الليل الطويل، فتسللت للخارج، عبست بغير رضا وسخط من صرير الباب الذي جعل تماضر تسأل «مين؟»
تجاهلتها وواصلت فتحه دون إجابة، نهضت العجوز متعكزة على عصاها ركضت هي هاربة ًبعدما أغلقت خلفها.
حين عاد طرق الباب ونادى فأجابت تماضر وهي تحاول النهوض«تعالى يا ولدي»
دخل قاسم أولًا بعدما تعجب حامد من سماح خالته له بالدخول في وجود الضيفة ،فتش بعينيه المكان والحجرة ثم خرج ليخبر والده«مفيش حدّ جوا»
ضيق حامد حدقتيه مستفسرًا بحيرة «متأكد يا قاسم؟»
أكدّ قاسم «أيوة يا أبوي مفيش حد»
دخل حامد المنزل فوجد المكان خاليًا من ضيفته،تعجب من رحيلها المفاجيء وعدم صبرها لكنه تجاهل الأمر.
قبّل كف خالته وجلس قائلًا «صباح الخير يا خالة؟»
أجابته بربتتها الحنون فوق كتفه «صباح الخير يا نور العين»
سألها وهو يبتعد عنها ناهضًا يرتّب المكان وينظفه ويملأ الزير«نعستي زين؟»
أجابته برضا ثم قالت «الضيفة مشت،حسيت بحد بيفتح الباب ويغلجه»
قال غير مبالي ودون اهتمام «الله يسهلها طريجها احنا عملنا الواجب وزيادة»
هزت رأسها بإستحسان، وضع حامد إبريقًا من الألمونيوم مملوء باللبن فوق الموقد البسيط ليغلي ثم تحرّك في المكان يرتب وينظف عاد للموقد بعد قليل أغلقه وقام بتبريد كوبًا لخالته ووضعه بين أناملها قائلًا«اللبن يا خالة»
كذلك فعل مع قاسم الذي ارتشفه بنهم مستحسنًا مذاقه.
صنع لنفسه كوبًا من الشاي ووضع فيه حبتي قرنفل وورقتي نعناع وجلس يرتشف .
قبل الظهر رنّ هاتفه فأجاب مبتسمًا «الباشا بنفسه يامُرحب»
صرخ الأخر بغضب وسخط «تقولي باشا تقولي وزير يومك برضو مش فايت»
كتم حامد ضحكاته وأجاب بثبات زائف «ليه بس يا زين باشا»
تأفف زين ثم أجابه بغضب مكتوم «هفضل ألمّ وراك كتير؟»
قال حامد ببرود وهدوء «واه ليه أنا عملت إيه بس مزعلك؟»
زعق زين بنفاذ صبر«طايح فخلق الله»
استنكر حامد ببرود مدّعيًا العبوس «أنا لا حول ولاقوة إلا بالله»
سخر منه زين في فظاظة وتهكم «لا يا راجل اتأثرت»
انفجر حامد ضاحكًا بعدما خرج من دائرة الثبات والجديّة، مما جعل زين يسبه علانيةً.
سكت حامد عن الضحك يلومه « هنغلط ولا إيه؟»
سأله زين بحنق متجاهلًا قوله «بتضرب سمير ليه؟»
أجاب حامد ببساطة «جليل أدب وأمه نسيت تربيه»
صرخ فيه زين منفعلًا «وحياة أمك»
قال حامد بمزاح «ماهو قالي وحياة أمك أسكتله؟»
ابتسم زين وتنهد بإستسلام فسأله حامد «فينك دلوك عند نسايبك ولافجنا؟»
أجابه زين بعدما زفر بهدوء«أيوة»
قال حامد «أبجا عدي عليّ»
قال زين بتهكم «أنت فين أراضيك؟»
ابتسم حامد قائلًا «عند خالتي»
همهم زين ثم طلب «فيها عشا ولا أمشي بلاغ سمير؟»
ضحك حامد ساخرًا «لا ويجولك الحكومة شرفاء مبيجبلوش رشاوي»
ابتسم زين قائلًا «مسيري أحبسك»
قال حامد بثقة «أحلم»
قال زين بغيظ «أبو معرفتك على دي زمالة سودة»
سخر منه حامد «زمالة سودة بلون الرومي الي أكلته والبط الي زلطته»
تأفف زين قائلًا«طيب غور ساعة وجايلك»
أنهى حامد الاتصال ونهض ذاهبًا لابنه خالته يخبرها بمجيء ضيفه.
*********
«بمنزل والد آيات»
سألتها والدتها التي لاحظت شرودها منذ جاءت «جوزك كويس يا بت؟»
ابتسمت هدى برقة وأجابت برضا «الحمدلله بخير»
سألتها والدتها بمصمصة شفاه متحسرة أصابت قلب الأخرى بالهم والغم «الدكتور جال إيه؟»
ابتسمت هدى وأجابتها بأمل «بخير محتاج علاج طبيعي فترة»
مصمصت والدتها من جديد في شفقة ثم سألتها «هتجيبوا منين فلوس للدكاترة دي»
نهضت هدى متهربة من نظرات والدتها، دارت في الحجرة قائلة«مستورة الحمدلله»
رمقتها والدتها بشك قبل أن تسألها «عندك غدا يا بت؟»
أجابتها وهي تبتلع غصتها وتجيبها برضا «عندي كل حاجة والله مش ناجصني حاجة»
لم تزل نظرة الشك بعيني والدتها تحيطها وتتصيد بشباك الشفقة رد فعلها وملامحها، قالت في استسلام «طيب خديلك شوية دجيج معاكي»
هزت رأسها وخرجت باحثة عن طفلها لتأخذه وترحل، وأثناء بحثها عنه اصطدمت بآيات واقفة فعبست بضيق وانقبض صدرها بحزن كحجر ثقيل عجزت عن إزاحته، ابتسمت آيات قائلة «ازيك يا هدى»
حملت هدى صغيرها مُجيبة بمودة فاقدة للروح «ازيك يا آيات عاملة إيه؟»
اقتربت تسلّم على الصغير «ازيك يا بودي»
تذكر الصغير كلمات رؤوف فقال «جوليلي عبد الله اسمي حلو»
ابتسم آيات وقالت بتصميم وهي تنثر القبلات فوق خده «لاه بودي»
عبس الصغير بغير استحسان فابتعدت هدى مستأذنة الرحيل لضيق الوقت «همشي يا آيات عن إذنك»
مال فم آيات بضيق وضجر وقالت مستهجنة طريقة أختها معها«هتشوفيني وتمشي يا بت؟»
أجابتها هدى لا تمنحها الرضا والقبول «اتأخرت على مؤمن وعلى البيت؟»
عقدت آيات ذراعيها أمام صدرها وقالت «هو مؤمن هيطير ما جاعد علطول في البيت وبعدين بيت إيه أنتِ وراكي إيه أصلًا؟»
سيطرت هدى على ضيقها وتحركت مغادرة بصمت، فنادتها آيات بغيظ«بت تعالي هِنا»
لكنها واصلت السير بخطوات سريعة في هروب سريع من تلك المشاعر التي تهاجمها الآن.
حين وطأت أقدامها المنزل تنفست بإرتياح وتبسمت برضا، أنزلت الصغير ووضعت كيس الدقيق جانبًا ودخلت مفتشةً عنه
وهي تفرد خصلاتها الطويلة وتحررها.
وقفت أمام باب الحجرة معاتبة بنظرة حنون «استريحت مننا طبعًا ومن دوشتنا عشان كِده مرنتش»
أغلق الكتاب الذي أمامه وخلع عويناته يتأملها قائلًا بصدق«مستريحتش ولا عمري هستريح من غيركم بس كنت عايزك أنتِ تغيري جو وتفكي مع أمك شوية»
رمقته بنظرة عاتبة قبل أن تخطو تجاهه بصمت، جلست على ركبتيها أمامه تدلّك ساقيه قائلة بصدق «مبعرفش اتكلم غير معاك وبس، بعيد عنك وعن بيتنا مفيش راحة كله تعب»
وضع كفه فوق رأسها وهمس بقلق «مالك يا هدى مين مزعلك؟»
رفعت نظراتها الحزينة قائلة وهي تواصل تدليك ساقيه «مفيش بس جولي جعدت كتير ليه يا مؤمن مش نبهتك تمشي شوية وتجعد شوية؟»
بدا غير مهتم بسؤالها، يؤلمه ما يراه بنظراتها الحزينة الفاقدة للروح، بحنانه المعهود مسح على خدها وهو يكرر سؤاله بنبرة أعمق اخترقت الروح وهدمت الحواجز وفتت صخور الرفض «مين طفى نور جلبك؟»
صارحته وهي تعتدل واضعة رأسها فوق ركبتيه «شوفت آيات ومجدرتش أكلمها زي الأول حسيت جلبي فيه حاجة»
وضع كفه فوق رأسها وملّس بحنو على شعرها مهونًا عليها«متضغطيش على نفسك لما تهدي» ملّس فوق خصلاتها بحنان غمرها بالسكينة وأعادها من توهتها.
رفعت رأسها وقالت بحماس وهي تنهض «اديني ساعة هجهزلك الغدا»
شاكسها بمرح رأفةً بها «ساعة أدي آخرة الدلع»
مالت ولثمت خده بقبلة رقيقة ثم ابتعدت قائلة وهي تلملم خصلاتها«طيب خلاص ساعتين»
قال وهو ينهض متعكزًا على عصاه «صليتي الظهر؟»
هزت رأسها بالموافقة فاقترب من لوحة فوق الجدار ورسم دائرة فوق تاريخ اليوم قائلًا «كدا النهارده الضهر التزام»
حاوطت كتفيه بذراعيها وأراحت خدها فوق ظهره متسائلة «وأنت صليت ولا لاه؟»
قال بحنان «لاه مستنيكي تيجي وتساعديني وتاخدي الأجر»
شاكسته بقولها الضاحك «افرض مجتش؟»
قال بصدق وهو يحاول الاستدارة فهبّت بلهفة لمساعدته تمنحه ذراعها ليسنده ويتعكز عليه «مش هتنسيني أنا عارف» همست مؤكدة «ولاعمري أجدر»
قرّب رأسها وطبع قبلة امتنان وتقدير فوق جبينها داعيًا «ربنا مايحرمني من وجودك» همست برضا «ولا منك»
ساعدته راميةً عكازه جانبًا حتى خرجا من الحجرة ليتوضأ، بعدما أدى فرضه جلس بالقرب منها يتابعها بعينيه وهي تتحرك حوله لتحضير الغدا، ينشغل معها وبها، يشاركها الثرثرات الكثيرة المفيد منها والتافه حتى أنهت الغداء وتحلقوا حول صينية صغيرة، كانت تدس بفمه الطعام وفم صغيرها بالتبادل حتى قرر هو وصغيره التوقف وإطعامها رغمًا عنها.
****************
«في المدرسة»
أثناء هبوطها من الطابق العلوى لمحت إحداهن واقفة في نهاية الدرج نصفها يتدلى من شرفة الدور الأول، اقتربت لتعرف سبب فعلها وتحذرها، سارت ببطء حتى وصلت ووقفت خلفها تتابع همس الفتاة، جاورتها ونظرت إلى ما تنظر فصعقت، وفضحت شهقتها المستنكرة وجودها وهويتها للفتاة وللآخر الذي يقف بالأسفل، يتواصل معاها ويمنحها ورقة مطوية.. خبأتها الفتاة خلف ظهرها واستدارات قائلةبفزع وضيق «ميس آيات؟»
سألتها آيات وهي تطارد الهارب الذي تسلّق السور الفاصل بين مدرسته ومدرستهم بنظراتها حتى اختفى خلفه «مين ده يا حنين وبيديكي إيه؟»
عبست حنين وقالت بضيق مفتعل وهجوم لتخرج من ذلك المأزق وتلك الورطة «هيكون بيديني إيه يعني يا ميس دي دي.. فلوس وجعت مني فناديته يلفيهاني»
اقتربت آيات مُكذبة قولها بالسؤال «طيب وريني كِده؟»
انفعلت الفتاة وصاحت وهي تعود خطوة للخلف «في إيه يا ميس آيات أنتِ بتكدبيني؟»
عقدت آيات ذراعيها أمام صدرها وقالت بثبات «لاه بس بتأكد عايزة أشوف كم الفلوس الي تخليه ينط السور ويدخل يلفيهالك»
قالت الفتاة بغضب «وأنا جولتلك وخلاص صدجي أو لاه»
هاجمتها آيات «أنتِ بتكدبي في إيه بينك وبين الواد دِه وكيف دخل هِنا؟»
اتسعت عينا الفتاة بذهول مما نطقت آيات في حقها وقالت منفعلة بغضب «بتتبلي عليَّ يا ميس وعايزة تلبسيني مصيبة »
قالت آيات بثبات وبرود «لاه مبتبلاش عليكي ولا حاجة أنا شوفت بعيني»
صاحت الفتاة بغضب مدافعة عن نفسها «لاه مشوفتيش أنتِ بس الي فاكرة كل الناس حبّيبة زيك»
ارتبكت آيات وتلاشى هدوئها، اقتربت من الفتاة وسألتها ونظراتها تتوعدها «جصدك إيه؟»
بلعت الفتاة ريقها ملتقطة أنفاسها بعدما نجحت في إرباك آيات وتشتيتها، قالت «مجصديش أنتِ فهمتي غلط يا ميس»
زعقت بإسمها في غضب «حنين احترمي نفسك واتظبطي»
قالت الفتاة ببرود «أنا مظبوطة يا ميس وبجولك كان بيديني فلوس وجعت مني»
قالت آيات متوعدة لها «ماشي نروح لحضرت الناظر ونجوله ونشوف الواد دِه دخل المدرسة كِيف عشان يلافيكي الفلوس»
ارتبكت حنين من جديد وتشتت أفكارها فهاجمتها بثبات مزيف «لازم تجولي كِده ما هو حماكي وهياجي فصفك»
هزت آيات رأسها بابتسامة ظافرة متشفية تؤكد قولها «آه»
سحبتها آيات من ذراعها رغم اعتراض الفتاة ورفضها، لكن آيات صممت بعناد أن تجرها خلفها، فردت الفتاة ذراعها بسرعة ناحية سور الدرج وألقت بالورقة في الهواء.
ثم تابعت السير معها بتشفي وغيظ وحنق.
خرجت حنين من حجرة الناظر بعد وصلة توبيخ حادة وتحذير شديد اللهجة زاد من سخطها على آيات التي رمقتها بنظرة متشفية، وابتسامة ظفر جعلت حنين تتوعدها في سرها وتعدها بانتقام حاد يوازي انتصارها عليها اليوم.
*********
«بالقاهرة»
فوق فِراشها تمددت على جنبها صامتة ومستنفذة لا طاقة لها، تضع أمام عينيها الهدية وكلماته، همست بهمّ يُثقل الروح و هي ترفع الكارت لعينيها «يا صاحب الهدية ادعي إن الدنيا متأذيش قلبي»
حين أنهت جملتها دخلت صفوة؛ تُعلمها بمجيء لمياء لرؤيتها، بدت غائبة عما حولها تائهة في ظلماتها تطارد النور وتمسك بفراشات الأمل، تطالع الهدية بنظرة تتفتح كلما تفتحت الزهرة، تبتسم دون وعي وتعبس دون إرادة كأن الألم يجرها جرًا ك دابة.. همست صفوة بإشفاق «غزل لمياء بره عايزة تشوفك»
نظرت كأنما للتو عادت للواقع واستردت وعيها الغائب، طالعت أختها بنظرة تسترد الإدراك ثم جلست مُرحبة «خليها تيجي»
سألتها صفوة بقلق يغمر النفس كلما طالعت أختها الذابلة «أنتِ كويسة يا حبيبتي؟»
أجابتها بابتسامة مسلوبة من رضا القلب «زي الفل يلا بقا ناديلها وتعالي نرغي»
ابتسمت صفوة بقلق لا تملك السيطرة عليه ولا يرضى بفتات أختها من الابتسام والحديث، تحركت لتخبر لمياء لكنها وقفت على سؤال غزل الحائر «صفوة طاهر مرنّش أو كتب؟ مش عارفة فين تليفوني؟»
أجابتها صفوة «مش عارفة يا غزل هدورلك عليه»
اعتدلت غزل منتظرة دخول صديقتها ربما الثرثرة تطغي على أفكارها وتدثرها بالانشغال قليلًا... تذكرت طاهر فابتسمت منادية بهمس«فينك يا طاهر؟»
تنهدت وصمتت تستقبل دخول صديقتها التي ضمتها كثيرًا بحنو ثم تربعت فوق الفِراش أمامها تفتح أكياس المقرمشات والحبّ وهي لاتتوقف عن الثرثرة... لكن تلك المرة صديقتها مختلفة ثرثرتها تضج بالسعادة وتنبع بالحياة، عيناها تلمع ونظراتها تتألق كلما ذكرت مديرها وحكت عنه، لا تتوقف عن مدحه ولا إبداء الإعجاب بطريقته وحسن تعامله، حكت لها موقفه معها في المصعد ثلاث مرات وكل مرة تضحك وغزل تستمع بصبر ولا تعلّق.
فرحت غزل لأجلها وتركتها تفضي كما تحب حتى اكتفت ثم احتضنتها شاكرة لها سماعها، معتذرة لها عن ثرثرتها.
غادرت وتركتها تفتش عن هاتفها باحثة فيه عن مظلة الأمان لقلبها وراحة نفسها «طاهر»
القليل من كلماته يشفي، والكثير منها يرمم، يحمل قلبًا نظيفًا طاهرًا يمنحها السكينة والرضا، كلماته ليست كالكلمات ومواساته لا تشبهها مواساة.
توقفت عن البحث حين دخلت صفوة تخبرها بمجيء عبد الرحمن، ودّت لو رفضت لكن المواجهة لابد منها، القرار يحتاج لحزم حتى لا يُفنى الوقت في التردد
ارتدت ملابس عادية تفتقر للاهتمام والعناية كما تعودت، ثم لفّت حجابها بعشوائية، أظهرت وجهها ولم تخبئ الضمادة كما تعودت لحاجةٍ في نفسها..
خرجت وكلها عزم، سلّمت دون ابتسام وجلست ببطء، يسأل فتجيب باقتضاب
حتى قال «عايزين نسافر للدكتور الي قولتلك عليه؟»
تابع والدها الحديث بصمت واهتمام كما بقيت صفوة متحفزة ومستعدة فملامح غزل لا تبشر بخير
قالت بحدّة «مش عايزة أسافر ولا قادرة»
قطب بضيق مستفسرًا «ليه؟»
بعصبية طبعها الحادث في كلماتها «قولتلك مش قادرة»
قال بجدية تفتقر للحنان والرفق «امتى؟ لازم نبتدي ندور على دكاترة شاطرة ونشوف الي فوشك دا هيتعالج ازاي؟»
قالت متنهدة بضيق «مش قادرة دلوقت أجّل الموضوع ده لبعدين»
سألها بضيق من عصبيتها «لبعدين امتى؟ مش مستوعبة تهوّرك وصلك لفين؟ ولا حجم الكارثة الي عملتيها فنفسك »
انتفضت واقفة تصرخ فيه بانهيار بعدما فقدت كل ذرة صبر كانت تقبض عليها «بس بس... مش رايحه مكان وراضية بالي حصل وفخورة بالي عملته»
نهض عبد الرحمن يتهكم من قولها «فخورة بأيه وأنتِ اتشوهتي، مبتبصيش لوشك في المراية؟»
أطبقت شفتيها في صلابة امتزجت بالحسرة وهي تستمع لكلماته المسمومة، اتخذت قرارها سحبت خاتمه من إصبعها وألقته بوجهه قائلة وهي تحبس دموعها خلف قضبان الكبرياء «ببص وعارفة ودي علشان أنت متتجبرش تبص»
غادرت تاركةً له خلفها يشتعل غيظًا وغضبًا،يحاول والدها تهدأته بالكلمات لكنه زفر بغضب وخرج دون كلمة
ودخلت حجرتها مهرولة وخلفها صفوة تحاول تهدأتها لكنها أغلقت الباب مانعة دخولها خلفها وهي تصرخ «سيبوني لوحدي»
طرق والدها الباب يرجوها الخروج أو السماح لهم بالدخول للاطمئنان عليها، لكنها رفضت متجاهلة توسلاتهم، ضغطت بكفيها على أذنيها تصمهما عن السمع لهم، تسد منافذ العقل حتى لا تتسرب الكلمات له فيرضخ.
ظلت هكذا حتى تسرب اليأس لنفوسهم فتركوها حتى تهدأ، أختها تبكي بقلة حيلة وأمها تدعو بتضرع ووالدها يسب ويلعن من كان سببًا في ذلك.
**************
«بمكتب رؤوف»
حرّك رأسه ربما تتحرك أفكاره وتتوازن، هذا الوعاء يمتلىء بصورها، تحركه معالق الإنشغال بها وبمصيرها وكأنه أصبح مسئولًا عنها، تعجب أمس حين أرّقته صورتها وظل يجوب الشقة متسائلًا كيف ستمر محنتها؟ قرر حين أرسل الهدية أنه لن يقترب ولن ينشغل بها، سيطوي الصفحة.. لكنه نسي عقله في تلك الصفحة معها فانشغل بها ومعها من جديد.. رؤيتها تحرك داخله شيئًا لم يختبره من قبل، شعور غريب بمذاق مختلف، يريد احتضانها وتخبئتها ولا يعرف أي جنون هذا ولا أي رغبة تلك التي يتمناها؟ تثير مشاعره كأنها طفلته التي يريد حمايتها من النظرات ومساندتها.
مسح وجهه يستقبل الطارق بابتسامته «تعالى يا رامز»
قال رامز بابتسامة نصر «واحد حبيبك بره وعايز يقابلك»
استفسر رؤوف وهو ينقر بأنامله فوق المكتب «مين؟»
أجاب رامز بمرح «خمن يا بوص»
فكّر رؤوف قليلًا ثم ابتسم قائلًا «لا متقولش!»
قال رامز بحماس شديد « لا هو وجايلك بنفسه»
قال رؤوف وهو يفرد ظهره ويتمطأ بكسل«سيبه شوية وبعدين دخله»
أومأ رامز ثم خرج وأغلق خلفه، نهض رؤوف مستعينًا بالله صلى ركعتين وذكر الله ثم أخبر رامز أن يُدخل ضيفه..
استقبله رؤوف بترحاب واحترام شديد «يا اهلا يا فتحي بيه نورتنا»
منحه الرجل كفه ببعض الاستعلاء والضيق الذي التقطه رؤوف فابتسم وعدل عن احترامه قليلًا «ازيك يا أستاذ رؤوف»
سأله رؤوف بجدية «تشرب ايه؟»
لوّح الرجل بأنامله في قرف قائلا «ولا حاجة خلينا في المفيد»
أراح رؤوف ظهره للكرسي واسترخى قائلًا باستعلاء مماثل «اتفضل»
قال الرجل بضيق «بخصوص قضية التعويضات الي رافعها للعمال جاي علشان نتفاوض»
ضيق رؤوف نظراته فوق ملامح الأخر في قراءة لنواياه قائلا « وماله نتفاوض ؟»
قال الرجل بغطرسة وهو يشعل سيجاره باهظ الثمن «تاخد كام وتسيب القضية؟»
ابتسم رؤوف مستفسرًا« والعمال؟»
قال الرجل بغرور ونفور واضح «سيبك منهم وخليك معايا»
قال رؤوف بعملية ورأسه يستعر غضبًا من الجالس أمامه «ادفعلهم تعويضات كويسه ونمشيها ودّي»
رمقه الرجل بنظرة مستنكرة قائلًا «لا »
نهض رؤوف من مكانه قائلًا وهو ينظر لساعة معصمه الأنيقة «معلش اتأخرت عندي ميعاد مهم، نتقابل في المحكمة»
نهض الرجل غاضبًا من طريقة رؤوف، وهتف بضيق «أنا جتلك لغاية عندك علشان مش عايز أخسرك وبمدلك إيدي»
ابتسم رؤوف قائلًا «وأنا قولتلك الي عندي راضي العمال الغلابة، مش هتراضيهم؟ هراضيهم أنا وبدل التلاته هتدفع خمسة وأنت عارف»
غمزه رؤوف في نهاية كلماته كتأكيد ، ليقول الرجل مفاوضًا«بس دا كتير يا أستاذ رؤوف»
قال رؤوف مبتسمًا وهو ينفض غبار وهمي عن قميصه «ولا كتير ولاحاجة حقهم»
ثار الرجل بغيظ وفظاظة «ملهمش حق»
استأذن رؤوف قائلًا ببرود وابتسامة مُغيظة «عن إذنك المكان مكانك عايز تشرب حاجة دوس عالجرس وهيجبولك الي عايزه حتى لو غدا»
تحرك رؤوف للخارج في هيبة وغرور تبعه رامز حتى المصعد ووقف يسأله «ايه؟»
قال رؤوف وهو يستعجل مجيء المصعد «دا جاي يستعرض نفسه، لو عارف نفسه هيكسبها مكانش جه»
دخل رؤوف المصعد متنفسًا براحة، وعاد رامز للمكتب في صمت.
رحل لمكانه المفضل والآمن لأحضان صغاره وترف مشاعرهم البريئة، للعطاء اللامحدود بلا سبب أو طلب.
جلس جوارهم في دائرة، يضحك ويغني ويمزح، يحكي بخياله، يفرد الأوراق البيضاء ويرسم ويلون.
بعد قليل لمحها تدخل من باب الدار منكمشة حزينة، بنظرة تائهة مملوءة بالأسى.. اختبأ في الصغار حتى مرّت بسلام.
ثم سحب ورقة بيضاء ورسم في منتصفها قلب كبير وكتب داخله«متكسريش مراية قلبك بالحزن.
كنتِ جميلة وجمال قلبك يتشاف فملامحك، انطفت ملامحك فظهر قلبك زي القمر نوره يبهر وجماله يخطف»
طوى الورقة وأعطاها لأحد الصغار وهو يهمس له في أذنه ممليًا عليه ما يفعل.
دخل طاهر الدار باحثًا عنها، أخبرته بمكانها وطلبت رؤيته، وجدها منكمشة فوق مقعد غائبة وشاردة، تغوص في الخيال مطاردة أفكارها التي لا يعرفها لكنه يحسها..
رمى سلامه التام كما يفعل كأنما يطرق مستأذنًا الدخول، فرفعت نظراتها متنهدة براحة ترد سلامه، جلس جوارها يسأل بلطف وحنو«ازيك يا بشمهندسة؟»
أجابته برقة «الحمدلله يا طاهر»
صمتت بعدها صمتًا طويل بائس قطعه هو بقلق «هتفضلي ساكته»
أجابته وتوهتها تزداد وعذابها يشتد عليها فتغرق أكثر «مش لاقية كلام يا طاهر»
قال بحنو مبتئسًا لأجلها «ليه؟ جوليلي مين مزعلك » صارحته والدموع تطفو وتتشابك مهددة بالهطول
«مش زعلانه أد ما أنا تايهة»
برفقه المعتاد وبراءة قلبه قال حزينًا لأجلها
«سلامتك من التوهة»
همست وهي تنظر إليه طالبة النصح أو مباركة قرارها «أنا عايزة أسافر يا طاهر بعيد ولوحدي»
قال متعذبًا بضياعها متفاجئًا بقرارها «ليه يا هندسة؟»
صارحته وهي تلفظ أخر أنفاس هدؤها قبل أن تهبط دموعها ويتحشرج صوتها
«مش قادرة حاسة عايزة أبعد وبس»
قال بعدما ابتلع ريقه مرتبكًا «وتسيبي الي بيحبوكي وعايزين يطمنوا عليكي لمين؟»
مسحت دموعها التي كانت تهبط داخل قلبه كلهب «محدش فاهمني ولاحاسس بيا يا طاهر كلهم بيلوموني»
التقط نفسًا طويلًا يسيطر به على حزنه وقال مهدئًا لها يدعم مشاعرها «أنا فاهمك وحاسس بتوهتك»
هتفت بإقرار «محتاجة أبعد يا طاهر مش قادرة»
مازحها لا يعرف كيف يثنيها، يشعر بالعجز والحيرة معها، كلماته لاتنساب ولا تتناثر حولة كما اعتاد «طيب يا هندسة اهدي بس واذكري الله»
استغفرت ربها وصمتت فاقترح بعفوية «ما تيجي استضيفك كام يوم فجنا؟»
ابتسمت رافضة بذوق «شكرًا يا طاهر»
اقترح مرةً أخرى «أبعت أجبلك أمي طيب والله هتبجي عال، جعدة أمي تتحب وتريّح الجلب»
شاكسته هي تلك المرة معاتبةً «لما قعدتها حلوة وتريح القلب أنت بعيد عنها ليه يا طاهر؟ وحارمها منك وحارم نفسك منها؟»
تنهد مصارحًا لها بصدق «في مرة أكيد هحكيلك يا هندسة الموضوع يطول شرحه» ثم نهض فجأة قائلا بمرح «بجولك بما إنك هتسافري وتغيبي تعالي أوريكي مصر بعنين طاهر الصعيدي»
ابتسمت ابتسامة واسعة أزالت غبار الحزن وبقايا الألم عن وجهها وقالت «موافقة بس بشرط»
بسرعة قال مُرحبًا «تؤمري يا هندسة»
وفي حديقة الدار الأمامية نهض رؤوف وسار ناحية الحديقة الخلفية يريد توديعها بنظراته والاطمئنان عليها قبل أن يعود لبلدته.
*******
دللت جسدها بحمام دافيء ثم جلست أمام التلفاز تحتسي كوب شيكولاته ساخن يربت على مزاجها ويدثرها ببعض الاستمتاع، ابتسمت على بطل الفيلم الذي تتابعه منشغلة ومنغمسة في المتابعة، حتى أضاء مصباح الصالة فجأة فغطت وجهها مستاءة من اقتحام الضوء عزلتها وكشفه ستر خصوصيتها، ابتسم قائلًا «يا هلا ببنت عمي الهربانة»
كظمت غيظها وأزاحت ذراعها بقوة متحدية الضوء ومشاعرها وهذا الواقف أمامها، حدقت فيه بنظرة حادة وهي ترمي ترحيبها بوجهه كبصقة «اهلا..»
قال ببرود وهو يقترب منها مثيرًا حنقها وغيظها «دي برضو مقابلة تقابليها لجوزك مفيش حضن ولا بوسه ولا وحشتني ؟»
#انتهى