العودة

63 1 0
                                    

المملكة العربية السعودية - المطار

كل شيء هنا يسير في وتيرة سريعة،الناس يندفعون في اتجاهات مختلفة
والحشود تتدفق كالامواج أمام البوابات وكل مجموعة منهكة في تجهيز حقائبها واصطفائها في طوابير طويلة، الحقائب تسحب بعجلاتها على الأرضية وتصدر أصوات خشخشة من ثقل ما تحمله ، تتداخل مع حفيف الأوراق والملابس أثناء البحث عن وثائق السفر والتذاكر

وتتردد أصوات نداءات متكررة على المكبرات الصوتية تعلن عن الرحلات الأخيرة وتطلب من الركاب الإسراع نحو بوابات الصعود،كانت تلك النداءات تصل إلى آذانهم كإشاراتٍ مستعجلة تدفعهم على التحرك بسرعة وخوف من تفويت موعد الرحلة

صوت النداء الأخير لرحلة ما يرتفع بوضوح ويجذب انتباه الجميع ويزيد من وتيرة الحركة في المكان
"الركاب على متن الرحلة رقم 492،يُرجى التوجة فوراً الى البوابة رقم 14 هذا النداء الأخير"
تلك الكلمات تتكرر بلغات متعددة ليصل صداها إلى مختلف الجنسيات والأعراق التي تمثّلها الحشود المتناثرة في ارجاء المطار

على الجانب الآخر كانت بعض العائلات تلتقي بعد فراق طويل،ويُسمع صوت ضحكات و دموع الفرح في أرجاء صالات الاستقبال، والبعض منهم ينهمك في توديع أحبائهم,عناق طويل وصامت ونظرات متبادلة تحيطها مشاعر الحزن والخوف

في الممرات الواسعة التي لاتهدأ حركتها وكأن الجميع في سباق مع الزمن ، همسات المسافرين وأصوات الأطفال الذين يلعبون بالقرب من أبائهم و يحاولون صنع صداقات تنتهي سريعاً ، كانت الأجواء معتادة

تسير رانية وسط هذا الزحام و هي تشعر بأنها جزء صغير من مشهد اكبر، تائهة بين الحشود تبحث عن وجهة مختلفة تماماً ليس فقط من حيث المكان بل حتى من حيث الحياة الجديدة التي تنتظرها هنا

لم يكن سهلاً عليها ان تترك كل شيء خلفها ولكن الان بعد رحيل والدتها التي كانت كل شيء بالنسبة لها
كان عليها ان تترك المدينة التي نشأت فيها وتنتقل الى مكان غريب ليس غريباً فعلاً هي فقط عادت إلى جذورها الى بلاد والدها الذي تركها منذ سنوات طويلة تكاد تقدر ب ١٩ سنة،قد تربت رانية تحت جناح والدتها الحنون بين ازقة مدينة عربية بعيدة، ،لكن لم يعد هناك شيء لها سوى شق طريق جديد وبدء حياة مختلفة والتأقلم معها

وقفت لتجوب بعيناها بالمكان تبحث عن وجه لاتعرفه وتتأكد من شاشة هاتفها خوفاً بأنها قد اخطأت
حتى لمحت رجلاً يقف بعيداً ويبدو عليه الوقار وعندما اقترب أدركت أنه عمها الذي لم تلتقيه من قبل

العم : بصوت جاف وبارد" انتِ رانية ؟"

رانية:بخجل وتوتر " نعم .. أنا هي "

العم: تفحّصها بنظرة سريعة ثم يقول
" امشي وراي "


مشت رانية خلفة وهي تجر حقائبها الثقيلة والخوف والقلق يسكّن جوفها
وفي كلّ خطوة نحو باب الخروج كانت تذكرها بالأيام التي تلت وفاة والدتها
كيف كانت تجلس وحدها في غرفتها والحزن ينهشها،تتساءل عن معنى الحياة بدونها
تلك المرأة التي كانت تحيط بها البسمة و البهجة في كل مكان تذهب إليه ، كانت تمتلك حضوراً يشع دفئاً وحناناً، كان وجهها مستديراً ومشرقاً، تعلوه عينان واسعتان بلون البن، وحاجبها منحنيان برفق يضيفان لمسة من الهدوء لملامحها، شعرها البنيّ الطويل كان ينسدل على كتفيها بنعومة، ابتسامتها كانت دائما حاضرة مهماً كانت الصعاب التي تواجهها، كانت ابتسامتها بمثابة ملجأ لرانية وكانّها تمتلك القدرة على تخفيف أي ألم بمجرد رؤيتها، كما كانت تجد في حضنها الدفء والأمان
لم تكن اماً تسبب المشاكل لأحد كان صوتها لايرتفع ابداً وتتعامل مع الجميع بلطف واحترام مهماً كانت الظروف، كانت تملك قلباً كبيراً يعرف كيف يحب بدون شروط وكان عطاؤها لا ينتهي، بالنسبة لرانية كانت والدتها تجسد كل ماهو جميل ونقي في هذه الحياة، ربتها على ان تكون قوية وعلمتها كيف تحب الأخرين بصدق وأن تظل متمسكة باخلاقها وقيمتها مهما حدث ..
ولكن الآن أصحبت مجرد ذكرى وصدى صوتها يتردد في ذهن رانية كما لو كان يناديها من بعيد
لكنها تدرك في قرارة نفسها أن تلك الأيام لن تعود ابداً .

بين زهور الجهنميةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن