🍂الفصل الثاني و الستون 🍂

2K 151 18
                                    

*الجزء الثاني من الفصل*

نادها بصوته المشتاق متلهفًا عليها:
"نيرة عجلي شوية.. عيالك كيف فرجع لوز واحد يدخل و التاني يخرج"
عقدت حاجبيها وهمست وهي تخرج من الحمام و تغلق الباب خلفها:
"وطي صوتك يا راجل هتفضحنا و تقول للي مش شايف تعالى شوف"
أشار لها ضاحكا حتى تقترب:
"وه و احنا عنعمل حاچة غلط لسمح الله؟! تعالي جاري جربي يا ست الصبايا الملاح"
نبض قلبها بعشقه كأول مرة اقتربت منُه.. خجلت و همست وهي تضع رأسها فوق كتفه فهو السند:
"لا مش بنعمل حاجه غلط، بس كبرنا و الحفيدة جاية في السكة"
مد كلتا يديه ليحتضن بهما وجهها بقوة قبل أن يقول ناظرًا الى عينيها بعينيه العاصفتين بالرغبة و العاشقتين لسحرها و جمالها الذي يتجدد كلما تقدم عمرها يومًا بعد يوم:
"يكش يكونوا مدرسة أحفاد ولاد و بنات بردك هفضل أعشج فيكي و أحبك كأنه أول يوم"
ثم قطب حاجبيه سائلًا بصوتٍ متشدد وهو يحدق في الروب الستان الذي ترتديه:
"وينه الجميص البنفسجي؟"
رمشت بعينيها قليلا قبل أن تقول بصوت خافت حذر و خجل:
"موجود بس مش هتشوفه غير أما.. أوف انت عارف"
خبط فوق فخديه قائلا بقلة حيلة:
"يا صبر أيوب، يا ولية أنا بجالي تلاتين سنة چوزك و عيالك كيف الشوحطه و لساتك عتكسفي و ريداني أطفي النور، اجلعي الهباب دهوت آني نظري بجا على جده"
ضحكت و ابتعدت عنُه قليلا و قالت و خديها يتلونان مثل التفاح:
"يادي النيلة على القميص البنفسجي جبته منين ده؟ مسخرة ديه بنتك تتكسف تلبسه مش أمها"
رأت لسانه يلعق شفتيه الجافتين كشاب صغير جامح المشاعر بينما اشتعلت عيناه أكثر وهو يهمس:
"فاكراني شيبت و عچزت خلاص معرفش أچيب الحلو للحلو، أما اندلايت على سكندرية مع آدم عشان افتتاح المصنع الچديد، روحنا اتمشينا و..."
شهقت و تمسكت برباط المئزر التي كانت على وشك حله تهتف:
"يالهوي على الفضايح! اشتريت ده قدام آدم"
صاح بغضب أهوج:
"وي كأنك اتچننتي يا ولية أشتري جدام منه كيف، هو دخل محل و آني دخلت محل كانت فيه شابة صغيرة ساعدتني"
زفرت بيأس وهزت رأسها:
"إنت أه منك إنت، مفيش فايدة فيك"
ضحكت تكركر بثغرها الوردي الناعم، فقال بنفاذ صبر وهو يحل رباط مئزرها:
"اتحدتي اكديه و اتضحكي و اتمرجعي لحد ما عيل من عيالك يطب علينا كيف....."
قطع حديثه عندما طرق باب غرفتهما فصاح غاضبًا وهو ينفض بغضب طرف جلبابه:
"اااااباي يا جناوي، أها اللي كنت عتحدت فيه، اتفضلي كنت خابر"
صدح صوت بدرية الخادمة من خارج الغرفة:
"ست نيرة، سيدي البيه"
وقفت نيرة تغلق مئزرها و تحكم اغلاقه ثم جمعت شعرها و وضعت فوق رأسها وشاح أسود من الحرير و ربتت فوق كتفه المتشنج تهمس:
"هشوف عايزه إيه تلاقيها عايزه تسألني على حاجه"
قال بصرامة قاطعة:
"جلعيها من اهنيه لأحسن أجوم أجلعهم كلاتهم من السرايا جبر يلمهم"
هرولت نيرة تفتح باب الغرفة ناظرة لبدرية وسألتها:
"خير يا بدرية في حاجة؟"
قالت بدرية وهي تقترب:
"متأخذنيش ياست الستات بس في ضيوف في المجعد جاين يجابلوا سيدي البيه"
"ضيوف!؟ ضيوف مين؟"
سألت نيرة باستغراب، لتجبيها بدرية:
" الأستاذ عبد العزيز مدير المدرسة الثانوي و معاه هانم في يده شكلها غريب عن البلد"
أومأت نيرة برأسها:
"ماشي يا بدرية قدمي ضيافة و قوللهم البيه نازلهم"
التفتت نيرة فوجدت حمزة خلفها يسأل وهو يقطب حاجبيه حائراً:
"خير ان شاء الله، أستاذ عبد العزيز رايدني في إيه؟"
هزت نيرة رأسها نافية بحيرة وهي تهرول نحو حامل الملابس تسحب عبائته المعلقة فوقه لتضعها فوق كتفه:
"معرفش.. دلوقتي تعرف عايزين إيه؟"
و التفتت تسأله وهو تضيق عينيها:
"مش أستاذ عبد العزيز ده صاحب عمار، أفتكر ان مرات خالي كانت عايزه تجوز أخته لعمار، صح؟"
زفر بغضب وهو يضع بعنف طاقيه رأسه:
"الله.. الله مش وجت ذكريات آني مش طايج حالي، يابوي على حظي العِكر"
ضحكت برقة وعلى الرغم من هول غضبه العاصف الذي يحيط بهما قالت وهي تضع قبلة عميقة فوق خده:
"لسه الليل طويل، اطمن عيالك مش جايين دلوقتي"
"لو حد منهم جرب من چنب باب الأوضة راح أطخه هه اعملي حسابك"
حذرها بغضب و خرج من الغرفة بينما ظلت نيرة واقفة في مكانها تفكر لوهلة شاردة تتساءل وهي تتخاصر:
"ياترى يا عمر عملت إيه مع بلسم؟ يارب يكون وش أمك اتفرد شوية بدل البوز شبرين، أما أتصل بدهب روح قلب امها تطمني"
************
جلس حمزة برفقة نيرة أمام ضيفيه و استقبلاهما بود و دفء شديد، بدأ الأستاذ عبد العزيز بالحديث و قام بشرح مفصل للوضع المعقد بين شقيقته و أبناء عمهما أشقاء زوجها، ظلت نور جالسة هادئة تلتزم الصمت تاركة دفة الحديث الى شقيقها الأكبر، و فركت كفيها في توتر عندما رفعت وجهها وقعت عينيها على لوحة عائلية كبيرة رسمت بالزيت، لوحة عائلية دافئة تتوسطها السيدة الكبيرة التي كانت تعرفها عن قرب و تكن لها كل الود والإحترام، بينما كان حمزة الناجي الرجل المهيب الذي يجلس أمامها الآن كملك متوج فوق عرشه لا يزال شابًا مفعم بالرجولة يقف على يمين والدته و سلمى الشابة اللطيفة شديدة الجمال بجانب شقيقها تبتسم ابتسامتها الناعمة التي لم تنساها ، افترقت شفتيها عندما لمحته عيناها وهو يقف يسار والدته وعلى شفتيه ابتسامة رائعة.. تلك الإبتسامة التي سحرتها منذ أن كانت شابة صغيرة لم يتعدَّ عُمرها الخامسة عشر...
بدأ قلبها يدق و كأنها تلك الصغيرة الذائبة العاشقة التي تتخذ من شرفة غرفتها ملجأ لها حتى تراه لوهلة وهو يمر من أمام منزلهم البسيط، فقد عشقته و كانت تعرف أن الأمر ليس بالهين لقد عشقت صديق أخيها و أحبته بجنون... نطق قلبها اسمه وهي تبتسم:
"عمار..."
انتهي عبد العزيز من حديثه و نظر الى حمزة الذي كان يستمع بجدية وهو منزعج بما يسمعه من ظلم بين واستبداد فسأل وهو ينظر نحو نور التي بدا عليها التوتر:
"ست نور انتِ رايده إيه منيهم؟"
أجابته بتصميم:
"عايزه أرض بناتي.. حقهم في ميراث أبوهم، صالح ميراثه
هي الأرض، اللي يدوب باخد من حق انتفاعها ملاليم"
زفرت بيأس هامسة:
"تخيل خمسين فدان باخد منهم ملاليم شهرية يادوب بيكفوا المصاريف على تعليم هلا و مصاريف البيت وغير كده لازم أشيل لوعد نصيبها من الشهرية و مضطرة أصرف من باقي المرتب بتاعي، و لما أتكلم مع أي واحد فيهم يقولوا نشتري الأرض منك وطبعا بتراب الفلوس"
قالت نيرة بحدة:
"لا طبعًا تاخدي حقك و حق بناتك منهم هو استبداد"
توجه عبد العزيز بالحديث نحو حمزة:
"أنا و فريد اتحدتنا وياهم بكل الطرج الحسني و غيرها بس مفيش فايدة لحد ما وصلوا الموضوع بيناتنا للتهديد.. جالوا عيني عينك اكديه يا الأرض يا الد*م"
بخوف رفعت نور ابهامها لتضعه في فمها وهي تقول بقلق:
"أنا عارفاهم كويس، خصوصاً عبد الرحيم الرحيمي طول عمره وهو بيكرهني و كان معارض جوازي من المرحوم صالح، دلوقتي بقا يهدد و كأن الأرض ديه حقه مش حق بناتي و حقي، برغم كل حاجه عملتها معاهم و رغم اني اتنازلت عن حاجات كتير ليهم علشان آخد وصاية وعد منهم بس مفيش فايدة وصلت معاهم انهم يهددوني"
جحطت عينا حمزة و نفرت عروق وجهه من الغضب وهو يهتف:
" اطمني ياست نور آني راح أسوي المسأله وياهم ,,ده حجك و حج بناتك و لازمن تاخديه منيهم تالت و متلت، لو ماكنش بالحسنى و العفو راح يكون بالجوة و العدل"
دمدم عبد العزيز برجاء:
"علشان اكديه إحنا چينا لعنديك إنت كبيرنا بعد ربنا وكبير البلد كلاتها، أنت خابر زين يا حمزة آني و فريد طول عمرنا في حالنا لا نعرف خناج ولا سلا*ح، و جوتنا مش راح تكفى عشان نجف جصاد عبد الرحيم و إبراهيم ورچالتهم نفر نفر"
ضم حمزة شفتيه وهو يلهث بأنفاس ملتهبة، ليقول بعد وهلة:
"آني خابركم زين و خابر إنكم عملتوا اللي عليكم وزيادة، بس أوجات كتير يا عبد العزيز يا خوي الحج يلزمه جوة أكتر من العجل أو الحسنى عشان اكديه هملي آني الكلام وياهم .. اما اتفجنا او هما أحرار"
ابتلعت نور ريقها الجاف و مدت يدها تأخد كأس الماء و شربت منه حتى ارتوت و قالت متنهدة:
"و إيه الحل معاهم؟ يعني هقدر آخد أرضي منهم ولو اخدتها هيحصل إيه؟"
تنحنح حمزة يجلي صوته يقول:
"الوضع راح يكون اكديه يا إما يسلموا الأرض ليكي و انتي تجرري راح تبعيها او راح تأجريها اللي يريحك آني بإذن الله راح اعمله"
همست نور وهي تبتسم براحة وقد شعرت بأن الأمور ستصبح بخير بما أن حمزة الناجي قد وعدها:
"بس تتحل المشكلة معاهم ان شاء الله و أقدر آخد أرضى منهم وقتها أشوف و أقرر أبيعها ولا...."
قاطعها شقيقها معترض:
"أنا بجول تتأچر أحسن وجتها حمزة ممكن يساعدنا نلاجي حد واد حلال عنده ضمير"
وافقه حمزة وهو يومئ برأسه:
"عبد العزيز عنديه حج في الآخر الجرار ليكي طبعا بس الأرض كيف العرض و الأصل الطيب، طينها كل ما حافظتي عليه و روتيه اداكي الخير كله، علشان اكديه آني راح أحل المشكلة من چذورها و أسلمك أرضك ولو غرضك تبيعها اني سداد بما يرضي الله، ولو غرضك تأجريها بردك آني تحت أمرك اعتبريها أرضي وتحت رعايتي"
تفاءلت نور و تبسمت تشكر حمزة الذي وعدها أنه سيهتم بالأمر وعن قريب ستعود أرضها لها بعد استبداد دام لسنوات من عائلة زوجها..
وفي هذه الأثناء وصل عمار الى السرايا و عندها دلف الى مقعد أخيه ليتفاجئ بوجود صديقه عبد العزيز و شقيقته نور..
نور التي كانت في يومٍ ما ستصبح زوجته، عندما أعلنت والدته عن رغبتها الملحة بزواجه منها لكنه و بتعنت شديد أعلن رفضه لتلك الزيجة المدبرة...
طيش الشباب آن ذاك بالإضافة الى طموحه للحصول على رسالة الماجستير كانوا سببًا اساسياً للرفضه الزواج منها...
شعر عمار بسعادة كبيرة لرؤية صديقه الذي لم يقابله منذ شهور، صافحه بقوة و احتضنه وهو يرحب به ثم توجه نحو نور التي تلونت وجنتيها و شعرت بالخجل كأنها عادت الى تلك الفتاة التي عشقته منذ خمسة و ثلاثون عاما سألها وهو يبتسم:
"نور فاكرني؟"
هزت رأسها وهي تبتسم قائله بصوت راقي مس قلبه:
"طبعا فاكراك ازيك يا دكتور عمار"
قال وهو مازال يقف أمامها يبتسم وقد ترك كفها:
"الحمد لله بخير، انتِ ازيك"
ثم عاد برأسه و نظر الى صديقه عبد العزيز ليجلس عمار بجانبه وهو يربت فوق فخده:
"ليك وحشه يا عزيز إيه المفاجأة الحلوة ديه؟ ياريت كنت اتصلت بيا كنت جيت شوفتك"
عاتبه عبد العزيز بلؤم مسرحي:
"عزيز ايه بجا انت نسيت صاحب عمرك يا ضاكتور.. بجا تبجا اهنيه و لا تتصل يا راچل"
اعتذر عمار لصديقه بأسف شديد و قال وهو ينتهد بثقل مهموم:
"ظروف الحياة و مشاكل كتير والله ياعزيز وإلا انت عارف أنا مستغناش عنك أبدًا، لينا قعدة على القهوة زي زمان هحكيلك فيها كل حاجة، المهم أنت عامل إيه و أهل بيتك عرفت ان ابنك مروان اتجوز"
ضحك عبد العزيز و قال بفرحة:
"وبجيت چد كمان عندي حفيد و حفيدة عجبال ما تشيل عيال حمزة و أيوب إن شالله"
طبطب عمار فوق ظهره قائلا بسخرية مرحة:
"كبرت يا عزيز و بقيت جد"
ليقول حمزة شقيقه وهو يقطب حاجبيه:
"وه هو بس اللي كبر لحاله يا ضاكتور ولا خجلان تجول إنك راح تبجى چد عن جريب"
اتسعت عينا عبد العزيز و هتف بحبور وهو ينظر لحمزة:
"وه بتك حامل، مبارك عليكم"
رد حمزة وهو يهز رأسه:
"لا مش دهب، مرت أيوب هي اللي حامل، آني بجا راح يجيلي حفيدة عن جريب بت علي ولدي"
نظرت نور لنيرة و باركت لها بود:
"ألف مبروك عقبال بنتك يارب"
قالت نيرة وهى تبتسم:
"إن شالله يارب، اه بالمناسبة فرح حسن و عمر كمان يومين لازم تشرفونا"
قالت نور بفرحة:
"بسم الله ماشاء الله.. ألف ألف مبروك ربنا يتمم على خير و تفرحوا بولادهم يارب، إحنا متأسفين شغلناكم في وقت زي ده"
رد حمزة:
"متجوليش اكديه أمال.. آني تحت أمركم أي وجت إحنا أهل، آني كنت راح أشيعلكم الدعوات ويا حسنين بكرة بس إنتم بجا جيتم لحالكم"
و أثناء الحديث الدائر بينهما تسائل عبد العزيز مستغربًا:
"وه هو أيوب ولدك اتچوز؟!"
هز عمار رأسه و نظر لشقيقه وهو يشعر ببعض الحرج من زواج ابنه الذي يتفاجئ به الجميع لكنه قال وهو يضم شفتيه:
"اتجوز ياسيدي بسرعة كده حتى لا عمل فرح ولا حاجه عشان متقولش معزمتكش، جوازه كان له شوية ظروف كده، بس مراته بنت حلال هه أقولك ايه كان نفسي يكون عندي بنات زي مانت عارف، بقا عندي بنتين على الجاهز"
ضحك عبد العزيز وقال لصديقه الذي كان يعرف اشتياقه لإنجاب الفتيات:
"وه انت هتجولي طول عمرك كنت تجول نفسي يكون عندي بنات، إلا جولي وينها الست بتاعتك علشان نسلم عليها"
فرك عمار شعره الرمادي المصفف و أطلق زفرة قوية قبل أن يقول بخفوت وهو يميل نحو صديقه:
"صاحبك بقا عازب، النصيب انقطع ما بينا و اطلقنا"
صمت عبد العزيز وشعر بالحزن على صديقه الذي حزنت ملامحه و قال وهو يهز رأسه:
"خير يا ضاكتور كله خير، ان شاء الله ربنا يكتبلك كل الخير محديش عارف النصيب فين"
وهنا التفت عمار نحو نور التي كانت تستمع إليهما و سألها بفضول:
"وانتى يانور أولادك عاملين إيه، صالح الله يرحمه كان راجل محترم"
ردت نور بتأثر واضح لذكرى زوجها الطيبة العطرة و قالت و عيناها تلمع بالدموع:
"الله يرحمه ويغفر له، أنا معايا بنتين وعد اتجوزت و عايشة بره مصر، و هلا الصغيرة في ثانية ثانوي لسه"
ردد عمار مبتسم لها:
"ماشاء الله الله يخلي، عبد الرحيم و إبراهيم عاملين معاكم إيه أنا كنت سمعت من عزيز إن في مشاكل إن شالله تكون انحلت"
هزت نور رأسها نافية بحزن ممزوج بالغضب:
"للأسف متحلتش علشان كده إحنا هنا"
استغرب عمار و التفت نحو صديقه ناظراً لشقيقه متسائلا:
"خير ان شاء الله، إيه الموضوع بالضبط؟"
" "" "" "" "" "" "" "" "
صرخت نيرة بعيظ تسأل ابنتها:
"و أنتِ معرفتيش رحوا فين؟"
بتوتر همست دهب وهي تبتعد عن الطاولة التي كان يجلس عليها الجميع:
"معرفش يا ماما، علي و كابر وصلو و أما سألتهم فين عمر و بلسم قالوا جايين كمان شوية"
تأففت نيرة و قالت بقلق وهي تدور حول نفسها:
"لأحسن يزعل البنت ولا يقول حاجة كده ولا كده تبوظ الدنيا كلها، اوف يا عمر مفيش فايدة فيك"
زفرت دهب أنفاسها و قالت بهدوء:
"لا يا ماما.. مش معقول يعنى الأمور هتوصل لكده، اطمني عمر بيحب بلسم ومش ممكن يفكر أصلا أنه يسيبها لقدر الله، أكيد بيتكلموا مع بعضهم على انفراد يعني"
"تفتكري!"
سألتها نيرة بشك... فأكدت دهب بحماس:
"أكيد لو في حاجة في دماغ عمر كان قالها من غير ما ياخد بلسم لمكان، انتِ عارفه ابنك في الحاجات ديه معندوش تفاهم ولا حل وسط، اطمني و أول ما يوصل هو و بلسم هكلمك على طول"
هدأت نيرة قليلاً و لكنها قالت لدهب قبل أن توشك على إنهاء الإتصال بينهما:
"دهب أنا بقول أتصل بعمر و أسأله هما فين؟"
رفضت دهب بصوت قاطع:
"لا يا ماما بلاش.. خليهم براحتهم أحسن يتكلموا و يحلوا المشكلة بينهم وبين بعض.. بلاش تضغطي على عمر انتِ عارفاه"
هزت نيرة رأسها بإقتناع و همهمت بصوت خافت:
"طيب طيب مش هتصل بس انتِ طمنيني ماشي"
قالت دهب بتأكيد:
"حاضر هطمنك بس انتِ متقلقيش نفسك، سلام دلوقتي"
ردت نيرة وهي تبتسم:
"مع ألف سلامة ياحبيبتي، الله يجبرك يارب"
"""""""""""""""""""""
عادت دهب الى الطاولة التي يحتلها بعض التوتر الغير ملحوظ بين الجالسين حولها، فسألها زوجها وهو يفتح قنينة الماء:
"كنتي بتكلمي مين؟"
همست وهي تجلس بجانبه:
"ماما قلقانه على عمر و بلسم"
ثم رفعت رأسها و ابتسمت الى الجالسين أمامها كانت، مهرة بجانب فاطيما و محمود، بينما كان علي و كابر يجلسان على طرف الطاولة ويتحدثا بخفوت، و بالطرف المقابل تجلس نفيسة و حسن و بجانبه طاهر، أما من جانبها كانت وداد، و بجانب زوجها يجلس أيوب وإيسال، كانت الأجواء يسودها بعض التوتر و الهمسات الجانبية و الضحكات الخافتة بينهم وبين بعضهم ، كانت المناوشات المضحكة بين نفيسة و وداد وكابر و علي....
من بداية دخوله الى المطعم الممتلئ بالسائحين و الزوار من عِلية القوم التف حول علي الكثير من المعجبين و المعجبات المشجعين لفريقه ليلتقطوا معه الصور و يحصلون على توقيعه الخاص، و كان الأمر ليس بالهين على كابر التي رأت الفتيات يتجمعن حول زوجها الوسيم لكنها تحملت، بطبيعة الحال علي شخصية معروفة وله الكثير من المعجبين الصغار منهم و الكبار....
**********
وفي مكان منعزل قليلاً عن المارة توقف عمر بسيارته وقد فتح نوافذها ليتدفق الهواء من حولهما في أجواء هادئة رومانسية كتلك الليلة الهادئة و السماء الصافية الممتلئة بالنجوم، ساد صمت تام بينهما حتى بدا هدوء الليل مسيطراً عليهما، كلاهما ينظر أمامه لجهة أخرى عن بعضهما أنفاسهما فقط هي التي تتحدث معبرة عن مدى اشتياقهما لبعضهما حد الجنون...
أدار رأسه يحدق بجانب وجهها المخفي عن عينيه خلف خصلات ناعمة تتدلي فوق وجهها كستار من حرير يخفيها عنه تنهد قائلا:
"وبعدين إيه اللي چاي بعد اكديه؟"
قلبت بلسم شفتيها و أدارت وجهها نحوه تسأله بعدم فهم:
"تقصد إيه؟"
أبعد وجهه عنها وقال بصوت هادئ خالي من الغضب و الحدة لكنه بعيداً عن التفاؤل والأمل في حل الأمر:
"أجصد في حاچه تانية لساتك مخببها عليا؟"
فتحت بلسم فمها بتذمر ثم أطبقت شفتيها بدلال غير متعمد بينما يراقبها عمر بطرف عينه و يقاوم رغبة عارمة في القفز نحوها لبقبلها على تلك الشفاه الناعمة المتذمرة، فجأة أعاد وجهه الى الأمام حتى يبعد رأسه عن تلك الأفكار المنحلة التى باتت تسيطر عليه عندما رأها لأول وهلة و أخذها معُه في سيارته...
للحظة أغمضت بلسم عينيها محتارة في أمرها.. أتبوح له بما حدث الليلة قبل وصوله أم تلتزم الصمت خوفاً عليه من غضبه؟ الكذب عليه مرة أخرى ليس بالجيد أبدًا و الصدق معه يمكن أن يعرضه للخطر فهي تعرفه ماذا سيفعل إذا خرج عن طوره و تعقله حينما يعمي الغضب عينيه...
"ساكته ليه؟"
عاد ليسألها عمر بهدوء... فقالت بلسم بصوت خافت غير صادق:
"مفيش حاجه مخبيها كل اللي كنت خايفه منه انت خلاص عرفته"
فاجئها عندما قال:
"بلسم إحنا راح نتچوز كمان يومين و آني مش رايد أبدًا يكون في بينتنا أي أسرار، راح نبني بيت ويا بعضينا وأنا رايد حياتنا تكون كيف الحياة اللي عشتها، شوفت أمي طول عمرها ويا أبويا عمرها ما كذبت عليه أبدًا، و أبويا كماني، خابر انهم عيحبوا بعضيهم جوي بس الحب مش كل حاچه عشان ينچح الچواز كيف أمي و أبويا الصدج و التفاهم أسباب أهم من الحب"
ظلت بلسم تسمعه وهي تنظر إليه لم تقاطعه لكن في داخلها شعرت بالخوف و الألم نظراته لها باردة قاسية ليست كنظراته الحنونة عندما يعاتقها أو يهمس لها انه يحبها، أو كنظراته لها منذ قليل.. انه يمتلك شخصيتين فعلا يتحول في ثانية.. ترى هل هو مضطرب نفسياً؟
ابتسمت على أفكارها الحمقاء تلك.. فقال وهو يقطب حاجبيه:
"بتضحكي على ايه؟ يكونش عليا اياك"
هزت رأسها و تمتمت بصوت متقطع و عيونها دافئة متوسلة له أن يمنحها الطمأنينة بقوله أنه يحبها، عرفت انه لأن يتراجع عن الزواج بها لكنه مازال قاسي ويحملها ما لا طاقة لها به من قسوته:
"بضحك عشان وحشتني، علشان مش بعرف أزعل منك أبدًا مهما بعدت عني و مهما قسيت عليا بردك بفضل أحبك"
رغم لين نظراته المشتعلة و هدوء أنفاسه المضطربة لم يُظهر لها عاطفته التي تتمناها وقال بصوت حاد وتلك الخصلات الناعمة فوق رأسه تتطاير بفعل الهواء لتتبعثر فوق جبهته.. حبيبها الوسيم القاسي:
"جولتلك الحب مش كل حاچه في حاچه أهم إسمها الصدج و الصراحة"
لم تعي لما يقول الأحري أنها لم تهتم مدت يدها ببطء و أخذت برقة تلمس خصلات شعره المبعثرة بنعومة ترتبها و أناملها تتحرك برقة:
"شعرك جميل"
قالت وهي تضحك وقبل أن يتحدث ببرود كما تعتقد همست دون خجل:
"نفسي يكون عندنا ولد شعره ناعم زي شعرك وكمان مناخيره زي مناخيرك..."
و تحركت أناملها تلامس ذقنه برقة أصابته في مقتل:
"و أما يكبر تكون عنده دقن زي دقنك، و عيونه حلوة زي عينيك و أما يحب يبص لحبيبته زي مانت بتبص لأمه..."
هتف بصوت متقطع وهو يمنع شفتيه من الابتسام:
"ولدي راح يكون راچل وأمور العشج و الغرام ديه راح تكون آخر همه"
شهقت كأنها تفاجأت:
"يعني حبك ليا آخر همك، ماشاء الله عليك صريح اوي"
تقمصت دور الحزينة و الغاضبة عقدت ذراعيها أمام صدرها ناظره أمامها و هتفت تبرطم:
"و أنا اللي افتكرت إنك بتحبني و عايز نبقى مع بعض على انفراد عشان تصالحني أما قولت لعلي اني هاجي معاك"
اطلق شخرة معترضة يدمدم:
"أصالحك ليه هو آني زعلتك أساسا ولا انتِ، الله الله البنات دول عليهم حاچات تچن"
تلك المرة آثار حنقها حقيقي فصاحت متذمرة منه:
"عمر خلينا نروح العشا أحسن بدل ما نتخانق أنت عارفه نهاية الحوار ده هتكون ازاي"
مط شفتيه بتلك الإبتسامة التي نالتها والدته من قبل يقول:
"والله آني هادي و بتحدت بالراحة و بالعجل انتِ اللي لويى بوزك و رايده تعملي حالك المظلومة مش آني"
قالت بغضب و بدأت نبرة صوتها ترتفع عن المألوف:
"اااه أنا بالضبط، أنت ملاك ناقصلك جناحين و تطير أنا مش بطلب المستحيل تقولي بابا و ماما و قصتهم و...."
قاطعها بهدوء:
"جولت أبويا و أمي"
زفرت بحنق:
"اسفة قولت أبوك و أمك ومش قادر حتى تبقى ربع أبوك ده حتى نظراته لها من غير ما يتكلم كلها حب وإحترام للحب ده، بلاش بابا و ماما"
عاد يردد و كأنه يجود:
"أبويا و أمي"
صرخت مغتاظة من برودة أعصابه:
"مالكش دعوة أنا بقول عليهم بابا و ماما اووف ده انت مستفز "
مط شفتيه و حاجبيه ترتفعان كعادته منذ الصغر:
"شكرًا يابت الأصول"
قلدته و مطت شفتيها:
"العفو يابن الأصول"
و أكملت و بؤبؤ عينيها يتسع و دموع ضبابية تظلله:
"أتعلم شوية من اخواتك شوف علي ولا حسن ولا محمود ده كل اللي حوالين منك بيتعاملوا برومانسية، شوف حمزة و دهب دول أكبر مثال قدامك بعد كل المشاكل اللي عاشوا فيها لكن أنت..."
تركت جملتها مفتوحة فسألها وهو يلتف نحوها بكامل جسده:
"آني إيه كملي جلة احترام و أدب للرچال اللي راح يكون چوزك كمان يومين"
قلبت شفتيها وهي على وشك البكاء تهتف في وجهه:
"أنت بارد ارتحت"
ابتسم ابتسامة حقيقية خالية من الغضب، هل يروق له استفزازها انه مختل عقليا، يبتسم الآن بوسامة رجال العالم وهو ينظر لها.. فقالت بحزن رقيق:
"أنا بحبك بس أنت لا، مش بتفكر فيا كل اللي يهمك بس ازاي تخليني أزعل و أعيط، اتنين هيتحوزا بعد يومين المفروض جواز عن حب في أيام جميلة عيد و فرحة بس ازاي لازم تنكد عليا"
دمدم بخفوت:
"حسبنا الله، آني عملت إيه لكل ده مش جولتلك كل سنة وانتِ طيبة و عيد مبارك و اتحدت وياكي بالراحة أعمل إيه تاني جولي؟"
رفعت عينيها نحوه باستغراب و غضب أنها ضبابية من كثرة الدموع التي تهدد بالسقوط وقبل ان تتكلم أخرج من درج سيارته علبة صغيرة حمراء اللون و مخملية و وضعها بين كفيها:
"هاه خدي كل سنة و انتي طيبة"
نظرت الى العلبة الصغيرة تسأل:
"إيه ديه؟"
رفع حاجبيه بسخرية بينما في داخله يتألم من نظراتها المتوجعة:
"افتحيها بنفسك وانتي عتعرفي"
فتحتها بحنق فأصابتها الدهشة و الانبهار العلبة مضيئة داخلها سلسال رقيق من الذهب يتدلى بنهايته جناجي فراشة مرصعة يحملان بينهما قلب صغير...
فسألته باستغراب:
"اشتريتها عشاني"
كاد ان ينطق نافياً أنه اشتراها لكنه توقف يتذكر تأكيد شقيقته...
قبل أيام من وصولها إلى البلدة هاتفت دهب عمر الجالس بجوار فرسه داخل حظيرة الخيول وقبل انهاء المكالمة سألته:
"روحت لبلسم"
رد مختصر كل التوقعات:
"لا ماروحتش"
سمع شقيقته تتأفف ثم قالت:
"و بعدين معاك أنا مش قادرة أفهم لحد امتى يا عمر هتفضل راكب دماغك كده؟ على فكرة خد بالك كتر الجفا يعلم الأسية"
مسح لحيته الكثيفة يهمهم:
"مش فاهم جصدك إيه؟"
قالت دهب بهجوم عاطفي:
"لا أنت فاهم كويس اقصد إيه، عمر لو فضلت راكب دماغك كده هتقوم في يوم تلاقي بلسم بتكرهك ومش عايزاك في حياتها، أنتم فرحكم باقي عليه أقل من عشر تيام و أنت ولا في دماغك"
أطلق عمر تنهيدة يائسة ثم تمتم بعطف:
"غصبن عني يا دهب افهميني اللي حوصل صدمني فيها، انتِ خابره زين اني ماحبش الكذب و بلسم كذبت لاه و راحت اتفجت ويا مين؟"
نفثت دهب النفس الذي جاش في صدرها هاتفة بنزق:
"ماما قالتلك و بابا و كلنا قولنا و هعيد الكلام تاني ليك يمكن تفهم للمرة الأخيرة، بلسم بتحبك وعملت كده يا عمر عشانك، لو كان حد من المتخلفين عيلتها عرف وقتها الله أعلم كانوا عملوا فيها، البنت اتصرفت صح"
حاول عمر انهاء الإتصال بقوله:
"خلاص يا دهب خلاص همليني لحالي دلوكت، لما..."
قاطعته بغضب و كأنها أصبحت نسخة من والدتهم الآن تحولت في غمضة عين بين ليلة و ضحاها هي الكبري بينما هو الأصغر بينهما:
"مفيش لما، روح لها يا عمر اشتري ليها هدية جميلة بلاش أقولك مع ورد عشان هتجولي ورد إيه كأنك چنيتي يابت أبوي"
رد وهو يضحك رغم وجعه:
"زين لساتك خابره خوكي"
ابتسمت هي الأخرى كأنها تراه أمامها.. أخيها العاشق حتى الثمالة، عمر عمرها هي أيضًا شقيقها الوسيم مثل والدها، صلب القشرة لكن بداخله قلب طفل:
"خلاص خلي مع الهدية شكولاتة احنا البنات بنحب الحاجات ديه، اشتري ليها الهدية و روح قولها إنك بتحبها و الموضوع اتقفل، يلا يا عمر يلا يا خوي الله يهدي بالك متخليش ولاد الحرام بفرحوا فيكم"
صمت لوهلة يفكر و دهب مازالت معه تسمعه وهو يزفر أنفاسه ثم قال يتردد:
"آني أصلا كنت بفكر اشتري ليها هدية بس مش عشان آني زعلتها"
هزت دهب رأسها و كأنها تراه وهي تبتسم هامسة:
"عارفة، عارفة المهم تشتري ليها هدية اعتبرها هدية العيد يعني العيدية"
هز رأسه هو الآخر مقتنع بتلك الحجة:
"ايوه بالضبط اكديه، عيدية"
قالت دهب بحماس:
"تمام يبقى كده متفقين ع المبدأ هه قولي بتفكر في إيه"
رد بحيرة:
"معرفش انتِ خابره مسألة الهدايا ديه آني ماليش خلج ليها، كنت أما أحب أشتري هدية ليكي أطلب من ماما أو واحدة من الحيزبونات"
ضحكت دهب بعلو لقد كان يقصد وداد و نفيسة فقال وهو مازال في حيرة:
"و اي هدية لماما..."
قالت دهب بحنو:
"كنت بتطلب مني أشتريها، خلاص قول لماما هي أكيد هتفرح و أكيد ذوقها جميل أنت خابر نيرة الناجي و رقتها"
دمدم و عيناه تبتسم لذكر والدته الجميلة:
"ست الكل كل حاچه منيها چمبلة طبعا، بس ماريدش أشغلها بيكفيها اللي هي فيه، عشان اكديه راح أطلب منك انتِ، اشتري هدية على ذوجك حاچة تكون مميزة تليج بيها"
و بالفعل امتثلت دهب بكل سعادة لطلب شقيقها وابتاعت السلسال الرقيق الذي يليق ببلسم لأنه رقيق مثلها، و عندما وصلت دهب الى البلدة وضعته أمام عمر الذي أبدي اعجابه به و تساءل عن المعنى الذي يرمز له دلاية السلسال، فقالت دهب بأن أجنحة الفراشة ترمز لبلسم فهي كالفراشة بينما القلب فهو يرمز له فقلبه بين أجنتحتها...
و شددت عليه بكل تأكيد لأكثر من مرة بأنه لا يذكر بأي شكل من الأشكال أنها هي التي قد ابتاعتها بل هو فقيمة الهدايا سوف تكون بالنسبة لها في ذوقه و بحثه هو، رفض في بداية الأمر قائلا انه لن يكذب لكن دهب حاولت اقناعه وقد نجحت...
"عمر اشتريتها عشاني"
عادت بلسم تسأله وهي تمسك بالسلسال مبهورة ثم قالت وهي تبتسم بسعادة لا توصف:
"جميلة، جميلة جدا و رقيقة شكرا ياعمر تسلم ايدك "
منحها عمر إبتسامة حانية وقال وهو يهز رأسه:
"مبروك عليكي"
ضمت شفتيها و أومأت بإبتسامة حلوة وهي تنظر اليه قائله له برقة:
"لبسها لي بيدك"
تنحنح يجلي صوته وقد توقد فوق عذابه عذاباً جمّاً بنظرة من عينيها:
"البسيها انتِ عشان إني ماعرفش"
بقنوط تأففت و جمعت شعرها ترفعه ليظهر عنقها الناعم المزين بالشامات أمام عينيه قائله بصوت شجي يشق الفؤاد شقًا:
"شوية رومانسية بقا حرام عليك، بلاش تبوظ اللحظة الحلوة ديه، يلا لبسني هديتك"
مط شفتيه رغم لوعته و اشتياقه وهو يقول قبل أن يضع السلسال حول عنقها:
"آني رومانسي أصلا"
همهمت وهي تبتسم شاعرة بدغدغة اصابعه فوق عنقها:
"اممم اوي رومانسي اوي"
بيده اسدل شعرها يرتبه بينما هي لمست السلسال الذي لامس مقدمة صدرها و نظرت بمرآة السيارة ثم حولت نظرها نحوه تقول:
"تجنن..."
و بحركة سريعة غير متوقعة اقتربت منه و قبلت زاوية شفتيه تهمس:
"بحبك"
أطلق نشيج خفيض دفنه في صدره و قال وهو يميل ليقبلها فوق خدها:
"آني كمان بحبك، جوي"
ثم قال وهو يشغل محرك السيارة حتى ينطلقوا الى دعوة العشا:
"عوجنا عليهم..."
أمسكت بكفه قبل أن ينطلق بالسيارة و تلبكت معدتها وهي تقول بتردد وقد حان وقت الصدق المطالب به بينهما، لن تُخفي عنه أمراً بعد الآن هكذا قررت:
"عمر أنت سألتني من شوية لو كنت مخبية حاجه عنك"
أومأ يرأسه دون أن يتكلم... فأخذت بلسم نفسًا عميقًا تتوسله:
"في حاجه لازم تعرفها حصلت الليلة، بس اوعدني بالله عليك إنك مش هتعمل حاجه تبوظ فرحتنا، أحلف"
اشتعلت عيناه وهتف بغضب:
"اتحدتي يا بلسم حوصل إيه"
قالت برجاء خافت:
"أحلف الأول إنك...."
قاطعها بشدة:
"اتحدتي باللاول و بعدين راح أجرر، جولي اللي عندك حوصل ايه الليلة"
توهج بريق حاد في عينيه وبعد عدة لحظات إحترقت نظراتهما المتبادلة لتنصهر في آتونهما الخاص المفعم بسحر اللحظة، لذلك دمدم يوعدها:
"متخافيش مش هعمل أيتها حاچه تبوظ فرحنا ولا فرحتنا، هاه جولي وعدتك"
تلبكت معدتها تلك المرة عندما رفع ذراعه لها يدعوها الى صدره، لم تتلكأ بل إرتمت من فورها إليه وهي تتنهد بين ذراعيه ليتأوه بخفوت و عندها أقرت بما جال في خاطرها و سردت عليه كل ما حدث.....
"" "" "" "" "" "" "" "" "
اكتمل جمعهم بوصول عمر و بلسم، جلس الجميع يتناولون الطعام في هدوء والبسمة على وجوههم بالإضافة الى أحاديث جانبية بين أطراف متصالحة مع بعضها البعض...
صدح صوت علي بفضول وهو يراقب وداد الجالسة في مقعدها شارده لا تنظر إلا لهاتفها:
"ششش التليفون في إيه شغلك كده"
نغزته كابر هامسة:
"و إنت مالك؟ خليها براحتها"
ولكن علي بغيرة الأخ علق مستنكر انشغالها الدائم بالهاتف:
"وداد في حاجه؟"
تأففت وداد بضجر تاركة الهاتف من يدها وردت:
"بتكلم مع واحدة زميلتي ارتحت، وبعدين انت مالك بيا خليك في حالك"
مط علي شفتيه بسخرية مردداً:
"زميلتك، قوللها أنا مع إخواتي مش فاضية"
نفخت وداد ولم تعلق في حين قالت دهب لشقيقها الذي لا يزال يمارس دور الشقيق الأكبر عليهما مثل السابق:
"علي هتعمل إيه مع بلبلة أما تكبر و تبقى عروسة حلوة كده؟ مش متخيلة دورك كأب بصراحة"
ضحك الجميع ونظر نحو علي الحانق.. أطلق شخرة معترضة قائلا لشقيقته خفيفة الظل:
"ليه شكلي أراجوز قدامك مانفعش أكون أب، أنا هربي بنتي بطريقة مختلفة هبقى صاحبها قبل ما أكون أبوها عشان ماتخبيش عني حاجه، ولا إيه رأيك في الكلام ده يا أم بلبلة"
و التفت الى كابر التي داعبت إبتسامة وديعة ثغرها وهي تضيف:
"أنا كمان هكون زي علي التربية الحديثة لازم تكون كده، يعني مش لازم نزعق و نضرب و نبقى بابا و ماما بس، الصداقة مهمة"
عقبت مهرة ناظرة لعلي و كابر بإعجاب:
"الكلام ده حقيقي أنا قرأت عن التربية الحديثة في كتب كتير"
فعلقت فاطيما مبتسمة لشقيقتها:
"على فكرة بابا و ماما كده معانا يعني احنا أصحابهم قبل ما نكون بناتهم"
همست وداد بصوت خافت وصل لدهب بصعوبة:
"اه واضحة التربية الحديثة، أختك أكبر مثال"
نغزتها دهب في ذراعها تهمس:
"وداد بلاش تغلطي عيب"
حركت وداد رأسها بنزق و صمتت، وفي لحظة إدراك بأن فاطيما تجلس أمامها بجانب محمود الذي يبتسم لزوجته بملئ فمه سألته وهي تبتسم له:
"أنت إيه رأيك يا محمود في الكلام ده، يعني مثلا ناوي تطبق التربية الحديثة على ولادكم إن شاء الله"
و كانت ابتسامتها عدائية تحمل سمات الشماتة بكل وضوح وهي ترمق فاطيما في نهاية جملتها.. فاطيما التي بالطبع شعرت بالضيق لكنها لم توضح و ظلت ابتسامتها ثابتة هادئة...
تجمدت نظرات نفيسة فوق وداد الغير مبالية و مالت على حسن تهمس:
"هجوم أچيبها من شعرها"
رد حسن بهدوء:
"وداد أكيد مش جصدها"
نظر اليها محمود ليقول ببطء وهو يمسك بيد زوجته أمام أعين وداد الغاضبة:
"الحديت دهوت سابج لأوانه، بس في العموم أنا راح أهمل المواضيع لفاطيما لأنها بإذن الله راح تكون أم مفيش زيها"
ضمت وداد شفتيها و هزت رأسها توافقه دون تعليق ..ارتبكت دهب و شعرت بالتوتر الذي ساد بين فاطيما و وداد فقالت وهي تضحك:
"فاطيما الخالة غوايش عاملة معاكي ايه؟"
اتسعت ابتسامة فاطيما رقيقة المحيا قائله:
"كويسة.. هي بتكلم نفسها كتير وأوقات بخاف منها بس مسلية، بحس بفضا أما ترجع السرايا"
قال حسن ضاحكًا:
"أكتر حد راح يزعل أما الخالة غوايش تهملنا ووتستجر عنديكم هي ماما"
بعد صمت دام طويلاً علقت إيسال قائله:
"معقول، أنا حاسه عكس كده، ماما نيرة هي أكتر حد دماغه هيرتاح، ديه طول النهار تقولها أسكتي، والخالة غوايش مفيش فايدة تفضل تتكلم بردك"
دمدم عمر مغتاظ:
"جبر يلمها ولية خرفانة على جولة أبوي معتطبتلش حديت عاطل على باطل"
هنا قال حسن وهو يضحك:
"اذاااعة، مش بتفصل"
"وبتتكلم عن العفريت كمان بجد خوفت منها"
هتفت مهرة بوجه مكفهر من الخوف، فصاحت كابر:
"اه صح بتقول بسم الله إنها بتشوف حاجات و بتتكلم معاهم"
اتسعت عينا دهب و أمسكت بكف زوجها المستمع لحوارهم:
"المرة اللي فاتت اللي كنت فيها هنا حرفياً خليت قلبي يقع في رجلي بصتلي و قالتلي انتِ حد عملك عمل"
شهقت فاطيما هامسة:
"معقووول، إيه الكلام الفارغ ده، لا فعلا هي ساعات بتخرف"
في تلك الأثناء نظرت وداد حولها متسائلة بفضول:
"آمال فين أيوب و طاهر راحو فين؟"
حركت إيسال كتفها بعدم معرفة و لفت رأسها تنظر خلفها و عيناها تبحث عن زوجها الذي ذهب الى دورة المياه و حينما عادت برأسها للأمام تقابلت عيناها مع عيني مهرة فإتبسمت لها برفق لائمة نفسها، يبدو أنها
قد بالغت في ردة فعلها حينما استمعت الى هلاوس الخالة غوايش...
بينما قال حسن:
طاهر راح لحد الفندج يستجبل ضيوفي"
"هما وصلوا؟"
سألت نفيسة وهي تشعر بالفضول تجاه ضيوف زوجها القادمين لحضور حفل زفافهم لقد أخبرها أن مريضته إيمان والتي أصبحت بمقام شقيقته ستزورها غدًا لتتعرف عليها قبل الزفاف...
هز علي رأسه يسأل شقيقه:
"ضيوف مين؟"
أجابه حسن:
"دكتور عوني أستاذي و إيمان و صبا الممرضة بتاعتها عزمتهم و مشكورين چوم لحد اهنيه، حتى والد إيمان هو كمان چه وياهم، ده طلع على معرفة بعمي و حمزة كماني"
رد حمزة وهو يومئ برأسه:
"الشركة عندنا اتعاقدت مع مجموعة الأيوبي على تشغيل نظام السيستم و البرمجة و الصيانة، بصراحة راجل محترم جدا، اللي عرفني عليه فارس الحسيني ومن وقتها بنتعامل معاهم"
لاحظت كابر صمت شقيقتها منذ مجيئهما، أمالت رأسها وهي تسألها بصوت خافت:
"بلسم مالك ساكتة ليه؟ من ساعة ما جيتي ساكته و سرحانه ده انتِ مقولتيش كلمتين على بعضهم"
ثم تطلعت لعمر الذي يجري حديثًا جانبيًا مع محمود وسألتها:
"اتصالحتوا؟"
هزت بلسم رأسها بسعادة و رفعت خصلات شعرها تظهر عقد عمر الذي اشتراه لها:
"اتصالحنا و جابلي الهدية ديه"
أطلقت كابر صفارة خافتة:
"اووه جميلة.. ذوقه حلو، الله أما انتوا اصالحتوا أمال انتِ مالك حتى هو كمان بيتكلم بالعافية"
أسبلت بلسم أهدابها متنهدة بقلق و قالت لأختها بحيرة:
"أنا عملت حاجة مش عارفة ان كانت غلط ولا صح بس عملتها و خلاص"
إعتلت ملامح كابر نظرة قلق فأسدلت رموشها تقاوم التفكير فيما احتل عقلها من أفكار ثم قالت من بين أسنانها:
"اوعي يكون اللي بالي"
هزت بلسم رأسها بنعم هامسة:
"هو... ماقدرتش أخبي عليه حاجه تاني، أنا مش ناوية أخسر عمر بسبب الحيوان ده"
هتفت كابر مما جعل الرؤوس تلتف نحوهما:
"أوف يا بسلم أوف"
و عندما أدركت أن الجميع منتبه قالت وهي تحرك كفها أمام وجهها طالبة الهواء:
"أوف الجو حر، مش كده"
لاحظ عمر توترهما على الفور لكنه عاد ليكمل حديثه مع محمود، بينما نظر علي لزوجته غامزاً لها بطرف عينيه بما يعني "حصل إيه"
أشارت كابر برأسها نحو عمر و همست له:
"بلسم قالت لعمر على اللي حصل"
ثم مالت على بلسم و سألتها من جديد:
"طيب عمل ايه؟ قالك ايه"
زفرت بلسم و نظرت اليه بطرف عينها:
"لا قال ولا عمل حاجة سكت و ده اللي مخاوفني"
**************
بعدما أغلق أيوب الهاتف مع والدته التي بالطبع أثارت حنقه بكلماتها السامة عن والده و زوجته و عائلة والده، و بعدما أكد عليها مُلحًا ألا تحضر زفاف أبناء عمه حتى لا تفتعل المشاكل مع والده وإلا هذه المرة ستخسره الى الأبد وعدته لكنه لم يصدقها ففي نبرتها شيءٌ ما تخفيه و كأنها تخطط لأمر لايعرفه... تجاهل الأمر رغم حالة القلق التي انتابته و أكمل حديثه مع والدته و علم أنها تقضي عطلة العيد بمدينة العلمين مع صديقاتها...
وقف أمام المسبح واضعاً يده في جيب سرواله بينما يمسك بالهاتف بيده الأخرى يفكر بجدية ان يتواصل مع والدته مرة أخرى و يسألها عما تخطط له، انه متأكد أن ما يدور في عقلها يمكن أن يفسد علاقتها معه و يتسبب في خسارتها له للأبد..
زفر وهو يرفع رأسه يستنشق الهواء لقد أخفى عنها حمل إيسال لأنه يتوقع ردة فعلها، لن يسمح لها أن تقهر زوجته، إيسال هي زوجته و حبيبته التي سيحميها مهما كلفه الأمر...
توقف عن التفكير عندما رن هاتفه برقم غير معروف فرد بتمهل.. واستمع لصوت أجش كان يلهث كأنه يتنفس بصعوبة:
"الباشمهندس أيوب الناجي معايا؟"
قطب أيوب حاجبيه وأجاب:
"أيوه، مين حضرتك"
لوهلة صمت الرجل وسمع أيوب صوت أنفاسه ثم عاد يقول:
"معاك علي رشدي.. علي رشدي الحجار، والد إيسال"

في العشق والهوي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن