البارت6

51 6 2
                                    

قبل أن يغرز الطبيب الحقنة في ذراع "يونس"، شعر بضربة قوية على ظهره؛ جعلته يصرخ من الألم، وسقطت الحقنة من يده.
ضغط على أسنانه وشعر وكأن عظام ظهره قد انكسرت!
وعندما استدار، وجدها تنظر إليه بغضب وبيدها عمود خشبي، حيث أدرك أنها هي من قامت بضربه.
تجلت علامات الغضب على ملامحه، فتقدم نحوها، لكن قبل أن يقترب، شعر بألم شديد يكاد يفتك به.
نظر إلى الرجال الذين كانوا معه بنظرة غاضبة، جراء صمتهم وعجزهم عن اتخاذ أي إجراء! ثم هتف، وقد غلب عليه الألم قائلاً:

_ إنتوا فايدتكم إيه؟ أنا جايبكم علشان تحموني مش شايفين البنت كانت هتقتلني؟!

تقدم أحدهم نحوها، ثم أمسك بذراعها بقوة، مما جعل ملامح الألم تظهر على وجهها وهي تحاول الفرار من بين أنامله، ثم قال:
_ إحنا آسفين ماخذناش بالنا منها، كنا مركزين في شكل الراجل الغريب ده، كمل شغلك ..

نظر إليها بنظرات غاضبة، ثم استدار نحو "يونس" ليواصل ما بدأ به، لكن صدمته كانت كبيرة عندما رأى السائل الذي كان في الحقنة قد سكب على الأرض!
التقط الحقنة بسرعة من الأرض، لكن الوقت قد فات، فتركها هناك واستدار إلى "تقى" غاضباً، حيث ارتفع مستوى غضبه مع ابتسامة "تقى" التي تحمل في طياتها شعور الانتصار.
إذ تمكنت من إحباط ما كان يطمح إليه، كانت ابتسامتها كالسيف الذي جعله يشعر بأن حنجرته قد جُمدت حمل حقيبته، ثم وجه كلماته إليهم قائلاً:

_ يلا نمشي من هنا شغلنا باظ بسببها، الحقنة كانت واحدة بس علشان مايحسش بحاجة ..

خرج الطبيب وهو يعرج، فيما تبعه رجاله، نظرت "تقى" إلى "يونس" الذي كان صامتًا، محدقًا في الفراغ أمامه، وعلامات الحزن تجلت على وجهه.
حرك رأسه ليلقي نظرة على ذراعيه اللتين تم نزع ملابسه عنهما، وكان شكلهما يبعث على القلق، كان يشعر بأنه أصبح مُهملاً ومنبوذًا من الجميع، إذ يسعى الآخرون إلى استغلاله لتحقيق مصالحهم.

لم يكن يرغب في أن يكون بهذه الصورة، فهو لم يختر كيف يكون، بل وُلِد بهذه الطريقة!
وكأن "تقى" أدركت ما يدور في ذهنه، فتوجهت نحوه بخطوات تصدر صوتًا واضحًا لتجذب انتباهه، لم يتمكن من رفع رأسه لكي لا تشعر بالخوف من مظهره، إذ يصبح مخيفًا عندما يغضب، تنهد بحزن ثم قال:

_ أنا كويس متشكر أوي خربتِ الحقنة وخطتهم فشلت ..

لم تصدر عنها أي صوت، بل تحركت وبدأت تدور في المكان، متفحصةً كل زاوية فيه لعلها تجد مخرجًا.
لا تدري من أين اكتسبت هذه الشجاعة، فقد كانت تشعر بالخوف القاتل ومع ذلك، حين رأت قهر "يونس" أمام الطبيب، لم تعرف كيف حصلت على تلك القطعة، لكنها وجهتها نحوه وضربته بكل قوتها.
أثناء تفحصها المكان، كان صراع من مشاعر الارتباك والخوف يتغلغل داخلها، اتجاه ما قد يحدث في المستقبل ومصيرها المجهول مع هذا الشخص الغامض!
أصبحت عاجزة عن توقع الأحداث، وخشيت أن يحدث شيء سيء لها أو "ليونس".
وفي خضم تلك المشاعر، لفت نظرها إلى نافذة في ركن عالٍ قليلاً، فتحركت بحماس وبدأت في نقل القطع الخشبية ووضعها تحت موقع النافذة؛ لتتمكن من الوصول إليها لاحقًا.
وعندما شعر" يونس" بصمتها، انتابه القلق من احتمال حدوث مكروه لها، وعندما رفع رأسه، وجدها تحمل القطع وترصها فوق بعضها البعض، مما أثار إعجابه، فهتف مستفسرًا:
_ "تقى" إنتي بتعملي إيه؟ ليه بتشيلي الخشب وتحطيهم هناك ليه؟ ممكم تتأذي الخشب تقيل!

استدارت نحوه ثم أشارت بيدها نحو النافذة، قبل أن تعود لاستكمال حمل القطع، حينها أدرك أنها قادرة على الوصول، لكن "يونس" لاحظ أن القطع غير مرتبة وقد تسقط في أي لحظة؛ مما قد يُسبب لها أذىً جسيمًا نظرًا لارتفاعها.
لذا، تحرر من صمته وهتف بتحذيرها قائلاً:
_ "تقى" أوعي تطلعي فوقيهم؛ دول مش محطوطين كويس وممكن يقعوا بيكي وتتأذي! خلينا نفكر في حل تاني أحسن من دا ..

لم تعر كلماته أي اهتمام، فهزت كتفيها بلا مبالاة، ثم صعدت بحذر فوق قطع الخشب، ورفعت يدها محاولةً فتح تلك النافذة الصغيرة.
فجأة، شعرت بهزات تحت قدميها، وبدأت تفقد توازنها في محاولة منها للتماسك، ولكن عندما مالت قطع الخشب، لم تجد ما تُمسك به، فسقطت بقوة.
صدمت رأسها بإحدى القطع، ثم انحنت نحو الأرض حتى غُرِس وجهها في التراب، ولم يُسمع منها أي صوت، عدا صوت "يونس" المستمر منذ لحظة سقوطها!
حتى توقفت عن الحركة بلا أي صوت، حاول تحريك الكرسي وهو يصرخ، لكنه كان يشعر بالعجز:
_ تقى..يا تقى.. تقى ردي عليا، إنتي مش بتسمعي الكلام ليه؟ أنا قلتلك بلاش ..تقى

*************   
                
سقط الهاتف من يدها؛ عندما تلقت خبر إصابة ابنها الذي كان يصارع الموت، لم تتمكن من تحمل ما سمعته، فقد كان ابنها، ثمرة كبدها، بين الحياة والموت، و اندثرت دموعها في لحظة من الفزع. ثم أخرجت صوتها بصعوبة قائلةً:

_" حسام" في المستشفى ابني متصاب يارب .. احفظه هو...

لم تكمل منعتها غصة حادة وقفت بمنتصف حلقها، لتعض على شفتيها بأسنانها و تناثرت دموعها على وجنتيها.
اقتربت "مريم" من والدتها وهي تبكي، غير مدركة ما تفعل، حيث تجري دموعها بينما تمسك بيد والدتها محاولةً تهدئتها.
ومع ذلك، كانت والدتها بحاجة أيضًا إلى من يطمئنها، بينما كانت "شهيرة" متسمرة في مكانها، تراقب بلا حركة أو كلمة. استجمعت "زينب" قواها، ثم بدأت بالكلام قائلةً:
_ يلا بينا نروح المستشفى نطمن على "حسام".. يارب إبني يكون بخير ..

تحركت "زينب" و"مريم" بسرعة، بينما ظلت "شهيرة" متجمدة في مكانها، حيث كانت علامات الجمود بادية على وجهها.
ورغم ذلك، كان قلبها مشتعلاً بنار من القلق والانفعال، وقد أخرجها من شرودها صوت "مريم"، التي قالت:

_ "شهيرة" إنتي كويسه؟! بقالي مده بنادي عليكِ يلا نروح المستشفى ..

شعرت الكلمات تتجمع في حلقها كخنجر يجرحها، فتنهّدت ثم أجابت قائلة:
_ روحوا إنتوا أنا مش قادره، أنا هفضل هنا لما توصلوا إبقوا كلموني علشان أطمن على" حسام" ..

عادت "زينب" إليها، وأمسكت بيدها قائلةً :
_ إحنا مش هنسيبك لوحدك؛ تعالي معانا، قلبي هيبقى مشغول عليكِ ..

لم تستطع "شهيرة" العثور على سبب مقنع للرفض، فوافقت على الفور وخرجت معهم، بينما كانت تكافح لوقف دموعها وتحاول إخفاء حزنها، مسبغةً على وجهها ابتسامة زائفة.

*************                    
حدقت "منة" في "وليد" بتوتر، تنتظر معرفة الشرط الذي قد يفرضه عليها! يكفي أن يتركها هي وطفلتها لتغادر هذا المكان المشؤوم.
جلس "وليد" على أحد المقاعد الحديدية القديمة، مظهراً ابتسامة تفيض بالشعور بنشوة الانتصار، وكأنه اقترب من تحقيق هدفه، ثم هتف قائلاً:
_  الشاب بقى في إيدينا وهو مرتبط مع سر (الأمانة) ..
الشرط الأول تقوليلي أي هو السر إللي يربط "يونس" (بالأمانة) علشان أقدر آخدها ..

أطلقت تنهيدة من الضيق وهي تشعر بالغضب من تصرفه، حيث رجع يسألها وكأنها تدرك كل شيء!
طوال حياتها، كانت بعيدة عن زوجها، ولم يكن يجمعها به سوى أبنائهما، كيف يمكنه أن يخبرها عن هذا السر؟ ومن هو" يونس" الذي يتحدث عنه؟ تلك التساؤلات دارت في ذهنها بلا توقف ثم هتفت قائلة:
_ أنا معرفش مين "يونس" ولا أعرف السر إللي يربطه (بالأمانة)! ، إيه هو شرط التاني؟.

اقترب منها حتى باتت أنفاسه تلامس وجهها، فحرّكت رأسها بعيدًا عنه، مما عكس على ملامحها علامات النفور والاستياء، عند رؤيته لهذا التصرف، تراجع عنها ثم قال:
_ الشرط الثاني يا "منة" إنك تتجوزيني على سنة الله ورسوله ..

شعرت" منة" بالدهشة جراء كلماته، وكأن الكلمات قد اختنقت في حلقها! دار في ذهنها العديد من التساؤلات، لكنها حاولت استجماع قواها وقالت:
_ وأنا مش هتجوزك لو هموت هنا يا "وليد"؛ إنت أكثر شخص أنا بكره في حياتي ولا يمكن أفكر مجرد تفكير إني اتجوزك! ..

غضب من ردها الواضح، ثم تقدم نحو ابنتها وأمسك بها بشدة من ذراعها، مما جعلها تطلق صرخة مدوية في المكان، حاولت "منة" أن تصرخ بفزع لتطالبه بترك ابنتها، لكنه تجاهل صرخات الطفلة ووضع السلاح على رأسها، ثم قال:
_ يا إما تنفذي شروطي وإلا تخسري بنتك للأبد؟ الخيار ليكي وهديكِ وقت علشان تفكري ..

*************      
                  
بقلق شديد، أسرعوا في أروقة المستشفى يسألون عن غرفة "حسام"، وبدت عليهم علامات الذعر، قبل أن يتجهوا نحو الغرفة المعنية، حتى سمعوا نداء "أحمد" من إحدى الاروقة حيث كان جالسًا على أحد المقاعد الحديدية، أمام الغرفة التي يتواجد بها "حسام" هرعوا إليه بقلق، وعندما وصلوا، قالت "زينب" بلهجة مفعمة بالقلق:

_ طمني يا "احمد" "حسام" مالوا هو كويس؟ ابني حصله إيه؟! ..

تنهد" أحمد" بعمق حيث كان الحزن والقلق يطغيان على ملامحه، وهو يتأمل يديه الملطختين بدماء ابنه، ثم نطق قائلاً:
_ لسه ماحدش خرج من عنده من ساعة ما وصلنا، بإذن الله "حسام" هيكون بخير ..

ضغطت على شفتيها لتمنع صوت شهقاتها العالية، وقلبها يكاد يتفجر من بين ضلوعها، أي ألم تتحمله هذه الأم قلبها ينفطر على ابنها، مثل سيف يذبحها كلما مرت الدقائق فجأة.
انطلقت شهقات بكائها ملء المكان، وصدى صوتها يتردد في الأرجاء، بدأت عيناها تتجولان بقلق، وعندما تذكرت "يونس"، اهتز قلبها خوفًا مما قد يحدث له؛ فقد باتت غير قادرة على التحمل.
انهارت ساقاها وسقطت على ركبتيها، لكن "شهيرة" و"مريم" هرعتا ليدعماها وتساعداها على الجلوس، ثم تحدثت بصوت خافت قائلة:
_ أومال "يونس" فين إبني فين يا "أحمد"؟ ماتقولش إن حصله حاجة؟! ..

استقام "أحمد" وتقدم نحوها، ثم جلس القرفصاء أمامها ممسكًا يدها، وكأنه يواسيها رغم ألمه، كان يأمل أن يظل قويًا من أجلها، ثم أجابها قائلاً:
_ إطمني هيكونوا بخير الظاهر إنهم خطفوا "يونس" شكلهم وصلوا له؛ أنا بعمل كل جهدي علشان أعرف مكانه ..

لم تتحدث، بل وضعت يدها على فمها وانهمرت دموعها بينما كانا في هذه الحالة عندها، خرج الطبيب من غرفة "حسام"، فتوجهوا إليه بسرعة وقلق، تملؤهم مشاعر متناقضة.
ولكن، عندما نظر إليهم الطبيب، بدت على وجهه تعابير الحزن.

من أنـــــــاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن