في تلك الغرفة الكبيرة و الباردة وذات السقف العالي تجلّت هيبة العميد وكأن المكان مشحون بصدى تاريخه الطويل و ضوء خافت يتسلل عبر النوافذ المغطاة بستائر ثقيلة بلون خمري ليعانق أركان المكتب الفخم بتفاصيله الكلاسيكية و يجلس العميد في مقعده الجلدي غير مبالٍ بالوقت و يداه تقبضان على سيجارة إيطالية عتيقة برائحه قويه تشبه احتراق الورق و الخشب في آن واحد حيث ينبعث منها دخان كثيف يتراقص في الهواء بتمهل كانت الرائحة القوية لدخان السجائر تتمازج مع عبق قديم كأنها ذكريات تائهة علقت في الجدران و تلتف حول العميد مما يعكس مزيجاً من الهيبة والغموض ،
أغمض العميد عينيه ببطء و كأنما يثقل عليه حمل السنين المتراكمة ومع ذلك لم تهتز ملامحه بل ازدادت غموضاً تحت إضاءة الغرفة الخافتة و خُفيت تفاصيل وجهه خلف الظلال ولكن يده انقبضت بشدة كمن يعاني صراعاً داخلياً يمزقه بصمت و همس بجملة تكاد تختفي في سكون المكان صوته أشبه بزفير خافت بالكاد تسمع كلماته لكنها تنبض بالقسوة كمن يحكم إدانة على ماضٍ لم يندمل جرحه "دم نجس"
كرر العميد كلماته مرارًا، وكأنها لعنة تخرج من بين أسنانه " دم نجس" يتردد صداها في أرجاء الغرفة يملؤها بغضب مكتوم وكراهية عميقة و عيناه المغلقتان كأنما هربًا من صورة تلاحقه لم تفلح في محو تلك الذكرى التي تتسلل إلى عقله دون رحمة كان يتمنى لو يستطيع طردها او نسيانها التفكير في أي شيء آخر ولكن الماضي بدا له متشبثاً كجذر عتيق يصعب اقتلاعه يأبى أن يتركه بسلام ،
خلال محاولتة للأختباء بنفسه و و التحكم بذاته العنيفة يسمع العميد شيء يقترب إلى الباب لكنه ليس خطراً بل أصوات أقدام و بحكم خبرته المتجذرة في عمله لم يكن هناك صوتٌ يفلت من إدراكه الحاد حتى وسط بحر من الأقدام المتحركة كان يستطيع تمييز تلك الخطوات و كأنها توقيع يعرفه جيداً كان وقع الأقدام يقترب بثقة نحو الغرفة ولم يستغرق الأمر لحظة حتى أدرك أن صاحبها " همام". رفع عينيه ببطء واستقام في جلسته وكأن عاصفة خفية مرت خلاله و أمسك سيجارته برف
ق ثم نفضها بنفَس طويل وألقى بها جانبًا تاركًا الدخان يتلاشى في الهواء من حوله وكأنما يتحرر من ثقل أفكاره التي تراكمت طوال الجلسة..،
" أدخل همام "
ارتفع صوت العميد الجهوري، عميقًا ومهيبًا، ليكسر الصمت المسيطر على الغرفة كان صوته يتردد بثقةٍ وهيبة و كان الأمر أشبه باستدعاء لا يقبل المماطلة أو التردد وكأن الغرفة نفسها ترتجّ بصدى صوته الجاد فكان لوقع كلماته أثرٌ لا يُستهان به..،
توقف همام للحظة عند عتبة الباب و قد اعتلاه شعور بالدهشة المفاجئة و تجمّد في مكانه وعيناه تلتفتان بقلق، باحثًا عن كاميرات أو أي وسيلة تفسر كيف عرف العميد بوجوده وهويته قبل أن يراه. تسلّل شعور غريب داخله، فقد بدا له وكأن الرجل الجالس هناك يتمتع بنوع من الإدراك الحسي الذي يتجاوز الحدود المعتادة.
أنت تقرأ
إستجواب
Misteri / Thrillerففي متاريس النظرات أقاتل جيش فؤادي ، فزوّديني من حاجبي الحبيب و غمزاته بقوس وسهام لأصمد في هذا السبيل النبيل!