١٥. برلين

14 4 34
                                    

الطريق إلى برلين كان قاسياً.

عجلات العربة الثقيلة انغرست في الوحل، تصدر صريرًا مع كل حركة، بينما الرياح العاتية صفرت عبر السهول، تحمل معها لسعات البرد التي اخترقت الملابس كأنها شفرات حادة. لم يكن المطر هينًا، بل كان ينهمر بغزارة، طرقاته على سقف العربة تصمّ الآذان، وقطراته المتسربة من الأخشاب القديمة كانت ترتطم بوجوههم كأنها إبر جليدية.

إيزابيل, التي بدأ حماسها يتلاشى تحت وطأة الإرهاق، تململت في مقعدها، عيناها تغالبان النعاس، لكن كل مطب في الطريق كان يعيدها إلى يقظتها، فتتشبث بيد روزالين التي لم تقل شيئًا منذ ساعات. كانت تحدق عبر النافذة الصغيرة، تشاهد القرى المظلمة تمرّ أمامها كأشباح غامضة، سكونها المريب لا يقطعه سوى نباح كلاب بعيدة أو وميض مصابيح مترددة خلف النوافذ المغلقة.

أما ألكسندر، فكان متيقظًا، ظهره منتصب، وعيناه لا تفارقان الطريق. كانت يده تستقر على مقبض سيفه، ليستمر بذلك التوتر الخفي الذي صاحبهم منذ مغادرتهم. كل قرية مروا بها حملت نظرات حذرة من السكان، بعضهم اكتفى بالمراقبة بصمت، بينما آخرون لم يخفوا ارتيابهم من القافلة الغريبة التي تشق طريقها عبر أرض مضطربة.

الرحلة بدت بلا نهاية. كل ليلة كانوا يتوقفون عند نزل متواضع، حيث الجدران الرطبة تعبق برائحة الخشب العتيق، والفرش الخشنة بالكاد تمنحهم راحة بعد يوم شاق. لم يكن هناك وقت للترف أو الشكوى؛ كان عليهم الاستمرار، لأن كل لحظة تأخير تعني خطرًا أكبر.

وأخيرًا، بعد أيام من السير المتواصل، بدأت ملامح بروسيا تظهر أمامهم. الطريق أصبح أقل وعورة، والمزارع المحيطة بدت أكثر ترتيبًا، أسوارها الحجرية تمتد بدقة كأنها تحرس أراضي أحد النبلاء.

---

عندما أطلت أبراج القصر بين ظلال الأشجار الكثيفة، استشعرت روزالين راحة خافتة، لم تدم طويلًا.

أما إيزابيل، فلم تخفِ حماسها، إذ اندفعت إلى نافذة العربة، عيناها تلمعان وهي تراقب الممر الحجري الطويل المؤدي إلى القصر. بدا البناء شامخًا، جدرانه الرمادية الصلبة تعكس هيبة ممتدة لعقود، وشرفاته العالية تراقب الداخلين بصمت، كأنها عيون نبلاء راحلين لا يزال صدى وجودهم يحوم بين أروقة المكان.

عند البوابة الخارجية، وقف الخدم في صف منظم، ملابسهم الرسمية الداكنة نظيفة بعناية، ووجوههم خالية من أي تعبير، كما لو كانوا جزءًا من القصر نفسه. وما إن توقفت العربة، حتى نزل ألكسندر أولًا، خطواته ثابتة على الأرض المرصوفة، ثم التفت، ومدّ يده لمساعدة إيزابيلا التي هبطت بخفة، قبل أن تتبعهم روزالين، خطواتها أهدأ، لكن عينيها لم تتوقفا عن مراقبة المشهد من حولها.

في قلب الساحة الواسعة، حيث تمتزج رائحة الأرض الرطبة بأريج الورود المتسلقة على الجدران، وقف رجل طويل القامة، ذو كتفين مستقيمين ونظرة حادة، وكأنه جزء من لوحة رسمت بدقة متناهية. جابريال دي مونتيني، أصغر أشقاء فيكتور، رجل في أواخر الأربعينات من عمره، يتباهى بشعره الأشقر الذي بدأت خصلاته الفضية في الزحف إليه، وعينين زرقاوين تعكسان ذكاءً جافًا، دهاءً يليق برجل نفوذه يمتد إلى بلاط بروسيا الملكي.

فوضىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن