في صباح اليوم التالي، جلست روزالين في حديقة المزرعة تحت ظلال الأشجار الوارفة، بينما كانت إيزابيلا تجلس بجانبها، تلعب بخيوط العشب بين أصابعها الصغيرة. كان الجو هادئًا، لا يُعكر صفوه سوى أصوات العصافير المتناثرة في الأفق، ورائحة الأرض الرطبة بعد ليلة باردة.
لاحظت روزالين شيئًا غريبًا... لم تعد تشتكِ إيزابيلا كثيرًا من اشتياقها لوالدتها، ولم تذكر حزنها بنفس الحرقة التي اعتادت أن تُظهرها. كانت الطفلة أكثر راحة، وأكثر اطمئنانًا، وكأن جزءًا من خوفها قد تلاشى.
أما ألكسندر، فمنذ اعتذاره، اختفى تقريبًا. غادر إلى أعماله، ولم يعد إلى المزرعة لعدة أيام. لكن روزالين لم تكن تشعر بالضيق، بل على العكس... كانت سعيدة بطريقة ما. لمجرد أنه قال كلمة واحدة بصدق، استطاع أن يمحو أثر غضبها السابق .
---بعيدًا عن المزرعة، كان ألكسندر غارقًا في أعمال المصانع العائلية. الوضع في باريس لم يكن مستقرًا، والثورة ما زالت تُلقي بظلالها الثقيلة على كل شيء،
ألكسندر اعتاد على مواجهة المصاعب بحزم. لكنه اليوم، وهو جالس في مكتبه الخشبي الثقيل، شعر بشيء مختلف يثقل كاهله. لم يكن مجرد إرهاق من العمل، بل كان إحساسًا غير مألوف، كما لو أن الهواء نفسه صار أثقل داخل جدران المصنع.
أصابعه كانت تستقر على سطح المكتب المصنوع من خشب الجوز، يتحسس نقشًا قديمًا على حوافه، ربما من أيام والده، كأنه يبحث عن رابط بين الماضي والحاضر. عيناه تجولتا على الأوراق المكدسة أمامه، تقارير الإنتاج، دفاتر الحسابات، ورسائل التجار... كلها أشياء اعتاد التعامل معها، لكنها اليوم بدت بلا معنى، مجرد رموز جامدة وسط عالم يتغير بسرعة مخيفة.
في الخارج، كانت ضوضاء المصنع تُسمع بوضوح، صوت المعادن وهي تُطرق، والعمال وهم يتبادلون الأوامر بنبرة فيها شيء من التوتر. رغم أنهم اعتادوا على الانضباط، إلا أن الخوف كان يثقل خطواتهم.
.
.
.
.
.كانت العربة تشق طريقها عبر المروج نحو المزرعة. الرياح حملت معها برودة ، لكن قلبه لم يكن مثقلًا كما اعتاد أن يكون عند العودة.
وحين وقفت العربة أمام المزرعة، لم يكن قد ترجل منها بعد حتى اندفعت إيزابيلا من داخل المنزل، تركض نحوه بفرحة طفولية، هاتفه:
"لقد عدت! تأخرت كثيرًا هذه المرة!"
ضحك، وانحنى ليحملها بين ذراعيه، قائلاً بمزاح:
"وهل كنتِ تعتقدين أنني لن أعود أبدًا؟"ضحكت الصغيرة، بينما ظهر والده فيكتور عند مدخل البيت، يراقبهما بعينين مليئتين بالقلق المخفي خلف صرامته المعتادة. حين اقترب ألكسندر، ربت فيكتور على كتفه وقال بصوت هادئ، لكنه يحمل نبرة اهتمام حقيقية:

أنت تقرأ
فوضى
Historical Fictionفي ذروة الاضطرابات التي تعصف بمملكة فرنسا، إذ تموج البلاد بصراع طبقي لا يرحم، تصل الآنسة روزالين، شابة ذات طموح وعزم، إلى قصر آل مونتيني، حيث عهد إليها بتعليم ابنتهم الصغيرة. إلا أنّ القصر، بشموخه وأبهته، لا يخفي ما يعجّ به من أسرار دفينة وخلافات مس...