الفصل السادس تلك الاحتفالات الغجرية

1K 9 0
                                    


ولم تستطع دابون أن تتفهم حقيقية موقفها قبل أن تحل صباح اليوم التالي . ظلت طوال الليلة الماضية مغمورة بالحزن ، ولم تكن تحس بشيء سرى أنها كانت فاقدة الحركة ، ورغم أن النعاس غلبها في النهاية كانت تقطع نومها أحلام مفزعة ، رأت مانويل يجذب جوناثان منها بقوة ويذهب به بعيدا حيث لا تجد سبيلا للوصول اليه .
وجلست في الصباح وعيناها أضناهما القلق تحدق بصورتها في المرآة ، تحاول أن تجد الايحاء من وجهها الذي كانت تبدو علية الكآبة . كان كل ما يلح على ذاكرتها هو وجه مانويل عندما التفت اليها في الكوخ ونظرات الاحتقار والمرارة تبدو على وجهه . كانت بالنسبة اليها أقسى من الأتهام الصريح . وصارت تفكر : لماذا يلومها لأنها تصرفت كما فعلت ؟ هل كان يظنها المرأة التي تستثير الرجل بمكر وسخرية ثم تنسحب بصلابة استهتارا بمشاعره ؟ ألم يكن يشعر بأن ما حدث آلمها كما آلمه ؟
ووضعت رأسها بين يديها ، واستقر مرفقاها على الحافة الخشبية الملساء ، وبدات نظرات خاطفة من الماضي تنطلق بسرعة الى الذاكرة لتزيد من آلامها .
وبدات تسترجع صورتها عندما حضرت لأول مرة الى كامارغ منذ ثلاث سنوات كانت فتاة لا تجربة لها ، على وشك أن تكمل برنامج اعدادها وتدربيها كمعلمة ، تذكرت كيف أتيحت لها الفرصة لزيارة فرنسا لمدة ثلاثة شهور ، وكيف انتهى بها الأمر الى أن تقضي معظم هذه الشهور الثلاثة في أقليم البروفنس .
كانت قد أمضت فترة تدريب أساسية في باريس ، واستأجرت بعد ذلك سيارة قديمة خرجت بها في نزهه الى الجنوب ، وأمضت عشرة أيام تستكشف فيها قلاع وادي اللوار . كان الوقت هو شهر مايو ، وكان الجو منعشا بدرجة تجتذب جيوش البعض التي كثيرا ما تتواجد في تلك المنطقة .
كانت المنطقة حول آرل وحول سانت مارى مزدحمة بالغجر والسياح حضروا جميعا بمناسبة الاحتفالات السنوية تخليدا لذكرى قدوم القديسات الثلاثة اللاتي أعطين اسمهن للمكان ، وبذلك أصبح يعرف باسم سانت مارى . ولكن الغجر قدموا بيعتهم الى سارة الخادم السمراء للقديسات الثلاث ، ورغم أن البابوية في روما لم تعترف لسارة بهذه القداسة في أي يوم من الأيام فقد ظلت الشعوب الغجرية تقدسها ، وحيكت كثير من الأساطير حولها .
وعرفت دابون شيئا كثيرا من هذه الأساطير ، ولكن الذي كان يشدها الى السكان في ذلك الوقت كان مجرد الأجتماع الكبير بذلك الحشد من الناس. ولم يكن معها سوى آلة تصوير ، وبعض المذكرات لتسجيل انطباعاتها عما تراه عندما قدمت في صباح مشمس لأول مرة الى سانت مارى ، ومع مجيئها قابلت قدرها . لم تكن السيارة القديمة التي استأجرتها سيارة يعتمد عليها ، وعندما لم تستجب السيارة للتوجية واندفعت في احدى القنوات ، ولكن كتبت لها الحياة ، حين وجدت نفسها على أطراف مخيم الغجر . كان هناك شاب وسيم ساعدها على الخروج من القناة ، واصطحبها لتقابل جدته بعد أن صمم على أن تقبل دعوته .
كان الشاب هو مانويل وكانت الجدة هي جيما ، ولم تكتشف ، الا بطريقة عارضة فيما بعد ، أن مانويل كان ينتسب الى الغجر بنسبة الربع فقط ، وأما ثلاثة أرباع نسبه فكان الى الطبقة الأستقراطية في أقليم البروفنس .
وبدات دابون تدرك مدى حرج موقفها وحدود علاقتها بمانويل عندما عاد السيد سلفادور وزوجته . ومع ذلك فقد رفض مانويل أن يحول بينه وبينها أي شيء أو أي إنسان وظل يزورها باستمرار ، وكانت دابون قد قابلت أبوية وشقيقته لويزا ذات الأربعة عشر ربيعا وأذهلتها المشاعر الباردة التي كان الأبوان يظهرانها تجاه نجلهما الوحيد .
واتيحت لها الفرصة بعد ذلك لمقابلة ايفون ديماريس ، وكانت مدام سان سلفادور وايفون فيما بينهما قد جعلتا دابون تفهم أن مانويل يعتزم الزواج من ايفون ، وأن ذلك الأمر كان قد تم الاتفاق علية منذ طفولتهما، وأن لا شيء ولا إنسان بستطيع أن يحول دون ذلك الزواج .
أما جيما بمكرها الفطري فقد كانت تفهم موقفهما أكثر من أي شخص آخر ، وكانت قد لاحظت علاقتهما تنمو وتتطور ، وكانت تعرف بالضبط ما سيصير من أمرهما .
وفي شهر يوليو/ تموز عندما أقيم الاحتفال بعيد مصارعة الثيران في آرل ، دعت جيما أعضاء قبيلتهما من الغجر ليجتمعوا في مزرعة سان سلفادور ، وحضر منهم العشرات مما أثار ثائرة والدي مانويل ، ولكن لم يكن بامكانهما أن يوقفا ذلك أو يحولا دونه ، كان جد مانويل لأبيه قد ترك لابنه مسؤولية أدارة المزرعة ولكن الملكية كانت لزوجته طوال حياتها .
وعندما حلت الأمسية المخصصة لموكب مدينة آرل ، صحب دابون لحضور مصارعة الثيران في الحلبة ، وكانت حرارة ما بعد الظهيرة شديدة تلفح البشرة ، وكانت رائحة الموت تفوح في الهواء مختلطة برائحة العرق من الأجسام الكثيرة المحترة .
وبدأ أن مانويل هو الآخر كان يحس بذلك ، وقد اظهر من الطيش وعدم المبالاة في تلك الأمسية مالم تعهده من قبل ، فعندما تحول زئير الناس في حلبة المصارعة الى ملاحظات تهكمية ساخرة بسبب عدم كفاءة أحد المصارعين هب فجأة من مقعده ، وقفز الى الحلبة ليأخذ مكان المصارع وأخذ رداءه ، ولم تملك دابون الا أن ترقبه في صمت يخيم علية الفزع . كان يقوم بحركات ألهبت حماس المشاهدين الى نوع من الجنون فصاروا يصيحون ويشجعونه على أن يطعن الثور الطعنة القاضية .
ولكن مانويل لم يقتل الثور بل ظل يقامر مع الموت لدقائق عديدة طويلة، وعندما ترك الحلبة لم يكن ملطخا بالدم القاني السائل على الرمال ، ووقف الثور حائرا يخفق قلبه باضطراب .
كانت دابون هي الأخرى تعاني من الأضطراب ، وقبل أن يتمكن مانويل من العودة الى مقعده انطلقت مندفعة ووجدها في الخارج ترتعش ةتعاني من الدوار وعندما حاول أن يؤاسيها ابتعدت عنه ، وهي تأبى أن تسامحه على ما سببلها من ذعر .
وعادا الى مخيم الغجر رغم اعتراض دابون ، وقص مانويل على جيما ما حدث ، ولكن جيما أكتفت بالضحك وأخذت توبخ دابون على نقص شجاعتها وكيف أنها أخطأت عندما تصورت أن مانويل لم يكن يعرف ما كان يعمله ، وكانت دابون قد اهتزت بعنف لما وقع وأصبحت مقتنعة أن الحياة دون مانويل حياة بلا معنى .
كانت تلك الأمسية ذروة الأعياد في المخيم ، وكانت الموسيقى أكثر صخبا ومع ذلك أكثر تأثيرا عما سبق لدابون أن سمعته من قبل وهيىء لها أن آلات الكمان كادت تصل اليها وتمزق عواطفها . ولم تكد تشعر بالناس من حولها وهم يرمقونها بنظرات الاستغراب ويلمسون ثيابها وبريق شعرها الأسود الحريري وهم يتمتمون لأنفسهم بلغة فيها شيء من الموسيقى .
لقد أكتشفت ذلك سريعا ، فعندما بدأت ألسنة النار في المخيم تلقي بعض الظلال على التراب الأسمر ظهرت جيما في ثوب القيادة النسائية أي الأم القائدة لقبيلة ، وكان يطلق على ذلك الرداء اسم فيوري داي في لغة الغجر ، وأطبق على المجتمعين في المخيم سكون أدركت معه دابون بشيء من التوتر فنظرت الى مانويل الذي كان يقف الى جوارها لعله يفسر لها ما يحدث .
وبدت عينا مانويل ناعمتين تشع منهما الرقة والملاطفة ، رغم أن مهج العاطفة كان يتأجج في أعماقهما .
لم يكن بوسع دابون أن تتذكر بالتفصيل ما وقع بعد ذلك ، فقد كان مشوشا في ذهنها ، وبدأت الأحداث تتابع في سرعة ، ولم تستطع أن تتبين أن ماكان يجرى في تلك اللحظات كأن طقوسا للزواج تربطها هي ومانويل الا عندما تقاسما كسرة من الخبز المملح ، كانت خائفة في أول الأمر وقد تشوش ذهنها بسبب الصياح وبسبب الموسيقى التي بدأت من جديد بطريقة أكثر حدة وأكثر اثارة للحواس فضلا عن الحشد الكبير من الغجر الذين كانوا جميعا متحمسين ليروا ما يجري من طقوس .
واستمر الأحتفال والرقص الى ساعة متأخرة من الليل ، ولكن دابون ومانويل انصرفا قبل ذلك بكثير ، وكانت جيما قد أعدت لهما العربة الخاصة بها .
وعندما بدأت دابون الآن تستعرض الأحداث ، أدركت أنها هي ومانويل كانا قد سايرا مد الحماس والبهجة التي صنعها الغجر ، ولكن ذلك كان تطورا طبيعيا لما كان بينهما من علاقة . وكانت مجرد ذكراها لتلك الليلة التي أمضياها سويا تجعل الدماء تندفع الى وجنتيها .
ودفنت وجهها في كفيها ، وبدأت تشعر بنوع من تأنيب الذات ، لو أنها كانت قد فكرت فقط في عاقبة ما حدث ، لو أنها تبينت أن كل ما حدث لم يكن الا مشهدا تمثيليا أريد به أن تتاح لمانويل الفرصة لاشباع رغباته بطريقة تبدو شريفة وجميلة . وعندما تركها مانويل في الصباح التالي قبل أن تستيقظ ليعود الى منزل أسرته كان ذلك آخر عهدها به ، كانت تتوقع أن يعود اليها خلال اليوم الطويل ، ربما ليأخذها معه ، وليقدمها الى أبويه مع توضيح لما حدث ، ولكن مانويل لم يعد ثانية ، وعندما حل المساء كانت دابون في حالة من الهياج ولم يكن معها من تبثه شكواها . كانت جيما الحليف الوحيد الذي ربما يقدم لها المساعدة قد رحلت مع باقي أفراد القبيلة في الصباح الباكر ، لتترك لهما العربة .
وبدات الشكوك الآن تساور دابون .. ماذا يكون الحال لو اتضح أن جيما كانت تعلم منذ البداية أن كل الذي حدث كان خدعة ؟ ماذا لو اكتشفت أن اختفاء جيما في ذلك الصباح الباكر كان بقصد أن تتجنب عواقب ما حدث؟
وسمعت صوت حوافر الحصان جعلتها تسرع الى النافذة وتحدق في الظلام الذي تخترقه أشعة القمر ، ولكن الراكب لم يكن رجلا ، بل كان مدام سان سلفادور وطلبت أن يسمح لها بالدخول .
ولم تكن دابون تملك الا أن تقف الى جوار الباب وتسمح بدخولها ، رغم أن مظهرها لم يكن يحمل معه سوى الخراب ، ونظرت باحتقار الى وجنتي دابون المبللتين بالدموع ثم أعلنت أنها قد حضرت بالنيابة عن مانويل ، وأوضحت أن أبنها يشعر بالخجل من فعلته ، وأنه لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يعبر بها عن الأسف الذي يشعر به ، وكان من الواضح أنه أخبر أبويه بكل شيء ، وبالرغم من أنهما لم يستطيعا أن يغفرا له ما وقع منه ، فقد كانا يشعران بأنه مادام قد رجع اليها يطلب الصفح ، فأن ذلك يكفي في نظرهما للدلالة على أنه قد عرف واجبه طفولتهما ، وأما تورطه مع دابون فأن ذلك كان أمرا يمكن أن ينسى ويغتفر ، ولابد أن دابون قد أدركت أن طقوس الزواج تلك كانت مجرد استعراضات للترفية والمرح ، وأن المشاركين فيها لا ينبغي أن يأخذها بجدية .
وكان مع أم مانويل الدليل الحاسم على صدق دعواها ، الدليل الذي قطع عليها كل شك في أن ما حدث كان هوانا وتحقيرا لها فقد أبرزت مدام سلفادور أذنا للدفع شيك بخط مانويل يدفع لها بمقتضاه خمسة آلاف جنيه من حسابه المصرفي بانكلترا . ولم تملك دابون الا أن تمزق ذلك الأذن المصرفي وتلقي به في وجه أم مانويل . كان ذلك شفاء لغليلها رغم أنها كانت تعرف تماما أن مدام سلفادور كانت تتمنى أن يكون مصير أذن الدفع هكذا .
لم يكن أمام دابون بعد ذلك الا أن تتصرف ، وتأخذ الطائرة في اليوم التالي في رحلة ما بعد الظهيرة من مارسيليا . كانت فاقدة الحس تماما بسبب ما كانت فيه من حزن ، ولم تكن نقيصة مانويل التي وقعت منه بقادرة على أن تخلصها من الذكريات التي تقاسماها سويا . لقد كان عاشقا ولهانا ، كان مجرد الخاطر بأنها لن تراه من جديد مؤرقا لها .
وبعد أن رجعت الى أنكلترا ، وبدأت آلام الشعور بالتحقير تهدأ كان من الطبيعي أن تظن أنه ربما يتبعها الى هناك ، فقد كلن بوسعه أن يتعرف على عنوانها من الفندق وأن يبحث عنها في انكلترا ، وكانت تظن أنه ربما يندم على انهائه العلاقة بينهما بتلك الطريقة المختصرة ، ولكن ذلك لم يحدث ، وبدت تلك الفترة التي قضتها في فرنسا وكأنها لم تكن جزا من حياتها ، وحق للعمة كلارى أن تتساءل كيف يتأتي لابنة أخيها التي كانت تكتب بكا حماس عن فرنسا وعن البروفنس أن يتحول لديها كا ذلك فجأة الى بغض وكراهية .
وعندما اكتشفت دابون أنها كانت حاملا اعتراها الذهول ، وكانت حالتها العقلية توحي لها بأنه لا مكان في هذا العالم لها أو للطفل ، ولو لا تدخل كلارى لا قترفت سيئا رهيبا ، والذي حدث أن عمتها عرفت الحقيقية منها ، وبذلك استطاعت دابون من خلالها أن تستعيد قدرتها على التفكير السليم ، ورغم كل شيء فقد كانت شابة وأمامها حياة رحبة ، ولم تكن وحدها التي حدث لها ذلك الذي وقع ، فكم من امرأة عانت من نفس المعاناة ، واستقر رأيها على ألا تخبر مانويل بحملها .
وكانت العمة كلارى امرأة عظيمة حقا ، فقد وافقت على أن تحتفظ دابون بالطفل ، وعندما ولد جوناثان ن لقى من الحب ومن التدليل ما يلقاه أي طفل آخر ، وحصلت دابون على وظيفة في التدريس ، وأخذت عمتها مسؤولية رعاية الطفل خلال فترة عملها وكانتا تعيشان عيشة راضية ، لم يكن لديهما الشيء الكثير من النقود ولكنهما لم تكونا معدمتين ولكن عندما مرضى جوناثان ، ادركت دابون أن بامكان مانويل أن يقدم له الشيء الكثير لو أنه عرف بخروجه الى قيد الحياة .
والذي حدث أنه منذ أسابيع قليلة كان الطبيب قد أخبرها أن الطفل بحاجة الى الاستجمام من مناخ بريطانيا الرطب ، واخذت كلارى تقول لها دوما برفق أنها ينبغي أن تفعل شيئا لمعالجت ذلك الطفل .
ونهضت دابون من أمام المرآة وهي تجفف عينيها بيد متهالكة . ما الذي كان عليها أن تفعله ؟ لم يكن بمقدورها أن تبقى هنا الآن وخاصة بعد أن ألقت بالنقود التي عرضها عليها مانويل ثانية في وجه أمه ، وكان من السفة أن تبقى بعد الذي وقع في الكوخ ، وجعلت تفكر ..... لقد أثبت لها بطريقة بارعة أنه قادر على تحطيم ارادتها الآن كما كان دائما من قبل .
وأخذ قلبها يدق بسرعة عندما سمعت نقرا على الباب ، وصارت تستفسر:
" من بالباب ؟ ماذا هناك ؟"
وجاء صوت الخادم من الخارج تقول بالفرنسية:
" أنه الهاتف يا آنسة ! هل تنزلين لتردي على الهاتف"
وقفز قلب دابون فقد خمنت أنه لابد أن يكون هنري ... وكان هنري قد أخبرها أنه سيتصل بها هاتفيا اليوم . وكانت سعيدة في قرارة نفسها لأنه كان متحمسا للقائها . كانت الساعة لم تتجاوز التاسعة صباحا ، ومع ذلك فقد طلبها بالهاتف .
" سوف أنزل خلال دقيقة "
وبدأت ترتدي بنطلونها .
كان صوت هنري رقيقا ولكنه كان يعبر عن سرعة الانفعال ، وكان يقول:
" دابون ! أوه ، أنني سعيد للغاية اذ أسمع صوتك مرة أخرى . كيف حالك "
وأجابت دابون بأدب ، واستفسر منها هنري بصوت ينم عن الاستغراب:
" أن صوتك يدل على أنك غاضبة ، هل هذا بسبب مكالمتي أو ماذا أقول؟ هل هو شيء من الانقباض "
" لا ، بالطبع ، لا ، يا هنري أنه لطف منك أن تطلبني ولكنني أسفة ، لأن على أن أرحل حالا .... "
ورد عليها بصوت ينم عن خيبة الأمل يسألها:
" ماذا! ترحلين عن البروفنس "
وأجابته :
" نعم ، من الضرورى أن أ... عود الى انكلترا"
وعاد يسألها:
" ولكن لماذا ؟ لم يمض عليك هنا أسبوع كامل ؟"
وأجابته:
" صحيح ولكن علي أن أعود "
فسألها هنري:
" متى تعتزمين الرحيل "
" انني لست متاكدة ، يكون اليوم، أوغدا ، ذلك يرتبط بامكان الحجز " وألح عليها قائلا:
" أجلي السفر الى الغد يا دابون ! اسمحي لي على الأقل بيوم آخر في صحبتك "
وترددت دابون ، فبالرغم من حرصها على أن تباعد بينها وبين مزرعة سان سلفادور بأقصى ما تستطيع ، كان قلبها من الضعف بحيث قبلت الاستسلام لفكرة قضاء يوم آخر في المنطقة التي لا يفصل بينها وبين مانويل سوى أميال قليلة . كان ذلك الاستسلام تصرفا غبيا يدل على عدم تقدير المسؤولية ، ولكن فكرة السفر المتعجل كانت تجعلها تحس بألم حقيقي .
وأجابت على الدعوة هنري الراهنة بقولها:
" حسنا ، حسنا سأحاول حجز تذكرتي على طائرة الغد . وأحست بشيء من وخز الضمير لما اعتراها من ضعف ، ولكن لم تكن لها حيلة بعد أن جابت بالموافقة، "
وأحس هنري بالأبتهاج وسألها بحماس:
" ما البرنامج الذي تقترحينه؟ انني غير مرتبط بأي شيء طوال اليوم . هل تحبين الخروج للسياحة ؟ لزيارة مزارع الكروم مثلا ؟ أم لنذهب الى ليبو أو نيمز؟"
وارتعدت دابون وهي تقول :
" لا، لا ، ليس الى هناك "
وأضافت على عجل :
" ألا يمكن ،أعني من الممكن أن نذهب الى سانت مارى ؟ أقترح أن نتغدى هناك "
وبدأ أن هنري تحمس للفكرة ، ورد يقول :
" بالطبع اذا كان هذا هو ما تحبين يا دابون . لم يدر بخلدي أن أقترح شيئا بديعا هكذا . متى تكوني على أهبة الاستعداد؟ "
وردت عليه :
" أعطني ساعة منذ الآن ، انني لم أتناول طعام الأفطار بعد، كما أريد الاتصال بالمطار .."
ووافق هنري ثم وضع سماعة الهاتف . وخرجت دابون من حجرة الهاتف ، وهي تشعر أنها أفضل حالا بقليل ، فلقد تأجل موعد رحيلها الفعلي الى يوم آخر ، وكان بوسعها أن تستمتع ببعض الاسترخاء ، وتناولت طعام الأفطار ، ثم صعدت الى حجرتها اترتدي زيا مناسبا ، واستقر رأيها على أن البنطلون يكون أكثر ملائمة .
كانت هناك تذكرة سفر ملغاة على رحلة ما بعد الظهيرة في اليوم التالي ، واستطاعت حجزها ، وعندما خرجت من حجرة الهاتف وجدت نفسها وجها لوجه مع مدير الفندق ، واخبرته بعزمها على الرحيل في اليوم التالي على الأرجح .
وأبد مدير الفندق يستفسر منها قائلا :
" أوه ، يا آنسة ! أرجو ألا تكون هناك أخبار قد أزعجتك من الوطن . هل حدث شيء ؟"
وهزت دابون رأسها ، وهي تقول:
" لا، ولكن علي أن أعود "
وأضافت وهي تبتسم :
" لقد أستمتعت للغاية باقامتي هنا ، وأنني سوف أمتدح هذا الفندق لأصدقائي "
ووصل هنري الى الفندق بعد العاشرة بقليل ، واستقلا السيارة الى سانت مارى . كان هناك سياح وصلوا الى المكان ليزوروا الكنيسة الأثرية من القرن الثاني عشر وكانت قصة القديسات مارى مسجلة في مقصورة الكنيسة . واحست دابون بالأسف عندما وجدت أن المدينة الصغيرة كانت تتحول بسرعة الى مدينة تجارية حديثة . ورات احدى عربات الغجر التي لم تكن موجودة من قبل ، كما كان هناك العديد من الفنادق التي بدأت تطغي على الطابع التاريخي للمدينة .
وكانت الوجبة التي استمتعا بها في احد المطاعم الشعبية وجبة لذيذة بالفعل ، وتركا السيارة ، وجعلا يسيران على الشاطئ ما دين بعد قليل من الزوار الذين جاؤا يمضون العطلة ويستمتعون بدفء في فترة ما بعد الظهيرة .
سألها هنري:
" هل أنت مضطرة فعلا أن تعودي الى انكلترا غدا "
وجذبت دابون يدها بعيد برفق ، ورفعت رأسها مستندة على مرفقيها ، وأجابت وهي تنظر اليه :
" أعتقد ذلك "
ثم حولت انتباها الى غمامة من الدخان كانت تتصاعد من احدى السفن على مدى الأفق .
وتنهد هنري ، ثم سألها:
" ولكن لماذا ؟ ألست في اجازة ؟ لابد أنك تستطعين البقاء ولو لأيام قليلة أخرى "
وضمت دابون شفتيها ، وقالت :
" ليس الأمر بهذه البساطة ، فان على التزامات في بلدي "
وسألها في ملاحظة ساخرة مترفقة:
" أية التزامات يمكن أن تكون عليك "
وشعرت دابون أنه يستفزها بالتدخل في شؤونها ، فحاولت أن تقطع علية الطريق بقولها :
" أنك لا تعرف شيئا على الاطلاق عني يا هنري ، وقد أكون متزوجة "
ورد عليها:" ولكنك لا تلبسين خاتما ؟"
وردت قائلة :
" ليس ذلك قاطعا ، فكثير من الفتيات في انكلترا لا يلبسن خاتم الزواج طوال الوقت ، ولا يوجد قانون يلزم بذلك "
وصار هنري يحدق في وجهها النحيل ، وسألها:
" ولكن هل أنت فعلا متزوجة "
وترددت دابون ، وهي تقول :
" لا"
واسترخى هنري ، ثم بدأ يميل نحوها ، وهو يقول :
" ها أنت قد اعترفت اذن . والآن ألا يمكن أن تطيلي أقامتك هنا ؟ فقط اتسعديني؟"
وهزت دابون رأسها بحزم ، وهي تقول:
" لا ، لاأستطيع"
وأحست دابون بالخطر فنهضت مسرعة لتجلس ولتتجنب النظرة العاشقة من عينية ، وقالت له بشيء من التوتر :
" أرجوك يا هنري ! أرجوك ألا تفسد كل شيء "
ورد هنري :
" لماذا أفسد كل شيء ؟ كنت أظن أنك تستلطفيني "
وأجابت دابون وهي تشبك أصابعها حول ركبيتيها المرفوعتين الى أعلى:
" أنني فعلا أستلطفك يا هنري ، ولكنني لا أريد أن تورط "
وعندئذ سمعته يقول:
" وما الذي تريدينه منى أذن "
وبدات تدرك أنه لم يكن ناضجا بالقدر الذي أراد أن يعبر به عن نفسه ، اذاستمر يقول:
" لقد سمحت لي أن أدعوك الى الغداء ، وسمحت لي بأن أحضرك هنا حيث نكون وحيدين ، ثم تقولين أنك لا تريدين أن تتورطي الى هذا الحد؟"
حملقت فيه دابون بشيء من الكآبة ، وبدات تشعر بخوف حقيقي حاولت أن توضح له قائلة :
" هنري أرجوك "
وفجأة انتبه هنري الى وجود مانويل واقفا يحدق فيهما ، فحدثه بالفرنسية بشيء من التأنيب :
" مانويل ! ألا تعرفني ؟ أنا هنري "
وتصلب فك مانويل وهو يقول :
" ليس الآن ، يا هنري انني لست على استعداد للهزل الآن "
وتمتم هنري بالفرنسية ، وهو يمسح خده بيده:
" واضح "
وأضاف بالانكليزية:
" لا أكاد أفهمك يا مانويل ، ما الخطأ الذي ارتكبته أنا ، هل تعرف الأنسة كنج"
كانت عينا مانويل كئيبتين ، وأجاب ببرود :
" نعم ، أعرف الآنسة كنج "
وصار هنري يهز رأسه بطريقة مرتبكة ، وهو ينظر في دهشة تجاه دابون ، ولكن دابون كانت مشغولة بارتداء سترتها وبنطلونها فوق رداء البحر المبتل ، ولم تلتفت اليه .
وعندما أكملت لباسها ، قبض مانويل على ذراعها كما لو كانت آثمة ، ثم أومأ ايماءة قصيرة تجاه هنري ، ودفعها أمامه بسرعة على طول الطريق الرملي الى حيث كانت الحافلة الصغيرة تنتظر ، وفتح الباب ودفع دابون بقوة الى الداخل قبل أن يصعد خلفها ويدير المحرك في الحال ، وبدات المركبة الثقيلة تدور على هيئة شبه دائرة وتجري بارتطام على الشاطئ غير الممهد حتى وصلت الى الطريق . وكانت دابون تجلس في مقعدها متصلبة تسرح بفكرها تحاول أن تعرف من أين جاء ؟ ولماذا جاء الى هذا المكان ؟؟
نظرت دابون اليه بشيء من الرفض ، وبعدما كانت تحس له بالجميل لأنه تدخل في الوقت المناسب وأنقذها من هنري ، تحول شعورها الى نوع من الامتعاض ، وأخذت تسأل نفسها ، بأي حق أباح لنفسه أن يتدخل في شؤونها ؟ وكانت قد وصلت الى قناعه بأنها لن تراه ثانية بعد ما حدث بينهما امس ، فما الذي جاء به خلفها ؟ ولماذا بحث عنها ؟ وماذا يريد منها الآن ؟ واستمدت من شعورها بالضيق بعض الشجاعة، وسألته:
" أين تذهب بي الآن؟"
وألقى تجاهها نظرة تنم عن الاستنكاف ، ثم أجاب بوضوح :
" لم أفكر في هذا بعد ، لكنني أظن أنه من الأفضل أن تتخلصي من رداء البحر وأن تجففي نفسك جيدا ، اليس كذلك "
واتسعت حدقتا عينيها وسألته:
" ماذا تعني ؟"
وضاقت عيناه ، وهو يقول :
" لا تتعجلي الاستنتاج ، يا دابون ، ولا تحسبي أني أبله لأنك تبدين على استعداد لتكوني لعبة سهلة في يد أي رجل كان ، فان ذلك يعني ..."
واستثير سخط دابون ، وجعلت تقول :
" كيف تجرؤ على ذلك ؟ كيف تجرؤ على أن توجه مثل هذا الكلام لي "
وتهدج صوتها وقد شعرت بالمذلة . وقالت :
" أوه ، أنني أكرهك ، يا مانويل "
ولم يتحرك مانويل فقد بقى حيث هو ، وأحست وهي تقف وحيدة على حافة المياة الزرقاء الضحلة أنه قد جعل منها مثارا للسخرية . كان الجو ساخنا ، وبدأت الشمس تلفح رأسها ، واضطرت آخر الأمر أن تعود لتستطل بشجرة البلانيرة المائية .
وخرج مانويل من السيارة وفي فمه سيجار ، وبين يديه منشفة خشنه ، وألقى بها نحوها ، وهو يقول :
" اليك هذه . أنها ليست مغرية ، ولكنها نظيفة على الأقل ، أحتفظ بها للمناسبات التي أحس فيها رغبة للاستحمام بعد يوم مجهد يستنزف العرق ، هيا خذيها . أنها ليست ملوثة "
وصارت ترشش بالماء لبضع دقائق وهي تنظر تجاه الحافلة الصغيرة من بعد ، وبدأ أن مانويل لم يكن يكترث بما تفعل وأضطرت في النهاية أن تخرج من الماء ، وبينما هي تخوض في الماء نحو سيقان الغاب والبوص التي كانت تحدد حافة المستنقع ، سمعت صوت رشاش من خلفها جعلها تلتفت وراءها في رعب ، وعلى بعد أقدام منها كان أحد ثيران كامارغ القوية السوداء يضرب الأرض بحوافره ويخفض قرونه بطريقة تنم عن التهديد .
وبدت دابون للحظة ، وكانها قد تحجرت ، وتعجز عنأن تفكر فيما ينبغي أن تفعل ، كان الثور وحيدا ، وهذا في حد ذاته كان شيئا غريبا، ولم يكن في وسعها الا أن تفترض أنه قد شرد عن القطيع دون أن يلحظ الحراس ذلك ، وكان ثورا أسبانيا ضخما وقويا من الثيران التي تربى لرياضة المصارعة ، وهيئ لها أنها ستصبح طريحة على الأرض وقد ضربها الثور بقرنه فجرحها وشوهها وسالت بقع من دمائها تلطخ مياه المستنقع ، وسيطر عليها شعور بأن ذلك سيكون أمرا حتميا خلال لحظات فقط
وبدأت دابون تتراجع ببطء بعيدا عن الحيوان ، وهي تحرص تماما على ألا تصدر عنها أية حركة غير منضبطة قد تثير الحيوان فيندفع في هجوم عليها ، وكان الحيوان بدوره يرقبها بعينيه اللتين تشبهان حبات الخرز وهو يصدر صوتا يشبه الشخير ويضرب بذيله ليطرد الحشرات التي كانت تستثيره ، وخطا بضع خطوات في المستنقع وهو يهز رأسه من جانب الى آخر ، وبدات دابون تفقد أعصابها .
وسمعت أصوات الطرطشة المزعجة خلفها ، وأدركت أن الثور كان يخوض في الماء عبر المستنقع وراءها ، ولم تكن تجرؤ على أن تنظر الى الوراء ورأت مانويل يسرع اليها من الحافلة الصغيرة وبيده عصا ثقيلة ، وصار يخوض مياه المستنقع دون أن يكترث بحذائه الجلدي الرقيق ، واجتاز دابون وهو يصيح :
" اصعدي الى مؤخرة السيارة "
وأذعنت دابون فتسلقت من خلال الباب الخلفي للسيارة الى سطح خشبي خشن تنتثر عليه كمية من الحبال والبكرات تنبعث منها رائحة الأحصنة بطريقة نفاذة .
وتنحى الثور جانبا عندما ظهر مانويل ، وتوقف على مسافة من الحافلة الصغيرة يواصل الشخير ويضرب الأرض بحوافره تعبيرا عن الغضب ، وادركت دابون أنه كان يستعد للهجوم ، ولم يكن مع مانويل ما يدفع به عن نفسه سوى يلك العصا التي بيده ، وصارت دابون ترقب المشهد بيأس وهي تتمنى أن يستدير مانويل وأن يجري مهرولا الى السيارة .
وأخيرا بدأ مانويل يتراجع عن الثور ، وعندما بلغ مؤخرة الحافلة الصغيرة دفعت دابون الباب لينفتح وليسمح له بأن يتسلق الى داخل العربة ، كانت الآن ترتعش بعنف ، ونظر الى وجهها المرتعد قبل أن يمسك بكتفيها ويسحبها بقوة . وتراجع مانويل الى الوراء ، وجاس في وضع محدودب ، رجلاه مضمومتان ، ومرفقاه يستندان على ركبتيه ، ورأسه محنية الى أسفل ، ويداه تحيطان بمؤخرة رقبته ، وأخذ يقول في نبرة معذبة :
" يا الهي ، يا الهي ، أنني أريدك يا دابون "
كانت دابون تضطجع على أرض العربة حيث تركها ، وشفتاها ملتهبتان ، وشعرها يتدلى كأنه غمامة قاتمة تلفها ، وتمتمت بصوت فيه ألم :
" مانويل "
استدار مانويل فجأة الى باب الحافلة الصغيرة ودفعه فانفتح ، وقفز الى الخارج ، وهويلعن بعنف ، وصار يأخذ شهقات طويلة من الهواء الدافئ الحلو وأجبرت دابون نفسها أخيرا على التحرك ، وبدأت تحس بالحبال أسفل جسدها ، وكانت بشرة ظهرها قد أصبحت مشدودة ملتهبة ، وأخذت تجفف نفسها بالمنشفة ، وخلعت رداء البحر ولبست بنطلونها وقميصها، وشعرت بأنها قد أصبحت في حالة أفضل ، وخرجت من المركبة ، وأخذت تعصر المياه الزائدة من الرداء القطني الليموني .
وعندما أحس بها مانويل وهي عند الباب الخلفي للسيارة التفت ورجع اليها متباطئا بعد أن ألقى بعقب السيجارة الى الأرض وضغط عليه بكعب حذائه ، وومضت عيناه عليها عن عمد ، ثم أخذ يسير بخطى مسرعة الى مقعد القيادة ،وجلس خلف العجلة ، وضمت دابون شفتيها سويا وهزت كتفيها وفعلت بالمثل فتسلقت الى السيارة وجلست الى جواره بشيء من عدم الاستقرار
ولم يدر مانويل المحرك في الحال ، بل اسند مرفقه الى عجلة القيادة ، وصار يحملق في الفضاء الى المجهول ثم قال بنبرة عادية تماما :
" كان بوسعي ان اقتلك "
ولهثت دابون ، ووضعت ظهر يدها على فمها ، واخذ ينظر اليها شزرا ، وعيناه تضيقان وهو غارق في التأمل ، وسألها بشيء من الاحتقار :
" ماذا كنت تنتظرين ؟ تعودين الى هنا في الوقت الذي كنت فيه قد بدأت أتقبل مصيري المحتوم ، وتحطمين ما بقى لي من اطمئنان نفسي ، وهو قليل "
وهزت دابون رأسها ، وهي تقول:
" آسفة ، ولكنني لم أكن أعرف أن الأمور كانت ستصل الى هذا الحد "
والتوت شفتاه ، وهو يقول :
" حقا لم تكوني تعرفين ! ومتى تعرفين بالضبط كيف يكون رد فعلي عندما أراك ثانية "
واحمر وجهها بشدة ، وهي تقول :
" كيف كان بامكاني أن أعرف ذلك "
وحملق فيها مانويل يغضب :
" كيف جاز لك أن تجهلي ذلك بعد كل ماكان بيننا ؟"
وطأطأت دابون رأسها ، كانت تكابد الألم ، وكانت تريد أن تخبره بالسبب الحقيقي الذي جعلها تأتي الى هنا ، ولكن كانت هذه في نظرها هي اللحظات الخطيرة ، اللحظات التي ينبغي فيها أن تأخذ حذرها حتى لا تعترف بشيء ربما جلب لها الدمار . ورغم كل شيء فقد كان يعتزم الزواج من ايفون بصرف النظر عن فرط انجذابه اليها ، ولم يكن لجوناثان مكان في ذلك البيت حتى لو اقتنعت هي بالتنازل عنه . وأخذت تقول له :
" أرجوك ، أرجوك أن تأخذني الى الفندق ، لازال أمامي حزم أمتعتي ، فأني أعتزم الرحيل في الصباح "
وعندما سمعها تذكر خبر رحيلها بهدؤ ، قال وكأنه قد صعق :
" تعتزمين ماذا ؟ ولكنك لا تستطعين؟"
وعندما كررت العبارة ، اضاف بتجهم :
" لا يمكنك ذلك فانك لم تأخذي النقود وفضلا عن ذلك فأن جيما تريد أن تراك مرة ثانية "
وردت دابون بشفتين مضمومتين :
" آسفة ، لن أستطيع أن أحقق طلبها ، لقد حجزت تذكرة السفر "
ولولا أن دابون كانت تعرفه جيدا لقالت أن الألم المبرح كان ينبعث من أعماق عينيه الرماديتين ، وهو يقول :
" ألغي الحجز "
وبللت دابون شفتيها الجافتين بلسانها ، وهي تقول :
" لا لا لاأستطيع "
" لا يمكن أن تفعلي هذا في يا دابون "
وتعثرت دابون وهي تنطق في صعوبة :
" أفعل ماذا؟"
وأجاب وهو يتأوه :
" أنت تعرفين أرجوك ، أنني أتوسل اليك ، لا تذهبي "
وبلعت دابون ريقها بطريقة ملحوظة ، ثم قالت :
" أنا مضطرة للرحيل "
واقتمت عيناه ،وهو يلح في السؤال ك
" لماذا ؟ من الذي ينتظرك في انكلترا ؟ هناك رجل آخر ؟ أنك تكذبين علي "
وصارت عينا دابون تتوسلان اليه لكي يصدقها ، وهي تقول :
" أنك مخطئ ، ايس هناك رجل اخر "
وحدق مانويل في وجهها ، وأصابعه لاتزال حول مؤخرة رقبتها ، وصار يسأل :
" أذن أين تسكنين ؟ لقد أخبرتني ذات مرة أنك تسكنين مع عمتك في بيتها ؟ هل لازلت هناك ؟"
وأخذت دابون تتنفس أنفاسا قصيرة ، وهي تقول :
" أوه ، نعم ، نعم "
كان مانويل يتفحصها في صمت وهو يحاول أن يعرف أذا ما كنت صادقة أم كاذبة ، ثم قال بصوت مبحوح :
" وهذه الجنيهات الخمسمائة ؟ هل هي لعمتك ؟"
وسحبت دابون نفسها بعيدا عنه ، ثم قالت :
" أذا كان يسعدك أن أقول نعم ، حسنا ، نعم أريدها لعمتي "
وأمسك مانويل بحفنة من شعرها ، وجعلها تجفل وهو يلوي الشعر حول أصابعه وهو يقول :
" أوه دابون "
" قل لي ، لماذا أنت وايفون أجلتما الزواج هذه الفترة الطويلة "
وتقطب حاجباه في عبوس عميق .
واقتمت ملامح مانويل فجأة فأطلقها كما لو كانت ذكرى خطيبته قد أرجعته الى وعيه وظنت دابون لفترة لحظة أنه لن يكلف نفسه عناء الاجابة ، ولكنه بدأ يقول :
" أن ايفون مصابة بالشلل ، ولقد حدثت هذه الاصابة بعد رحيلك بثلاثة أشهر ، ثم أجريت لها عدة عمليات جراحية ، واستغرقت هذه العمليات وقتا طويلا ، وسوف تجري لها عملية جراحية أخرى خلال أسابيع قليلة ، ولقد أظهرت بالفعل بعض بوادر التحسن ، ويعتقد الجراحون أن العملية القادمة والأخيرة سوف تعطيها الفرصة لتستعيد قدرتها على المشي "
وكانت دابون قد فهمت ما يرمي اليه ، كانت ايفون ستصبح من جديد امرأة عادية ، تستطيع أن تحيا حياة زوجية وأن تلد له الأطفال الذين هو بحاجة اليهم ليحافظوا على سلالة سان سلفادور .
وأخذ مانويل الآن يسألها بصوت معذب :
" احقا تفهمين ؟ اترين وراء تصرفك أي شيء غير اهتمامك الفردية والأنانية ؟"
وحبست دابون أنفاسها ، وقالت :
" لن يؤدي بنا هذا الحوار الى شيء يا مانويل ، ومن الأفضل أن تأخذني الى الفندق "
وأطبق مانويل قبضة يده لحظة ، وأدار المحرك السيارة دون أن ينبث بكلمة ، وقاد السيارة قيادة ناعمه الى آرل ، ولم يتبادلا الحديث طوال الرحلة ، فقد كان كل منهما مشغولا بأفكاره الخاصة وعندما توقف مانويل أمام الفندق كانت دابون تحتاج الى قدر عظيم من قوة الأعصاب لتواجهه قائلة :
" أشكرك والى اللقاء "
وبدأ مانويل ، وكأنه يتأهب ليقول شيئا ، ثم غير رأيه ولم يتكلم ، واكتفى بأن فتح لها باب العربة بقوة ، وبعد أن ترجلت أخذ يقود السيارة بسرعة شديدة بعيدا عن المكان .

ليالي الغجرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن