كان الجو مطيرا عندما هبطت الطائرة في مطار لندن ، وكانت دابون ترتعش وهي تجتاز الأسفلت الى مباني المطار ، واستقلت الحافلة العامة الى المحطة النهائية ثم استقلت حافلة أخرى . وكان بيت العمة كلارى في صف صاعد من البيوت المتدرجة ، ورغم أن واجهة المنزل كانت عادية الا أنه كان يطل من الخلف على ملعب المدرسة وكانت هذه ميزة خاصة .
ونزلت دابون من الحافلة عند نهاية الطريق ، واتجهت مصعدة الى المنزل رقم 53 وكانت ترقب الستائر المزركشة على النوافذ تهتز بخفة، وخطر لها أنه من الأفضل ألا يعرف أحد بعودتها حتى لا تدع فرصة للتساؤل حول أين كانت ، ولماذا ذهبت ؟
وأخرجت المفتاح ، وفتحت باب منزل العمة كلارى وتبع ذلك وقع صوت خطواتها ، وفتح باب في نهاية الدهليز وبدا طفل صغير جميل يلبس بنطلونا أزرق وصديريا أبيض مشوبا بزرقة , كان شديد الشبه بمانويل ، الأعين الرمادية ، الأنف ، الفم وشعر مانويل الأسود بفارق بسيط أن شعر جوناثان كان يميل الى التجعد . وكان ذلك الشبه الوثيق مما جعل قلبها يتفطر . وصاح جوناثان :
" ماما"
قالها بصوت مضطرب يشبه صرير الباب ، وكاد يرقص وهو يحاول أن يجتاز الردهة ليصل اليها.
وانفرج فمها الجميل عن ابتسامة ، واحدودب جسمها وهي تنحني عليه لترفعه بين ذراعيها ، وهي تقول :
" أهلا ، حبيبي "
وظلت تعانقه ، وهي سعيدة بيديه الصغيرتين تمسان شعرها وتحيطان برقبتها ، وهو يلتصق بها بحب وثقة . وداعبته بقولها :
" هل كنت طفلا مطيعا للعمة كلارى؟ "
واتسعت حدقتا عينيه بشيء من الجدية، وهويقول :
" العمة كلارى لها رجل .... مسكينة . تعالي لتري "
وأمسك جوناثان بأمه ، وصار يجذبها تجاه الصالون حيث كانت كلارى ميدوز تجلس على أريكة ورجلها المربوطة بأحكام بشريط لاصق تستقر على كرسي صغير أمامها . ونظرت اليها دابون تحاول أن تخفف من الموقف ، وقالت وهي تقبل وجنتيها بحرارة :
" كيف حدث ذلك ؟ أشعر بأمانه أنني لا أستطيع أن أتركك وحدك ولو لخمس دقائق "
وبدت على وجه كلارى ابتسامة تدل على الخجل ، وهي تقول :
" أنني أعرف . أنني امرأة عجوز حمقاء ، اليس كذلك يا جوناثان "
وتسلق جوناثان الأريكة ليجلس الى جوارها ، وواصلت الحديث :
" كيف حالك يا دابون ؟ هذا هو المهم . أنني أسفة اذا كنت اضطررتك للتعجيل بالرحيل "
وحاولت دابون أن تزيل شعورا باليأس كان قد بدأ يعتلج في نفسها بعد أن بدأ أحساسها بسلامة الوصول يخمد تدريجيا وأجابت :
" لا أنك لم تفعلي ذلك . لقد كنت عازمة على الرحيل "
واقتم وجه كلارى ، وأخذت تقول :
" لا يبدو أنك في حالة طيبة . أنا ألا حظ ذلك الآن . هل قابلت مانويل ؟
" نعم ، نعم، قابلت مانويل ،وحصلت على النقود "
وضمت كلارى شفتيها ، وهي تعلق :
" ولكن يبدو انك عانيت كثيرا "
وأومات دابون ثم قالت وشفتاها لا تكادان تنفرجان :
" نعم ، لقد عانيت الكثير "
وتنهدت كلارى ، وقالت :
" حسنا ، لا تكترثي الآن . لقد عدت الى بيتك ، وسوف تقصين ما حدث عندما تودين ذلك ، أذهبي وضعي الغلاية على النار . لقد كانت السيدة رينولدز هنا منذ لحظات وعندما لمحتك قادمة على الطريق تسللت من الممر الخلفي ، وربما ظنت أننا نفضل أن نكون وحيدين بعض الوقت . كانت قد أعدت كل شيء لعمل الشاي "
وأومأت دابون بالموافقة ، واستطاعت أن تنتزع نفسها من الكرسي بمشقة . كانت كلارى على صواب ، لقد عادت الى بيتها الآن ، ولم يكن هناك داع من أن تشغل فكرها الى حد اليأس ، ووجدت أن من الأفضل أن تشغل نفسها بقضاء أعمالها اليومية وتترك للزمن أن يدمل الجراح التي كانت لا تطاق في تلك اللحظة .
وكان يكفي في هذه الفترة أن تدبر حياتها يوما بيوم وهي تأمل أنها أن عاجلا أو آجلا سوف تنسى تلك الأيام المؤلمة التي أمضتها في البروفنس.
وتحسنت حال جوناثان بعض الشيء ، وكان لايزال بعاني من السعال الحاد ولكنه أخذ يتحسن مع مجيء الأيام الدافئة ، أنه يكبر سريعا وأحست دابون أنها سوف تفتقد فيه الطفل الذي عرفته . سوف يكون قادرا على أن يمشي معتمدا على نفسه الى أي مكان يذهبان اليه بدلا من استخدام عربة الطفل ، وانه بالضرورة سوف يسأل لماذا يسعد الأطفال الآخرين بأن لهم أبا في حين لا أب له .
كانت ساق كلارى تتماثل للشفاء ببطء ، وكان بمكانها أن تتحرك مستندة على عكازين بعد أن مضى بعض الوقت ، وعلى الرغم من أنها لم تكن قادرة على الاسهام في رعاية جوناثان ، فقد كانت تصمم على أن تجلس على الكرسي في المطبخ لتعاون في تقشير الخضر أو غسل الصحون .
وذات عشية خرجا الى أحد المنتزهات التي تقع على مسافة بعيدة نوعا، وفي طريق العودة الى المنزل كان جوناثان يرقد في عربة الطفل التي كانت دابون تدفعها أمامها ، عندما أحست بمقدمة أحدى السيارات تهدئ من السرعة وتسير محاذية لها بعض الوقت ، كانت سيارة من نوع المرسيدس الليموزين وكانت أجزاؤها المعدنية المصنوعة من الكروم المطلي تومض بطريقة تضفي على السيارة رونقا وفخامة .
وأخذت دابون تستحث السير ، وتحاول أن تتجاهل السيارة ولكن السيارة زادت من سرعتها لتواكبها ، ونظرت دابون حولها بسرعة واطمأنت عندما وجدت المكان آهلا بالناس . وربما خطر لها أن خيالها فقط يجعلها تظن أن السيارة تتبعها فألقت نظرة تستطلع داخلها ولم تكن هناك غير السائق فرمقته بنظرة قاسية قبل أن تدخل الى ممر صغير ، وبذلك نجحت في التخلص من محاولته اقتفاء أثرها . وكانت هذه التجربة أيضا مما أثار ضجرها بعض الشيء فقررت ألا تخرج لعدة أيام بعيدا عن المحال التجارية ، ومن وقت لآخر تشرد بفكرها تناقش احتمال ما أذا كان مانويل قد علم بموضوع جوناثان وما أذا كان بالفعل يخطط لاختطاف الطفل ، وكانت تلك اللحظات يغلب عليها الخيال ولكنها قررت أن تزيح تلك الأفكار جانبا وأقنعت نفسها بأنها ترجع الى أوهام مخيلتها التأثرة ببرامج التلفزيون .
كان الطقس آخذا في الدفء ، وفي عشية أحد الأيام اصطحبت جوناثان الى حديقة الحيوان ، وكان قد بلغ من العمر مرحلة بدأ فيها يحب الحيوانات ويولع برويتها ، كان يجري بشغف يبدي أعجابه بالسلالات المختلفة ويتناول المثلجات اللبنية ويتصرف مثل أي طفل آخر تتاح له الفرصة للخروج واللهو ، ولم يعاوده السعال الا في الحافلة في طريق العودة فالتوت قسمات وجهه من صعوبة التنفس .
كانت غارقة في أفكارها ومخاوفها حول جوناثان ، وهي تدفع عربة الطفل في ساحة بلدرم لدرجة أنها لم تلحظ سيارة الليموزين الرماديةواقفة أمام المنزل رقم 53 الا عندما وصلت هناك ، وبدأ قلبها عندئذ يدق بضربات مكتومه وملأها شعور مخيف بالعجز ، من يكون الشخص الذي حضر بهذه السيارة غير مانويل ؟ كيف عرف مسكنها ولماذا حضر ؟
دخلت دابون البيت بحذر وسمعت أصواتا آتية من الصالون ، وبينما كانت تتشاغل بخلع ملابس جوناثان الخارجية عنه خرجت العمة كلارى من تلك الحجرة وأغلقت الباب خلفها ونظرت دابون اليها بعينين تعبران عن الألم المبرح ، وهزت كلارى رأسها وهي تستند متثاقلة على عكازيها ، وقالت :
" ربما ظننت أنه مانويل ، أنه ليس هو ، ولكنه في لندن ، يريد أن يقابلك "
ونهضت دابون وجوناثان في يدها تضمه في حماية الى جسمها ونسيت أنها كانت لا تزال تعنى بتغير ملابسه ، وسألت :
" من هنا أذن ؟"
وأجابت كلارى :
" أعتقد أنه سائق السيد سان سلفادور "
ورددت دابون :
" سائق ، وتذكرة في الحال حدث السيارة الليموزين في الشارع ، وتوترت أعصابها. لو أن الرجل كان قد رآها مع جوناثان ـ فماذا أخبر مانويل عنهما ؟ ولماذا حضر مانويل الى لندن أصلا ؟ ونظرت الى الطفل الناعس وهي تبلل شفتيها الجافتين ، وواصلت الكلام :
" أنه متعب يا كلارى . وقد حان وقت نومه . هل يمكن أن أصعد به الى الطابق العلوي ، وأترك لك أن تتصرفي هذه الليلة "
وأومأت كلارى ، وهي تقول :
" بالطبع ، أنني أفهم ، هيا أصعدي الآن ، بامكانك أن تعدي له مشروبا فيما بعد ، وأستطيع أن أقول أنه لا يحتاج الى شيء آخر . هل عاوده السعال "
وأجابت دابون :
" نعم ، ولكن ليس كثيرا . أنه متعب فقط ، لقد استمتع بنزهة المساء للغاية .... بل لقد استمتعنا نحن الاثنين كثرا "
وصار صوتها يخرج متثاقلا ، وقد مسها شيء من الخزف ، ومدت كلارى يدها تربت على ذراعها ، وقالت معاتبة في رفق :
" كفي عن القلق "
فقالت :
" ولكن ما العمل لو أن مانويل عرف بوجود جوناثان ؟"
ونظرت اليها كلارى فتوقفت عن الحديث فجأة ، وسألتها كلارى في دهشة :
" ولكن لماذا يضم الطفل اليه ؟ هل تقبل زوجته أن تربي طفلا من امرأة أخرى ؟"
وعلقت دابون :
" أنه لم يتزوج بعد "
وتنهدت دابون بطريقة تدل على القنوط ، وقالت :
" لم أتحدث اليك عن هذا الموضوع يا كلارى ، لأنني لم أستطع ، والآن يبدو أن الوقت قد صار متأخرا "
وهزت كلارى رأسها ، وهي تقول :
" لا أعرف ماذا أقول يا دابون ؟ كنت أظن أنك تعتزمين أن تخبريه عن الطفل "
واستمرت في شيء من الغضب:
" ولكن ، قولي لي كيف حصلت أذن على النقود ما لم ، ما لم .... "
" لا يمكننا أن نتحدث الآن ، أنك بالتأكيد تقدرين ذلك "
وأصدرت كلارى ايماءة تدل على الانفعال ، وقالت :
" لا أريد أن أتدخل في شؤونك الخاصة يا دابون ، ولكن يبدو لي أن لديك الكثير من التوضيح لو أنك طلبت من مانويل النقود دون أن تخبريه عن الطفل ، فعلى أي أساس أعطاك النقود ؟"
ومدت دابون أصابعها المتوترة تمشط بها شعرها لأسود الحريري في عصبية ظاهرة ، وقالت :
" ليس الآن يا كلارى "
وأدارت دابون وجهها في تجاه آخر ، وقالت :
" هل تعتزمين أن تخبريه أذن "
وصاحت كلارى بأستغرب :
" أوه ، يا دابون ، هل اهتزت ثقتك بي الى حد تظنين أنني أفعل مثل هذا الشيء دون طلب منك ؟"
وبدا وجه كلارى وقد تضغن من الهجوم ، وأدارت دابون وجهها المعبر عن الندم ناحية عمتها ، وهي تقول :
" لا ، لا، بالطبع . أنني آسفة ، أنني فقط مضطربة ومتعبة . لم أقصد أبدا أن أكون قاسية "
وابتسمت كلارى ابتسامة طفيفة ، وهي تقول :
" يبدو لي أن كلتينا متعبتان ، ولا ينبغي لك أن تضيعي وقتا أكثر في الحديث الي ، يمكننا أن نتكلم فيما بعد ، انزلي وقابلي هذا السائق ، اذ لا شك أنه قد بدأ يقلق الآن "
وسألت دابون :
" وماذا علي أن أفعل ؟"
واستفسرت كلارى :
" بخصوص مقابلة مانويل "
وأجابت دابون :
" نعم "
وسألت كلارى :
" هل تحبين أن يحضر الى هنا "
وأجابت دابون :
" لا "
ورفعت كلارى حاجبيها : وهي تقول :
" أذن معك الإجابة ، سوف ينام الطفل الآن ، اذهبي . أذا كان هذا ما يريده "
وردت دابون :
" ولكنني لا أستطيع الذهاب هكذا ، ينبغي أن أبدل ثيابي "
وردت كلارى :
" حسنا ، اذهبي وقابلي السائق أولا ، ثم أطلبي منه أن ينتظر "
وأجابت دابون :
" حسنا "
ونزلت دابون الى الطابق الاسفل ببطء ، ثم سارت عبر الممر الى الصالون ، وكان الرجل الذي نهض عند دخولها أكبر في السن مما كانت تعتقد ولكنه كان الرجل الذي رأته من قبل في السيارة الليموزين ، وقال بأدب :
" مساء الخير يا آنسة . لابد أنك الآنسة كنج ، اليس كذلك ؟"
وجابت دابون :
" نعم "
وأخذت تبلع ريقها بصعوبة وهو تقول :
" لقد علمت أن السيد سلفادور يريد أن يراني ؟"
وأجاب السائق :
" نعم ، أنه يقيم في فندق سافوى ، وقد طلب الي أن أوصلك الى هناك.."
وعلقت دابون :
" لقد فهمت "
وترددت لحظة ثم واصلت الحديث:
" هل تعرف لماذا حضر السيد سلفادور الى لندن ؟"
وأجاب السائق :
" بالطبع يا آنسة أنه هنا مع الآنسة يماريس "
مع ايفون ؟ صاحت دابون بهاتين الكلمتين ولكن في صوت مختنق ، ثم تمكنت من أن تسيطر على نفسها ، ونظرت بعيدا تحاول أن تستجمع حواسها ، وخطر لها كم كان شيئا مهينا أن يكون مانويل في لندن ومعه ايفون ، ومع ذلك لا زال ينتظر أن يكون علاقته معها ، وجعلت تفكر ... الا يكن لها أي أحترام ؟ وبعد كل ماحدث ، ألم يكن قد عرف بالتأكيد أن ذلك موقف مستحيل ؟
والتفتت الى الرجل ، وقالت بهدؤ :
" ارجو أن تحمل رسالة الى سيدك "
واغبر وجه السائق ، وقال وهو يكاد لا يصدق ما سمع .
وتحرك السائق بقلق ، وهو يبعث بقبعته ذات القمة المدببة :
" أنه في المستشفى مع الآنسة ديماريس "
وشهقت دابون ، وهي تقول :
" في المستشفى "
وقالت وقد أدركت أن الرجل ليس ملاما على ذلك :
" أنني آسفة ، ولكنه مستحيل "
وتحرك السائق نحو الباب وقال :
" أذا كنت تقولين هكذا يا آنسة ، فان على أن أنصرف . الى اللقاء"
وردت دابون ، وهي تودعه عند الباب :
" الى اللقاء "
وعندما بسطت قامتها ، وجدت كلارى آتية نحوها تهبط الدرج ، واتجهت دابون نحوها لتأخذ بيدها ، وكانت تبدو في عيني كلارى نظرة غضب وحيرة ، وتنهدت دابون وقالت قبل أن تسألها كلارى :
" لقد رفضت أن أذهب لمقابلة مانويل . أنه مع ايفون ، المرأة التي كان يزمع الزواج بها . كانت قد وقعت لها حادثة منذ نحو سنتين أدت الى أصابة عمودها الفقري ولكن هناك أمل أن تستعيد قدرتها على المشي من جديد "
كانت كلارى تستند بثقل على دابون ، وهما يجتازان الردهة ، واستفسرت كلارى :
" ألهذا لم يتزوجا ؟"
وأجابت دابون ، وهي تساعدها على الجلوس في أحدى كراسي الصالون
وهزت كلارى رأسها ، وهي تقول :
" يبدو لي أنه لا زال هناك الكثير لم تخبريني به بعد ، وأذا لم يكن مانويل سعيدا برويتك ، فلماذا أعطاك النقود ؟ ليتخلص منك ؟"
وغاض الدم في وجه دابون ، وهي تقول :
" أ ، أ ، نعم أعتقد ذلك "
وسألت كلارى مرة آخرى:
" ولماذا حضر أذن الى هنا ؟ ولماذا يريد أن يراك ؟ أن هذا يناقض مع ما ذكرته من قبل "
وضغطت دابون راحتي يديها معا ، ثم قالت :
" أنها قصة طويلة يا كلارى ، ألا يمكن أن نتركها الآن ؟ فقط الآن ؟"
وردت كلارى :
" لقد تركناها لمدة خمسة أسابيع ، يا دابون ! ألا تعتقدين أن هذا الوقت يكفي ؟ "
" حسنا أعتقد ذلك "
وعلقت كلارى :
" لماذا أذن لا تجلسين ، وتقصين على ماحدث بالضبط ؟"
وترددت دابون ، ثم هزت رأسها بيثاقل وهي تجلس على الكرسي المقابل وشرعت تقول :
" حسنا ، سأقص عليك بالضبط ما حدث ، لقد قابلت مانويل ، وأخبرته أنني بحاجة الى خمسمائة جنيه ، ولقد تعجل في الاستنتاج بأنه اما أنني كنت أحتاج الى النقود لأنني حامل ، وأما أنني أحتاج اليها بسبب رجل آخر "
وعلقت كلارى :
" في رأي أن ذلك الفرض لم يكن فرضا مستبعدا "
وردت دابون :
" قد لا يكون ذلك ، وعلى أي حال فقد رفضت أن أخبره لماذا كنت أحتاج الى النقود ، وقد وافق في النهاية على أن يعطيني اياها أذا ما قبلت أن أذهب الى بيت الأسرة لمقابلة جيما "
وأستفسرة كلارى :
" جدته "
وأجابت دابون :
" نعم "
واستفسر ت كلارى مرة آخرى :
" لكنني كنت أعتقد أنها تعيش في عربة "
وأوضحت دابون :
" كانت تفعل ذلك في ما مضى ، ولكن يبدو أنها كانت قد أصيبت بأزمة صحية ، وألح الأطباء ، كما ألح مانويل على أن تعيش مع الأسرة في المنزل ، وعلى أية حال ، فقد ذهبت معه لمقابلتها ، وقابلت أمه وكذلك ايفون "
واستفسرت كلارى :
" لقد قلت أن ايفون كان قد وقع لها حادث ، ما هو ؟"
وأجابت دابون بصوت يكاد يشبه الصوت الصغير الذي كانت لويزا تحكي لها به القصة لأول مرة ، وكانت تعبر بنبرة تخلو من الانفعال وهي تقول:
" لقد طعنها ثور بقرنه فأصابها "
وأحست كلارى بالصدمة ، وصاحت :
" يا ألهي ! يا للفظاعة "
وترددت دابون لحظة ثم غادرت الحجرة ، لم تكن أحس حالا ، ولم يكن بوسعها أن تتحدث عن عواطفها نحو مانويل حتى مع العمة كلارى ، فلم يكن من سبيل للتعبير عن الحالة النفسية التي تعانيها في كل مرة كانت تسمح لذكرياتها معه بأن تطفو الى ذاكرتها .
استيقظت دابون من نعاس قلق على صوت طرق مستمر على باب المسكن في حوالي الثانية عشر من تلك الليلة ، حاولت وهي تستند الى الفراش بعين طارفة أن تتعرف على الوقت ، وعندما استمر الطرق على الباب نهضت من الفراش مسرعة ، ولبست رداء ، فقد بدا واضحا أن الطارق على الباب كان مصمما ، وكانت دابون حريصة على ألا يستيقظ جوناثان في تلك الساعة من الليل .
ظهر شبح رجل يقف أمام الباب ، وكادت دابون أن تغلق الباب من جديد ، ولكن مانويل خطا الى شعاع الضؤ النافذ من الفتحة ، فلهثت في دهشة . كان وجه مانويل قاتما ومتجهما ، وصار ينظر بقلق ، واستفسر في خشونه:
" هل تأذنين لي بدخول ؟"
وكانت دابون تعرف أن هذا الاستذان كان مجرد تعبير تقليدي ، وكانت تدرك أنها أن رفضت أن تفتح له فقد يكسر الباب .
وقررت ألا تزيد من الآمه ، فأومأت في صمت ، ودفعت الباب دفعة خفيفة الى الأمام من جديد ، ثم فتحت الباب على مصراعيه وخطا مانويل الى الأمام فجأة ، ومد يده الى مقبض الباب ، وحلت يده محل أصابعها المستسلمة ، وأغلق الباب باحكام خلفه .
وبدأ بطريقة تعبر عن الغضب :
" والآن ......"
ولكنها هزت رأسها ورفعت أصبعها الى شفتيها ، وهمست :
" هيا بنا الى الصالون "
وتبعها عبر الردهة الى الحجرة التي تقع عند منتهاها بعد أن أصدر صوتا يعبر عن القلق .
كانت الحجرة مريحة ، وتجولت عينا دابون في الحجرة في هلع تبحث عن أي أثر يدل على وجود جوناثان . أما مانويل فأمسك بها من كتفيها ، وأدراها بخشونة لتواجهه ، وسألها في قسوة :
" لماذا لم تحضري لمقابلتي ؟"
وخطت دابون بضع خطوات الى الخلف بعيدا عنه ، وهي تقول في نبرة غير منتظمة :
" أذا كنت تقصد الاستدعاء الذي بعثت به الى اليوم ، فلقد كان علي أن أدرك أنه كان من الواضح ...."
وقاطعها مانويل :
" لماذا من الواضح "
ولهثت دابون ، وقالت :
" أنت في لندن مع ايفون . أخبرني السائق بذلك ، ماذا تظنني ؟ هل أنا نوع من البديل المؤقت ؟ ومد يده الى شعره الكثيف يمشطه به ، ونطق ينعتها :
" لماذا أيتها الـ ......... "
وتوقف عن الكلام ، وأخذ يحل أزرار سترته ، ومد يده الى مؤخرة رقبته ، وبذلك ضاق قميصه الحريري فالتصق بعضلات صدره العريضة ، وأصدرت دابون اشارة يائسة وهي تقول :
" لا ارى لي علاقة بهذا ، ومشاغلك الشخصية لا تعنيني "
وتمتم بصوت مبحوح :
" لقد بدأت أدرك ذلك ، يا ألهي ، أنك لا تدركين مدى الألم الذي عانيته يا دابون خلال الأسابيع الأخيرة منذ أن رحلت "
" لا أعتقد أن من حقك أن تتحدث الي بهذه الطريقة "
ووقف مانويل أمامها ، وقد صارت كل حركة من جسده تمتلئ بالاثارة.
يقول لها :
" ولم لا ، أنها الحقيقية "
وأمالت دابون رأسها ، وهي تقول :
" أرجوك يا مانويل . لماذا جئت الى هنا في هذا الوقت من الليل ؟"
وانحنى مانويل الى الأمام واضعا احدى يديه على كل من يدي الكرسي
بطريقة جعلت دابون تتراجع لتستند الى ظهر الكرسي تماما لتتجنب ملمسه ، وامن على كلامها بقوله :
" نعم ، أنه جنون "
وكانت عيناه تتفحصان جسدها بنوع من التقدير المشوب بالاسفاف وهو يضيف :
" كان الأمر هكذا دائما بيننا ، أليس كذلك ؟"
وأحست دابون بأنفاسها تخرج بصعوبة ، وقالت :
" ماذا تريد مني ؟"
وخلال ذلك الترقب القلق الذي يحوط بهما في ذلك الوقت من الليل ، بدأ جوناثان يبكي فجأة . كان صوته حزينا . كان ذات الصوت يصدر عنه في حالات الفزع ، وقد بدأ أن صوتهما قد ايقظه رغم أنه كان خفيضا .
" من الذي يبكي "
وترددت دابون لحظة ، ثم قالت بهدؤ :
" جوناثان "
وأخذ مانويل يمشط شعره بيده بعنف ، وهويقول :
يا ألهي ، ياذا القدرة ! هذه الصرخة ، وهذا الطفل "
وأومأت دابون ببطء علامة الموافقة ، والتوت شفتا مانويل بطريقة متعرجة ، وهو يقول :
" تقصدين أن ذلك طفلا صغيرا "
وحاولت دابون أن تستنشق نفسا مرتعشا ، وأومأت من جديد ، ونطق مانويل بلعنة مكبوتة ، ثم تمتم بصوت مخنوق :
" أنت أيتها الجاحدة "
وخرج يتعثر من الحجرة دون أن ينبث بكلمة أخرى .
وسمعت صوت الباب الخارجي ينغلق بصرير يتردد صداه بطريقة مخيفة في أرجاء البيت .
واجتمع شمل العائلة
كانت دابون في الأيام التالية تعاني من حالة كآبة ، لا تدري ماذا تفعل ، وبدأ لها أن أي أمل في المستقبل قد انتهى ، وما كانت نصائح كلارى لتزيح عنها شعور اليأس الذي استولى عليها . لقد مضى مانويل هذه المرة وما كان ليعود .
ولكنها بدأت تستعيد ثقتها بنفسها بالتدريج وببطء مع مضي الأيام . كلن جوناثان معها ولم يكن له ذنب في الخطأ الذي وقع فيه أبواه وجعل من حياتهما مأزقا مروعا .
كانت قد مضت ثلاثة أسابيع تقريبا بعد تلك الليلة المشؤومة التي زارها فيها مانويل عندما جاء الى دابون زائر غير منتظر وكانت كلارى قد رفعت الشرائط اللاصقة من على ساقيها قبل ذلك بيومين ، وفي الجو اللطيف في هذه العشية صحبت جوناثان معها بزيارة الى صديقة تسكن على بعد مسافة قصيرة بالحافلة ، كانت دابون تقوم بتنظيف بعض الخزانات في الطابق العلوي ، عندما سمعت طرقا على الباب الأمامي تنهدت بقلق ، ونزلت لترى من بالباب ، ولكنها خطت الى الخلف مشدوهه عندما وجدت أن الواقف على عتبة الباب كان ايفون ديماريس.
لم تكن ايفون في هذه المرة الفتاة المقعدة على الكرسي المتحرك التي رأتها دابون في زيارتها للبروفنس ، وأنما كانت ايفون أخرى تسير على ساقيها ، نحيلة أنيقة ، تنم ثيابها عن ذوق .
وتقوست شفتا ايفون باحتقار عندما رأت دابون ملابسها الرثة الملطخة بالغبار ، وخاطبتها تقول :
" أريد أن أتحدث اليك يا دابون ! هل تسمحين لي بالدخول ؟"
ولم تتزحزح دابون ، وردت بنبرة أكثر هدؤا عما كانت تتوقع :
" ليس ثمة حديث بيننا ، يا ايفون "
وضاقت عينا ايفون ، وهي تقول :
" ولكن أعتقد أننا ينبغي أن نتحدث ، سوف تجدين أن ما لدي من حديث يهمك "
وهزت دابون رأسها ، وقالت :
" لدي عمل اريد أن أنجزه "
وخطت ايفون الى المدخل ، وهي تقول :
" يمكن للعمل أن ينتظر . ألا يهمك أن تسمعي أن مانويل في حالة مرضية خطيرة ، وربما يموت ؟"
وأبيض وجه دابون عندما صدمتها ايفون بالنبأ ، وقالت لاهثة :
" أنك تكذبين "
ورفعت ايفون حاجبيها في سخرية وقالت :
" اكذب ، أأنت متأكدة ؟"
وصارت دابون تبلع ريقها في صعوبة وهي تقول :
" لو أن مانويل على وشك الموت ، فلماذا أنت هنا ؟ ولماذا لم تبقي الى جواره ؟"
وأخذت ايفون تنشق برقة ، ثم قالت:
" لا أحب أن أبقى هكذا في المدخل يا دابون ؟ هل تعتزمين أن تسمحي لي بالدخول أم لا "
وترددت دابون أول الأمر ثم أفسحت لها الطريق فدخلت ايفون وقد علت وجهها ابتسامة خفيفة تنم عن شعورها بالانتصار ، ودلفت الى داخل الردهة ولا حظت دابون أن خطوها كان بطيئا ولكن لا أثر للعرج وأدركت أن الجراحين قد أجروا العملية لايفون بنجاح .
وصارت ايفون تجيل النظر في الصالون حولها بشيء من الاشمئزاز ، وسألت دابون بوقاحة :
" هل تعيشين هنا ؟"
وتوتر وجه دابون ، وظهرت عليها أمارات القلق ، وقالت:
" أرجوك ، ما الغرض من قدومك الى هنا ؟ ما الذي حدث لمانويل ؟"
التفتت الى دابون في ذهول تقول :
" تلك اللعب ، هل هي لطفل في هذا المنزل؟ "
وفكرت دابون بسرعة هل تجيبها أم لا ولكنها كانت تعرف أن ايفون لن تقنع ما لم تحصل على اجابة شافية ، لذلك أجابتها بصوت فيه شيء من التوتر:
" نعم "
واستغرقت ايفون تفكر بامعان ، ثم قالت :
" كنت أظنك تعيشين وحيدة ، مع عمتك "
وأجابت دابون :
" كنت، أقصد أنني أعيش كذلك ، أي ...."
ومسحت ايفون بلسانها علة شفتيها وظهرت على وجهها ابتسامة ، ولكنها لم تكن ابتسامة الرضى ، وقالت :
" أذن أنت لديك طفل "
وغاض الدم في وجنتي دابون ، وأجابت :
"نعم "
وأخذت ايفون تهز رأسها ، وهي تكاد لا تصدق ثم ضحكت ساخرة وأطلقت تعبيرا يدل على الانتصار ن وقالت :
" أذن هذا هو السر ، السر الذي اكتشفه مانويل في تلك الليلة وجعله يعود فورا الى فرنسا ويندفع الى حلبة المصارعة حتى كاد يقتل نفسه . هكذا بعد كل ما حدث ، لديك طفل ! أوه ! أن هذه سخرية يا دابون ، الا تعتقدين ذلك ؟"
كانت دابون ترتعد تحت وطأة انفعالات قاسية ما كانت تدرك بوجودها في أعماق نفسها ، وكادت هذه الانفعالات تدفعها الى أن تمسك بايفون من شعرها لتقتلع عينيها بسبب سخريتها منها .
وأجابت بصوت مبحوح :
" أنا لا أعرف عن أي شيء تتحدثين ؟"
وهزت ايفون رأسها ، وقالت :
" لا تحاولي أن تحجبي عني الحقيقية يا دابون . أنني أعرف مانويل جيدا . أنه شخص مثالي ، قليل الاحتمال . لا يرضى بأقل من الكمال التام في المرأة التي يحبها "
واضطربت دابون ، وأخذت تسأل :
" ماذا تعنين ؟ أين مانويل ؟ تقولين أنه أصيب في حلبة المصارعة ؟"
وتقوس حاجبا ايفون ، وهي تقول :
" نعم ، هذا ما قلت "
واستمرت دابون تسألها :
" ولكن كيف ؟ مانويل يعرف الثيران جيدا ، كيف قام بهذه المخاطرة !"
وهزت ايفون كتفيها بشيء من عدم الاكتراث ، وقالت :
" أنا لايهمني مانويل بصفة خاصة "
وردت دابون بشيء كبير من القلق :
" ولكن أنا يهمني ! كيف تتكلمين بهذه اللامبالاة ؟ لقد كنت أظن أنك ولهه بحبه "
وتوترت شفتا ايفون :
" كنت ذات يوم ، ولكنني الآن أكثر نضجا ومن التي تقبل أن تتزوج رجلا كتب عليه أن يبقى مقعدا طوال حياته "
وظهر الألم المبرح في عيني دابون ، وهي تعلق وانفاسها تخرج متقطعة:
" يا ألهي "
وانتزعت دابون الكلمات بصعوبة من بين شفتيها ، وهي ترد :
" أنك لا تعرفين شيئا ، أنط مجرد شريرة لا تهتمين بأي شخص سوى نفسك ، وعندما كنت أنت مقعدة فان مانويل لم يتخل عنك "
وبدا الحقد في عيني ايفون ، وهي تقول :
" لم يتركني ؟ أنت تعرفين يا عزيزتي أنه كان قد تخلى عني تماما يوم أن وقع لي الحادث ، ولكنك لا تعرفين ذلك بالطبع . أنك تعرفين ماأخبرتك به لويزا . أنني أنا ومانويل تشاجرنا ، وحاولت أن أثار لنفسي منه بتعذيب الثيران العزيزة عليه "
ولم تستطع دابون أن تقمع فضولها ، فسألت :
" تقصدين انكما كنتما تتنازعان لأن مانويل كان يهدد بتركك"
وتظاهرت ايفون بأنها لم تسمع تلك الملاحظة ن وصارت تهندم نفسها أمام المرآة الموضوعة فوق المدفاة ، ثم قالت :
" أن مانويل ينتمي بنسب الى الغجر ، وكانت جدته تلك الساحرة العجوز تكرر ذلك دائما ، وقد جعلته يعتقد أنه لا يمكن أن يتزوج من أية امرأة أخرى لو رغب في ذلك لأنه تزوج بك أنت بالفعل من وجهة نظرها ، وهولم يكن يعرف أن أمه تخلصت منك . وكان لايزال وقت قريب يفكر في أن يحضر الى انكلترا ليعثر عليك ويصطحبك معه الى البيت ، وكاد يجن من الغيرة عندما اختفيت "
" ماذا ؟ ولكن مانويل لم يعد في ذلك اليوم الذي تلا المراسم ، أمه فقط هي التي جاءت . كيف لم يمنعها أذا كان أحساسه هكذا نحوي ؟"
وردت ايفون :
" وكيف كان يستطيع ذلك ؟ لقد كان طريح الفراش في المستشفى بسبب كسر في فخذه ، كنت أظن أن لويزا أخبرتك بذلك "
وبلعت دابون ريقها بصعوبة ، وتذكرت :
" الحادث ، تعنين أن الحادث وقع في ذلك اليوم ؟"
وبدأ على ايفون أنها قد بدأت تضيق بالموقف ، وقالت :
" بالطبع ، لقد عاد الى المنزل في ذلك اليوم ، ليخبر أبويه بما حدث ، وكنت هناك ، وقد غضب والداه بالطبع ، وبعد ذلك بقليل سقط من فوق حصانه على مسافة لا تزيد عن مائة ياردة من البيت ، وقال أحد الحراس أن السرج لم يكن محكما "
وتقوست شفتاها في ابتسامة ، كأنها قد تذكرت شيئا يرتبط بذلك الموقف، وأحست دابون أن ايفون كان لها يد في ذلك الحادث .
كان فيما مضى ، ولكن الذي يهم الآن هو الحاضر ، وادركت دابون أن ايفون قد غيرت مجرى حياتها بطريقة غير ذكية .
والتفتت ايفون ، وهي في طريقها الى الباب تقول :
" ها أنت عرفت كل شيء ، يا دابون . كل هذه الأحدث المثيرة ، من المؤسف أن النهاية لم تكن سعيده ، وتعرفين أن وجود طفل معك قد عاق تلك النهاية ، وأليس كذلك ؟"
وتكورت قبضتا دابون ، وقالت بفطنه :
" أن ذلك يتوقف على من هما الأبوان لهذا الطفل ، يا ايفون ؟ ألا توافقين على ذلك ؟"
وتوقفت ايفون ، وسألت :
" ماذا تعنين ؟"
وهزت دابون رأسها ، وقالت :
" أوه ، لا شيء ، هل أنت راحلة ؟"
وترددت ايفون بعض الشيء ، وبدأ أنها أحست بصدمة عندما لاحظت اشراقة تتلألأ في عيني دابون ، وأخيرا خطت الى الباب الخارجي ، وفتحت لها دابون الباب بأدب واجتازته ايفون . وكانت السيارة التي استاجرتها تنتظرها عند المدخل ، ولكن دابون لم تنتظر لتراها تركب ، وغلقت الباب ، وأسندت ظهرها اليه ، وهي ترتعش . وخطر لها أنه لوكان ما قالته ايفون صحيحا فأن ذلك يفتح العديد من الفرص أمامها .
وعندما رجعت كلارى مع جوناثان ، كانت دابون قد اتصلت هاتفيا بالمطار ، وحجزت انفسها مقعدا على الرحلو الجوية الى ماريجنان في اليوم التالي ، وبدأت بالفعل تحزم بعض ملابسها وملابس جوناثان في حقيبة السفر . كانت قد قررت أن تصطحب جوناثان معها في هذه الرحلة، وعزمت على ألا تقع في أخطاء أخرى في هذه المرة .
وحجزت دابون في نفس الفندق الذي كانت تقيم فيه في مدينة آرل ، ورات عيني السيد ليون تتسعان باهتمام عندما رأى جوناثان ، ولكنه قمع رغبته واكتفى بأن رحب بعودتها دون أن يثقل عليها بأي سؤال ، وأكد لها أنه وزوجته يرحبان بالاهتمام برعاية الطفل أذا أرادت الخروج في أحدى الأمسيات .
وحاولت أن تسأل عن تفاصيل اصابة مانويل من المستشفى ، ولكن احدا لم يجبها في هذا الشأن ، وربما ظن المسؤولون في المستشفى أنها صحفية تبحث عن قصة ، وأيا كانت الأسباب وراء رفضهم الادلاء بأية معلومات ، فقد رفضوا أن يناقشوا شيئا يتعلق بحالة نزيل بالمستشفى ، واكتفت مؤقتا بأن اطمأنت بأنه لم يعد على حافة الموت .
وقررت آخر الآمر أن تستاجر سيارة تقودها الى منزل سان سلفادور في عشية اليوم التالي ، وأن تأخذ معها جوناثان ، وصارت تصلي من أجل ألا تؤذي هذه المغامرة الى تحطيم قلبها .
وأخير وصلت الى منزل سان سلفادور ، وكان المكان يبدو قفرا وصارت الكلاب تنبح تعلن مقدم الوافدين ومع ذلك لم يكن هناك ما يشير الى وجود أي انسان وخطر لها أنها ينبغي أن تشعر بالشكران لأن ايفون لم تكن هناك لتنغصها ، ولكن نبضها كان يدق بسرعة غير عادية ، وكانت ركبتاها ترتعدان دون أن تستطيع السيطرة عليهما ، وهي تهبط من السيارة .
وقررت أن تترك جوناثان في السيارة ، وكانت مطمئنة أنه لا يمكن أن يصيبه أي مكروه في هذا المكان من الساحة ، وخطر لها أن ذلك قد يجعل مقابلة مدام سان سلفادور أيسر مما لوكان معها جوناثان .
وأخذت دابون تدق على الباب بشدة ، لفترة طويلة ، ولكن أحدا لم يجب ، وأخيرا اضطرت الى أن تجرب مقبض الباب ، وعندما انفتح الباب دخلت تساورها بعض الشكوك ، كانت الآن تجتاز نفس الدهليز الذي كانت تجتازه مع مانويل وعن يسارها يقبع المطبخ الذي أدخلها اليه .
كان مانويل يهم بالنهوض من الفراش ، وأحس بها تدلف الى الحجرة فجذب الأغطية سريعا ليغطي بها عريه ، وصار يحدق فيها النظر وكأنه لا يصدق عينيه ... وتمتمت بشيء من الانفعال :
" أهلا مانويل ، كيف حالك ؟ "
ومد مانويل يده الى شعره الأشعث الذي أصبح الآن أكثر كثافة وأكثر طولا منذ مرضه بحيث أخذ يتجعد على مؤخرة رقبته ، وتمتم وهو يكاد لا يصدق عينيه :
" يا ألهي ، ما الذي جاء بك الى هنا ؟"
وأغلقت دابون الباب خلفها ، وأسندت ظهرها اليه ، وأخذت تستفسر بطريقة مضطربة :
" لقد حضرت فعلا لأني عرفت أنك أصبت في حادث . كيف حالك ؟"
كانت عيناه الرماديتان تنظران في برود وغضب ، وقال :
" هل تريدين أن تعرفي كيف حالي ؟ أنني بخير لولا أولئك الأطباء السفهاء الذين أصروا على أن تجرع تلك الكمية من العقاقير لكنت قد شفيت الآن تماما "
وهزت دابون رأسها ، وسألت :
" ولكن ما الذي حدث ؟ وكيف وقع لك ذلك ؟"
وتصلب فك مانويل وهو يقول :
" كل ما حدث هو أنني أصبت بقرن الثور "
وحملقت فيه دابون في فزع ، وهي تتخيل منظر الجرح عندما وقع الحادث حينما كانت البشرة تدمي وهي ممزقة ، وصاحت :
" أوه ، مانويل !"
ولم تستطع دابون أن تتحمل الموقف أكثر من ذلك ، وبحركة يائسة هزت كتفيها ، ثم اندفعت عبر الخطوات التي تفصل بينها وبين الفراش ، وركعت على ركبتيها بجانبه ، وتركت وجهها يتمرغ على كتفه ذى البشرة البنية ، وأحست به وهو يتصلب ، وأحست بيديه وهي ترتفع لتدفعها بعيدا عنه ..
" لماذا جئت "
وظلت لبضع دقائق لا تستطيع أن تجيب ، واكتفت بأن التصقت به كما لو كانت لا تحتمل أن تراه يبتعد عنها مرة آخرى ، وأحس مانويل بأن قدرته على السيطرة على نفسه كانت ضعيفة وكان الجو داخل الحجرة الظليلة يوحي بالألفة والدفء ، ولم يكن فيما قبل يريدها أن تعرف بحاجته الشديدة اليها
قال لها في شيء من الحدة :
" ينبغي أن نبسط الأمر سويا "
وبدت تعبير وجهه أكثر صلابة ، وهو يقول :
" أنك بالتأكيد تعرفين لماذا ؟"
وعلقت على ذلك قائلة :
" لا ، أنني لا أعرف السبب ، كنت أظن ، أعني ظللت لثلاث سنوات أعتقد أنك تخليت عني "
ورد مانويل :
" نعم ، أعرف ذلك فأن ايفون عرفتني به وأعتدل في جلسته ، وحدب كتفيه "
واستمر يقول :
" بالطبع كنت سأخبرك في تلك الليلة لولا ، لولا أن قطعت علينا اللقاء "
وردت دابون :
" أنني أعرف ذلك جيدا الآن ، فقد أخبرتني ايفون منذ يومين أنك قد حسمت علاقتك بها ، وهذا هو السبب في أنني هنا "
ومد مانويل يده الى رأسه يمشط بها شعره ، وهو يقول :
" أنني لو أعد أعرف ما أريد ، لقد ظننت أنه بوسعي أن أحتمل عندما اكتشفت أمر الطفل ، ولكن الآن ، وأنت هنا ، أفكر كيف يتأني لي أن احتمل لو تركتك تذهبين "
والتوت شفتاه واستمر يقول :
" يا له من اعتراف ، أليس كذلك ؟ خاصة أنك لم تقومي من قبل بأية محاولة لترينني الا عندما وجدت نفسك تحتاجين الى شيء ما "
وترددت دابون لحظة ، ثم قالت :
" هل تتريث لحظة ؟ لدي سيئا أريد أن تراه "
وصمت مانويل ، وهو يقول :
" وما هو ؟"
وردت دابون :
" انتظر "
كان جوناثان لا يزال في مؤخرة السيارة حيث تركته ، ولكنه كان قد استيقظ وأخذ يتملل بعض الشيء ، فأشرق وجهه عندما رأى دابون التي سرعان ما رفعته بين ذراعيها برفق .
وحملته الى داخل المنزل . كانت قدرة على المشي لا زالت محدودة ، وكانت هي متعطشة لكي تري مانويل أبنه . وعندما دعت باب حجرة مانويل وجدته قد نهض من الفراش وارتدى بنطلونا جلديا باللون القاتم ، وكان يحكم أزرار القميص الأبيض المصنوع من الحرير .
واستدار مانويل تجاهها عندما دخلت الحجرة ، وحالما وقعت عيناه على الطفل بين ذراعيها صاح في غلظة :
" بالله يا دابون ، ماذا تظنينني "
ووضعت دابون جوناثان على أرض الحجرة ، ووقف الطفل ينظر حوله بطريقة تأملية تستدر الحب ، وقالت :
" أنظر اليه يا مانويل ، أرجوك أن تنظر اليه . هل يذكرك بشخص آخر "
والتفت مانويل ببطء ، ونظر الى الطفل ، وحدق فيه لحظة طويلة ، ثم نظر الى دابون ، وأحست دابون بأعصابها تتوتر تحت وطأة نظرته لدرجة كادت أن تطلق صرخة ، عندئذ احدودب جسم مانويل أمام جوناثان ، وأخرج علبة فضية من جيبه يجتذب ببريقها الطفل الصغير .
وتمكن من أن يحتفظ باهتمام جوناثان لعدة دقائق ، وأن يجعل وجهه الصغير يبتسم ويكشف عن اسنانه البيضاء ووجنته البارزة ، والتحركات الماكرة في عينيه .
وبسط قامته ، وعندما نظر الى دابون كانت تحس كما لو كان قلبها ينضغط بألم شديد وسألها بانفعال :
" لماذا لم تخبرني "
وامتدت احدى يديه لتمسك بمؤخرة رقبتها وتجذبها نحوه ، وقالت وهي تتنفس بطريقة متقطعة :
" كنت أريد أن أخبرك "
ولم تكن قد تأكدت بعد من أن كل شيء سوف يسير في الطريق الصحيح، وأضافت :
" أنك تعرف من يكون هذا الطفل ؟ أليس كذلك "
وأجاب مانويل بعاطفة جياشة :
" نعم ، أنه أبني "
ومست دابون وجنته بأصابعها الرقيقة ، وقالت :
" كيف كان بوسعي أن أخبرك ؟"
وكان جوناثان يمشي بخطى قصيرة يستكشف الحجرة وهو مطمئن تماما طالما كانت دابون بالقرب منه . واستمرت دابون تقول :
" لقد كنت نائيا عني تماما "
وأجاب مانويل :
" أوه ، نعم ، أن على أمي مسؤولية كبيرة في هذا الشأن "
وارتعش مانويل رعشة طفيفة وهو يستند عليها وأسرعت تقول :
" لا ينبغي أن تترك الفراش "
" سوف أتحسن ، وسوف ترين ، ولكنك لم تخبريني عن الطفل عندما حضرت الى بيت عمتك ؟"
وعضت دابون شفتها ن وقالت :
" لم أكن أعلم أنك قد حسمت علاقتك بايفون ، وكنت أخشى لو أنك عرفت بجوناثان فربما أخذته منى عنوة وحرمتني منه "
وهز مانويل رأسه بعنف ، وتمتم بهدؤ :
" وكان البديل لذلك ان ضاعت منى السنتان الأوليان من حياة أبني "
وجعلت دابون شفتيها تلتصقان برقبته ، وهي تقول :
" بالامكان أن يكون لنا أبناء آخرون "
وأخذ مانويل جوناثان بين ذراعيه ، وصار الطفل ينظر اليه باستغراب ، وكان من الواضح أنه يتعجب من يكون ذلك الغريب ، وقال مانويل :
" أنني أفهم "
كانت دابون وهي ترقب مانويل وجوناثان تحس بالدموع في عينيها ، وتمتمت في هدؤ ، بينما كان مانويل يشد خصلة من شعرها بقوة .
واستانف مانويل حديثه ، وصوته يغلظ قليلا :
" أنني أريد زوجتي وطفلي في الحال "
وكان جوناثان يبعث بالسلسلة الرقيقة حول رقبة مانويل ، وتمكن مانويل من أن يرفع السلسلة ويخلعها ، ووضعها بعناية حول رقبة دابون . وحولت دابون وجهها بعيدا . كان الموقف يتطلب أكثر مما تستطيع احتماله ، وخامرها احساس بأنها على وشك أن تجهش بالبكاء ، وبدا أن مانويل أحس بما اعتراها من انفعال ، وانحنت ذراعاه بجوناثان الى الأرض ، وأمسك بدابون من كتفيها ، بينما كان جوناثان يتحرك بخطى قصيرة مبتعدا عنها .
وقالت وهي تتنفس بطريقة متقطعة :
" أنني لا أستطيع أن أحتمل لو أن شيء وقع بيننا الآن "
فقال بحماس :
" لا شيء يمكن أن يفرق بيننا الآن ، هذا وعد "
واستفسرت منه :
" ولكن ايفون "
وقاطعها :
" ما الذي يعنيك من أمر ايفون "
وسألته :
" هل تعود الى كامارغ "
وأجاب :
" من المحتمل ، لماذا ؟ انك لا تغارين منها بكل تأكيد ؟"
وصدرت عنها ابتسامة ، وهي تهز رأسها قائلة :
" أوه ، لا ، الواقع أنني يجب أن أشكرها ، فلولا تدخلها ما حضرت الى هنا "
وأدار مانويل وجهها تجاهه ، وسألها :
" ماذا تعنين ؟"
وأخذت دابون في جمل مضطربة تخبره عن زيارة ايفون لها في منزل عمتها .
وعلق في النهاية :
" ياللمسكينة ايفون ! لو أنها كانت تعلم ما كانت تسببه لي "
وسألته في رقه :
" هل لاتزال جيما هنا ؟"
وابتسم مانويل في لطف ، وأومأ برأسه مؤكدا ، وقال :
" أعتقد أنها تنعم ببعض النعاس في فترة ما بعد الظهيرة ، كما تعودت أن تفعل . سوف تكون سعيده جدا برويتك ، لقد كانت مصممة على أن يجتمع شملنا من جديد ، وأنت تعرفين أنها قد حاولت أن تبقيك معنا هنا من قبل "
وقالت دابون ، وهي تتنهد :
" أنني أعرف أشيئا كثيرة الآن "
وخفضت عينيها لترمق جوناثان الذي كان يبعث بردائها وسألت مانويل :
" هل تظن أن بامكان لويزا أن تدبر مكانا ينام فيه جوناثان الليلة أذا قررنا ألا نعود الى الفندق "
وتقوست شفتا مانويل بطريقة تنم بعض الشيء عن الحزم :
" أعتقد أنه سوف يكون عليها ذلك "
قالها وعيناه تتركزان عليها ، وأضاف :
" لأنني بالتأكيد ان أسمح لكما بأن تذهبا "
(هذهِ النهاية)
أنت تقرأ
ليالي الغجر
Romanceالمجموعات الغجرية في كافة أقطار العالم معروفة بفرحها اللانهائي بالطبيعة ، وبتجوالها الدائم من مكان الى آخر ، من قارة الى اخرى وهي في ترحالها هذا تقيم الاحتفالات الصاخبة التي تدعو إلى المشاهدة والدهشة عددا كبيرا من الناس حيثما حل الغجر . هكذا كان لاب...