وحوالي التاسعة والنصف مساء كان هناك طرق خفيف على باب الغرفة ، وشعرت دابون بالدهشة مع شيء من الخوف ، ولم تستطع أن تخمن من القادم ، وكانت لا ترغب في الحديث الى أي شخص آخر ماعدا مانويل ، ورغم ذلك فلم يكن القادم هو مانويل ، وسمعت صوتا نسائيا من الخارج ينادي :
" دابون ، دابون ، هل تسمحين لي بالدخول "
واتجهت دابون الى الباب ن وفتحته ، وصاحت في دهشة :
" لويزا ! ماذا تفعلين هنا في هذه الساعة من الليل "
وابتسمت لويزا ابتسامة عريضة ، وقالت ببساطة ، وهي تبرز مظروفا :
" لقد جئت في مهمة اتسليم رسالة ، لقد طلب مني مانويل أن أعطيك هذا"
ونظرت عبر حجرة النوم الخالية ، وهي تقول :
" هل يمكنني الدخول "
وأخذت دابون المظروف بأصابع مرتعشة ، مالبثت أن استعادت هدؤها ، وقالت :
" أوه ، بالطبع ، ادخلي ، ولو أنني ليس لدي شيء أقدمه لك "
وابتسمت لويزا ، وهي تقول :
" هذا غير مهم ، أنني فقط أريد فرصة للتحدث معك برهة "
وأضافت بشيء من العبوس :
" هل تعدين حقائبك ؟ وهل يعلم مانويل بذلك ؟"
وأجابت دابون ، وهي تتظاهر بالابتهاج وقد ألقت المظروف في جيب بنطلونها لتفتحه فيما بعد :
" نعم ، لكلا من السؤالين ، أرجوك أن تجلسي "
" هل جئت وحدك الى المدينة كل هذه المسافة "
واومات لويزا ، وقالت :
" حسنا أنني أستطيع القيادة ، كما تعرفين ، فضلا عن أن مانويل يحرص على أن تكون جميع السيارات في حالة ممتازة حتى لا تتعرض لخطر العطل على الطريق "
وتنهدت ، وقالت :
" والآن ، لماذا ترحلين بهذه السرعة ؟ ألا تستطيعين البقاء لأيام قليلة أخرى ؟ لقد سمعت أن جدتي تود أن تراك مرة ثانية "
واجابة دابون :
" نعم ، أنني أيضا أعرف ذلك ، ولكنني آسفة ، أن ذلك غير ممكن ، وعلى أن أعود "
وعضت دابون شفتيها وهي تبحث عن موضع آخر للكلام ، ثم قالت :
" لقد كبرت بالفعل ، كنت تبدين طفلة من قبل "
وضحكت لويزا ، وهي تقول :
" أشكرك ، ولكن دعيني أقول لك بجدية ، أنني لم أحضر الى هنا للحديث عن نفسي ، ولكنني جئت لأتحدث معك عن مانويل "
واحمر وجه دابون ، وهي تقول بأكتئاب :
" من الأفضل ألا تتحدثي في هذا الموضوع "
وسـألت لويزا :
" لماذا ؟ ألا يهمك هذا الموضوع ؟"
سألت هذا السؤال وهي ترقبها باهتمام :
واقتم وجه دابون ، وتمتمت بارتباك :
" ربما...."
وسألتها دابون :
" هل أخبرك ، لماذا هو وايفون لم يتزوجا حتى الآن ؟"
وهزت لويزا كتفيها ، وقالت :
" ألمح فقط الى ذلك "
واستمرت لويزا تلح :
" لقد ذهب اليوم يقتفي أثرك اليوم ، اليس كذلك ؟"
وقطبت دابون ، وهي تقول :
" ماذا تعنين "
وصارت لويزا تشرح ما حدث :
" لقد حضرت اليوم الى هنا في فترة ما بعد الظهيرة لأراك ، وأخبرني مدير الفندق أنك خرجت مع أحد الشبان الى سانت مارى على الأغلب ، وعندما رجعت الى مانويل أخبرته بهذا خرج غاضبا "
وبدأت دابون تفهم لماذا ذهب مانويل الى سانت مارى ، وهي تقول :
" أنني أفهم الآن "
وأكملت بشفاه مرتعشه :
" كنت أتعجب ، هذا هو ، نعم ، وجدني "
واستمرت لويزا :
" ولو سألتني ، كان مانويل في حالة من الغيرة كأنها الجحيم "
ولكن دابون التفتت في اتجاه آخر وهي تتظاهر بأنها منشغلة بوضع السترات الصوفية في حقيبة السفر ، واحست دابون بشيء من الضيق عندما ساد بينهما الصمت ، فقطعت ذلك الصمت قائلة :
" كان الجو اليوم دافئا للغاية "
وعلقت لويزا :
" نعم ! "
ثم اقتربت من الفراش وجثمت على حافته ، وهي تقول :
" أخبرني هل أخبرك مانويل كيف وقع الحادث لايفون "
وتنهدت لويزا وهي تفكر بامعان ، ثم استمرت تقول :
" الذي حدث أن مانويل سقط من فوق ظهر الحصان ، وكسرت فخذه ، وظل يعاني بعض الوقت ، واقتضى ذلك بالطبع أن يلزم الفراش وكان ذلك على عكس طبيعته "
كانت دابون خلال ذلك تحملق في الفتاة بعينين تعكسان الأهتمام البالغ ، وأخذت تستحثها على الكلام .
" استمري ، ماذا حدث عندئذ "
وأرادت لويزا أن تغيظها ، فقالت :
" أراك قد بدأت تهتمين الآن ، أليس كذلك "
وعندما رات لويزا أن علامات القلق الحقيقي قد ظهرت على وجه دابون النحيل المتوتر ، توقفت عن الاغاظة ، واستمرت تقول :
" آسفة ، سأكمل . كما قلت لك ، كان ذلك بعد أن شفى مانويل وغادر الفراش . حدث بينه وبين ايفون شجار عنيف حول شيء لم أكتشفه بعد . والذي حدث بعد ذلك أن ايفون خرجت الى الزرائب ومعها سوط "
وحملقت دابون تجاهها في رعب ، وهي تقول :
" أوه ، لا "
واستمرت لويزا :
" أوه ، نعم ، أن ايفون يمكن أن تصبح غاية في القسوة عندما تريد . ولسوء الحظ فان الثيران التي كانت في الزرائب في ذلك الوقت كانت ثيرانا هائجة . تنتظر أن يبتاعها أحدى الزبائن ، وكان اثنان منها قد هربا "
وهنا كزت لويزا سفتها :
" ولا يمكنك أن تتصوري كيف كان المشهد ، الصراخ ، وخوار الثيران"
وهزت لوبزا رأسها:
" لقد أنقذ مانويل حياتها ، ولكنها لم تكن تستحق أن تعيش "
وقاطعتها دابون :
" لويزا "
واستمرت لويزا تقول :
" أنني أقول الصدق ، لو أنك رأيت الضرب على ظهر تلك الحيوانات المسكينة
وتهدج صوتها من الانفعال ، وشعرت دابون بالدوار . كانت القصة كما روتها لويزا أسوأ بكثير مما كانت تتصور ، ووضعت ذراعها حول الفتاة المرتعشة ، وهي تقول :
" لقد مضى هذا الآن يا لويزا ، ولقد دفعت ايفون ثمن ما اقترفته "
ورفعت لويزا بصرها بسرعة ، وهي تقول :
" هل تعتقدين ذلك ؟ هل تعتقدين حقا أنها قد دفعت الثمن ؟"
وسألت دابون :
" ألا تعتقدين أنت ذلك ؟"
وأجابت لويزا ووجهها الدقيق يعبر عن المعاناة :
" لا ، أنني لا أعتقد ذلك . على العكس ، لقد حصلت على كل ما أرادت ، أنها تعيش الآن في بيت سان سلفادور "
وسألتها دابون :
" ماذا تعنين ؟"
واستمرت لويزا تكمل القصة .
وطأطأت دابون رأسها ، ثم قالت :
" لا اعتقد أن مانويل يتخلى عن ايفون لهذا السبب"
وردت لويزا :
" ولا أنا أيضا ولكن ذلك لا ينفي أنه ينبغي ان يصحح تفكيره في الموضوع "
وهنا ارتفع صوت لويزا الرقيق المفعم بالانفعال ، وهي تقول :
" ألا ترين يا دابون أن مانويل لا ينبغي أن يتزوج ايفون . أنها شريرة. أنها أكثر مكرا من ذلك ، وكل شيء ينتهي الى النتيجة نفسها .. ألا ترين أنها تحمل نتيجة ما حدث ولكنها تلومه عليه قائلة أنهما لو لم يتشاجرا ما كان ذلك الحادث ليقع "
وأمسكت بيد دابون وهي تواصل :
" أرجوك ألا تذهبي يا دابون ! وأبقي ودافعي عن مانويل . انسي الماضي وفكري في المستقبل "
وهزت دابون راسها ، وهي تقول :
" كان لطفا منك أن تخبرني بذلك ، يا لويزا ، ولا تظني انني لا أقدر لك ذلك "
أطلقت لويزا تنهيدة ، ثم خطرت لها فكرة ، فقالت :
" أقول دابون ، تعرفين كما أخبرتك ـ أن مانويل كان يريدني أن أذهب الى سويسرا لمدة سنه ، ما رايك لو طلبت منه أن يرسلني الى انكلترا بدلا من سويسرا . لا أقصد بالطبع أن أعيش معك ، فأني لا أستطيع أن أتجرا على مثل هذا الطلب ، ولكن ربما لأكون قريبه لكي نرى بعضنا بعضا "
وكاد قلب دابون أن يتوقف ، وقالت :
" أ ، أعتقد أن هذه الفكرة ليست سليمة تماما ، ليس على الأقل الآن "
وردت لويزا :
" ولكن ذلك لن يكون طوال الوقت بالتأكيد ؟ أقصد ستكون هناك بعض الأمسيات نستطيع فيها أن نتقابل ، وستكون هناك بين حين وآخر عطلة آخر الأسبوع . أوه ، أنني أدرك أن لك أصدقاءك الخواص بالطبع ، ولكني أحب أن أراك أحيانا "
وهزت دابون رأسها وقالت :
" لا! لا أعتقد أن ذلك بالامكان ، يالويزا "
وحدبت لويزا كتفيها ، وقالت :
" كنت أظن أنك تحبينني "
وأسرعت دابون تؤكد :
" أنني بالفعل أحبك يا لويزا . أحبك ولكن بأمانه فأن الموضوع ليس هكذا أنني عندما أرحل من هنا ، لا أريد علاقات تطول أكثر مما ينبغي مع أسرتك "
واستفسرت لويزا :
" تقصدين علاقات مع مانويل "
ووافقت دابون :
" حسنا ، مع مانويل "
ونهضت لويزا على قدميها ، وهي تقول :
" لا أكاد أفهم ، لماذا ، واذا شئت فأنني أعدك بألا وفتحت لويزا الباب ، وهي تقول :
" آسفة أذا كنت قد سببت لك بعض الارتباك "
وأمسكت دابون بيد لويزا بشعور لا يقاوم ، وهي تقول :
" على العكس ، أنك لو تربكيني بالمرة . أنني أيضا أشعر بالأسف "
وهزت لويزا كتفيها ، وقالت :
" ليس على الاطلاق . الى اللقاء يا دابون "
وردت دابون وهي تبتسم :
" الى اللقاء "
وما أن خرجت لويزا وأغلقت الباب خلفها حتى بدأت الدموع الحبيسة تنهمر على وجنتيها .
وعندما عادت دابون لتحزم حقائبها من جديد ، أحست المظروف في جيبها ، يذكرها بأنه لا يزال هناك . وفتحته بأصابع مرتعشة ، فسقطت منه جذاذة من الورق استقرت على أرض الحجرة ، وانحنت لتلتقطها على مضض . كانت أذن دفع ( شيك ) قابل للسحب بمبلغ خمسمائة جنيه على أحد المصارف الأنكليزية . وبينما كانت تحمل حقائبها الى السيارة في الصباح التالي ، دق جرس الهاتف في الكشك الواقع في الردهة محدثا بعض الضوضاء ، واتجه السيد ليون ليرد على الهاتف ثم ناداها على الفور :
" أنه مكالمة لك يا آنسه ، من انجلترا"
ومست قلبها قشعريرة من شر منتظر ، وجذبت الهاتف من السيد ليون ، وقالت لاهثة :
" نعم ، نعم ، أنا دابون من المتكلم "
وجاءت الاجاية :
" دابون ! أنت التي تتكلمين ؟ أنا السيدة رينولدز "
كانت السيدة رينولدز . أحى جارات العمة كلارى ، وبدات وساوس دابون تتحول الى خوف حقيقي ، واستفسرت :
" نعم يا سيدة رينولدز ؟ ما الخبر ؟ هل حدث شيء ؟"
كان صوت السيدة رينولدز يحاول أن يهدئ من روعها ، وواصلت تقول:
أرجو ألا تهلعي ، يا دابون . أن الأمر ليس خطير يا حبيبتي . لكن عمتك زلت قدمها في الحديقة فسقطت ، وكسرت ساقها . لا تقلقي ، هي ليست في المستشفى ، ولكن بالطبع هي تعجز الآن عن أن ترعى الطفل "
كان خبرا مزعجا أن تصاب ساق العمة كلارى ، ولكن دابون شعرت شعورا غامرا بأن القدر كان رحيما ، وأجابت على ملاحظة السيدة رينولدز ، بقولها :
" بالطبع أنها لا تستطيع ذلك الآن "
وبدأ صوتها يعبر عن شعورها بالامتنان لرحمة القدر :
" ولكن اطمئني يا رينولدز أخبريها أنني عائدة الليلة . لقد بدأت استعد فعلا للرحيل ، وسيكون بوسعي أن أرعى جوناثان بنفسي "
وعبرت السيدة رينولدز عن رضاها بضحكة خافته ، وهي تقول :
ستكون مطمئنة تماما ، يا دابون ، حسنا سوف أذهب أذن . الى اللقاء "
وردت دابون :
" نعم ، نعم ، بالطبع ، أشكرك على الأتصال بي "
وجاء صزت السيدة رينولدز :
" هذا حسن يا دابون . الى اللقاء "
وأجابت دابون :
" الى اللقاء "
وأعادت دابون السماعة ، وبينما هي تفعل ذلك أحست بشبح يظلل الكشك الصغير ، ولم تكد تحس بذلك الاحساس حتى كانت يد صلبة قد امتدت الى بشرتها الطرية في كتفها تجذبها بما يشبه العنف خارج الكشك لتقابل الرجل في الخارج ، ولهثت عندما قرب مانويل وجهه الأسمر الوسيم الى وجهها ، وجعل يسألها بقسوة :
" من يكون ، جوناثان أيتها الكذبة الصغيرة ؟"
تراجعت دابون الى الخلف خطوة ، واضطر مانويل أن يرخي قبضته عليها ، وكان هناك أشخاص في الردهة بدأوا يرمقونهما بنظرات الفضول ، وبدأ مانويل . يخاطبها بلهجة تنم عن حرصه على اقناعها :
" من الضروري أن تحدث اليك . ليس هنا ، وانما في حجرتك "
ونظرت دابون حولها وهي ترتعد ثم قالت :
" ليس لدي وقت مانويل ، وعلي أن أتجه الى المطار "
وألح مانويل في أقناعها :
" سأوصلك الى المطار "
واعترضت موضحة :
" لا، لا، أن على أن أخذ السيارة ، وتركها هناك "
ورد مانويل :
" لتذهب السيارة الى الجحيم ، أنني أحذرك يادابون "
وحولت دابون وجهها بعيدا عنه ، وهي ترتعش :
" لماذا جئت ؟ كنت أظن أنك بعد أن أرسلت أذن الدفع ...."
ولمس أصابعه رقبتها ، وصارت ييلكأ على بشرتها دون أن يكترث بالمشاهدين الذين بدأوا يتتبعون ما يدور بينهما ، وصار يقول:
" أنت السبب . لو أستطع أن تخلف . أرجوك يا دابون ، لا تصري على أن تفعلي ذلك في "
وبللت دابون شفتيها الجافتين ، ثم قالت :
" لا بد من الرحيل ، يا مانويل "
وتصلبت أصابع مانويل على رقبتها ، وهو يقول :
" أعرف ، نعم ، تريدين أن تعودي الى انكلترا الى جوناثان . لن أتركك تذهبين "
وحبست دابون أنفاسها ، وهمست في رهبة :
" ماذا تنوي أن تفعل ؟ تبقيني هنا في آرل بنفس الطريقة التقليدية التي يسلك بها الفرنسيون "
وضغطت أصابعه بوحشية على رقبتها لحظة ، وكادت أن تصرخ من الألم ولكنه أرخى يده وهو يتمتم بشدة :
" أنني لا أستحق ذلك منك"
واستفسرت دابون وهي لا تجرؤ على النظر في عينيه :
" ألا تستحق ذلك بالفعل "
كان مجرد النظر اليه كافيا بأن ينتهي بها الى كارثة . ولم يكن بوسعها أن تصمد أمام الآلام المبرحة التي كانت تنتظر أن تراها على وجهه . وعاد يسألها :
" أرجوك يا دابون ، أنني أسألك لآخر مرة ، هل جوناثان هذا هو الذي من أجله تحتاجين الى النقود ؟"
وترددت دابون ثم طأطأت رأسها ، وأخيرا قالت :
" نعم أنها لجوناثان "
ومد مانويل يدا متويرة الى رأسه ، وجعل أصابعه تتخلل شعره ، وهو يقول :
" يالهي "
وشدت دابون كتفيها ، وقالت :
" هل بامكاني أن أنصرف الآن "
وكظم مانويل لعنه كاد ينطق بها ، ثم قال بوقاحة :
" نعم ، أذهبي ، أذهبي ، عليك اللعنة "
وتركها وسار الى باب الفندق دون أن ينبث بكلمة .
أنت تقرأ
ليالي الغجر
Romanceالمجموعات الغجرية في كافة أقطار العالم معروفة بفرحها اللانهائي بالطبيعة ، وبتجوالها الدائم من مكان الى آخر ، من قارة الى اخرى وهي في ترحالها هذا تقيم الاحتفالات الصاخبة التي تدعو إلى المشاهدة والدهشة عددا كبيرا من الناس حيثما حل الغجر . هكذا كان لاب...