الفصل الثالث

1.6K 28 2
                                    

وبدات دابون تذرع الحجرة بقلق . لم تستطع أن تقف ساكنة تحت نظراته الفاحصة ، ولم يسعفها الكلام بما تقول . والان ، وقد بدا علية التعب من كثرة تضجرها ، صار يقول بالحاح :
"أنني رجل لا يعرف الصبر ، أستحلفك بالله قولي ما تريدين ، ولا تخشي شيئا . ماذا تريدين ؟ هل هي النقود؟"
وتعلثمت دابون فجأة ويدات تحدق النظر فيه وشفتاها ترتعشان وهي تقول :
"لماذا تخيلت أنني في حاجة الى النقود ؟"
نطقت بذلك حين أحست بلهجته الساخرة .
ورد بشيء من عدم المبالاة :
" أليست النقود هي ما يسعى اليه كل أنسان ؟ وأضاف :
" اذا كانت هذه التمثلية المحبوكة كلها من أجل النقود ، فأرجوك أن تكفي . أن هذا التمثيل يسبب لي الضجر "
ونظر اليها باشمئزاز وهو يكمل :
" أنني أتعجب حقا . لماذا تخيلت أنني يمكن أن أقدم لك النقود؟"
وحدقت دابون اليه واستفسرة بايجاز ، وهي تحاول أن تستجمع هدؤها أمامه :
" هل يعني ذلك أنك ترفض مساعدتي "
وتكور في وقفته ، ووضع اصبعي ابهامه في حزام البنطلون . وبدلامن أن يجيب على سؤالها ، بدأ يقول :
" أخبريني لماذا تريدين النقود ؟"
واستعادت قوتها، وقالت :
" مسألة شخصية ، ثم مادمت لا تريد أن تساعدني ، كما هو واضح فلا أرى أن ذلك أمر يعنيك ."
ورد مانويل وهو يتفحصها بعينية :
" لا اذكر أنني قلت بالضبظ أنني لا أريد مساعدتك . أنك تتسرعين في اتهامي يا دابون . ليس لك الحق في أن تظني أنك بعد غياب ثلاث سنوات تعودين وتجدين الأشياء والناس كما تركتهم عند ذاك "
وضمت دابون كفيها وضغطتهما ، وقالت :
" لا أنتظر سيئا من هذا القبيل . أعرف أن الحياة تمضي ، ولاشيء يبقى كما كان . أريد فقط أن أتجنب التعقيدات التي لامبرر لها ، ولا أحب أن أجعل هذا الموضوع يمس حياتك الخاصة "
وأخذ مانويل يلعن يعنف ، واتجه اليها مهددا وهو يقول :
" هل كنت تتصورين أن تحضري الى هنا دون أن تمسي حياتي الخاصة كما تقولين "
وارتعدت دابون بسبب انفعاله المفاجىء ، وقالت بألفاظ مكبوته :
"أنك لا تفهمني . لم يكن بد من مجيىء اليك . لم يكن هناك شخص آخر أستطيع أن ألجأ اليه "
واحدودبت كتفاه ، وحاول أن يسيطر على نفسه بصعوبة وهو يقول :
"وهل أنت بحاجة الى النقود "
وتمكنت دابون من أن ترد بصعوبة:
"نعم "
وسأل:
" كم تريدين"
وبلعت دابون ريقها بصعوبة ، وقالت وهي تتلعثم:
" خمسة ... خمسمائة جنيه "
وقطب حاجبية . وهو يعلق :
"خمسمائة جنيه ؟ ماهذا ؟ مايقارب أربعة آلاف فرنك ؟"
واومات دابون :
" شيء قريب من ذلك "
ولاك مانويل شفته السفلى بلسانه لمدة دقيقة ثم قال :
" خمسمائة جنية . آه . وبدات عيناه تهيم عبر قامتها النحيلة .
"لاي شيء تحتاجين هذه النقود يا دابون ؟ هل أنت حامل ، مثلا "
وحدقت دابون اليه في اشمئزاز وهي تقول :
"لالا ، كيف تجرؤ ان تقول شيئا كهذا ؟ وتكسر صوتها من الالم ، وكان عليها أن تتنفس بعمق مرات عدة حتى عاد الهدؤ اليها "
ونظر اليها نظرة خاطفة وهويقول :
"لكن لماذا لا يحق لي أن أظن هكذا ؟"
وانطلقت يد دابون بقوة ، وصفعته على وجهه قبل ان يتحرك من مكانه وهرولت أمامه الى الباب وهي تصرخ ، وفتحته ، وأخذت تجري وكأن الشيطان يطاردها . وصعدت الدرج مسرعة الى حجرتها ، وغلقت الباب خلفها ، واوصدته بالمفتاح وأسندت ظهرها اليه وهي ترتعش ، ولكن ام يكن هتاك صوت يدل على أن شخصا ما يتابعها . ولم يكن هناك طرق شديد على الباب . كان هناك صوت أنفاسها هي ، والتي استغرقت دقائق عديدة اتعود الى وضعها الطبيعي . وعندما تأكدت أن لا أحد وراءها ، طرحت نفسها على الفراش ووجهها الى أسفل وعيناها جافتان وهي تكاد تشعر انها فقدت كل شيء في الحياة .
وقامت دابون من الفراش في الصباح التالي على غير رغبة ولم تكن قد نعمت بنوم هادىء . وكانت هناك خطوط قاتمة على حافة عينيها . نزلت لتناول الافطار ، وقد ارتدت منظارا قاتما لتتجنب الملاحظات الودية التي لن يمكن تفاديها من مدير الفندق .
كان افطارها يتألف فقط من عدة فناجين من القهوة ، وخلال ذلك حاولت أن تستعيد الثقة بنفسها . كانت تتمنى لو أن كلارى كانت معها ، ومع ذلك فأن كلارى لم تكن لتوافق على طريقتها في مسايسة الأمور . وكلارى من أنصار أن يقول الأنسان الحقيقة وليحدث ما يحدث ولكن ، في هذا الموضوع بالذات ، لم تستطيع دابون أنتوافقها . اذ كيف تعترف لمانويل سان سلفادور بالسبب الحقيقي وراء حاجتها للنقود ؟ وماذا كان يمكن ان يكون رد فعله اذا ما أعترفت له بالحقيقة .
وبأ هاجس يعنفها من الداخل ، ولكن ماذا عساك أن تفعلية اذا لم يعد ؟ كيف تتصرفين ، أتضحين بفرصة جوناثان في الشفاء من أجل كبريائك ؟
واعتمل شعور بالوهن في نفسها ولكن ، هل كان بوسعها أن تلجظا الى شخص آخر ؟ لم يكن لديها اي أحد عدا الخالة كلارى .
ووخزت الدموع عينيها . أن خمسمائة جنية لم تكن تعني شيئا بالنسبة لآل سلفادور بل ان ألفي جنية لم تكن بالنسبة لهم سوى مجرد نقطة ماء في المحيط عندما كانوا يعرضون عليها النقود في وقت مضى ، كانوا حريصين على أن يدفعوا لها أكثر من هذا المبلغ قبل ثلاث سنوات ، فلماذا لايعطونها ما هو أقل بكثير الآن ؟
وأزمات يائسة . ما كان يجوز لها ان تمزق ذلك الشيك ، ولكن هل كانت تعلم أنها سوف تحتاج اليهم في أي يوم من الأيام ؟
وأوأطلقت تنهيدة ، ثم خرجت الى درج الفندق . كان الصباح جميلا آخر ، وكانت أشعة الشمس تتلألأ على برج الكنيسة الذي يقع على مراى النظر . وكانت مجموعة من راكبي الخيل تعبر الميدان وحوافر الخيل تصطدم بأحجار الطريق ، وكان بينهم أطفال يظهرون براعة في الركوب . لم تكن أحصنة بيضاء بل رمادية لها كتل الشعر الكثيف في الذيل التي عرفت بها احصنة الكامارغ ....
ولم يكن من الممكن أن تبقى طوال النهار فب الفندق تنتظر . وكانت أعصابها مشدودة الى حد الارهاق . كان الدواء الوحيد لها أن تتصرف ، وبأية طريقة .
واتخذات القرار فرجعت الفندق وبدات على الفور تبدل ملابسها ولبست بنطلونا ضيقا وقميصا جذابا لونه احمر مزرق ، اما شعرها فكان ممشطا كالعدة كانت حريصة على أنتبدو وكانها ذاهبة الى العمل . لم تكن تحرص على أن تتزين ، فلا أحد في مزرعة سان سلفادور يعنية مظهرها .
وملأت خزان السيارة بالوقود واتجهت الى خارج المدينة ، تقود سيارتها على الطريق الترابي الذي يمتد حلزونيا بين النهر والمستنقعات . كانت باستمرار ترى وتسمع صوت الماء يتدفق وأخذت ممجموعة من الطيور المائية والبط البري تحلق وهي تطلق صياحا عاليا حين أفزعها صوت محرك السيارة ، وكان الريش الأحمر القرنفلي لمجموعة من طيور الفلامنغو يومض بعيدا عنها كأنه سراب في مستوى المياه . كانت هذه الطيور تخوض في المياه الضحلة في احدى البحيرات التي تعج بالأحياء المائية من كل نوع والتي تتغدى عليها آلاف الطيور التي تسكن في مصب النهر . أما تلك المساحات الملونة بين سيقان القصب أو الغاب فقد اتضحت أنها مجموعات من نباتات المستنقعات المائية بينها أزهار البنفسج الصغيرة الرقيقة وكأنها تصارع الحياة في هذه المنطقة . رأت النظر الذي سبق أن اثارها ، ذلك هومنظر ثيران كامارغ . كان هناك أكثر من عشرة رؤوس منها ترعى على الروابي المشبعة التي تنمو في تربة المستنقعات .رفعت الحيوانات رؤوسها عندما سمعت صوت السيارة ، ولكنها لم تكترث لاقترابها منها . كانت قرونها تنثني منذرة بالخطر وأمسكت دابون بعجلة القيادة باحكام . وكانت ترى العلامة المميزة لها (س. س) الخاصة بقطعان سان سلفادور على خاصرة كل ثور من ذلك القطيع .
أدركت انها ليست بعيدة الآن . من الواضح انها كانت في أراضي سان سلفادور ن وبعد قليل اخذت مجموعة من الأحصنة تختفي من الطريق امامها وسط أيكة من شجر البلانترى ولمحت دابون بين الأشجار شيئا لايمكن أن تخطئه ، رغم أن الصورة كانت لاتزال باهتة عربة كبيرة من عربات الغجر .
وضغطت دابون على فرامل سيارتها ، واقفتهاوصارت تحدق تجاه العربة . كان مظهرها يكشف عن الأهمال ، ومع ذلك كانت عربة مميزة ، وعرفتها أنها عربة جيما ، وهي التي سبق أن ركبتها مع مانويل .
وكبحت دابون الأفكار التي جاءتها من وحي الطريق ، وشدت الفرامل وانسلت من السيارة ما الذي جاء بعربة جيما الى هذا المكان ، ولماذا اعتراها الاهمال الى هذا الحد ؟
كانت الفكرة التي خطرت لها فكرة عفوية ، ولكنها كانت مقنعة . أيعقل ان ذلك قد حدث ؟ كانت جيما امراة كبيرة السن فعلا ، ولكنها كانت نشطة . هل يمكن أن تكون قدماتت . ؟
وتوقفت دابون على حافة الطريق . كانت الأرض حول العربة شبه مستنقع ولم يكن حذاؤها مناسبا للسير في الطين . كان المكان يبدو مهجورا وكانت الستائر المسدلة على النوافذ مغبرة ولم يبد ان في المكان بادرة حياة .
هزت دابون راسها ورجعت الى السيارة ، وجلست شارة خلف عجلة القيادة . كانت عربة جيما بيتها الذي طالما كانت تزهو به وتحرص على أن يكون شفافا نظيفا ، ولكن ها هي الن يصيبها الصدأ .
وعاودت النظر الى العربة من جديد واحتبس حلقها . هل يعقل ان تكون جيما قد ماتت ؟ وهل يكون ذلك سببا من أسباب المرارة التي يعانيها مانويل .
ونظرت حولها في ياس ، ماذا يمكن ان تفعل ؟ اتعود من حيث اتت ؟ ام توصل وتخاطر بمقابلة زوجة مانويل ، وهي التي لم تخف كراهيتها لهذه الفتاة الانكليزية ؟ بل هي الزوجة التي اختارتها أم مانويل لابنها علىاساس أن ثروة أبيهاتناظر ثروة آل سان سلفادور .

ليالي الغجرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن