الخطأ!

154 5 1
                                    

في ذاك اليوم المشمس قبل ثلاث سنوات، رأيتها لأول مرة... وأي رؤيا ، رأيتها تعبر الطريق مصطحبة فتاة صغيرة، يتوقف الزمن و تسلط عليها الشمس أضواءها فأراها وحدها، لم ترفع عيناها و لم تنتبه أبدا لوجود شخص يترقب خطواتها، بل كل حركاتها... و لأول مرة أحس بالحب من أول نظرة و لا أعلم حتى هل أعجبت بشكلها أم بروحها؟! كانت الفتاة الصغيرة ملتصقة بها وكأنها خائفة من شيء ما، تمسك برجلها بقوة و أسمعها تقول بنبرة براءة : أمسكي بيدي يا سمر ...
لم أتعرف من قبل على فتاة بهذا الإسم، تعجبت قليلا منه لأنه يطابق إسمي لكن لم أعره إهتماما كبيرا فقد كنت منهمكا بمتابعتها وتصوير مشهد أعلم أنه لن يتكرر، فطالما تكون البدايات أروع ما نراه و أحلى ما نعيشه، فطعم المقدمة أشهى و ألذ رغم بساطتها...
تسير على مقربة مني لأرى ملامحها بوضوح، ولم أجد فيها ولو صفة واحدة من صفات فتاة أحلامي رغم جمالها الأخاذ؛ عينان كبيرتان سوداوتان، شعر شديد السواد تنعكس عليه صورتي و كأنني بجانب مرآة، يداها صغيرتان تشبه أيدي الرضيع الناعمة... و أجمل من كل هذا مشيتها التي عشقتها للحظة؛ و كأنها تختار توقيت خطواتها بدقة !
لم أرغب بمرورها، لأنني أعلم في قرارة نفسي أنني لن أجدها بعد الآن في هذه المدينة الكبيرة و أنا لا أعرف منها سوى إسمها الذي قد يكون مزيفا... لحقت بها و لا أعلم إن كنت سأتحدث معها أم سترفض ذلك، ناديتها باسمها : سمر !
إلتفتت إلي بنظرة غريبة تخبرني تراجع ولا تقترب فسأكون أجمل شيء في حياتك و أسوأه ...
أخرجت مفتاح المنزل من جيبي و قلت : هل سقط منك هذا ؟
كانت تعلم حتما أن هذا السؤال مزيف و ماهو إلا ذريعة إختلقتها لأتحدث معها؛ هذا ما رأيته في نظرتها، و تجاهلتني بعدها و أكملت طريقها دون أن تلتفت للخلف و تترك لي رسالة مضمونها "تحذير" لست من تبحث عنها...

ثقتي بنفسي و حدسي لا تزال على قيد الحياة رغم أنني تلقيت ضربة موجعة في أول لقاء و ليس أول حديث

¤¤¤¤¤

لم أستطع البقاء في المعهد بعد رؤيتي لسمر و والدها يركبان سيارة الإسعاف، ولن أفهم ما يحدث إلا إذا لحقت بهما إلا المستشفى...
والدي يعمل ممرضا في المستشفى، يعمل أحيانا حتى الرابعة مساءا في مصلحة الإستعجالات على عكس والدتي الممرضة التي تفضل العمل ليلا لتقوم بأعمال المنزل في النهار، و كم أشفق عليها فهي حقا تضحي من أجلنا ...
إتصلت بوالدي و أخبرته أن هناك سيارة إسعاف ستصل في غضون دقائق و طلبت منه التأكد من المريض و حالته، وقبل أن يقطع قال : أظن نها وصلت أتصل بك فيما بعد ...
أوقفت تاكسي و إتجهت إلى المستشفى، في طريقي إتصلت بي أمي على الهاتف
- أين أنت ؟ ماذا يحدث معك هذه الأيام لا أراك أبدا و أصدقاءك أيضا يبحثون عنك ! لما لست تذهب إلى المعهد، تعال حالا أنا في ...
أقاطعها في كلامها الذي لا ينتهي إن لم أفعل ...
- أجل سأكون في المنزل خلال دقائق
كانت هذه إجابتي دوما لأمي، لأنني حقا لا أرغب بإيذائها في محاولة إرضاء نفسي، فأحيانا لا ندرك ما يحس به شخص بل ندعي ذلك فقط، و لن ندرك حقا ذاك الإحساس حتى نجربه، فأمي تحمل بي، تضعني في أشد الحالات ألما، تسهر علي، تنقذني من أيادي المكاره وتحافظ علي أكثر مما تحافظ على نفسها، و مهما فعلت فلن أرد لها جميلها، و أضعف إيماني أن اقدرها و أحس بها ...
طلبت في الحال من سائق السيارة أن يغير الوجهة إلى منزلي، و أنا في أمس الحاجة إلى حضن أمي و قولها لي : لا تقلق عزيزي كل شيء سيكون على ما يرام
طالما كانت هذه العبارة الترياق الفعال الذي يبعث في نفسي قوة و عزيمة جديدة لأقف من جديد و أواصل ما بدأت به...
وصلت إلى البيت قبل أن يودعني السائق قائلا : لا تتسرع في قراراتك يا بني فالقرار الأول غالبا ما يكون خاطئا ... بالتوفيق ؛ وكأنه علم بكل ما يدور في رأسي في عشر دقائق، شكرته ووعدته أنني سأحاول بكل ما أوتيت من قوة، وقوتي تخونني هذه الأيام فأنا لا أنام و لا آكل فالقدر يجعل دوما أناسا يتألمون لألم شخص آخر وهاهو ألمي يزداد بألمها ...أو أكون قد خدعت !

أدخلت المفتاح في القفل لأفتح الباب فلم يفتح ! أطرق الباب لأجد أمي تقف أمامي قائلة بصوت ملئه الغيض و الشراسة :
- أرأيت لا تعلم حتى بأن والدك قد إستبدل القفل !
- أمي تعلمين أنني لا أحمل مفاتيحي دائما لا تبالغي

- وأعلم أنك قد خرجت عن نطاق عائلتك ، فأنت لا تعلم حتى أين أخوك الآن
- و كيف لي أن أعلم و هو ليس معي ؟

- هو يعلم أين أنت و يسأل دوما عنك ...
محمد أخي الوحيد، يكبرني بخمس سنوات، ترعرعت معه بين جدران بيتنا و بين أحضان والدينا، كانت تجمعني به علاقة أخوة ليست كأي أخوة كنت كيده اليمنى، كان يحتاجني في جرائمه الطفولية عندما كان يهرب من المنزل ليلا و يطلب مني أن لا أخبر أمي و كنت حتما ذلك الطفل اللطيف المطيع، أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي غادرنا فيه محمد الى الجيش؛ بكيت ملء جفوني و صرخت بأعلى صوتي و كان يحتضنني و يقول : أخوك لن يذهب بعيدا لا تقلق سأعود قريبا ، لا تبكي يا رجل ... ، مرت سبع سنوات على غيابه و لا نراه إلا في المناسبات، كان يتصل بي يوميا و شيئا فشيئا أكبر و يبتعد صوته عني، أشتاق إليه كثيرا !

بعد دخولنا الى المنزل، أعطتني أمي بعض الحلوى لأكسر بها جوعي في انتظار أن تطهو طعام الغداء ، ثم أخبرتني أن محمد قد أرسل في مهمة دفاع إلى الحدود الجزائرية الليبية و لن يستطيع الإتصال إلا بعد الإنتهاء من مهمته ...

إستلقيت لبعض الوقت في سريري فأحسست بالراحة تتسرب إلى أطرافي ثم تواصل إلى كل جسدي كأن روحي كانت في حرب دامية طويلة و عادت منها معطوبة تنتظر من يسعفها و ينقذها، أهكذا خلقنا حقا ؟ أهذه فطرة الإنسان ؟ لما قد ننسى أنفسنا من أجل من نحب ؟ لما قد نضحي بأنفسنا من أجله ؟ هذا يخالف قواعد المنطق و ينتفي معها تماما ! وهو المفهوم الأصح للحب : (( الحب أن تضحي من أجل من تحب)) و معناها الحقيقي أن أضحي رغما عني فأنا تحت تأثير مخدر العشق الجنوني...

أستيقض بعد نوم - لا أعلم مدته- على رنة هاتفي الصاخبة :
- ألو من ؟
- سامر... لقد تحققت من المريضة هل تعرفها ؟
خفق قلبي فجأة و كأنه أخبرني بوفاة شخص ما

- ابي ... من تقصد !
- إنها عجوز في عقدها السابع أظن أنه لا أمل لنجاتها فهي تحتضر

-من أتى معها ؟
- رجل في الأربعينيات يقول أنها والدته

- رجل فقط ؟
- أجل

قطعت الخط و كنت أرسم الأحداث في مخيلتي و ليس كل ما توقعته صحيحا، أظن أنها جدة سمر...
أذكر أني سألها يوما عن عائلتها و قالت أنها تعيش مع أبيها و جدتها و أختها الصغيرة، ولم تخبرني شيئا عن أمها، كنت أخشى أن أسألها و قد تكون والدتها متوفاة ...

رفعت الهاتف و إتصلت بها، و دون إطالة ترد على المكالمة :
- كيف حالها ؟ هل هناك أمل أن تشفى ؟
إستنتجت من ردها أنها جد متوترة و تبكي و ظنت أن والدها المتصل حتى أنها لم ترى رقم الهاتف

- هي بخير لا تقلقي

تصمت قليلا لأنها ميزت صوتي، ثم ترد بصوت متقطع بشهقات البكاء
- أرجوك قل لي أنك رأيتها !
- لا ولكن رآها والدي في المستشفى

- ماذا قال والدك؟ هل ستشفى ؟
- نعم قال أنها تحسنت

- آه الحمد لله، شكرا سامر لن أنسى معروفك هذا

لم أشأ أن أكذب عليها لكن اللاوعي يجبرني على ذلك لا أستطيع أن أخبرها بالحقيقة الآن...
أغلقت الخط و أنا متأكد أنني أعطيتها أملا لكن لا أظن أنه طويل المدى، فمهما حاولنا إخفاء الحقيقة فالطبيعة تظهرها عاجلا أم آجلا

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 04, 2016 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

شتاء دافئ!حيث تعيش القصص. اكتشف الآن