نفس حائرة

367 12 0
                                    


بلهفة الأم وحنانها ... قطعت تلك الأشعة الآتية من الشمس البعيدة طريقها مسرعة نحو محمود وهو يجلس القرفصاء فوق سطح منزله ... إحتضنته بدفئها وأدخلت السرور إلى قلبه الحزين ....

السطح هو لبيت قديم من بيوت الحارات المصرية القديمة في أحد الأحياء الشعبية الذي كان سكن المرفهين من البشر في أيام بالماضي ... وأمرضه الزحام وقلة الصيانة .. فأصبح حيا شعبيا ...

فالمصريون يحلو لهم أن يطلقوا ذلك اللفظ على تلك الأحياء المكتظة بالسكان ...وأغلب الظن أنهم إخترعوا هذه التسمية .. وإنتقلت منهم لشعوب عربية أخرى ... فالإسم لا يدل على معناه ... ولا يدل على مستوي معيشة ....

بل يدل على ناس يصفون أنفسهم بأنهم هم الشعب الحقيقي ...وقد إستحقوا أن يكونوا مصريين يمثلون شعب مصر ...أما من يقطنون الأحياء الراقية فهم أقلية .. غرباء عن شعبهم .... إنسلخوا بطريقة معيشتهم عن السائد والمعتاد ....

محمود حزين ومكتئب في يوم إجازته من عمله كفرد أمن في أحد الأحياء الراقية المغلقة ( كمبوند) بالقاهرة .... يشعر بالحيرة والتمزق النفسي ....

في هذا الحي الشعبي لابد أن يحصل كل فرد فيه على لقب ... لابد أن ينعت بنعت ... ولقبه هو الغلبان ... محمود الغلبان ....

لماذا يصر أهله وجيرانه على تسميته بهذا الإسم ؟؟؟؟ ... لماذا وصفوه بالغلبنة ....

كان يفكر أن هناك من هو أكثر منه فقرا بكثير ... ولا يملك شيء من حطام الدنيا .. ولا يصفوه بذلك أبدا !!..

وأخذ يفكر في أبيه...ذلك الرجل يملك كشكا صغيرا على ناصية الحارة ...كان يعمل قبلها عامل بالأجرة ... وإستقر في ذلك الكشك ....

وعندما درت تجارته عليه مالا ... تنكر لأمه المسكينة وتزوج عليها بنت من بنات الحارة ... واحدة قليلة الأصل ... أخذته من زوجته

وحرمت عليه أن يصرف عليها ... وأصبحت أمه بلا معيل ...

وترك دراسته بعد المرحلة الإعدادية ... وعمل في أي شيء ليصرف على أمه ونفسه ... وليس له أخوة ... هو وحيد أمه ....

هل هذه الظروف هي سبب التسمية؟؟ ... لكن لقبه هذا يعود إلى ما قبل تلك الظروف ... حتى العيال في الحارة ينادونه بها وهو يلعب معهم الكرة ....

مد يده أمامه ليتناول كوب الشاي وتناول منه رشفة .. وهو لا زال يفكر ويتأمل حاله ....

فهو قد شعر بالنفور من أهل الحارة ... على الرغم من إدعاءاتهم المستمرة أنهم رمز الشهامة والتكافل الإجتماعي ....

لأنهم يصرون على التقليل من شأنه والنظر له على أنه قليل الحيلة ...ويسأل نفسه لماذا يشعر بالراحة النفسية هناك في عمله في ذلك الحي الراقي .. ويشعر بالتقدير أكثر بكثير من الأهل والعشيرة ...

لقد إشتهر محمود بين أفراد الأمن في عمله بالأمانة والجدية ... يخلص في عمله فيشرف على المكان الذي يحميه كأنه يحمي منزله ...

عفيف النظرات ... عفيف اللسان ... أحبه السكان هناك لذلك ... فأصبح رجلهم الأول ... لا يعتمدون إلا عليه .. ولا يحتمون إلا به ...

وإذا كان على المال .. فزاد دخله من جيوبهم .. وإذا كان على الإحترام ... فلا ترى العيون تنظر له إلا بكل الإحترام والتقدير ..

هل تصدقوا أن بعضهم يناديه ملاطفا : محمود باشا !! .. تخيلوا باشا شخصيا !! ...ولذلك فأقل ما يشعر به هو ذلك التمزق والصراع النفسي .

باشا !!! وغلبان !!! في نفس الوقت ... كيف ؟؟؟

وصلت سمعته إلى زملائه في العمل ... وبدأ بعضهم يضايقه ويتحرش به بالألفاظ ... فهو بأمانته في عمله يجعلهم يبدون مقصريين ومهملين .

لا يدري محمود ماذا يصنع !! ... أهي لعنة العشيرة والأهل ؟؟ .. فزملائه هم ناسه وطبقته ... ويسيئون إليه أيضا .. كما يفعلون في الحارة ..

خاطبه أحدهم في مرة قائلا : يا محمود دول ناس شبعانة ... دول ناس لاقت فلوسها في الأرض .. عايزك تفهمني .. إحنا لينا تار عند الناس دي .. راحوا يعيشوا وسابونا لكلاب السكك تنهش في لحمنا ...

محمود : يعني عايزني أعمل إيه ؟؟ أسرقهم يعني وإلا إيه ؟؟

زميله : مش للدرجة دي ... لكن ما تكونش ليهم زي العبد ...إحنا مش ناقصين إحساس بالنقص ...

محمود : أنا بأراعي ربنا فيهم ..

زميله : صدقني يا محمود ... إنت مش فاهم حاجة ... إنت غلبان يا محمود ... غلبان قوي ...

صدم محمود عندما سمع كلمة غلبان .. وتغيرت ملامحه وأشاح بوجهه عن زميله ...إنها لعنة لا يستطيع أن يتخلص منها .. إنه يكره تلك الكلمة .. حتي لو كانت تعني الطيبة المبنية على السذاجة ... فهو لا يرى نفسه ساذجا أبدا ...

إنه يعبر عن أخلاقه بالطريقة التي ترضي ضميره ولا يرضى لذلك بديلا ...

إقتربت حمامة من السطح وحطّت أمامه .. إنتبه لها مبتسما ..ما أبدعها وأجملها .. سبحان الخالق العظيم ...

كم أحسدك أيتها الحمامة وأنت ترتعين في خير الله ورزقه ... لا تملكين مالا ولا ملابسا .. ولا تريدين من الدنيا وما فيها سوى ملء جوفك ... ومع ذلك لا تجدين من يسميك الحمامة الغلبانة .. مع إنك غلبانة فعلا .. طوبة صغيرة بنبلة تسقطك من عرشك في السماء إلى الارض ...

ويذبحونك ... ويحشونك بالأرز والفريك ... وقد تتركين وراءك صغارك يموتون جوعا من بعدك .. ومع ذلك .. لست الحمامة الغلبانة .. بل هو أنا محمود الغلبان !!...

أتعلمين يا حمامة ... أنا لا أكره هذه الصفة بالأساس .. بل ما يقصدون بها .. فأنا أرى أننا كبشر جميعا ... لابد أن نكون مثل بقية خلقه ... غلابة ... محتاجينه دائما ...ولا نستغني عنه.. وقرأ الآية : أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ...صدق الله العظيم .



الباشا الغلبانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن