١

21.1K 265 10
                                    

الفصل الاول [
بيدين مرتجفتين فتحت ليندا صفحة الاعلانات في صحيفة واسعة الانتشار وراحة تبحث عن الاعلان الذي اثار مناقشات حماسية في المكتب حيث تعمل.
كان ذلك اثناء فترة الغذاء.واذا بعينيها تحدقان باعلان كتب بالحروف السوداء العريضة.
وتذكرت المشهد حين صرخت جوي , صغيرة الموظفات عندما قاطعت الحديث وقالت والدهشة تملأ وجهها:
"آه ! شيء لا يصدق ! انظروا الى هذا الاعلان ,هنا فوق , في اعلى الصفحة ."
انزعجت يولاند كيرز من هذا التصرف الوقح وهزت كتفيها وقالت بلهجة لاذعة و ناعمة :
"هل يجب عليك ان تقاطعينا كلما قرأت اعلانا عن حفلة موسيقية صاخبة ."
اجابت حينذاك جوي قائلة :
"تبا لموسيقى البوب الصاخبة! على كل حال , لا يمكنك ان ترشحي نفسك, فالمطلوب فتاة شقراء ذات عينين زرقاوتين."
سألت يولاند ببرود:
"ترشيح نفسي لماذا ؟ولاي سبب؟"
لهذه الوظيفة ! لكن مهما كان الامر فالوظيفة لا تناسبك."
وبفضول قوي اقتربت بقية الفتيات واعلن معا:
"ما القضية؟"
ناولتهن جوي الجريدة وقرأت احداهن بصوت ساخر وببطء الاعلان الذي يقول :
"عرض عمل لفتاة انجليزية ,شقراء وحسب, وظيفة تؤمن لها استقرارا ماديا طيلة حياتها .يجب ان تكون حافظة للسر ومطيعة ووديعة ,تقبل الطلبات لمن تبدي استعدادها لتحمل اعباء الاسرة .ولأخد موعد,الاتصال برقم الهاتف اعلاه ."
بعد الدهشة ,دوت قهقهة عامة داخل المكتب .واكدت احدى الفتيات قائلة:
في ايامنا هذه ,هذا النوع من الاعلان لايمكنه ان يخدع أي فتاة مهما كانت .لا شك ان صاحب الاعلان فقد عقله ."
قالت يولاند:
هذا رأيي ,انا أيضا. ربما يعتقد انه بامكانه شراء كل ما يريده بالمال . ربما كان صاحب الاعلان مهووسا يبحث عن فتاة شقراء ليجدد حياته."
اجابت فتاة أخرى :"لا,إنها مزحه, حتى المهووس لا يمكنه ان يجهل ان نساء اليوم لسن ساذجات خصوصا في لندن."
الضحك يعلو من جميع الاطراف.وجوي الحالمة كانت تحدق بليندا بامعان ثم قالت:
"لااعرف. ربما ليندا تتمتع بهذه المواصفات ."

كانت ليندا مسترسلة في افكارها ,فلم تلتقط من الحديث الجاري سوى القليل .فاهتمامها من نوع آخر,اذ كانت تتساءل بقلق كيف ستتمكن من دفع المصاريف الباهضة التي تفرضها عليها دار الحضانة حيث وضعت اختها الصغيرة ويندي .
وكانت مديرة دار الحضانة قد اعلنت لليندا صباح اليوم قائلة:
"اني اسفة حقا انسة باين.نحن مضطرون ان نزيد عليك جنيها استرلينيا واحد كل اسبوع,وذلك ابتداءا من الاسبوع المقبل .انه التضخم المالي .هذا يؤسفني لكنه اصبح لابد منه."
وخلال يوم بكامله كانت ليندا تطرح على نفسها الاسئلة المختلفة.
اين ستجد هذا المبلغ الاضافي؟الم يسبق ان خففت مصاريفها الى ادنى درجة خصوصا في ما يتعلق بالغذاء؟ كانت تبدو سريعة العطب من شدة نحول جسمها ,وكانت تتلقى الانتقادات بهذا الشأن من معظم العاملين معها.
فجأة تنبهت ليندا الى ما يدور حولها ,فقد ران الصمت بعد ملاحضة جوي.وشعرت بثقل النظرات الموجهة اليها ,اذ يبدو انهن ينتظرن ردها
"ماذا؟عما تتكلمن؟المعذرة, فلم اكن اصغي ."
"لم يرد احد, باستثناء يولاندالتي هزت كتفيها واكتفت بالتذكير قائلة:
"ربما انت على حق ,يا جوي.قيل لي ,انه في الاسبوع الماضي ,لبت ليندا دعوة هذا الرجل الجذاب الذي يدعى جايسون."
احمر خدا الفتاة واعلنت بصوت يرتجف غضبا:
"ولم لا؟لقد امضيت برفقته سهرة ممتعة ,وبرهن السيد عن لطف كبير في ان يدعوني الى منزله ."
قالت لورا باستغراب:
اتسمين ذلك لطفا! كانت تجول في راسه افكار مختلفة .لا اعرف كيف تصرفت معه ,لكن بالنسبة اليه ,كان لقاؤكما خيبة واخفاقا تامين ,حتى انه صرح في اليوم التالي انه للمرة الاولى في حياته يحتار في معاملة امرأة من هذا النوع المتحفظ."
احست ليندا بقنوط وجرح شعورها لسماع ضحكات زميلاتها في المكتب,ضحكات ساخرة,هازئة.ولما بدأت الفتيات بالاستعداد لممارسة عملهن من جديد بعد استراحة الغداء ,اقتربت منها اكبرهن سنا وقالت:"لا تتوتري لهذه الامور التافهة .ربما لا تزالين ساذجة ولكن هذه البراءة التي تتحلين بها هي مصدر قوتك."
انها الان في بيتها وعيناها مسمرتان في الاعلان وشعرت بالاشمئزاز لتذكرها ذلك الحوار الذي جرى ظهر اليوم في مكتب عملها.وفجأة نسيت كل شيء اذ بدأت ويندي بالبكاء .اسرعت ليندا نحو سرير الطفلة لتؤانسها بسرعة لئلا يعلو صراخها وتزعج الجيران.كانت اسنانها تبدأ بالبروز ولا شيء يسكن الامها خصوصا في الليل .
حملت الطفلة وراحت تذرع الغرفة ذهابا وايابا تؤرجحها وتتحدث اليها وشوشة.ولحسن الحظ خفتت حدة صراخها وتدريجيا هدأت الطفلة,غير ان ليندا استمرت في المشي لكن ببطء خشية ان تعود الفتاة الى الصراخ وتقلق راحة الجيران.
وراحت افكارها تأخدها بعيدا ,الى الوراء الى قبل سنة ,الفترة السعيدة حيث كان مستقبلها يبشرها بشتى الاحلام الجميلة .ولم يبق من هذه السعادة الماضية الا ذكرى بعيدة.
وراحت تتخيل تلك الليلة عندماجاءت والدتها في المساء لتخبرها بقليل من الانزعاج و الخجل :
"ليندا,والدك وأنا لدينا خبر سعيد نريد ان نزفه اليك "
"وما هو ؟"
وكانت ليندا في هذه اللحظة تتفحص الاعلان في احدى الصحف المحلية, بعد ان نالت شهادة السكريتاريا بتفوق .فقالت لها والدتها :
"ضعي هذه الصحيفة جانبا,يا صبيتي, واصغي الي بانتباه ."
رفعت ليندا عينيها ولاحظت ملامح والدها المنفعلة ,فوضعت الصحيفة جانبا وسمعت والدتها تقول :
"لدى والدك شيء مهم يريد ان يفصح لك به "
قال الوالد للوالدة :"لا,قوليه انت"
"لا ,انت"
نهضت ليندا من مقعدها وقالت باستغراب :
"آه,هيا! عليكما ان تقررا من منكم سيعلن النبأ ,او ربما بالاحرى يمكنكما ان تعلناه معا ."
وهذا ما فعلاه .اعلنا بصوت واحد ,مليء بالفخر .
"اننا ننتظر مولودا سعيدا"
وفي ذهول حقيقي ,حدقت ليندا فترة طويلة في والديها, كانهما آتيان من كوكب آخر.كانت عائلتها الصغيرة المؤلفة من ثلاثة اشخاص على قدر واسع من الانسجام والاتحاد ,وظلت على ماهي مدة 19 سنة وهي الان مندهشة اذ تراها تتسع لمخلوق جديد آخر .لكنها سرعان ما ندمت على انفعالها الاناني لمجرد رؤية خيبة الامل ترتسم على وجهي والديها فاسرعت بالقول لتطمئنهما قائلة :
"هذا خبر رائع! حلمت مرارا ان يصبح لي اخ او اخت ."
تنفست والدتها الصعداء واطلقت زفرة بكاء وفرح .
فامسك والدها بكتفي زوجته وضمها اليه بحنان وقال :
"ألم أقل لك أنها ستسعد للخبر "
غير ان هذا الفرح بدأ يتخلله بعض القلق , في الاشهر اللاحقة .واصبحت والدتها تزور الطبيب مرات عديدة كلما اقترب موعد الانجاب. حتى افصح الطبيب مؤخرا عن خطورة الوضع .
ولما حان موعد الانجاب , انتظرت ليندا مع والدها في قاعة الانتظار في المستشفى ساعات طويلة .واخيرا جاء الطبيب عابس الوجه واعلن الخبر الرهيب.
"اني اسف يا سيد باين ويا انسة ليندا ,لقد بذلنا جهدنا ....لكننا تمكنا من انقاذ الطفل ."
"لن تنسى ليندا ابدا تعبير وجه والدها الكئيب الذي ارتسم في نفس اللحظة وظل اسابيع طويلة بعد وفاة زوجته في حال تشبه الخمول ,يرد بالرغم منه على اسئلتها .وبعد فترة غير بعيدة جاء شرطي ليعلمها بأن والدها قتل في حادث سيارة .
لم تسنح لها الفرصة للحسرة والحداد اذ ان ويندي الصغيرة كانت بحاجة الى الاهتمام في كل لحظة .
وبدأت المشاكل تنهر عليها.فاضطرت الى أن تبيع المنزل ومحطة الوقود حيث عمل والدها سنوات عديدة ,لتفي الديون والرهونات الكثيرة ,ولم يبق معها الا المال الكافي لتسديد المصاريف الضرورية ,الى ان وجدت غرفة صغيرة استأجرتها ودار الحضانة لويندي قرب مركز عملها , وهذا لم يكن باختيارها بل اضطرت الى قبوله ,لان الحاجة المادية بدأت تهدد اسقرارها .
وضعت ليندا ويندي في سريرها .ثم جلست على الكرسي امام الطاولة وراحت تقوم بحسابات المصاريف المتوجبة عليها .
وخرجت بنتيجة صعبة ,اذ عليها ان تخفف مصاريفها الى ادنى درجة لتتمكن من دفع أجرة دار الحضانة.
منذ الان لن تذهب عند المزين ,ولن تستعمل ادوات الزينة وستصلح احذيتها قدر الامكان حتى لا تحتاج الى شراء حذاء جديد . ولحسن حظها ,فشعرها الاشقر الطويل مجعد بشكل طبيعي وليس بحاجة الى شامبو خاص.
لكن لا يمكنها ان تحرم نفسها من الحساء وسندويش الغداء,والا لما تمكنت من التركيز .ورغم ذلك يشكو مديرها من النسيان الذي اصابها اخيرا وهي تعرف ان ذلك عائدالى نوع غذائها البسيط .
وجهت نظرها باتجاه ويندي .وبفخر راحت تتأمل فرحة ,خديها البارزين الحمراوين وجسمها الممتلئ وتبتسم .
فجأة عبست لدى سماعها صراخ الطفلة المتألمة .وبعد بضع لحظات دوى صراخها في ارجاء الغرفة .
"آه ,لا! عادت للصراخ من جديد !"
تناولت ليندا اختها بين ذراعيها لكن الطفلة لم تتوقف عن البكاء .ولم تكف عن الصراخ الا بعد ربع ساعة , وكانت تهم بوضع الطفلة في السرير من جديد حينما سمعت طرقا على الباب ,

فتحت ليندا الباب وامام العتبة وقفت صاحبة المنزل غاضبة.
ثلعتمت ليندا وقالت في حيرة وارتباك:
"انا متأسفة سيدة كولينز ."
اعلنت صاحبة المنزل بصوت قاطع :
"انا كذلك, يا انسة باين. عليك ان تغادري هذه الغرفة خلال اسبوع من الان .لقد تحملت الكثير ,لكن الامر لم يعد يطاق ولا يمكنه الاستمرار .جارك ينزعج من بكاء الطفلة المستمر ويهدد بالذهاب. انا آسفة ,صدقيني ,لكن سأضع هذه الغرفة برسم الايجار ابتداء من نهار السبت المقبل."
ادارت ظهرها وولت تاركة ليندا من دون ان تضيف كلمة .اغلقت الباب بهدوء الان ويندي نائمة بسلام .
.
نظرت ليندا بامعان وحنان الى وجه اختها البريء فاغرورقت عيناها بالدموع واسرعت تضعها في السرير.ثم جلست الى طاولتها وخبأت وجهها بين ذراعيها وراحت تبكي ,تاركة العنان لحزنها . لقد صبرت كثيرا هذه السنة الاخيرة وبات حزنها كبيرا .في احد الايام ,اقترحت عليها يولاند ان تضع الطفلة في دار الايتام .لكن تلك الفكرة كانت ترعبها .اما الان فلا بد لها من الرضوخ للامر الواقع فهي ترى ان هذه الفكرة هي الحل الاخير لمشاكلها.
وببطء رفعت رأسها وراحت تنظر في انحاء الغرفة ذات الاثاث الحقير. بساط بال و مقاعد مهترئة وسرير ومغسلة و غاز صغير .لكن بالرغم من مأساتها كانت تمثل هذه الغرفة كل استقرارها ,اذ كانت تأويها هي وويندي... ويندي لا يمكنها ان تقتنع بضرورة التخلي عنها انه اسوأ الحلول .ورفضت هذه الفكرة بقوة اليأس
كانت الصحيفة موضوعة على الطاولة فتناولتها ليندا وراحت تتفحصها بعين يائسة .فجأة توقفت على جملة تحتوي كلمات مصيرية :
"تقبل تحمل اعباء الاسرة "
وبعنف امسكت الصحيفة وهبطت السلالم بسرعة وتوجهت الى حيث الهاتف.
بيدين مرتجفتين اضطرت ان تدير الرقم ثلاث مرات قبل ان تنجح .وبصوت عديم الثقة طلبت موعدا فاعطاها المتكلم عنوانا قبل ان يقفل الخط بقوة .
ظلت مسمرة النظر في الاعلان حيث كتبت مسرعة :الموعد:السبت الثانية والنصف ظهرا فندق امبيريال غرفة 1005
كان ذلك نهار الغد.

روايات احلام/عبير:خدعه مصيريهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن