القسم التاسع

10 0 0
                                    

سأله بيوتر مغتماً : (( وهل هذا كل ما تستطيع أن تقدمه لي ؟ كنت آمل في الحصول على مال . أما أنت فلم تعرض علي سوى حجر )).

- أظن أن مائة ألف غولدن تكفيك كبداية ، و إذا أحسنت استخدامها فسرعان ما ستصير مليونيراً )) .

هتف الفحام المسكين مذهولاً : (( مائة ألف ؟ كف عن هذا . إن قلبي يدق في صدري بجنون ، فسرعان ما سيودع أحدنا الآخر . حسناً يا ميخيل ، أعطني الحجر و النقود ، و انزع من قفص صدري هذا القارع )) .

رد الهولندي ، و هو يبتسم بلطف : (( كنت أعلم أنك فتى عاقل . فلنذهب و نشرب كأساً أخرى ، ثم سأعد لك النقود )) .

جلسا مرة أخرى خلف الطاولة في الغرفة الأولى و راحا يشربان إلى أن غط بيوتر في نوم عميق .

أيقظ بيوتر الفحام صوت ترنيمة نفير الشرف المرحة . و هاكم - إنه جالس في عربة فاخرة تسير على طريق عريضة . و حين أطل من النافذة رأى خلفه في الدخان خطوط محيط شفارتسغالد على الأفق . لم يصدق أول الأمر أنه هو الجالس في العربة و ليس غيره ، لأن الثوب الذي عليه لم يكن هو نفسه الذي ارتداه أمس ، لكنه ظل يذكر بوضوح ما حدث معه ، فامتنع في نهاية الأمر عن إجهاد فكره ، و هتف قائلاً : (( لا لزوم للتفكير - هذا أنا ، بيوتر الفحام ، و لست أحداً آخر )) .

كان عجبه من نفسه شديداً لأنه لم يحزن و هو يغادر أول مرة موطنه الهادئ و غابته ، التي عاش فيها طويلاً ، و لأنه قادراً على أن يعصر و لو دمعة واحدة من عينيه ، أو زفرة واحدة
من صدره ، و هو يتذكر أمه التي بقيت وحيدة من غير قطعة خبز . صار كل شيء الآن سيان لديه ، و تذكر : (( آه ، نعم . تخرج الدموع و الزفرات و الحنين إلى الوطن و الحزن من القلب ، أما ما لدي الآن ، و الحمد للهولندي ميخيل ، فهو قلب بارد من الحجر )) .

وضع يده على صدره و وجد أن كل شيء هناك هادئ لا يتحرك . حينئذ أخذ يفكر : (( سأكون سعيداً لو أنه وفى بوعده بشأن المائة ألف غولدن كما وفى به بشأن القلب )) . شرع يفتش العربة ، فوجد كثيراً من الأثواب المختلفة التي ما كان ليحلم بها ، لكنه لم يعثر على النقود في أي مكان ، ثم وقع أخيراً على حقيبة سفر ، ففتحها و رأى فيها الكثير من آلاف التاليرات الذهبية ، و إيصالات لبيوت التجارة في المدن الكبيرة . قال بيوتر لنفسه : (( ها قد تحققت أحلامي )) . ثم استوى على نحو مريح في ركن العربة المسرعة إلى البلاد البعيدة .

طاف في الدنيا عامين ، و كان ينظر من نافذة العربة ذات اليمين و ذات الشمال ، فينزلق بصره على المنازل التي يمر بها ، أما حين كان يتوقف في إحدى المدن فلم يلحظ سوى لافتة الفندق ، ثم يشرع يزور الأماكن المشهورة فيها ، لكن شيئاً لم يكن يدخل الفرح إلى نفسه - لا اللوحات
و لا الأبنية و لا الموسيقى و لا الرقص . كان قلبه الحجري عديم الإحساس بأي شيء ، أما عيناه و أذناه ففقدت القدرة على تلقف الروائع ، و لم يبق له من المباهج سوى الأكل و الشرب و النوم . عاش على هذا النحو هائماً في الدنيا بغير هدف ، يأكل من أجل التسلية و ينام بسبب من الملل . و كان من وقت إلى آخر يتذكر كيف عاش حياة ربما أمرح و أسعد ، حين كان فقيراً ، مضطراً إلى العمل كي يطعم نفسه ، فيستمتع بمنظر الوادي الجميل ، و بسماع الموسيقى ، وبالمشاركة في الرقص ، و يفرح ساعات طوالاً بانتظار الطعام البسيط الذي ستجلبه أمه له إلى حفرة الفحم . حين راح يفكر بالماضي على هذا النحو بدا له من غير المعقول أنه ليس قادراً الآن حتى على الضحك ، مع أنه كان يقهقه لأتفه مزاح سابقاً . صار يكتفي بأن يلوي فمه من أجل المجاملة حين يضحك الآخرون . أما قلبه فلم يكن يمرح و لو قليلاً . صحيح أن الهدوء ملأ روحه لكنه لم يكن راضياً ، فدفعه الملل و الاهتياج و الحياة الخالية من الفرح ، و ليس الحنين إلى الوطن أو الحزن ، إلى العودة إلى منزله أخيراً .

حين خرج من ستراسبرغ ، و رأى غابته المعتمة في البعيد ، و صار من جديد بالشفارتسفالديين ذوي الجوت البشوشة المكشوفة ، و حين وصلت إلى مسامعه الأصوات التحزثة بلغته الأصلية ، التي كانت عالية و صاخبة ، لكنها حلوة النغم ، أمسك قلبه بيده لا شعورياً ، فقد راح الدم يجري في عروقه سريعاً ، و خيل له أنه مستعد لأن يفرح و يبكي في الوقت نفسه - لكن يا له من غبي - فقلبه من حجر ، و الحجار ميتة لا تضخك و لا تبكي .

كان أول ما فعله هو أنه زار ميخيل الهولندي ، الذي استقبله بالترحاب نفسه .

قال له بيوتر : (( لقد سافرت في الدنيا يا ميخيل ، و رأيت الكثير ، غير أن هذا كله سخف ، و لم يدخل إلى نفسي سوى الملل . أنا أعترف بأن قطعتك الحجرية ، التي أحملها في صدري ، تحميني من أشياء كثيرة . فأنا لا أغضب و لا أحزن أبداً ، لكنني في مقابل ذلك أعيش نصف حياتي . ألا تستطيع أن تحيي هذا القلب الحجري و لو قليلاً ؟ و الأفضل من ذلك أن تعيد لي قلبي السابق . لقد اعتدت عليه في أعوامي الخمسة و العشرين ، و إذا ارتكب الحماقات في بعض الأحيان فإنه مع ذلك صادق و مرح ))

انفجر روح الغابة ضاحكاً بمرارة و غضب ، و أجاب بيوتر قائلاً : (( سيعود إليك يا بيوتر مونك حين يحين أجلك ، و حينئذ ستقتني من جديد قلبك الطري و العطوف ، و ستشعر بما سينتظرك - الفرح أو الألم . لكن هنا ، على هذه الأرض ، لن يكون ملكاً لك . لقد سافرت على هواك يا بيوتر ، لكن الحياة التي عشتها لم تكن نافعة لك . أقطن في مكان ما من هذه الغابة . و ابن بيتاً ، و تزوج ، و دع نقودك تدور ، فما ينقصك هو عمل حقيقي . و ما أصابك الملل إلا بسبب من الكسل ، و ليس بسبب من قلبك البريء )) ....

فهم بيوتر أن ميخيل محق حين تكلم على الكسل ، و عقد النية على أن يضاعف ثروته . أهداه ميخيل مائة ألف غولدن أخرى و ودعه كما يودع صديقاً طيباً .

سرعان ما أشيعت أقاويل في شفارتسفالد مفادها أن بيوتر الفحام ، أو بيوتر المقامر ، قد عاد من البلاد البعيدة . وهو الآن أغنى من السابق كثيراً . سارت الأمور هذه المرة أيضاً كما يحدث في الدنيا منذ قديم الزمن ، فكان يكفي بيوتر أن يبقى بغير قرش واحد حتى يدفعوه خارج حانة (( الشمس )) . أما الآن ، فلم يكد يضهر هناك من جديد في أول أمسية أحد حتى تسابق الحاضرون جميعاً ليشدوا على يده و يمتدحوا حصانه ، و يسألوه شتى الأسئلة عن رحلته ، و حين جلس ليقامر بالتاليرات الرنانة مع إيزيخيل السمين راحوا ينظرون إليه باحترام أكبر من ذي قبل .

غير أنه لم يعد يمارس الآن صناعة الزجاج ، بل صار تاجر أخشاب ، و كانت هذه المهنة الجديدة غطاء فقط ، إذ كان عمله الرئيسي هو شراء القمح و المراباة ، فصار نصف سكان شفارتسفالد مدين له شيئاً فشيئاً . راح يقرض النقود بفائدة عشرة في المائة ، أو يجبر الفقراء على شراء الحبوب منه بأسعار أغلى بثلاث مرات إذا لم يسددوا ما عليهم فوراً . ربطته الآن أواصر صداقة وثيقة مع آمر المنطقة ، و إذا ماعجز أحدهم عن دفع الدين للسيد بيوتر مونك في الموعد المحدد تماماً فإن الآمر و مساعديه كانوا ينطلقون على جيادهم إلى المدين، فيثمنون منزله و ممتلكاته و يبيعون كل شيء برمشة عين ، ثم يلقون بلأب و الأم و الأطفال خارجاً في مهب الريح.................. .........................................





القلب الباردحيث تعيش القصص. اكتشف الآن