الفصل الاول

10.5K 236 41
                                    

سلسلة الاقليم السادس                 
                        الجزء الثالث                        
                       اقليم القمامة ..                      

( علي )

صوت قطرات المهاء وهي تهطل من السقف ببطئ لتندمج مع تلك البعقة التي سبقتها وتكونت على الارض .. الظلام الذي احاط بالمكان ولكنه لم يغطي الزاوية التي وضع بها شمعة لتنير جزءا بسيطا من هذا المخزن .. يتهاوى لهيبها بفعل الرياح التي تدخل بسرية عبر فتحات الباب الحديدة ... اما هي فقد كانت امامي تبكي بصمت تحاول ان تكتم شهقاتها عني .. نظرت لساقها التي تمدها على الارض امامها وقد تبللت اللفافة التي ربطت بها ذاك الجرح بالدماء ... سألتها وانا امد يدي وامسح ساقها البارد : الم تندمي ؟.
بلعت ريقها وكتمت غصتها لتجيبني : لا .. بس خايفة عليك .
ابتسمت لأقترب اكثر واضمها لصدري فتشبثت بي لتبكي بصوت عالي كأنها تمنعني عن الرحيل .. قلت وانا امسح على شعرها : تصدقين اني مومخايف .. ماعتقد حكون اسعد من اني اموت واكو شخص بهالعالم صدق حيحس بغيابي ويلاحظ اني جنت موجود فعلا ..
قهقهت بخفة وانا ابعدها عن صدري لأرى وجهها وارفعه الي قائلا : انتي شايفة احسن من هيج انتصار .. ان بنت اكثر انسان اذاني تحبني لهاي الدرجة .
قبلت راحة يدي وقربتها من وجنتها الرطبة قائلة : مرح تموت .. مستحيل .
ابتسمت قائلا : بما انو الوقت طويل واحتمال تكون هاي اخر مرة نسولف بيها فخلينا نحجي .. احجيلج عني هالمرة الحقيقة كاملة .
......

في عام 2017 .. وبعد تدهور الاوضاع في بلادنا .. وهزيمة داعش وتحرير تلك المناطق التي كانت قد احتلتها .. طالبت بعض المحافظات وبعض السياسين بتقسيم العراق الى اقاليم .. اجتمعت الدول المجاورة وايضا اقيم اجتماع للدول العظمى لتحديد مصير يخصنا نحن ... كشخص لايفهم في السياسة استنكروا هذه القرارات التي تتخذ بدلا منا .. جدتي ترجمت الامر قائلة بسخرية كيف لسكان الحي ان يقرروا ماسنفعله في منزلنا نحن !.. هذا كان رأييها في التقسيم .. بينما كان ابي من اشد المعارضين لهذه الفكرة ولاسيما انه رجل وطني للغاية افنى حياته في القضاء وفي اصدار احكام عادلة .. رغم الفساد الاداري الذي احاط به الا انه كان متسمكا بميزان العدل .. مؤمنا ان زهرة وسط القمامة احيانا يكون لها فائدة .. كان ابي يدخن بشراهة وهو ينظر للاخبار بقلق يحاول ان يسخر مما يحدث قائلا : مستحيل احنا وطن واحد طول عمرنا عايشين سوية شون يفرقونا .
جادلته امي وهي تقول بعدم اهتمام : خلينا نتقسم خل نخلص .
كنت انا مؤيدا لأبي رغم اني عمري لم يكن يتجاوز سن الثالثة عشر ولكني ابي كان قدوتي .. امنت بكل شئ فعله هو .. بل وددت لو انني اصبح مثله عادلا .. لايخاف من قول الحقيقة وتطبيق العدل .. هو كل حلمي .. كنت احاول ان اقلده بشخصية مراهق على وشك البلوغ مندفع ..
ذات يوم كنت جالسا اعبث في جهازي اللوحي في غرفتي .. ازعجني صوت صراخ ابي وامي .. زفرت ونهضت من مكاني سائرا الى مصدر الصراخ لأفرض وجودي كمراهق يحاول ان يثبت وجوده ويتدخل فارضا هويته .. سرت باتجاه غرفتهما التي كانت الباب مشرعة على مصرعيها .. وقفت على بعض امتار قليلة لأستمع لأمي التي بدت ثائرة للغاية وهي تجادل ابي : اقبل بالفلوس الي اطوكياها عدنا ولد نريد نربيه .
كان ابي جالسا على طرف السرير يحاول ان يكظم غضبه .. قال لها بصبر : شلون تريديني اخذ رشوة .. اذا متت شون اقابل وجه ربي !.. شلون اوكل ابني فلوس حرام ؟.
تخصرت امي لتهدده قائلة : يعني كم مرة هددوك وقالولك اذا ماتخفي الادلة العندك حيموتوك .. ليوين تريد توصل ؟.
نهض وهو يجز على اسنانه لينظر لها بغضب قائلا : للعدل .. لحد ما هذولة الكلاب ياخذون جزائهم .
قهقهت امي بسخرية قائلة : انت وين دتحجي البلد كله خربان وكلها تاخذ رشوة جاي انت حتصلحه .
حينها قال ابي جملة نحتت في ذهني وجعلتها منهجا لأسير عليه : اي اني الي حصلح البلد .. لو كل واحد التزم بالي عليه جان الدنيا بخير .. فرد واحد اله تأثير على كل شي .. ومو معناها اذا الموزين يعم اصير مثلهم .. واذا الكل زبالة فأني الي حنظف هالزبالة .
....
رغم صغر سني حينها الا انني شعرت ان تلك الكلمات لها قيمة وتأثير رغم جهلي بها حينها ... ولكنني حفظتها .. بل كررتها في ذهني ...
....

في يوم 22 فبراير  2017 .. كنت في المطبخ جالسا امام طاولة الطعام لاتناول فطوري .. بينما امي وقفت تعبث بهاتفها المحمول بريبة .. دخل ابي للمطبخ وهو يرتدي قميصه الابيض دون ان يغلق ازراره .. نظر لأمي متسائلا : مريم احد دخل مكتبي ؟.
بسرعة وضعت امي هاتفها على منضدة المطبخ قائلة بتلعثم : أأ.. لا حبيبي محد دخل .
لوى ابي شفتيه وهو يحك رأسه ليتسائل بحيرة : لعد ملفاتي وين راحوا .
قالت امي وهي تفرك يديها ببعضهما : يجوز نسيتها بالشغل .
اومأ ابي برأسه بحيرة ليقول : صح .. اني حكمل لبس واطلع .
وخرج ابي من المطبخ بينما انا مستمر في تناول فطوري اراقب كل شئ دون ان اعي .. بسرعة وفور خروج ابي من المطبخ امسكت امي بهاتفها لتضعه على اذنها وهي تقرب يدها الثانية من فمها قائلة : اي اي اخذت الملفات لتخاف .. قتله الملفات ضايعة مرح يدري اني اخذتهم .
اومأت برأسها ووضعت الهاتف جانبا .. نزل ابي من الطابق العلوي وهو مستعد بكامل اناقته ككل صباح ليمد رأسه عبر باب المطبخ قائلا : يلا اني طالع يا الله .
ابتسم الي وسار ليخرج .. شئ دفعني للحاق به .. لاخباره ان ذاك الشئ الذي تبحث عنه هو عند امي .. سرت خلفه وانا اناديه وهو يخرج : بابا .. بابا .
لم يسمعني وخرج ليركب سيارته .. جريت عبر الحديقة وانا اناديه : بابا الملفات يم ماما ..
التفت الي وهو يدير مفتاح السيارة بيده الاخرى واختفى !!!...
لحظة الانفجار ليست كتلك التي نراها في الافلام .. وحتى ان لا احد ان يستطيع وصفها .. هي لحظة صمت طويلة .. بل ربما شئ اقل من الثانية يتوهج ضوء كبير ليعمي بصرك .. هواء وضغط قوي يدفعك لجهة بعيدة ليصدر بعدها ذاك الصوت العالي .. حتى تصمت ولاتستمتع لشئ بعد ذلك .. سكون ..
بين الموت والحياة ثانية فقط .. ثانية تفرق بينهما !..
سؤال يطرح بعد تلك الاعراض !.. هل مت وانتهت تلك الحياة القصيرة !.. خوف كبير لو كانت الاجابة الاولى هي التي وردتك !.. اهذا يعني ان روحي فارقت جسدي وتركت جميع من احبهم !.. ولكن لم تجد لسؤالك اجابة حينها لانك تكون في حالة من اللاوعي .. المرعب والاكثر جنونا في كل ماسبق هو ان تستيقظ على تراب يرش على جسدك وتدرك انك كنت اضعف من ان تستوعب ان حياتك ورحلتك انتهت الى هنا !.. وان وقت الكلام انتهى .. الافعال رحلت .. والان انت في وضع لامفر منه ..
ولكن هناك نقطة جيدة ورائعة في احساسك بأن التراب يغلفك .. لأن هذا يدل على انك قد مت بشكل سليم وانك محظوظ بجسدك الذي بقي متماسكا .. على عكس ابي الذي ظلت اجزائه تطوف باحثة عن بعضها كقطع اللعبة لتكون جزئا يستحق لفه في التراب ...
...
ولكنني كنت محظوظا .. واستيقظت لأجد امامي وجه قاتلة ابي وهي تبكي .. التفت لأرى تلك الغرفة البيضاء التي اكره رائحتها .. اكان حلما !.. هذا اصعب سؤال يمكن ان يسأله الشخص الذي يتعرض لموقف كهذا !..
نسأل ونحن نرغب بأجابة واحدة .. نسأل ونحن نهمش الواقع وجميع ماتعرضنا له .. نسأل ونحن ندرك ان الاحلام قليلة الحيلة في وضع هذه المؤثرات الخارقة وكأنها واقعا .. نسأل لنكذب ماحدث ..
- بابا وين ؟.
كأجابة اعتادها اقراني من بلدي ..
- بابا عند الله .
سألت الله كثيرا لم تحديدا اخذ ابي !.. لم هو ولم اختارني انا ليحرمني منه .. سألته وانا جاهل .. وانا ضعيف محطم .. سألته بقلة حيلة وانتظرت اجابة لم اتلقها ..
....
مرت اشهر على وفاة ابي حتى دخل ذاك الرجل حياتي لأول مرة .. ربما هو كان متوغلا بها ولكنني لم اعي له .. كان كالورم ينتشر فيها دون ادراك .. كالسم لايمكن السيطرة عليه سوى انه قاتل .. مميت ..
استنكرت ارتداء امي للالوان الفاقعة وتركها للون الاسود رغم ان والدة صديقي مازالت ترتدي اللون الاسود حزنا على زوجها الذي توفي من ثلاث اعوام .. وكجدتي التي مازالت ترتدي الاسود حزنا على جدي الذي توفي من عقدين .. كنت جالسا بجوار جدتي المريضة على الاريكة تحتضنني بذراعها الايمن وتمسك المسبحة بيدها اليمنى .. جرت امي بأتجاه الباب كمراهقة بخطوات سريعة وهي تبتسم وتحرك شعرها الاسود ليتطاير في الهواء بطريقة استعراضية قبل ان تفتح الباب لذاك اللعنة .. دخل هو بابتسامة متأنقا .. لحيته مرتبة وشعره الاشقر ايضا .. عيناه زرقاء ولكنها ماكرتان .. كان يحمل بيده باقة من الزهور ناولها لأمي التي ضمته بشاعرية فائقة وهي تشكره بخجل عذراء .. اشارت اليه للدخول حيث دخل خلفه احد حراسه الذين كنت اراهم في الافلام .. طويلي القامة وعريضي المنكعين .. يرتدون السواد والنظارات المخيفة .. كأنهم اصنام .. كان احدهم يحمل علبة كبيرة .. وضعها ارضا وانحنى لسيده بالخروج .. بينما توجه هو مقتربا من جدتي التي بلدت ملامحها وهي تصافحه ببرود .. قالت امي وهي تشير نحوه : يلا حبيبي علي سلم ع بابا .
قلت لها باندفاع : ابوية ميت ومحد مثله .
ابتسم واقترب مني ليرتب على كتفي قائلا : اكيد اني مومثل بابا .. قولي عمو .
شعرت بخوف منه .. اشار باتجاه العلبة التي وضعت ارضا قائلا : جبتلك العاب .
وليت بوجهي لجهة اخرى اتجاهله .. ايظنني طفلا ليخدعني بألعاب !..
مر شهر وامي تعيش في العسل امامي معه ... يداعبها بجراءة وهما جالسان في نفس غرفة المعيشة معي .. كنت اشعر بالغيرة لانني لا اسمح لاحد بأن يمس امي سوى ابي .. وشعوري ان امي هي ملك خاص لي بعد رحيله .. اخبرته ذات مرة بتهكم : لتلزم ماما .. هي بس الي ميصير تمسكها .
قهقهت امي حينها ورمى هو كلمة بذيئة لم اكن استطيع فهمها حينها ولكنني ادركت معناها لاحقا .. ولكن امي ضحكت بشقاوة وقتها .. حتى انني بت اشعر انه يتقصد فعل ذلك ليذلني .. ليشعرني بالعجز ورجولتي لم تكتمل بعد .. ازدادت جرائته ليداعبها بجراءة اكثر امامي .. كنت افر فورا من المكان الذي يحضر به كي اتجنب مايضايقني ..
...
استمر كل شئ حتى يوم
الثامن والعشرون من يوليو 2017 ... التاريخ الذي غير مصائر الجميع !...
اعلنت الدول العظمى والمجاورة واهم السيادات في الدولة الموافقة بالاجماع وكأن الاجماع صادرا عن الشعب كله على قرار التقسيم للاقاليم .. حيث تم تعيين لجنة دولية مختصة لتخطيط للتقسيم بشكل حضاري ونظامي ..
كم احب هذه الشعارات واحب تطبيقهم لها حقا رائعين ... اجتمعت اللجنة التي تم استضافتها في بغداد العاصمة واستغراق نصف الخزنة كاجر وتحضير وطرق لللبروتوكول لأستقبال اللجنة فقط ...
قررت اللجنة ان تكون الاقاليم ستة .. كل اقليم يضم طبقة في المجتمع ..
الاقليم الاوليضم الرؤوساء وكبار المسؤولين .
الاقليم الثانيالعائلات الغنية جدا ورجال الاعمال .
الاقليم الثالثالاساتذة والاطباء والمهندسين والعلماء .
الاقليم الرابعالفنانين والاعلاميين .
الاقليم الخامسالمزارعين والحرفيين .
الاقليم السادسالفقراء والعشوائيين .
تمت الموافقة والتصويت على الاقاليم .. وايضا صرح رجال الدين بذلك واقنعوا الناس بفعل بعض الفتاوي وهمشوا الرسالة الدينينة الموجودة في كل كتاب انزله الله وهي ان البشر سواسية ...
تم منح مهلة للناس بالتوجه للدوائر الحكومية واخراج بطاقات شخصية جديدة تصنفهم على الاقاليم بناءا على الوظيفة والحالة المادية .. ووزعوا الدوائر المسؤولة عن كل اقليم بأخراج بطاقة شخصية لأصحاب الاقليم الواحد توحدهم .. البعض وجد السرقة فكرة رائعة لأن ينضموا للاقليم الثاني عن طريق ( الحواسم ) واصبحوا اغنياء بفعل ذلك ..
تم ايضا احضار خبراء جغرافيين ومهندسين من خارج البلاد ودفع تكلفة عظيمة اليهم لتخطيط حدود الاقاليم ... حيث تم تحديد ملتقى لكل تلك الاقاليم وهي نهر دجلة وهو الذي يمر على جميع تلك الاقاليم مهما اختلفت مساحتها ...
....

في يوم الحادي عشر من سبتمر 2017 وهو لم يكن مصادفة على ما اعتقد بأختيار هذا اليوم تحديدا ليتم اخراج الناس من منازلهم ونقلهم لأقاليهم التي يجب ان ينتموا اليها ...
...
رمت جتي الهاتف ارضا ليتكسر وهي تشتم امي التي انتمت لاقليم زوجها .. اقتربت من جدي خائفا لأقول : بيبي مرح نروح يم ماما نعيش بالاقليم الي رح تعيش بيه ؟.
ضمتني لصدرها بحزن وهي تمسح بيدها المتجعدة قائلة : لا حبيبي حنبقى هنانة بهذا البيت .. محد ياخذنا لغير مكان .
قالت محدثة نفسها : شلون قلبها انطاها وماخذتك .
...
لحظات من الحنان في احضانها لتنتهي بصوت عالي للباب وهي تدفع بقوة ويدخلها جنود مخيفين .. قال احدهم بتهكم لجدتي وخلفه توقف اتباعه : حجية لازم تطلعين من البيت .
صرخ جدتي وهي تضمني لصدرها : وين تودونا هذا بيتنا .. منعوفه .
قال الضابط وهو يجز على اسنانه لم يكترث للخطوط المنحوتة على وجهها قائلا : حجية فضينا يا تطلعين ويانا وتلمين غراضج بالعين والاغاتي يا نطلعكم بطريقتنا يلا عاد .
قال اخر كلمة وهو يصرخ بها .. شعرت بارتعاش جسدها فشددت على جلبابها بخوف .. استفزني تسلطه على عجوز مثلها وهو يرتدي بدلة من واجبات مرتديها حماية الوطن وكأن جدتي الضعيفة هي من اعداء الوطن لاتنتمي اليه ليتهكم هذا  .. لم يكن بيدها حيلة سوى ان تطلب مني ان اساعدها بسرعة بجمع اغراضنا البسيطة .. وضعت صورة ابي بحقيبة ظهري .. لملمنا اغراضنا وهي تمسك بيدي لنفارق المنزل .. ركبنا في باص اوى الكثير من  الاسر البائية .. الكثير من جيراننا الذين رفضوا الانقياد للهويات الجديدة التي تفرض التقسيم فكان مصيرهم الاقليم السادس .. من يعرض عن ذلك فمصيرهم القمامة !.. هذا ماسماه افراد بعض الاقليم الثاني اقليم القمامة .. كان البكاء والخيبة هو الذي سيطر على الباص العتيق .. صوت الاطفال الملح للعودة للمنزل .. وعيون الشيوخ العاجزة والرجال الذين ترجتهم زوجاتهم بالانقياد كي لايقتلوا .. علقت اعين الجميع بمنازلهم والباص يتحرك والعجز قد نشر في الباص كله .. اصوات تدعو الله تناجيه .. بعد ساعتين ونصف من البكاء المتواصل قضيتها في حضن جدتي توقف الباص .. وصلنا لأقليم القمامة وحقا كان كذلك ..
المناطق التي منحت للاقليم السادس هي مناطرة مدمرة كانت من الاساس لمهجرين وبعضها لاقت الكثير من العدوان .. منازل مهدمة وفارغة .. تلك المناطق التي عجزت الحكومة عن اصلاحها واخذت ثمن الاصلاح فقط لتتركها موطنا جديدا سمي بالاقليم السادس ...
اسماء المحافظات قد لغيت وخرائطها ايضا .. يمكنني ان اشرح فكرة التقسيم بأختصار وبصورة مبسطة .. خارجة العراق موجودة بمحافظاتها كاملة .. وضعوها واحضروا ممحاة قاموا بمسح الخطوط التي عبرت عن هوية كل محافظة .. واصبحت الخريطة صماء فارغة .. قطعة واحدة .. ارض جديدة .. مسحوا تلك الاسماء التي صنفت المناطق ايضا .. واحضروا قلما بالحبر الاحمر الممزوج بالدم .. ووضعوا خطوطهم الجديدة للتقيم وقسموا الاقاليم والمساحة على حسب الاولوية .. والاولولية تحتم المساحة الاكبر للاقليم الاول والثاني حيث تتيح لهم ببناء قصور واسعة وحدائق على مد البصر .. ولاسيما المناطق السياحية لتصبح اطلالة رائعة لقصورهم .. فكرة منصفة للغاية !..
.....
من المفترض ان نجد مكانا يأوينا جميعا .. ونخلق حياة وسط هذا الكم الهائل من الخراب .. ونحن لانمل سوى ثياب بسيطة !.. ولكن كي لا اكون ظالما ولا اظلم المسؤول الذي تلوى رئاسة الاقليم السادس فقد قام بتوفير خيم لنا كل خيمة تأوي ثلاث اسر .. لنقطن في العراء .. وكأن الارض جميعها اصبحت فارغة وبدأت البشرية من جديد .. كنت احاول ان اكون رجلا وانا احاول ان لا ابكي ولا ابين ضعفي امامها بل اكون مساندا لها ...
احد الرجال الصالحين وجدا منزلا نائيا يشبه بقية المنازل فقام بتنظيفه وترتيبه لنعيش به انا وجدتي ..
الاقليم لم يضم الفقراء فقط بل القمامة !.. المفكرين .. الوطنين الرافضين تقسيم ارضهم تم كبهم في سلة المهملات ..
في كل ليلة اكاد ان اموت الما ومعدتي تشكو وتصرخ تطالبني بأن البي طلبها وأأكل .. لم اذق في حياتي الجوع كما ذقته في تلك الايام .. رغم ان جدتي كانت تحاول ان تخرج من المنزل جاهدة للحصول على الطعام فتعود بالقليل .. وجدت مازرعه ابي بداخلي قد نمى قليلا لأجد نفسي اؤثر بطعامي من اجلها مكتفيا بالقليل ...
ايام مرت كالسم .. مرت وكأنها لم تمر .. مرت بمرورة .. كالحنضل .. وانا وهي نعيش في منزل مجرد من كل شئ .. ذاك الاثاث الذي كنت احاط بها والدفء في منزلنا عندما كنا على ارض واحدة ... العابي .. ثيابي .. طعامي .. من اجل قرار اقره البعض لايمكن ان يستوعبه من مثلي ومن هو اصغر مني !..
كانت جدتي تحاول ان تردد : رح تفرج .. تفرج ..
وامنت .. وانتظرت .. وازداد الامر سوءا حتى موت جدتي بسبب حرمانها من الادوية التي اعتادت على اخذها ..
في ذاك الصباح استيقظت دون ان توقظني هي نظرت للساعة الصغيرة التي تضعها بالقرب من فرشتها الارضية .. كانت تشير للحادية عشر ظهرا استنكرت عدم استيقاظها الى الان !.. اقتربت منها لأهزها قائلا : بيبي .. شو بعدج نايمة !.
لم تجبني .. بلعت ريقي بخوف من ان تتحقق شكوكي .. رفعت صوتي وهو يرتجف قائلا : بيبي !.. بيبي شبيج !..
هززتها بقوة صارخا : ردييييي علية .. لتمووووووووتين انتي همين .. لتموووووووتين ..
بدأت انتحب بكايا وانا اهزها : الله يخليج لتعوفيني بحدي .. بيبي حبابة لتعوفين ..
نهضت بسرعة لأسير خارجا من الغرفة .. فتحت الباب الخارجة متوجها للشارع صارخا : بيبتيييي ماتت .. احد يساعدني .
!!..
ولم اجد احدا يوليني اهتمامه .. لم اجد لندائي ملبيا دخلت مقتربا منها لأضعها على حضني منتحبا : لتعوفيني .. محد بقالي .. لتروحين انتي همين .. حبابة مالي غيرج .
خرجت من المنزل لأصرخ مرة اخرى .. دلفت مرارا وخرجت صارخا مرات اكثر حتى رأيته لأول مرة .. حتى بعث الي من السماء ..
توقف في الشارع ينظر الي بقلق دون المارة .. كان في نهاية عقده الرابع اقترب مني ليقف امامي .. بدأت انفاسي تتسارع عندما شعرت ان هناك احدا يهمه امري .. دلفت للداخل برفقته وانا اصرخ : شوف بيبتي .. الله يخليك لتخليها تموت .
وضع يده على رقبته ليتلف الي ووجهه واجم .. بلع ريقه لينهض قائلا : يا حتى ناخذها للمغسلة .
كانت تلك المرأة البدينة خالية الملامح التي تعمل مغسلة للاموات في المقبرة التي انشئت حديثا بعد زيادة الاموات منذ انتقال البعض لهذا المكان .. كانت تعمل بالمجان .. توقفت بجانبه انتظرها ان تغسل جدتي فشعرت بذراعه تحيط بكتفي .. التفت اليه بضعف فقال وهو ينظر امامه : ابجي .. موعيب الرجال يبجي .
فأنهرت باكيا تتسارع يدي لأمسح دموعي .. كانت تلك المرة الاولى التي اتعلم بها اصلاة على الميت .. رغم فقر الجميع في اقليم النفايات الا ان املهم الوحيد كان متعلقا بالسماء .. فصنعوا مكانا ليكون مصلى ومسجدا .. يناجنون به ربهم .. وقفت اصلي عليها كرجل وارش التراب لأطمرها كرجل ايضا ...
...

اقليم القمامةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن