الفصل الثاني

5.3K 173 21
                                    

الاقاليم بدأت تنهض ولاسيما اقليمي الاول والثاني .. كنت اشاهد عبر التلفاز الموضوع في احدى المتاجر اعلاناتهم وهي تذاع عن مشاريع لفلل سيتم تشيدها ومنتجعات سياحية .. ولكن تلك المشاريع الكبرى قامت على حطام منازلنا .. منازل كل من ترك ذاك المكان .. هدموا ذكرياتنا .. وازالوا هوياتنا .. لتستوي الارض ويبدأ عهدهم .. دفنونا ونحن احياء ليقيموا نهضة على جثثنا .. ليشيدوا الابراج بأجسادنا الواهية ..
ومازلت انا اتسول يوميا باحثا عن الطعام !.. ومازلت معدتي تعزف كل ليلة .. رأيته مرة اخرى في احدى الليالي وانا اجوب الشوارع الفارغة باحثا في القمامة عن بقايا طعام .. رأيته يسير مقتربا نحوي متبسما .. اشار للقمامة ليسألني : تدور ع عشا ؟.
نظرت للارض بخجل قال وهو يتجاوزني سائرا : تعال .
التفت لأتبعه حتى وصلنا الى احدى الورش .. انحنى ليفتح القفل ثم رفع الباب للاعلى وفتحه ليدخل .. دلفت للداخل خلفه قدم لي الطعام لأبدأ بالاكل بشراهة .. قال اثناء تناولي للطعام : حتى تاكل لازم تشتغل .
رفعت رأسي لأنظر له باستنكار .. قال متبسما : من باجر الفجر تجي تشتغل هنا بالورشة .
ابتسمت كأنني وجدت كنزا .. وفعلا كان كنزا لاينتهي ..
...
اتذكر المرة الاولى التي منحني اجرتي الاسبوعية .. كنت سعيدا للغاية انتهيت من عملي وسرت لاخرج لمنزلي بسرعة ودقات قلبي تتسارع حماسا .. سأجمع النقود لأشتري سريرا لي .. بعد ذلك خزانة .. وتلفاز .. وثلاجة لأضع بها الكثير من الطعام .. ولكن اثناء جريي توقفت وانا ارى فتية يقطعون طريقي .. كان عددهم اربعة .. بلعت ريقي بخوف محاولا ان اتجاهلهم وامر بسلام ولكن احدهم دفعني بقوة لأقع ارضا مرتدا .. بدأوا يضحكون .. انحنى زعيمهم قائلا : طلع العندك .
ركلته بقدمي تجمعوا جميعهم حولي ليبدأوا بضربي .. كنت لا اكاد تميز مكان الضربة .. تلقيتها بسرعة .. بأماكن عدة متوالية .. حتى سقطت ارضا واقدامهم تركلني ... وانا اخبئ وجهي بذراعي خائفا .. حتى امتدت يد احدهم لتخرج ثمرة تعبي من جيب بنطالي ليأخذونها ويبصقون علي راحلين ...
ازلت ذراعي من وجهي وزحفت على التراب حتى اسندت ظهري على جدار احد المنازل .. نظرت حولي بأختناق .. ارغب بالبكاء .. ارغب بأن اعود طفلا لأبكي متألما .. ارغب بأحتضان احدهم .. ارغب بأن تسمح يدا رقيقة على رأسي .. ارغب بكلمة تواسيني .. شعرت بشئ يسيل على شفتي .. مسحتها بيدي بقوة لأرى الدم التي خرجت من انفي .. ايقظني من بؤسي صوته مرة اخرى .. رأيت منديلا يمد امامي .. رفعت رأسي ناظرا اليه وهو يمد بالمنديل الي .. اخذته منه لأمسح انفي .. انحنى لمستواي ليركز بصره علي ليسألني : اتذيت ؟.
اومأت رأسي بايجاب دون ان انطق بحرف .. حرك رأسه نافيا : لا .. انت محتاج ضربات اكثر حتى تتأذى .
نهضت باندفاع غاضبا : شتريدني اشوف اكثر من هاي الحياة .
نهض ليقابلني قائلا : اريد تشوف شي يخليها متفرق وياك .. الواحد ممكن ينضرب هواي .. بس اكو ضربة هي الي تحرك شئ بداخلك تخلي عندك ارادة بأنك متصير ضعيف .
سألته باستسلام ساخرا : يعني لازم يومية هذولة يضربوني !.
ابتسم قائلا : لا .
لم افهم حينها ولكنه بدأ بتعليمي بعد ساعات عملنا معا في الورشة .. بالمناسبة لم اتحدث عنه .. اسمه كمال استاذ جامعي ولكنه ايضا رفض ان يخضع للتقسم فرمي بأقليم النفايات !..
اتذكر انه وضع امامي قطعة من الخشب ومد لي بفأس .. مشيرا بيده لقطعة الخشب : اكسرها نصين .
جذبني التحدي فرفعت الفأس عاليا لأهبط به بقوة وانا اجز على اسناني على الخشبة ولكن الفأس لم يقسمها لنصفين بل اصابها فقط !.. ابتسم ليمد يده قائلا : غلط .
اخذ الفأس مني ووضع امامه قطعة خشب جديدة .. التفت الي ناظرا : حتى تكسر شي .. لازم تتمكن من الغضب الي بداخلك .. تسيطر على نفسك حتى تسيطر على الي قدامك تتحكم بيه .. والاهم انك تتفصح الي الي قدامك .. تشوف احسن زاوية وتوقيت حتى تنفذ هالشي .. ابتسم ليرفع الفأرس ارتفاع بسيط .. التفت الي مردفا : ومو معنى انك ترفعه عالي رح تكون الضربة اقوى .. احيانا الضربة القوية هي التجي من الشي القريب منك مو من البعيد .. الي حافظ تفاصيلك .. حرك يده ليهبط فأسه على الخشبة فيقسمها نصفين !..
....
مرت خمس سنوات وانا معه .. الازمه لاتعلم منه .. بل حتى انه كان يعطيني كتبه التي احضرها معه بدلا من ثيابه وجعلني ادرس طوال تلك السنوات .. حتى اصبح سني تسعة عشر عاما ..
في ذاك اليوم كنت ذاهبا فجرا للورشة قمت بفتحها وانتظرت قدومه ولكنه لم يأتي !.. انشغلت بترتيب المعدات حتى لفت انتباهي وجود ورقة وضعت دون انتبه اليها .. اخبرني ان الورشة اصبحت لي وان لنا لقاء ذات يوم .. عندما يكون هو جاهزا وانا كذلك ...
لم استطع فهم ماكتبه اخر جملة ولكن امنت ان رجلا مثله لايمكنه الا ان يفي بوعوده ..
ضربت خلال سنوات وقاموا بضربي .. كان كل شئ متاح لي .. ولكني كنت دائما انظر لصورة ابي العالقة في مخيلتي .. فأبتعد ..
...
بلغت الثاني والعشرون من عمري .. حتى التقيت بها !..
حتى عاد قلبي للحياة مرة اخرى بعد تلك السنوات ..
....
هي ادركت الحياة لتجد نفسها تعيش بين القمامة .. في اقليم اسمه الرسمي الاقليم السادس ولكن المعروف عنه انه اقليم القمامة .. القمامة اصبحت حولنا تحيط بنا .. بل حتى انها في جوفنا .. اخبروها ان كان لنا بلدا موحد ذات يوم ولكنه تلاشى مع اتربة الطائفية وضباب الجهل ودفن على ايدي الطامعين .. لاوطن لنا سوى هذا المكان البائس .. كيف لنا ان نحبه وان نمنحه ولائنا !.. هي الكبرى بين اخوتها الصغار .. على مر السنوات كان والديها يتشاركان بخلق ضحية جديدة ويضاعفون سكان هذا الاقليم .. لم يجدوا رغدا طيبا في هذه الحياة سوى المضاجعة لأنتاج افراد بائسين مثلهم .. كثر  عدد اخوتها وكثرت شكواهم .. جوعها وجوعهم .. شجاراتهم من اجل الطعام ..
حتى في طفولتها كانت غريبة فهي لم تمتلك دمية وهي صغيرة .. ولا حتى اخوتها .. كانت عندما تشعر بالملل وتشتكي لأمها راغبة باللعب تنصحنها بلعبة واحدة وهي التنظيف .. فتبدأ باللعب برغوة مسحوق التنظيف .. الفقاعات تتطاير حولها لتبدأ بمراقصتها والدوران حتى تنتهي اللعبة بتوبيخها لانها اسرفت بمسحوق التنظيف لتحرم من وجبتها اليتيمة ..
علاقتها بوالديها لم تكن طبيعية .. بل حتى لم يكن بينهم ترابط .. فباتت امها تدعو عليها وعلى اخوتها بالموت وابيها كعادته يترنح غائبا في سكره ..
عندما بلغت الثامنة من عمرها خرجت للشارع للتسول .. تضرب ضربا مبرحا ان عادت للمنزل دون ان تجمع مالا وهذا شئ طبيعي في وطننا الجديد لأن الجميع فقراء الجميع يرغب بالمال لايمكنهم ان يضحوا بقرش من اجل فتاة بثياب مهترئة حافية تمد يدها الصغيرة طالبة المال !..
كانت اعين الفتية والرجال تنهش جسدها ينظرون كذئاب جائعة .. عندما نضجت واصبحت امرأة شبه مكتملة كان ابيها من يعرض عليها ان اصبح عاهرة لتبيع جسدها من اجل المال ..
المشكلة ليست في التقسيم .. وليست في الاقاليم !.. هم قسموا عوائلنا .. ومحوا اخلاقنا .. واسقطوا الرحمة التي كانت ترفرف بداخلنا ..
استنكر اخلاقنا التي باتت مقترنة بوضع هذه الارض .. ان سقطت ارضنا سقطت معها اخلاقنا وكأن تسكن بداخل ارض صماء لا بداخلنا !..
....
حاولت التملص من محاولات ابيها الملحة ولتبحث عن عمل .. دارت المنازل جميعها لتعمل خادمة .. منظفة .. ولكن لاحياة لمن تنادي بل حتى انها كنت تشُتم او تتعرض للضرب ..
وهنا قررت وجدت منعطفا في حياتها .. اما ان الانجراف مع هذه الموجة القذرة او احصن نفسها بنفسها .. تكن هي رجلا لنفسها بعد ان ذاقت ذرعا من اشباه الرجال ..
في الوقت الذي بلغت العشرين من عمرها .. عندما تبدأ الفتيات العاديات بوضع مساحيق التجميل وابراز انوثتهن كانت هي تغلظ صوتها .. ترتدي ثياب رجالية فضفاضة لتخفي مفاتنها .. تربط شعرها كله لتمحي هويتها لتتخلص من عين الطامعين ..
عملت اخيرا برفقة رجل مسن على عربة للطعام في الشارع .. كان كل شئ مرا .. حياة داكنة اللون لايكون بها الوان .. وهنا جمعها القدر بها !..
....
لقائنا كان غريبا ليس رومانسيا كالافلام عندما تقع في مشكلة البطلة الرقيقة فيقوم بأنقاذها البطل الشجاع ..
كانت معدتي تقيم حفلا راقصا وتعزف موسيقى صخبة بسبب الجوع فاستوقفتني عربة للطعام في الشارع اثناء عودتي للمنزل .. ولكن مارأيته جعلني اتجاهل معدتي واركز بالفتاة ذات الشعر البني التي كانت تتشاجر مع رجل تحاول ضربه وهو يشتمها .. بسرعة اندفعت لأبعده عنها ولكن فوجئت بدفعها لي لتنقض عليه وتضربه .. بصقت عليه وهي تقول : زباين اخر زمن .
وجدت نفسي ابتسم بتعجب .. اعجبتني قوتها وجرائتها رغم جمالها .. بشرتها الخمرية وشفتاها المكتنزتان .. عيناها .. نظرت الي باستنكار لتسألني بفضاضة : خير فرجة ؟.
قهقهت قائلا : بصراحة جنت حاب ادافع عنج بس شكله هو المحتاج احد يدافع عنه .
رمقتني بنظرة سخرية وعادت لعملها .. اقتربت قائلا : اريد سندويش .
نظرت لي بتساؤل : عندك فلوس لو حتسوي مثل هذاك ؟.
قلت بتحدي : واذا سويت مثله !.
تجاهلتني بخجل لتناولني احدى الشطائر .. تناولتها وعيناي تراقبانها بتدقيق .. انتهيت فأخرجت المال من جيبي ووضعته امامها قائلا : علي .
قالت وهي تتصنع انشغالها : مسألتك عن اسمك .
هممت بالرحيل وانا مبتسما استوقفتني قائلة : منار .
التفت اليها فوجدتها تقول لي : اسمي منار .
سألتها : منار يومية توقفين هنا .
ابتسمت وهي تعض على شفتيها : اي .
ابتسمت لأرحل قائلا : اشوفج باجر.
....

توالت زيارتي على عربة الطعام التي تعمل عليها وكثر حديثنا حتى اصبحت هي تتعمد الذهاب الى ورشتي بحجج لا معنى لها ...
ذات يوم بعد انتهائها من عملها كانت تهم يالرحيل فاستوقفتها مناديا : ام كفشة .
التفت اليي وهي ترفع حاجبها قائلة : خير ابو الزيت .
اقتربت معلقا : زيت !.
قالت بعناد : اي كل شغلك زيت ومكاين .
قهقهت : ههههه صرنا نعير بعض بالشغل !.
قالت بجراءة : انت ماعندك شي موحلو حتى اعيرك بيه كلك كامل .
سارت لتوليني ظهرها سرت خلفها لالحق بها قائلا : ومنو قال ان بيج شي محلو .
التفت الي وهي تشير لمظهرها قائلة : كل هاي !.
اقتربت اكثر منها مشيرا لشعرها : شعرج يسموه بالشعر غجري .
عقدت حاجبيها بدهشة قائلة : شنو يعني غجري .
قلت وانا احاول ان اشرح لها : يعني يشبه البنات الي بالغجر .. وطبعا انتي مشايفتهم .
اومأت برأسها ببلاهة .. ابتسما لاقول: ننتقل لعيونج .
كانت تبلع ريقها بخجل تحاول ان تتماسك ..فاردفت : عيونج تسحر .
التفت لتوليني ظهرها قائلة : صاير شاعر .
سرت بجانبها وانا انظر امامي قائلا : ميلوقلي .
- ترا بالعكس .. يلوقلك .. يعني اني اول مرة اشوف رجال هنا مثقف مثلك مع اني مكملت مدرسة .
- انتي همين لازم تتعلمين .
قالت بسخرية : علمودمن اتعلم .
- علمود نفسج .
- هههه بعدين اطلع وزيرة ؟.
توقفت لانظر اليها بجدية : احتمال .
التفت الي وهي تبتسم قالت ذلك دفعة واحدة : اني احبك .
ابتسمت بدهشة مذهولا لجرائتها  .. قلت وانا ادفع كتفها بخفة : انتي مخبلة هههههه .
قالت بجراءة اكثر : ممصدقني ؟.
رفعت صوتها ورفعت يداها لتحيطان بفمها قائلة : اني احبه يانااااااااس .
جررتها من مرفقها بقوة تجاهي لأقول لها : فضحتينا .
جعلتها تصمت بقبلة  .. تحرك معها شئ بداخلي كان في سبات ..اما هي كانت مصدومة ولكن في ذات الوقت كانت فتاة الاقليم السادس حاضرة بجرائتها لأجاريه .. ابتعدت عنها وانا مازالت تحت تأثير حمى الحب .. وهي لا تكاد ان لا تصدق ولا تعي لشئ سوى ان ارواحنا صعدت للجنة وعادت لجسدينا مرة اخرى ... قلت وانفي يقبل انفها : تعالي نزوج .
احاطت ذراعها برقبتي ويديها تمسح على مؤخرة رأسي لتداعب شعري .. قالت بجنون : زواج بطريقة تخصنا .
ابتعدت لأسألها ويدي تتركزان على خصرها : وشلون ؟.
قالت بثقة وبجراءة : نقول للناس بس .
هبطت يدي من خصرها وامسكت بيدها قائلا : يلا .
كنا ثملين عشق .. بدأنا نطرق الابواب جميعها ونخبرهم انا تزوجنا .. ليشتمنا البعض ويطردنا البعض الاخر .. ولكننا كنا نضحك بجنون .. روحينا كانت تضحك بثمالة .. متعطشين للفرح ..
انتهت المنازل بقي منزل واحد .. كان هو محطتنا الاخيرة .. منزلب .. توقفنا عند اعتاب منزلي ففاجئتها بحملي لها.. احاطت يدايها برقبتي بينما انا اشعر ان قلبي يكاد ان يخرج من مكانه وانا اتذوق الفرح للمرة الاولى ... قضينا الليلة معا كأننا نعيش قصص الف ليلة وليلة .. مر وقت طويل وانا لم استكن بأحضان احد ..
لم اذق متعة كما ذقتها معها .. كنت حنونا جدا لم اكن اظن ان هذا الجزء بقي  موجودٌ بداخلي رغم مامررت به ..
احتضنتها وانا استند على مرفقي على الوسادة واسندت رأسي على يدي بينما يدي اليمنى تمسح على وجهها بنعومة .. قلت وانا انحني لاقترب بوجهي من وجهها بصوت منخفض  : اني احبج .
لم اكن في تلك اللحظة لقصور ولا لجاه .. لا احد سواها !.. اكتفيت بكل شئ .. اكتفيت بها هي فقط ..
....

تركت سهر يدي وهي تنظر لي بصدمة بعد ان اخبرتها ماحدث معي .. اشاحت بوجهها لجهة اخرى لتسألني : حبيتها لهدرجة ؟.
كانت تحتاج الصراحة وخاطرت انا بكل شئ هذه الليلة لأخبرها بالصراحة : اي  .
ادارت رأسها نحوي وعيناها بدئتا تلمعان لتكتل الدموع بداخلها .. لتسألني : اين هي الان ؟.
قلت وانا اتذكر ماحدث لأشعر بأن صدري يضيق : محتاجج تحضنيني .
وها هي كما فعلتها دوما اشرعت احضانها الي متى مارغبت فاقتربت واضعا رأسي على صدرها فأحتضنتني لأشعر بضربات قلبها السريعة القلقة .. لايمكنني ان اجد راحة في مكان اخرى سوى هذا المنزل !.. سوى قلبها ..
قلت لها : ابوج او حازم خلي نقول .. دايما يحب ياخذ مني الشي الي احبه .. مكفاه امي .. ابوية وبيتي .. حتى منار !..
.....
..
كنا انا ومنار كمجنونين .. قمنا بأشياء كثيرة ضاربين الجميع عرض الحائط .. اول حب دائما له نكهة خاصة من المحال ان تتكر .. ربما لنقاء المشاعر .. احساسنا بها للمرة الاولى .. لسذاجتنا !..
حتى الغيرة كانت جديدة علي .. تلك التي كنت اشعر بها عليها ..
ذات يوم كنت انتظرها عند ضفة النهر .. كان موعدا بيننا احد مواعيدنا التي من المفترض ان تكون رومانسية .. هي وجدت انتظاري لها في ذاك المكان رومانسية رغم ان الجزء الذي يطلع عليه اقليمنا من النهر هو الجزء الضحل .. الذي يكاد ان يجف ..
كنت ادخن سيجارة وانا انظر للماء الملوث امامي .. حتى شعرت بيدها تلامس كتفي.. ابتسمت لألتفت اليها معاتبا : تأخرتي .
قالت وهي تعض على شفتها قائلة ببراءة : شسوي الشغل .
عقدت حاجبي وانا انظر لها باستنكار حيث بدأ الغضب بالتولد بداخلي : اقول افتري افتري .
ابتسمت هي بجاذبية لتدور حول نفسها .. كانت تسدل شعرها الطويل البني .. وترتدي فستانا كعادته ولكن هذه المرة لم ترتدي تحته بنطالا فظهر القليل من ساقيها ... صرخت بها لأمسك بها بقوة من زندها ضاغطا على اسناني : شنو هاي .
ارتشعت اطرافها لتسأل : شنو حبيبي معجبك ؟.
صرخت : طبعا معجبني .. يلا لمي شعرج .. وشنو هاي ملابسة بنطرون جوا الفستان ؟.
اجابتني : غير علمودك قلت اتانق مثل البنات .
قلت وانا مازلت مقضتبا : اتأنقي يم امج .. وامشي قدامي ارجعج لأهلج ماكو طلعة .
ضربت بقدمها الارض محتجة : شنووو هاي .
دفعتها بخفة لتسير قائلا : امشي عبالها اخليها تمشي هيج يلا .
....
استمر كل شئ بهدوء .. بسلام .. ولكن مامن شئ يدم .. المشكلة ليست في الرضا فقد رضينا بالفقر .. رضينا بأسوأ الحالات .. كما يقول المثل الشهير ( رضينا بالهم والهم مارضا بينا ) .. هكذا كانت الحياة تحاول استفزازي .. تجعلني افقد اعصابي كلما رضيت بعيوبها فاجئتني بالجديد ..
نتصارع انا وهي طوال الوقت .. كلانا يتحدى الاخر .. تتحداني بالقسوة واتحداها بالعيش راضيا ..
...
مرحلة الجنون انتهت لكلينا .. عدت للتفكير في الخروج من هذا المستنقع والانتقام .. واصبحت هي غير راضية عن حالها .. بل عن المكان كله ..
حتى اتى ذاك اليوم المشؤوم ..
....

كان متعارفا لدى الجميع ان الاقليم الاول والثاني يأخذون العمالة من الاقليم السادس بأبخس الاجور .. والجميع يتهافت من اجل فرصة كهذه .. ليس من اجل الاجر بل العيش في مكان رائع .. اقترحت هذه الفكرة على .. انفجرت بها وانا اصرخ قائلا : ديربالج تفتحين هالموضوع مرة ثانية .. تريدين نشتغل خدم هناك !.. عدهم !.
جادلتني مدافعة عن رأيها : انت قلت الشغل مو عيب .
رفعت صوتي وعيناي مقتدتان مشيرا بيدي : انتي مخبلة !.. بيوم من الايام جنا احنا نجيب عمالة من برا بلدنا .. جنا احسن الناس .. جنا نرج المكان من نقول احنا من وين .. مستحيل هيج يصير مصيرنا .
قالت بغيض : كافي تحجي بالماضي .. هاهية كل شئ راح لحاله .. احنا هسة متقمسين وكلمن اله وطنه .. اعتبر نفسك مسافر لغير دولة ودتشتغل هناك .
جززت على اسناني لاقترب قائلا : انتي غبية .. همة يقدرون يجيبون ناس من برا بس همة يريدون يذلونا .
قالت بعناد : اوكي اني حروح بحدي اشتغل هناك .
كانت اركزي ناظريها بناظري لتتحداني او تجعلني ارضخ .. ابتسمت بسخرية لاقول : روحي .. شغلتج بالشارع اشرف من انج تخدمين بيوت هالقذرين بس انتي حرة .
...
كانت تلك اخر مرة نتحدث بها .. عزمت على الامر وقررت ان تترك كل شئ وتمضي .. ببساطة جزعت هي من كل شئ .. من عائلتها .. من هذه الشوارع .. من  هذا العمل .. بل حتى من نفسها حتى الحب لم يجعلها تتحمل الواقع المرير اكثر!..
....

اقليم القمامةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن