prat13

4.2K 187 0
                                    

خصص دايمون الأيام القليلة التالية بكاملها لأنابيل . وشعرت إيما بأنها كشخص إضافي لا ضرورة له ، لأن دايمون تولّى جميع المهام التي كانت تقوم بها . وتمكنت إيما من البقاء وراء الكواليس طوال هذه الفترة ، إلا أنها لم تعزل نفسها تماما عن الآخرين . فقد أخدها بول الى ناسو بعد ظهر أحد الأيام ، وكانت رحلتهما ستطول الى ما بعد العشاء لولا انها اصرّت على العودة لأن أنابيل قد تكون بحاجة اليها . أما السبب الأساسي لرفضها فهو احساسها بأن بول يريد علاقة أوثق من مجرد الصداقة العادية . ومع انه يعجبها كثيرا لكن لم يكن لديها اي اهتمام شخصي به ، ولا تريد بالتالي التصرف عكس ذلك .
استلمت رسالة من شقيقها جوني أزعجتها قليلا، فهو يجد صعوبة على مايبدو في التأقلم مع وضعه الجديد وفي رعاية أموره الحياتية. وقارنت ايما بين حياتها في لندن وتلك في سانت دومينيك ، فبدت الاولى باردة وتتركز بمعظمها على عملها في المستشفى .
وفي صباح مبكر ، بعد ثلاثة أيام ، غادر دايمون وبول الجزيرة بالطائرة المروحية .وعلمت من تانزي اتهما توجها الى الولايات المتحدة لاكمال صفقة هامة هناك . بعد ذهابه ، تغير كل شيء. مجرد وجوده في البيت أضفى نوعا من الحيوية والنشاط الى الاعمال اليومية المعتادة . أما الآن فان المكان يبدو خالياً ...مهجورا.
تأثرت انابيل لسفر والدها ولكنها كانت في الوقت ذاته مسرورة جداً لأنه اظهر مثل هذا الاهتمام الفائق بها خلال الأيام القليلة الماضية . سبح معها ، لعب معها ، قرأ لها ، واخبرها قصصا وطرائف مسلية . ووجدت ايما صعوبة في تغطية الفراغ الكبير الذي خلفه رحيله ، مع ان انابيل أصبحت تحبها وتتعلق بها الى حد كبير .
بعد أسبوع من ذهاب دايمون ، تسلّمت ايما وانابيل دعوة لتمضية فترة ما بعد الظهر في سانت كاترين . دمدمت انابيل وتذمرت عندما أبلغتها ايما بأن عليهما قبول الدعوة ، ولكنها وافقت بتردد في نهاية الامر وتوجهتا بالزورق السريع الى الجزيرة المجاورة .
لم يكن منزل هيلين كما توقعته ايما على الاطلاق . فالنظافة بعيدة عنه كل البعد، وكأن احدا لا يراقب الخدم او يشرف على عملهم. كما تنتشر في غرفة الاستقبال ، هنا وهناك ، اعداد كبيرة من الكتب والصحف والمجلات . وقد اخفى كريس نفسه على ما يبدو في غرفة مكتبه ، حيث كانت ايما تسمع صوت الآلة الكاتبة بوضوح . وحاولت هيلين جاهدة ان تظهر الود والدماثة إتجاه ضيفتها ، الا ان ايما شعرت بان مضيفتها كسولة جدا اذ تترك بيتها ونفسها على تلك الحالة المزرية . فثيابها ليست مرتبة ابدا وشعرها على ما يبدو لم يغسل منذ عدة أيام . وكانت هيلين تحيك باستمرار كما فعلت معظم الوقت خلال الرحلة البحرية . وبعد ساعتين تقريبا احسّت الضيفتان بالارتياح الشديد لأن الوقت قد حان لعودتهما الى سانت دومينيك . وتمنت ايما الا تضطر لتكرار هذه الزيارة ابدا.
ومضت الايام التالية ببطء وتكاسل ، كانت ايما ترسل خلالها عدة رسائل لاخيها وتستلم منه بين الحين والآخر بعض الاجابات المقتضبة . ولم يكن يشغلها سوى قلقها إتجاهه .
وفي سان فرانسيسكو...كان دايمون ثورن يشعر بالانقباض والانزعاج . مضت ثلاثة أسابيع كاملة على عودته الى هذه المدينة الاميركية انهى خلالها الاعمال التي اتى من أجلها. وسوف يتوجه في اليوم التالي وبرفقته بول ريميني الى لندن . الا ان العمل لم يكن سبب انقباضه وضيقه. فعلى الرغم من تركيزه المكثف على اشغاله وأعماله ، الا انه لم يتمكن من طرد ايما هاردينغ من أفكاره. وأصبح عصبي المزاج يثور لأدنى سبب . حتى ان بول لم يعد قادرا على التصرف معه الا بهدوء وحذر بالغين .
كان يمضي معظم أمسياته في تلبية دعوات الى العشاء والسهرة من زملائه واصدقائه الذين يريدون لقاءه أثناء وجوده في المدينة. ومع أنه كان مهدبا ولطيفا ودمثا مع الآخرين . الا انه ينقلب الى انسان آخر عندما يكون بمفرده . كان حزينا ومنقبضا، ويعرف ان بول لن يقدر على تفهم السبب الحقيقي لذلك .اندفع اكثر من مرة ليبلغ صديقه ومساعده المخلص عن علاقته السابقة بايما، ويكشف له بالتالي سر تصرفاته الغربية هذه ،ولكن دايمون ثورن ليس ذلك الرجل الذي يسعى الى إشفاق أحد...وخاصة عندما يشعر بأنه يتصرف برعونة وغباء .
وشتم نفسه بغضب وهو يمشي بعصبية في غرفته بفندق رويال باي. لماذا يصر عقله على محاولة إيجاد سبب لتخلي ايما عنه قبل سبع سنوات ؟ لماذا لا يمكنه أن يقبل بما قالت له ؟ ولكن نقاطا كثيرة توقف عنده عقله العلمي والمنطقي مرات ومرات . فعندما أعلنت عن رغبتها في فك الخطبة ،شعر بأذية وسخط شديدين لدرجة انه عين تحريا خاصا لمراقبة تحركاتها والإبلاغ عنها ساعة فساعة. وإكتشف آنذاك أن لا وجود لأي رجل آخر في حياتها ، بالرغم من اصرارها الشديد على ذلك . وتأثر جدا عندما إفترض بأن أسباب إنسحابها تعود اليه وحده....الى سنه، مظهره، شخصيته ....
وزاد أحتقاره لنفسه. فالآن ، وبعد تصرفاتها تلك معه ، لا يزال يشعر برغبة قوية إتجاهها . وتذكرها قربه على الرمال أمام حجر مينرفا فثارت مشاعره المتناقضة ، أشعل سيكارا وجلس في مقعده قريب من النافذة ، سمع طرقة خفيفة على الباب ، فقال بشيء من العصبية :
" ادخل ! ".
دخل بول وأغلق الباب وراءه ، فيما كانت تعلو وجهه أبتسامة عريضة . أخد علبة سكائره من جيبه وقال :
" لديك زائر لا تتوقع حضوره البتة ! " .
وأشعل سيكارته ثم أضاف بخبث :
" السيدة تساي بن لونغ ! ".
" انك تمزح ! ".
" آسف ، ولكني لا أمزح. كنت اشتري علبة سكائر عندما اقتربت مني وسألتني عما إذا كنت ستمضي بعض الوقت في المدينة. فأخبرتها بالطبع اننا متوجهان غداًصباحا الى لندن " .
" طبعا ! ثم ماذا ؟ " .
" دعتنا لتناول فنجان من الشاي معها " .
" اللعنة ! وهل هي في المطعم الآن ؟ ".
" نعم ، ومن الأرجح انها ستظل هنال الى ان ننضم اليها".
وقف دايمون بحدة وقال :
" هذا آخر شيء أريده الآن . كنت أريد تناول الطعام " .
هز بول كتفيه واقترح عليه ان يطلب طعامه الى الغرفة. ثم أضاف قائلا :
" قد أشاركك الطعام هنا " .
" لست في مزاج لمثل هذه الحفلات الانفرادية . أريد ان اكون بين الناس ، فوجودي وحدي يضايقني ويحزنني " .
" حقا، يا دايمون ! انك تتصرف بطريقة غريبة منذ مغادرتنا الجزيرة ! " .
" ليست هناك مشكلة على الاطلاق " .
قالها بلهجة مشجعة وهو يتظاهر بالابتسام . ثم أضاف :
" هيا يا بول ، لننزل الى القاعة الرئيسية . هناك كثيرات من اللواتي تعرّفت عليهن في حياتي أسوأ من هذه الانسانة بمكان "
تنهد بول وهو يشعر بالفشل مرة اخرى من اختراق ذلك القناع غير المرئي الذي يرتديه دايمون على وجهه . ثم توجّه الى غرفته وارتدى سترة، وزين عنقه بربطة جميلة ، قبل ان يعود الى غرفة دايمون للنزول معا الى بهو الفندق . كان المطعم يعج بالناس، الا ان السيدة الصينية كانت على ما يبدو ترقب وصولهما . فبمجرد دخولهما انضمّت اليهما مبتسمة وقالت :
" آه، سيد ثورن ! انني في غاية السرور لأنك تمكنت من الحضور " .
وما ان تمتم دايمون بجواب مهذب ، حتى سارت أمامهما الى ركن منعزل في القاعة الضخمة التي تنيرها اضواء ساطعة. وفيما كانوا يطلبون ما يريدون، اخدت تساي تتأمل دايمون بهدوء وتمعن . كانت تبدو عليها ملامح انقباض وعصبية لم يلحظها دايمون من قبل....كانت تتحدّث بشيء من القلق والترقب وكأنها تبحث عن شيء ما ، او شخص ما وسألته :
" هل تأتي كثيرا الى سان فرانسيسكو يا سيد ثورن ؟ " .
هزّ دايمون كتفيه مرّة أخرى وأجابها بهدوء :
" هذا يعتمد على عدّة أمور.فعندما تكون لدي أعمال كثيرة أظل هنا أحيانا عدة أسابيع ،بينما في أوقات أخرى لا أمضي سوى ليلة واحدة " .
" وهل تذهب مرارا الى لندن ؟ ".
ضاقت عيناه قليلا وهو يحاول تحليل الاسباب التي تدفعها للاهتمام بتحركاته وتنقلاته ،فيما لا تقبل ابدا الرد على أسئلة تتعلق بها شخصيا .ردّ عليها بدون ان ينظر اليها :
" أمضي أحيانا بعض الوقت في لندن " .
تدخل بول وسألها :
" وماذا عنك أنت ؟ هل تنوين البقاء طويلا في سان فرانسيسكو ؟ " .
هزّت برأسها وهي تجيب بهدوء مصطنع :
" ربما ، وربما لا . هذا يعتمد على ما اذا كانوا سيسمحون لي بذلك او يرفضون " .
أجابها بول بشهامة كاذبة وهو ينظر اليها محاولا أخفاء سخريته :
" أنا متأكد من ان لا أحد يمكنه الاعتراض على بقاء سيدة جميلة مثلك " .
" اوه ، شكرا لك يا سيد ريميني ، فهذا كلام لطيف ومشجع . ولكني آسفة جدا لان المسؤولين في مكتب الهجرة لا يعيرون اي أهتمام للمظاهر والاشكال " .
علق دايمون ببرودة :
" يمكن للمظاهر ان تكون غشاشة جدا".
أجابته تساي بن لونغ بجدية :
" أنها العيون على ما أعتقد. اذ يمكن للانسان الذكي ان يكتشف عدة امور بمجرد النظر الى عيون الآخرين".
أخرج دايمون علبة سكائره وهو يقول لها :
" واذا كان الانسان أعمى ، فماذا يفعل ؟ ".
" انت لست أعمى يا سيد ثورن ! " .
فتح علبته وقدمها لها وهو يجيبها :
"صحيح . وهل قلت ذلك ؟ ".
شربت جرعة من الشاي وهزّت برأسها، ثم أخدت سيكارة ووضعتها بين أصابعها بعصبية .
ولما أنتبه الى انها لا تزال تنتظر منه ان يشعل لها سيكارتها، اخرج قداحته بسرعة فوقعت من يده . نظر اليها وهو يعتذر منها ، فشاهد مسحة من الرعب تعلو وجهها. كانت نظراتها تتركز على مكان ما وراءه ، ولكنه عندما استدار بسرعة الى الوراء لم يشاهد شيئا ملفتاً للنظر. تطلّع فيها مرة أخرى ثم نظر الى بول الذي بدا انه لم يلاحظ شيئا على الاطلاق ، اذ كان غارقا في حديث عن كرة القدم مع رجل يجلس بجوارهم .
عبس دايمون ثم تذكر قداحته فانحنى لالتقاطها . أوقفته السيدة الصينية قائلة وهي تنحني لاستعادة القداحة :
" اسمح لي ! ".
تطلع دايمون حوله مرة اخرى بعد ان اشعرته حاسته السادسة بوجود شخص يراقبه...او يراقبها ،انه لأمر سخيف! ولكنّ شخصا ما في هذا البحر من الرجال والنساء أخاف الفتاة . لماذا ؟ من هناك في هذه المدينة يمكن له ان يخيفها ويرعبها على هذا النحو الواضح ؟ وفجأة، سمعها تقول له وهي تهم بالوقوف :
" اعدرني ! لن أتاخر لحظة ! أريد الاطمئنان الى تسريحتي ! ".
وقف دايمون احتراما ثم عاد للجلوس ...والتفكير.ماذا يهمه منها ومما تفعله؟ سأل نفسه مغتاظا وغاضبا.الا ان الجواب جاءه بسرعة وبدون تردد. فمع انه غير مهتم بها الا ان خوفها بدأ يقلقه ويزعجه. انها انسانة مستضعفة على ما يبدو ، وهو بطبيعته يحترم الانسان. وقرر ان يدعوها الى العشاء بمجرد عودتها،فلربما عندئد ستخبره بما يرعبها ويقض مضجعها .
اخد سيكارة واراد أشعالها ، الا انه لم يجد القداحة . اللعنة! لقد أخدتها تساي بن لونغ بعد ان تبرعت بالتقاطها عن الارض.
وتطلع حوله بعصبية بالغة محاولا مرة أخرى تحليل تلك الفتاة الغامضة ، وشخصيتها ، ودوافعها . قداحته ذات قيمة كبيرة أهداه والداه عندما احتفل ببلوغه سن النضوج ...الحادية والعشرين . ومع انها قداحة ذهبية حفر عليها الحرف الاول من اسمه ورصع بالجواهر الثمينة ، الا ان قيمتها المعنوية تفوق بكثير القيمة المادية .الم تكن تساي سوى لصة تستخدم أسلوبا جديدا في السرقة ؟ وان كانت كذلك، فلماذا لم تحاول سرقته من قبل ؟
" بول ، أشعل لي سيكارتي من فضلك ! ".
" أين رفيقتك الجميلة ؟ ".
" في غرفة السيدات ، على ما أعتقد ".
" وماذا حدث لقداحتك ؟ هل فرغت من الغاز ؟ " .
هزّ دايمون رأسه ، ثم اومأ الى نادل وطلب منه ابريقا آخر من الشاي .
بدأ الغضب يتسلل بسرعة وقوة الى رأس دايمون وأعصابه ولم يعد يشعر برغبة في اجراء حديث عادي وثرثرة لا فائدة منها . وراح يتأمل وجوه السيدات عله يرى بينها وجه زائرته الغامضة . وعندما مرت ربع ساعة على غيابها ، نظر الى بول غاضبا وقال :
"سأتمشى الى الخارج . سوف أعود بعد قليل " .
" مهلا يا دايون ! ماذا دهاك ؟ لم أعرف انها تهمك الى هذه الدرجة ! " .
" انني لست مهتما بها شخصيا. لقد اخدت قداحتي ! ".
" سأذهب معك " .
" لا داعي لذلك ".
" أعرف ، ومع ذلك فسوف اذهب ".
توجّها بسرعة الى بهو الفندق حيث توجد غرفة السيدات قرب الدرج الذي لم يعد يستخدم الا نادرا بسبب وجود المصاعد. وكان عدد كبير من السيدات يدخل تلك الغرفة ويخرج منها ، الا انهما لم يشاهدا تساي بن لونغ .
" انه لأمر مؤسف حقا!".
قالها دايمون وهو يسيطر على غضبه بطريقة تثير الاعجاب. مع ان نبرة صوته كانت توحي بان هذه السيدة اللعينة لن تكون مسرورة ابدا اذا وقع نظره عليها مرة اخرى . عبس بول وقال بتأثر :
" لم يكن يظهر عليها ابدا انها من هذا النوع من النساء. كنت اظن انها انسانة محببة ودمثة " .
وعاد دايمون الى التحليل وايجاد التفسيرات المنطقية ، ثم احس بيد تربت بتهذيب على كتفه . التفت الى الوراء فشاهد مدير الفندق يبتسم ويقول له :
"عفوا سيد ثورن ! اوصتني سيدة قبل قليل باعطائك هذه القداحة . انها لك ، اليس كذلك ؟ ".
ارتفع حاجباه استغرابا وقال له بدهشة وحيرة :
" نعم انها لي . أين السيدة ؟ هل تركت الفندق ؟ " .
" اعتقد ذلك يا سيدي . اصرّت عليّ كي اتأكد من تسلميك القداحة شخصيا والاعتذار لك عن ذهابها بها بتلك الطريقة ! ".
هزّ دايمون رأسه وقال له فيما كان يأخد القداحة من يده :
" حسنا ! شكرا، شكرا جزيلا ".
وفي وقت لاحق من تلك الليلة ، وفيما كان مستلقيا على فراشه مغمض العينين استعدادا للنوم ، عاد به التفكير مجددا الى ايما. وانتبه الى ان حادثة المساء خففت الكثير من الضجر والملل اللذين سيطرا عليه فترة طويلة . وشعر بأنّ وجود تلك الفتاة الصينية الجميلة اثبت له مرة أخرى مدى تعلقه بايما .
كان يريدها كثيرا، ولم يتمكن في السابق من ضبط مشاعره ورغباته إتجاهها الا لعلمه بانه سيتزوجها....ما الآن فالوضع مختلف جدا.....جدا ! وقد وضعت نفسها، بذهابها الى سانت دومينيك، تحت رحمته وبمتناول يده ! لا يهمه ان جاءت موافقتها على الانتقال الى تلك الجزيرة نتيجة ضغوطه التي وصلت الى درجة الابتزاز والتهديد ! او اذا كانت على استعداد للتضحية بنفسها لأجل شقيقها، فلماذا يهتم او يبالي ؟
وتحول تفكيره فجأة الى تساي بن لونغ وسبب مغادرتها له على ذلك الشكل . لماذا؟ لماذا ذهبت فجأة ولم تعد ؟ ولماذا أخدت القداحة وأصرّت على ان تسلم اليه شخصيا؟ هل لهذه التصرفات الغريبة علاقة بانفعالها وخوفها في مستهل اللقاء ؟ ام انها التقت شخصا آخر تصورت انه سيمنحها سهرة اكثر متعة واشد اثارة؟ ولكن ، ما أهمية كل ذلك الآن ؟ التقت به...أخدت ولاعته...أعادتها...واختفت ! هذا كل ما في الأمر ، فلماذا لا يخلد الآن الى الراحة والنوم ؟
الا ان النوم لا يأتي بمثل هذه السرعة، فعاد به تفكيره الى ايما والى لقائه الاول بها . فتاة في السابعة عشرة من عمرها، صغيرة وجميلة كما لاتزال حتى الان ولكن اكثر حيوية ونضارة. كانت موظفة جديدة في المقر الرئيسي لشركة ثورن للكيماويات بشارع هولند بارك، وكان المبنى صغيرا جداّ بالنسبة الى المجمع العملاق الذي انتقلت اليه الادارة في وقت لاحق،وعدد الموظفين قليلا نسبيا. وبعد ظهر احد الايام، توجه الى المبنى القديم ليشرف على ما يقوم به احد البحاثة في حقل مستحضرات التجميل....وكاد ان يصدم بايما .
كانت هي المخطئة ، وأعترفت بذلك صراحة وبدون مورابة او تبرير. وأبتسم دايمون عندما تذكّر مدى غضبه آنذاك، وكيف انها لم تخف منه بل طالبته....بالاعتذار. تذكر بوضوح تام فستانها الأحمر وسترتها القطنية البيضاء....ونظراتها التي كانت تقدح شررا كقطة صغيرة يهاجمها كلب شرس.أعجبته شخصيتها وثقتها بنفسها، مع انه كان متأكدا من انها لم تعرفه...والّا لما كانت تجرؤ على مواجهته بتلك الطريقة .
ظل يفكر بها طوال فترة ما بعد الظهر. وكشاب مراهق يقع في الحب للمرة الاولى في حياته، لم يتمكن من طرد صورتها من مخيلته طوال الايام التي تلت ذلك اللقاء العاصف. تأكد له ان عليه رؤيتها مرة ثانية. فاجرى تحقيقات سرية عنها وعن أوضاعها. تبين له ان شقيقها ايضا يعمل في شركته ، فسهلت الأمور بعض الشيء . استدعاه في اليوم التالي وقال له انه أحد رجال الاعمال القلائل الذين يحبون التعرف شخصيا على جميع موظفيهم، وان عليه بالتالي ان يحضر وشقيقته لمقابلته وتناول العشاء معه في احدى غرف جناحه الضخم المخصصة لذلك . لم يفكر او يبالي بالنتائج او المضاعفات ، فهو يريد ان يراها ! .
لم تكن ايما من الاشخاص الذين يسهل التعرف اليهم . فما ان عرفت من يكون ،حتى بدأت تتهرب منه ومن الاجتماع به....وبخاصة على انفراد . ومع انه احس بانها معجبة به ، الا انه كان يعرف ايضا انها لن تثق به ولسوف تظلّ تعتبره زير نساء....وتتحاشاه . امضى عدة أشهر قبل ان يتمكن من اقناعها بعكس ذلك . ولما تأكد له انها أصبحت تحبه كما يحبها ، وعقدا خطوبتهما تمهيدا لزواج قريب ، هدمت له برجه العاجي وتركته يتخبط وحيدا وحزينا.
لم يصدقها في بادئ الأمر ! رفض ان يصدقها! علاقتهما حميمة جدا مبنية على حب واحترام متبادلين، وكانا على وشك الزواج. رفض التسرع لأن وضعه الاجتماعي لا يسمح له بأن يبدو انسانا انفعاليا وارتجاليا. وكذلك اراد ان تتأقلم ايما الصغيرة الفقيرة مع عالمه الثري النافذ قبل ان تنضم اليه وتصبح جزاءا منه. كيف توقعت منه ان يقبل رفضها بيسر وسهولة ؟ رفض ان يصدق بأنها جادة .
ولكنها كانت جادّة...تركته الى غير رجعة! وعاد الغضب اليه وهو يتقلب في سريره. الا انه اقنع نفسه اخيرا بان النقطة الايجابية الوحيدة في ذلك البحر من السلبيات كانت عدم اعلان الخطبة رسميا...والا لكان جعل من نفسه اضحوكة لندن باكملها. لم يعرف بجدية علاقتهما سوى نفر قليل من اصدقائه الخلص. اما الآخرون فظنوا انها مجرد نهاية لمغامرة عاطفية اخرى. واكتشف ان ايما ترد على مستجوبيها عندما يسألونها عن سبب الانفصال ، بان دايمون نبذها بعد ان مل منها. وكانت تلك الاجابات ترضي غروره وكبرياءه الجريحين الغاضبين.... ولكنها كانت تؤلم مشاعره وتثير اشمئزازه من نفسه......
ودفن نفسه تحت وسادته بقوة واصرار ،مركزا تفكيره على أمور اخرى. امضى ليالي كثيرة جدا يعذب نفسه بسبب ايما....اما هذه الليلة فلن تكون كسابقاتها !

احبك ولو طال إنتظاري.. فإن لم تكن قدري.. فقد كنت اختياري..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن