36

90.8K 1.9K 28
                                    


  جالسة في ممر أبيض طويل .... طويل جدا .... يكاد يكون بلا نهاية .....تماما كتلك الساعات بلا نهاية ....
جالسة بما يشبه الذهول ... عينان متجمدتان فقدتا الدموع التي نضبت منذ ساعات و ما أن وصلها خبر لم تفقه منه شيء ....
حتى الآن تحاول فك رموز تلك المكالمة الهاتفية دون جدوى .... فقط بضع كلمات كان حادثٍ ما ..... ارتطمت سيارته بشيء ما .... و انقلاب الشاحنة التي تليه و تخصه ......
لا مزيد من المعلومات حتى الآن .... حيث تم نقله و سائق الشاحنة و بضع رجال للمشفى .... و لا معلومات بعد ذلك .....
نظرت حولها بذهول الى الجدران البيضاء الخانقة .... تكاد تطبق على روحها ....
و تسائلت كيف وصلت الى هنا !! .....
الساعة الأخيرة تتوه تفاصيلها من ذاكرتها .... ربما كانت جالسة بجوار مدير أعماله الذي يقف الآن بجوار الغرفة ...... يستقصي الأخبار , كلما خرجت ممرضة أو دخل طبيب .....
بينما كانت تجلس هي متجمدة بلا روح .... و كأنها تراقب حدثا من بعيد لا يخصها ...
هكذا تعودت التعامل مع الفقد ..... لأنها ستفقده ...... ستفقده .... بعد لحظة أو لحظتين .... ... ربما ساعة أو يوم .......
لكنها حروف النهاية لقصة طويلة ....... و قد خطت النهاية بنفسها .....
في تلك العبارات التي كانت أخر ما ربط بينها و بين ...... جاسر ....
بمعرفتها أنه قد قرأها , كان ذلك هو آخر حدث يربط بينهما قبل أن تفقده ..... نعم إنها النهاية ....
و كأنه علم بتاريخ علمها بما قرأته فقرر أن يعاقبها و يرحل في صمت .....
مالت برأسها تستند الى الحائط بجوارها , تنتظر سماع الخبر المعتاد .... و بداخلها يتسع فراغ ... يتسع و يتسع يكاد يبتلعها .....
فقط لو تسنت لها الفرصة قبلا كي تخبره بأنها ..... بأنها ....لم تقصد ....
و أن السعادة التي ظنتها يوما في تعذيبه ... لا تمت الآن بصلة الى ذلك الشعور المفجع بداخلها من هول الألم الذي سببته له .....
كم مضى على جلوسها هنا ؟؟ .....ساعات و ساعات بلا نهاية ......
أوشك الفجر و انتهت الليلة دون أن تسمع حتى ولو كلمة ..... فقط كلمة ..........
فقط فليخبرها أحد بالنهاية .... لا .... لا .... لا تريد سماعها ....
أغمضت عينيها لتسقط دمعدتان منسابتان على وجنتيها ... حتى لامستا شفتيها ...... وهي تبتلع ريقها ....
لتهمس دون أن تدري
( لا ترحل أرجوك ...... ابقى معي ..... أرجوك )
بعد تقريبا ساعتين أخرتين .... خرج الطبيب أخيرا ليطمئنهما على حالته مؤقتا و إن لم يكن قد أفاق بعد ....
كانت كفها تقبع في صمت فوق قلبها الخافق و هي تستمع بلا وعي الي الطبيب و كأنه يتحدث من بعيد ........
لم يطمئنها كلامه .... و لم يشفي روحها .... وكأنها اعتادت اليأس .....
فظلت واقفة بعدها خارجا أمام زجاج الغرفة تنظرمنه اليه حيث هو راقدا .... مغمضا عينيه ......
المزيد من الدقائق و التي تطول لساعةٍ أو يزيد ..... وهي تهمس بداخلها
" لا ترحل ........يمكننا أن نتفاهم , لكن لا ترحل الآن "
رفعت يدها تتلمس زجاج الغرفة ... و كأنها تلامس وجهه ...... حينها فقط , استطاعت رؤية أجفانه تتفتح بصعوبة و تثاقل .... مرة و أثنتين ....
فغرت شفتيها بذهول هامسة باسمه ..." جاسر ..... "
تراقب الممرضة تقوم بعملها ما بين العديد من الاسلاك و الأجهزة .... تنحني اليه لتلمس كتفه .... بينما لا يبدو هو واعيا لها تماما .....
ثم عاد اليه الطبيب ... و آخر ... حتى حجبو عنها رؤيته تماما ......
و حين حل الصباح أخيرا .... كانت لاتزال واقفة مستندة الى جدار بعد أن علمت بنومه مجددا .... حين شاهدت عاصم يقترب منها في الممر الطويل .....
فوقفت تنتظر وصوله اليها وهي متماسكة قليلا ..... و ما أن وصل حتى سألها بقلق
( متى حدث ذلك ؟؟ ........ )
هزت كتفها علامة اللاإجابة و هي تنظر اليه متظاهرة بالهدوء ... الا أنها ما أن التقت بعينيه حتى ارتجفت شفتاها فجأة و تشوشت عينها بدموعٍ طال كبتها ليلة كاملةٍ حتى كادت أن تفترسها ...
فخرج منها نشيج مصدوم وهي ترفع يدها الى فمها .... لتجد نفسها في لحظةٍ تقبع على صدره ليضمها اليه بقوة , مربتا على شعرها .... لا يجد ما يهمس به سوى
( لا بأس ..... لا تخافي ....... سيكون كل شيء على ما يرام )
كانت تدفن وجهها بين كفيها القابعتين فوق صدره و هي تشعر بنفسها تنهار ببطىء ....
هذه المرة ستكون قاسية أكثر من المرات السابقة , .... ليس من حقه أن يقتحم حياتها ليخرج كهذا فجأة ...
لم تدري أنها همست من بين بكائها الخافت
( ليس من حقه ............ )
أحنى عاصم رأسه ليسمع ما همست به .... فقال بخفوت
( ليس من حق من يا حنين ؟؟ ....... )
أعادت حنين من بين نشيجها همسا مختنقا
( ليس من حقه أن يقتحم حياتي .... و يفرض وجوده عليها .... )
عقد عاصم حاجبيه ... و حين ظنها صمتت , تابعت همسا من بين زفرات البكاء الناعم
( ليرحل هكذا فجأة ........ )
اتسعت عينا عاصم قليلا .... قبل أن يهمس بثقة وهو يرفع وجهها ليحيط وجنتها بكفه القوية
؛( لن يرحل ..... لن يرحل الآن يا حنين , ثقي بالله أكثر من ذلك و استعيذي به من تلك الوساوس .... ادعي له , فقط ادعي له ......... )
خفت بكائها قليلا و هي رافعة وجهها اليه .... و كأنها تطلب منه وعدا بذلك , فابتسم لها عاصم مؤكدا ....
ارتسمت ابتسامة مرتجفة قليلا على شفتيها قبل ان تتركه في صمت ...... لتتجه الى النافذة الزجاجية التي تفصله عنها من جديد ....
يبدو ان النوافذ الزجاجية قد قدرت لتفصل بينهما دوما .....
استندت بجبهتها على الزجاج البارد و هي تنظر اليه ..... ....لتغمض عينيها و تهمس
( بيننا حوار طويييييل لم ينتهى بعد .... فعد رجاءا , ....... يا رب .... يا رب .... يا رب سلمه و أعده لي ...)
مر باقي النهار و هي تنتقل من النافذة الى المقعد الكئيب في الممر الطويل ... لا يسمحون لها بالدخول , وكأنهم يخفون عنها شيئا ما ..... كانت ترقبه يفتح عينيه بين لحظةٍ و أخرى ....
لكنه يعود لإغماضهما سريعا ... قبل أن تشبع من رؤيتهما ينظرانِ اليها ....
كانت تجلس آخر النهار الثاني ... مجهدة ... متعبة الروح ... مستندة الرأس للجدار ....
ليس معها سوى عاصم و مدير أعمال جاسر .... وهما فقط من علما بالحادث حتى الآن .....


رفعت رأسها قليلا حين خرج الطبيب الأكبر بين مجموعة الأطباء ممن يدخلون و يخرجون على غرفة العناية المركزة .... كانت ملامحه أكثر هدوءا من الاربع و عشرين ساعة الماضية ...فاندفع اليه مدير أعمال جاسر و سأله بشيء ما .... فأجاب الطبيب بنفس الهدوء أن حالته مطمئنة .... و أنه واعٍ تماما لما حوله .... لكنه يرغب في رؤيته ...
أومأ مدير أعمال جاسر برأسه بسرعة .... قبل أن يدخل ناسيا حنين التي تقبع وحيدة في أحد الأركان .....
دخل اليه ليفاجأ بجاسر .... يرقد على الفراش الطبي و قد أحاطت به العديد من الأسلاك ...المرتبطة بمؤشرات ....
و قد بدا أكبر من عمره بعشرات السنوات ....
اقترب منه بسرعة ليمسك بكفه ..... فالتفت اليه جاسر لينزع قناع الأكسجين بإجهاد , قائلا بصعوبة ...
( حنين ......... )
لم يسمعه مدير أعماله للمرة الأولى فانحنى اليه أكثر و هو يسأل بخفوت
( ماذا قلت يا جاسر ؟؟ ............... )
قال جاسر بخفوت و أجهاد
( حنين ............. )
همس له مدير أعماله مطمئنا
( إنها في الخارج يا جاسر ..... لم تتحرك للحظة , أتريد أن أدخلها اليك ؟؟ )
هز جاسر رأسه بصعوبة وهو يقول بخفوت و بصوتٍ ذاهب الأنفاس لا يكاد يسمع ... و بأدنى درجات التركيز التى حاول جاهدا تجميعها ...
( لا .... أريدك أن تسمعني جيدا , بالتوكيل الذي تملكه ..........., أريدك أن تسجل كل ما اتفقنا عليه باسم حنين .... الآن و ليس آجلا ....... )
اقترب منه مدير أعماله أكثر وهو يربت على كتفه قائلا ...
( لما التفكير المتشائم هذا الآن ؟؟ ......لقد طمأنني الطبيب .... ان شاء الله ستخرج بالسلامة و تفعل كل ما تريد بنفسك )
همس جاسر بخشونة و تقطع
( لم يعد لي سواها .... و لا أريدها أن تتعقد في اجراءات طويلة ان تركتها ..... لا أريدها أن تحتاج لأحد ....و أريدك أن تسهل لها كل شيء , ....... لأنها لن تتمكن من التصرف بمفردها ..... )
أمسك مدير أعماله بكفه ليقول بثقة
( اطمئن ..... سأفعل كل ما تريده , فقط ارتاح الآن ......... )
الا أن جاسر شد قبضته على كفه ليقول بخفوت
( أريد أن أراها الآن ........ )
اومأ مدير أعماله وهو يهمس ( حالا ......... )
نظرت حنين بتعبير تائه الى مدير أعمال جاسر الذي خرج و اقترب منها ... و ما أن وصل اليها حتى همس
؛( سيدة حنين .... يمكنك أن تدخلي اليه , انه بخير و يريد رؤيتك ........ )
لم تعي حنين أنها كانت تهز رأسها نفيا .... و لم تكن تعلم ما هي هية هذا النفي ؟؟ ....
هل هو رفض لأن تدخل لرؤيته ؟؟ .... أم أنه عدم تصديق بأنه سيكون بخير و أنها لن تفقده ....
هز الرجل رأسه مومئا بثقة ... وهو يقول مؤكدا و كأنه فضل الإختيار الثاني
( بلى يا سيدة حنين ..... سيكون بخير , فقط ادخلي اليه الآن ..... )
همست حنين بصوت لا يكاد يسمع وبعينين زائغتين تماما
( لا أظن أن ..... أن من المناسب أن ......أدخل اليه .... )
عقد الرجل حاجبيه ليقول بحيرة
( إن لم يكن من المناسب دخولكِ أنتِ في وقتٍ كهذا فمن يكون ؟؟ ....... )
ظلت حنين تنظر اليه لحظات بشبه استجداء قبل أن تنهض بتثاقل لتتقدم من الغرفة و كأنها متجهة لغرفة إعدام ... ذلك الحكم الذي أصدرته عليه و نفذته بمنتهى القسوة دون أن تدري ....
دخلت حنين اليه ..... وقفت عند الباب , تنظر اليه راقدا .... شاحبا ... لكنه لا يزال قويا و يبعث الرجفة في أعماقها ....
حين أبصرها بطرف عينيه .... مد يده يرفعها اليها بصمت و كأنه ينتظرها ... فبقت متجمدة مكانها قليلا قبل أن تتحرك بلا وعيٍ منها الى أن أمسكت بكفه الممتدة ... فانحنت اليه لتهمس
( كيف حالك ؟؟ ........ )
همس بخفوت و إجهاد وهو شبه مبتسم
( أصبحت بخير الآن ......)
عضت حنين على شفتها قبل أن تعاود الهمس
؛( كيف حدث ذلك ؟؟ ..........)
هز جاسر رأسه قبل ان يهمس
( لم يعد مهما الآن ...... لا شيء يهم )
انحنت حنين أكثر و هي تئن بغصة
( بلى يهم ...... لماذا لم تعتني بنفسك ؟؟ .....)
ابتسم بصعوبة وهو يشد على كفها ليجذبها اليه أكثر حتى همس
( ربما لأنكِ لم تكوني معي لترعينني ....... )
ابتسمت بألم بينما تشوشت الرؤية أمامها بدموع حبيسة أخفته عن مجال رؤيتها .... لكنه تابع قبل أن ترد عليه
( اسمعيني جيدا يا حنين ..... سيجري مدير أعمالي كافة الإجراءات الخاصة بنقل كل ما أملك باسمك .... لذا لا تجادليه في أي خطوة ..... )
عقدت حاجبيها قليلا بعدم استيعاب .. ثم همست باستنكار ( ماذا !! .... )
عاد ليشد على كفها وهو يقول بجدية
( ما سمعتهِ ..... أنتِ وريثتي الوحيدة في هذه الحياة , و أرغب في التأكد من ذلك ........ )
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تهمس بغضب و اختناق
( لا ....... )
لكنه همس بقسوة
( بلى ..... أستطيع منحك ما أريد طالما أنني على قيد الحياة , لكن بعض الأقارب لن يرحموكِ ان حدث لي شيء ...... )
همست حنين باختناق ( اخرس ....... )
قاطعها جاسر بقسوة ... ؛( اسمعيني .....)
الا أنها هي من قاطعته هذه المرة ... حين نزلت بجبهتها لتستند بها على جبهته وهي تهمس باختناق
( اخرس أرجوك ...... اخرس ....... )
سكتت لحظة قبل أن تسقط دمعة متسللة من تحت جفنها المطبق لتنحدر على وجنته هو و ليست وجنتها .... ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تهمس دون أن تفتح عينيها
( لا أريد ..... لا أريد شيء .... بلى أريد ...... أريد ...... لا ترحل يا جاسر أرجوك , و لا تبتعد عني ..... )
سمعت صوت أنفاسه الخشنة المجهدة .... قبل أن تتجرأ على فتح عينيها الحمراوين لتنظر الي عينيه المتعبتين المتألمتين
وهمست ببكاء خافت
( مال العالم كله لن ينفعني بشيء... إن رحل عني المزيد ممن ......... ممن ..... )
لم تستطع المتابعة و هي تبكي بنعومة
( أرجوك لا ترحل ....... ان رحلت , سيفترسني الجميع ... و سأضيع في هذه الحياة ...... و سأ .... )
قاطعتها ضحكته الخشنة المتألمة قبل أن يتابع هو
( هل من الفترض أنكِ ترفعين من روحي المعنوية بما تقولين ؟!! ...... حقا ... يوما بعد يوم أتأكد من فشلك في كل شيء ........ امنحيني بعض الثقة بكِ رجاءا لأرحل و أنا مطمئن عليكِ ...... )
شهقت حنين باكية و هي تهز رأسها نفيا فوق جبهته لتأمره بفظاظةٍ منهارة
( توقف عن ذلك ............ توقف ...... )
ضحك جاسر وهو يقول بصوت غريب
( لم أستطع المقاومة ..... سماع رجائك بألا أرحل و أتركك كان من أعذب ما .......)
لم يكمل كلامه المتقطع المجهد الذاهب الأنفاس .... فلم يجد ما يتابع به افضل من أن يرفع ذراعيه ببطء قبل أن يضمها فوق صدره الموصل بالعديد من الأسلاك ...و بكل ما أوتي من قوة .... و على الرغم من ذلك وصلتها قوته متعبة ضعيفة لدرجة آلمتها ...
وحين رفعت وجهها اليه بعد فترة كانت عيناه تغلقان رغما عنه .... فاقتربت وهمست في اذنه
( ارتاح و أغمض عينيك ..... و سأكون بجوارك دائما ...... )
ظنته نائما ... لكنه همس بعدم تركيز
( وعد ؟؟ ......... )
ابتسمت من بين دموعها وهي تبتلع غصة في حلقها لتهمس
( وعد ........ )
خرجت حنين من غرفته بساقين غير ثابتتين .... لتستند بظهرها للجدار , قبل أن تفجر كل شحنتها المكبوتة في بكاءٍ مرير .... و دعاء صامت ......
.................................................. .................................................. ...........................
بعد اسبوع ...
دخلت اليه صباحا بعد أن بدلت ثيابها أخيرا و تمكنت من الإغتسال في احد حمامات المشفى ...
كان هذا الاسبوع من اصعب ايام حياتها و اكثرهم اراهقا لأعصابها ....
فبعد تلك المرة التى وعدته فيها و خرجت من غرفته .... فجعت بعد عدة ساعات بالطبيب يخبرهم بصوت خافت ان جاسر ذهب في غيبوبةٍ مؤقتة ....
لن تنسى ما شعرت به حينها من وقع تلك الكلمات ... و كأنها فقدت الحياة نفسها ....
وكأن قلبها قد توقف عن النبض بينما لم يتوقف لسانها عن الهمس بالدعاء .... ماكثة بقرب النافذة الزجاجية , تتلمس وجهه عن بعد ....
تأمره بقسوةٍ ما بين دعاءٍ و آخر بأن يفيق .... و كأنها تهبه قبلة الحياة بصرامة ....
ليفيق بعد فترة ..... و لم تكد تستعيد أنفاسها حتى تكرر نفس الوضع مرة أخرى , حتى أوشكت على تنهار تماما ...
و الآن و بعد سبعة أيام من هذا الضغط بدا و كأنه استعاد وعيه تماما .....
يبتسم ... يلقي عددا من نكاته السمجة ثقيلة الظل ..... و حتى انه لم يعفيها من تلميح قليل الحياء كعادته , على الرغم من أنفاسه المتقطعة ..... سيعيش قليل الأدب طوال عمره .....
تكفلت ابتسامة متزنة لدى دخولها لا تناسب نبضاتها المتسارعة دون أن تعرف لها سببا ....
لكن الإبتسامة اهتزت قليلا وهي تراه شاردا في البعيد دون أن يلحظ دخولها ....ابتلعت ريقها فقد اصبحت الآن تحلل كل نظرة شرود منه لم تكن تلحظها قبلا .... أو على الأقل كانت تلحظها و تتجاهلها ....
اقتربت منه ببطء الى أن شعر بوجودها فنظر اليها بصمت قبل أن يضيع شروده تماما و تظهر لمحة السخرية المعتادة على ملامحه ...... ثم قال بهدوء
( الازلتِ هنا ؟؟ ......... )
اختفت ابتسامتها تماما و توقفت مكانها .... قبل ان تعدل ملامحها في لحظة و هي تقول باتزان مرسوم و حاجب مرفوع
( و أين سأكون ؟؟ ........ )
قال جاسر بصوت ناعم لكن غير مريح
( ظننتك ستكونين سعيدة بانتهاز الفرصة و اخذ فترة أجازة منى و العودة لبيت عمك .....)
لم تتنازل للرد عليه ... الا انها عادت لتقترب منه وهي تقول باتزان
( أرى أنك أصبحت احسن حالا .........)
نظر اليها بطرفِ عينيه من رقدته القسرية ... ليقول بسخرية
( هل هذه هي فكرتك عن الحال الأفضل ؟؟ .......)
عقدت حاجبيها وهي تهمس
( احمد الله أنك لا تزال على قيد الحياة ..... الحادث لم يكن سهلا أبدا و هذا يذكرني أن أسألك ,.... منذ متى كنت مهملا في القيادة بهذا الشكل ؟؟ )
نظر اليها بحنق وهو يقول بتعب
( مهمل ؟؟ ...... لقد كان حادثا يضم ست سيارات ارتطمت مع بعضها بعد ان عجزت ايا منها في التوقف و منهم احدى شاحناتي التي كانت خلف سيارتي تماما )
اقشعر جسد حنين مرة اخرى وهي تنظر اليه يتذمر و يشاكسها ..... واعيا لوجودها بعد الأيام المضنية السابقة .....
لا تصدق أنه هنا بالفعل ..... و لم يرحل , ..... تماما كما طلبت منه ..
همست حنين رغما عنها بهدوء على الرغم من قلبها الخافق برعب
( عامة ..... حمد لله على سلامتك )
لم يرد عليها للحظات قبل أن يقول بمشاكسة
( رجائك لي و بكائك منذ عدة أيام ... كان إداءا أفضل كثيرا من هذا الآن ...... )
زفرت حنين بقوة و هي تنظر اليه وقد بدأت تعود لطبيعتها في الغيظ منه , على الرغم من حالته ....
لم ترد عليه و هي تقف في منتصف الغرفة لا تدري كيف تتصرف كالغبية .... لكنها نظرت اليه حين تأوه قليلا وهو يحاول التحرك ...
فاقتربت منه خطوة وهي تقول بخفوت
( لماذا تتحرك ؟؟ ..... ستؤلم نفسك )
زفر جاسر بحنق وهو يقول بكبت
( تعبت من هذا الرقود ..... اريد ان أخرج من هنا اليوم قبل غد ..... )
نظرت الى ملامحه الخشنة التي تشبه ملامح طفل متذمر شكاء .... فاقتربت اكثر لتجلس على حافة فراشه في نهايته عند قدميه
و دون أن تفكر رفعت يدها لتلامس أصابع قدمه الظاهرة وهي تقول بخفوت ....
( منذ خمسة أيام لم نكن نظن أنك س ....... كنا نعتقد أنك .... و الآن أنت تتذمر لأنك مللت الرقود !! )
لم يكن بكامل تركيزه مع كلماتها تماما .... بل كان ينظر محورا لأصابعها الرقيقة و هي تداعب أصابع قدمه و إن لم يكن يشعر بها حاليا في الواقع ......
ابتلع ريقه قليلا ... قبل أن يقول بخشونة خافتة
( أريدك أن تتوقفي عن المبيت هنا ..... من اليوم ستنتقلين الى بيت عمك الى أن أخرج )
رفعت عينيها اليه تنظر اليه بصمت قليلا قبل أن تقول ....
( أنت لم تتوقف عن المبيت معي حين كنت في المشفى ..... الا تذكر ؟؟ )
همس جاسر بداخله بطوفانٍ يفور
" و كيف أنسى !! ....... "
الا أنه قال بخشونة
( الأمر يختلف ..... لقد مكثت عدة أيام ليس أكثر , أما أنا فأعتقد أن حالي سيطول هنا .... و من المؤكد أن أرفض مبيتك هنا الى مالانهاية ...... )
تابعت مداعبة اصابع قدمه بملامح هادئة و كأنها تستفز اعصابه .... و بالفعل نجحت في ذلك ....
كان يغلي بداخله .... و يتعجب كيف يمكن أن يكون على حافة بركان من منظر أصابع يدها على الرغم من أنه لا يشعر بهم أصلا !! .....
قالت حنين بهدوء تقطع عليه أفكاره ....
( سنتكلم في هذا الامر بعد فترة مناسبة ..... أما الآن فمن المؤكد لن آخذ طلبك بعين الإعتبار ...... الأيام المقبلة ستحتاج الى من يساعدك كثيرا و في أمور خاصة للغاية .... , و زوجتك هي أفضل من يقوم بذلك ....
أم ربما تفضل أن تساعدك ممرضة غريبة !! )
عبس بشدة و هو يظنها تذله بكلماتها تلك .... الا أن ملامحها الهادئة و نظراتها الثابتة لم تمكنه من فهم ما يدور برأسها تماما ....
زم شفتيه و هو ينظر بعيدا ... بينما ابتسمت هي قليلا دون أن يراها ....
إن كانت قد وقفت لعاصم رشوان كالأسد وهو يأمرها أن تعود لبيت عمها الى أن يخرج جاسر لأنه لن يسمح بأن تبقى في بيت الساحل البعيد بمفردها ......
و هي تخبره بكل حزم بأنها لن تترك بيتها حتى يعود زوجها ... و كان صوتها و لهجتها أقوى من أن يقاومها في تلك اللحظة ....
لذا أيعتقد جاسر رشيد أنها ستخضع لأمرٍ منه هو حتى ولو كان زوجها .... و تذهب لبيت عمها كحمل وديع !!
اذن فهو مخطىء .....
لكن لا داعي لتخبره بذلك الآن ..... فهي ستبيت معه في المشفى الأيام المقبلة في كل الأحوال .....
قال جاسر فجأة بصوت غامض ... خافت للغاية
( كيف حال عملك ؟؟ ...... )
همس صوت بداخلها " تراجعي .... مياه خطرة " ....
ارتجف قلبها ألما قليلا ...لكنها ثبتت ملامحها بمهارة دون أن تهتز عضلة في وجهها و هي تقول بابتسامة صغيرة
متعمدة أن تهز كتفها بطريقة عادية
( لم أذهب طبعا منذ يوم الحادث ..... )
قال جاسر بصوت خشن لايزال خافتا وهو يسرح بنظراته فوق ملامح وجهها و كأنه يتحقق منها
( يمكنك الذهاب ...... لن أمنعك , ثم تعالي لزيارتي بعدها )
هزت كتفها بلامبالاة مرة أخرى وهي تقول بهدوء
( آخر ما أفكر به هو العمل حاليا ......... )
ظل جاسر يدرس ملامحها طويلا قبل أن يسأل بخفوت
( لماذا لم يأتِ عمر لزيارتي حتى الآن ؟؟ ........... )
انتفض قلبها ... يالهي كم هو ساذج و شفاف .... السؤال كان يتحرقه حتى انه لم يستطع تأجيله ولو قليلا بعد سؤالها عن عملها ..... ابتلعت غصة مؤلمة في حلقها قبل أن تقول بكل ما اوتيت من اتزان و ثقة
( لقد سافر لاحقا بزوجته منذ عدة أيام ....... لا أعتقد بأنه قد علم بالحادث بعد )
صمتت قليلا تنظر اليه ... ثم تابعت بهدوء
( لا تقلق .... ما أن يعلم حتى يأتي مباشرة )
هز جاسر رأسه موافقا بملامح متجهمة شاردة .... أصبحت تفهمها جيدا .... لكنها لن تتجرأ حتى على فتح الموضوع , لقد ضربت انسان في مقتل دون قصدٍ منها ... و هي الوحيدة القادرة على إصلاح هذا الامر ...
لو أقسمت له الآن آلاف المرات ... .....
عضت على شفتها متعجبة هذا الإصرار الغريب المنبعث بداخلها ..... قد تكون فعلا حزينة لأنها جرحت انسان بشدة دون قصد و هذا ليس طبعها .... على الرغم من كل وعودها السابقة بتعذيبه ...
الا أن ذلك الإصرار الغريب بداخلها على محاولة إصلاح الأمر يدهشها .... يحيرها من نفسها ....
شعور الأيام السابقة و هي تتخيل رحيلة مع كل الألم في قلبه دون أن تجد الفرصة لرأبه ... كان كفيلا الآن بأن تحاول التصالح مع نفسها و نبذ كل أحقادها القديمة ....
حين منحها القدر الفرصة مجددا .... و ها هو جاسر راقدا أمامها , لكن خشنا قويا ... مستفزا , ساخرا و أحمق ......متذمرا و سمج .... لكن الاهم ... أنه على قيد الحياة .....
الأيام الماضية كانت طويلة و مضنية ... لكن الأيام الآتية أطول .....
.................................................. .................................................. ........................


.................................................. .................................................. .............................
قبل عدة أيام ....
كان جالسا في مقعد الطيارة متجها اليها .... من أول بقاع الأرض الى آخرها ... سعيا خلفها .....
أغمض عينيه متذكرا قيامه من النوم مبكرا ليستشعر برودا أجوف جمد قلبه دون أن يعي السبب ... لينهض خلال لحظات باحثا عنها في أرجاء البيت دون أن يجدها ....
لكن وجد عوضا عنها ورقة صغيرة .... تخبره فيها بأنها على الأرجح ستكون فوق السحاب في هذه اللحظة تحديدا ...
رسالة مختصرة .. باردة ... ضربته في مقتل ....
لم يشعر الا وهو يكورها و يرميها أرضا .... يهيج في أرجاء البيت كأسد مجنون , هربت منه زوجته ... الملك الحصري له فقط .....
هربت منه وهو نائم .... بمنتهى البساطة , و بنفس بساطة تجهيزها لكل شيء دون علمه ... بينما كانت تمتع عينيه بابتسامتها الناعمة الخادعة ....
تذكر صراخه في الهاتف بأن تعود حالا .... الا أنها و بعد الصمت الموجع أجابته بخفوت بأنها تحتاج ذلك , كما أن كلاهما يحتاجان لبعض الوقت كي يتغاضيان عما فات ....
أوشك على أن يطير خلفها في التو و اللحظة ... الا أن شيطان أعمى دفعه للصراخ فجأة
( اذهبي ..... و لتفعلي ما يحلو لكِ , لكن لا تعودي الى هنا ......... )
حتى أنه أغلق الهاتف و رماه للحائط كي يسقط متحطما الى شظايا قبل أن يسمع شهقتها .....
و كان رفيقه هو مقعده في الظلام السائد .... ليلة كاملة جلسها منتظرا أن تعود .... أن تهاتفه .... أن تعتذر له أو أن يصله اي خبر عنها ..... لكنها على ما يبدو اختارت الحل الثاني و بقت على قرارها .....
حين أطل صباح اليوم التالي .... نهض أخيرا عن مقعده , ليتجه بروتينية الى ارتداء ملابسه و الذهاب الي عمله ! ...
هل كانت رنيم حلما مغتصبا في حياته لذا وجب عليه أن يدفع الثمن ؟؟ .....
أم أنه هو من كان حلما ورديا لمراهقة لم تتعدى مرحلة الطفولة بداخل جسد امرأة .... لكن ذلك الجسد هو جسد زوجته ... و هي ليست طفلة ... و لا مراهقة .....
لذا هو هنا الآن .... متأخرا ربما . لكن استلزمه بعض الوقت كي يدرك بأنه لن يسمح لأي شيء في هذا الوجود بأن يسلبه حلمه ....
ارجع رأسه للخلف يهدىء من ثورة مفاجئة مندفعة في أوردته تشوقا لرؤيتها .... لم تكد تغب عنه لعدة أيام... ربما يمكن حسابها بالساعات ... الا أن شوقه الآن وهو متجها اليها يختلف تماما عن بروده في التعامل معها سابقا ...
ذلك البرود الذي كان يحرق قلبه هو قبل قلبها ... الا أنه لم يجد القدرة حينها على اذابة جليد هذا البرود ....
لكن الآن ..... الان هو في طريقه اليها ...
تفصله عنها ساعات طويلة , لا يعلم كيف سيتمكن من تمضيتها انتظارا و شوقا ....
.................................................. .................................................. ...........................
أغمضت عينيها حرجا و خجلا ..... وهي تقف أمام الطبيب كاشفة شقي الثوب الطبي , بينما هو يقوم بدراسة جسدها ربما للمرة الثالثة ....
لقد مرت بهذه التجربة من قبل .... الا أنها هذه المرة تشعر بالخزي و الحرج على الرغم من كونه طبيب , لا تعلم لماذا ......
عضت على شفتها منتظرة أن تنتهي تلك اللحظات القاسية .....سينتهي كل شيء قريبا ....
ربما ستفيدها تلك الجراحات التي ستجرى لها .... مجددا ....
ان كانت بعض السيدات يرفعن من ارواحهن المعنوية عن طريق تغيير طفيف في الشكل من تغير لون الشعر و قصته ... أفلن تغير تلك الجراحات القليل من اليأس الذي تشعر به حاليا ....
و خاصة بعد آخر مكالمة لها مع عمر ..... ارتجف جفنيها المغمضين ... عمر ....
كم تشتاق اليه على الرغم من قسوته معها .... لكنها تعذره ... تعذره في كل ما سببته له من الم و لا تزال حتى هذه اللحظة .....
سمعت صوت باب غرفتها يفتح فجأة .... ففتحت عينيها باندهاش , لتصدم برؤيته امامها بدمه و لحمه ....
واقفا بالباب على وشكِ اقتلاع حنجرة احدهم ....
اتسعت عينيها بذهول و هي لا تصدق ما تراه قبل ان يقول بما لا يقبل الشك في جنونه اللحظي
( غطي نفسك .......... )
جعلتها كلمته الشرسة تستدرك نفسها فتغلق شقي الثوب و تضمه الي جسدها بقوةٍ ليعلو الاحمرار وجهها ...
دخل عمر الغرفة بلا استئذان .... فاندفع الطبيب مقطبا جبينه مستفسرا عن هويته و سبب اقتحامه للغرفة بهذا الشكل , لكن و قبل أن يستدعي الأمن كان عمر قد أخبره في كلماتٍ وجيزة بأنه زوجها و يريد التحدث اليها ... حالا ... و على انفراد .....ثم أمره بمنتهى الفظاظة بأن يخرج .
أرتجفت رنيم بشدة و هي تدعو الله أن يخرج ذلك الطبيب حالا قبل أن يتهور عمر و يرتكب فعلا قد يتسبب في تدمير العلاقات بين البلدين .....
و استجاب الله لدعائها فخرج الطبيب متجهما ... ليترك لهما حرية الحديث ....
استدار عمر بعينين شريرتين اليها ليهدر بقوة
( كيف تسمحين لرجلٍ غريب بالنظر الي جسدك بهذا الشكل ؟؟ ....... )
و اقترب منها بسرعةٍ فتراجعت أسرع منه للخلف ... فاصطدمت ساقيها بالسرير لتسقط عليه جالسة ... شاكرة لوجود ما يحمل وزنها المتخاذل في تلك اللحظة ...
ثم همست برعب ( انه طبيب يا عمر ....... لقد مررت بالمثل من قبل عدة مرات )
صرخ بجنون ( لكن ليس و انتِ زوجتي .... و دون اذنٍ مني , .... و انتِ تعلمين جيدا بأنني لن أقبل بشيءٍ كهذا )
لم تكمل همستها المذهولة
( أخفض صوتك أرجوك ....... متى ....متى وصلت ؟؟ ....... )
حيث أنه كان قد اقترب منها ليقبض على ذراعيها يرفعها على قدميها رفعا ... ليهدر في وجهها
( أخبريني أنتِ ... سأدع القرار لكِ , كيف يمكنني القضاء على تصرفاتك التي لا حدود لها في عدم المسؤولية .... أخبريني بالله عليكِ , ..... هل أقتلك و أرتاح منكِ ؟؟ ......كيف .... كيف ..... تسمحين لرجل غريب بالنظر اليكِ ؟؟ ..... اقسم بأنني على وشكِ قتلك )
اتسعت عينيها و هي تنظر الى شراسة غضبه و التي فاقت غضبه في آخر اتصال بينهما ...و كأنه احتاج لهذه الفترة بعد الإتصال كي يزيد من اشتعال غضبه و نقمته عليها ....
همست رنيم بخفوت
(لقد اخبرتك .... في الهاتف عن .... بعض الجراحات )
صرخ كالمجنون و قبضتاه تكاد ان تحطما ذراعيها
( ظننتها جراحة لساقك لا اكثر ........ هل أنتِ عديمة الحياء لتلك الدرجة !!!)
همست رنيم بخزي من كلماته الجارحة
( لم أقصد أن أجرحك ........... )
هزها بقوةٍ حتى اصطكت أسنانها فأغمضت عينيها وهي تستمع للمزيد من اتهاماته
( لم تقصدي و لا تقصدي .... و كل ما تفعيلنه هو التقليل من شأني )
احكمت أغماض عينيها بقوةٍ كي تمنع دموعها من الإنهمار ... لكنها صدمت حين هزها مرة أخرى وهو يهدر بصوت غير متزن تماما
( أغلقي هذا الشيء بالله عليكِ ...... )
فتحت عينيها بذهول لتراقب عينيه المدققتين بغضب و ..... و .....
هو وحده من دونِ الناس جميعا من له القدرة على منحها احساسا بالأنوثة لم تشعربه من قبله و لن تشعر به من بعده
امسكت بشقي الثوب و احكمت ربطاته بتعثر و خجل .... و ما أن انتهت حتى سمعت صوت زفرته الغاضبة و النافذة الصبر .... الى ان تمكن من القول اخيرا بجفاء
( ليس هذا مكان الكلام عامة ..... سنعود معا على متن أول طائرة , و حين نصل سيكون لنا حديثا آخر يا رنيم و سأتأكد بنفسي من اقحام كل كلمة تستحقينها في رأسك الغبي ....... )
تجرأت رنيم على هز رأسها نفيا بضعف قبل أن تهمس
( أحتاج لذلك يا عمر ..... أرجوك حاول أن تفهمني , أحتاج لذلك و بشدة )
شدد عمر على ذراعيها يهزها حتى رفعت رأسها اليه , فرد عليها بقسوة
( تماما كما كنتِ تحتاجين العمل و بشدة ... و ما أن نلته حتى تركته بحثا عن قشةٍ أخرى تتعلقين بها !! ...
انتِ لا تعلمين ما تحتاجينه حقا يا رنيم ..... )
صمت قليلا قبل أن يتابع بصوت خشن ..خافت قليلا
( و كنت أنا من ضمن الأشياء التي احتجتها يوما ..... كنت مجرد شيء , أحتجته و بذلت من أجل الحصول عليه الصواب و الخطأ معا .... و ما أن أصبح لكِ حتى هربت منه هو الآخر ..... اليس كذلك ؟؟ )
شهقت رنيم بعذاب و هزت رأسها نفيا قبل أن تهمس باستجداء
( لم تكن شيء في حياتي يا عمر ..... و لم تكن حتى حلم .... أنت بداخلي ... أنت جزء مني ..... لم أهرب حين ملكتك ..... بل هربت حين فقدتك , ... لأن ذلك كان الحكم بنهايتي , و مع ذلك قررت أن أمنحك الفرصة لتقرر و تحدد .... أن كنت تستطيع أن تسامحني يوما , أو ...... توقع بنفسك الحكم باعدامي ...... )
هزها عمر مرة أخرى وهو يهتف
( قررتِ .... قررتِ ..... الا وجود لي في أحد تلك القرارات الفاشلة في حياتك ؟؟ ..... أنتِ لم تعودي حرة لتتصرفي كما تشائين كالسابق .... لقد أصبح لكِ شريك في كل قرار من قرارات حياتك ... بل و شريك في كل نفس و كل زفيرٍ تخرجينه .... كي يستنشقه هو ........ )
رفعت عينين مذهولتين غارقتين في دموعهما اليه لتتبين كلامه .... ثم رفعت أصابع مرتجفة تمسح بها بعض الدموع و هي في حالة من الفوضى ... لتهمس بألم
( عمر ...... هل يعني ..... هل يعني ذلك أنك ...... أنك لن تتركني ؟؟ ....... )
رفع عينيه للسماء دون أن يتخلى عن ذراعيها وهو يزفر بنفاذ صبر
( يا الله يا ولي الصابرين .... و من ترك الآخر يا بنت الحلال !! ..... بعد كل محاولاتي في رأب الصدع الذي تكرمتِ أنتِ به ...... تكون النتيجة أن تتركيني بمنتهى قلة الأدب ...... )
همست من بين بكائها
( لم تكن محاولاتك لرأب الصدع .... ناجحة تماما ..... لقد جعلتني أشعر بأنك ستتخذ القرار بالتخلي عني في أي لحظة .... و أنك لم تعد تطيق النظر في وجهي مرة أخرى ..... جعلتني أشعر بأنك .... بأنك قد كرهتني ..... )
هتف بغضب محمل بالكثير وهو يقبض على ذراعيها بقسوة
( لو كنت كرهتك لما كنت أتحمل كل هذا العذاب الذي اشعر به كل يوم و كل ليلة .... لكنت أخرجت من حياتي ببساطة و دون جهد يذكر ..... لكن طبعا أنت عمياء كالعادة و لا ترين الا ما تريدينه فقط ... و ان لم يتحقق ما تريدين , ترحلين دون أن تنظري خلفك ...... )
شهقت باكية و قلبها يغرد بألحانٍ حزينة
( لكن في .... آخر مكالمة .... طلبت مني ألا أعود ...... )
همس عمر من بين أسنانه ...
( بعد تسللك !! ... و سفرك دون اذنٍ مني !! ..... و بعد اكتشافي لرسالتك الوقحة !! .....كنت على استعداد للحاق بكِ لا لشيء سوى لأن ادس تلك الرسالة في فمك و أجعلك تبتلعينها غصبا ...... )
اترتمت على صدره .... تبكي بقوةٍ ..... تتشبث بحافتي قميصه ... وكأنها بالفعل متعلقة بقشةٍ في مهب الأمواج ....
وهمست بصعوبة
( أنا أحبك يا عمر ..... أحبك جدا ..... و لم أتخيل يوما أن أؤلمك مثلما فعلت ...... )
خفت قبضتيه قليلا لتتحولا الى لمساتٍ متجولةٍ على ذراعيها دون وعيٍ منه .... لكنه حين تكلم كان صوته لا يزال خشنا غير مسامح بعد
( تحبيني ؟؟ ..... هل هذا هو الحب في نظرك ؟؟ .... ألا تتحمليني قليلا إن قسوت عليكِ أو احتجت بعض الوقت لتناسي أمرٍ آلمني !! ..... )
شهقت باكية وهي تمرغ وجهها في صدره
( أنا آسفة ..... أنا آسفة ..... سأظل أرددها الى أن أموت ...... )
همس عمر بقسوة
( هششش ..... لا أريد سماع تلك الكلمة ....يا غبية )
صمت قليلا قبل أن يتابع بنعومةٍ هامسة و هو يشدد من ضمها اليه
( يا أكثر نساء الأرض أنوثة .... و غباءا ..... )
ارتجفت رنيم بقوة قبل أن ترفع رأسها اليه تبتسم من بين دموعها ... فقابلتها أجمل ابتسامة حزينة رأتها يوما منه ..
شهقت مرة .......و اثنتين .... قبل أن تضيع الثالثة بين شفتيه .....
لتتحول الشهقة الى تأوه ناعم طال الشوق اليه .... ..
للحظاتٍ غاب عنهما المكان ... الى أن شعرت بيديه تتسللان الى ربطات ثوبها , فانتفضت شاهقة و هي تتشبث بيديه
( عمر .... توقف نحن في المشفى .... كما أننا لسنا في بلدنا حتى !! )
ابتسم عمر من بين أنفاسه اللاهثة ليقول بخشونة
( هل تلك هي المشكلة الوحيدة لديكِ ؟؟ .... أننا لسنا في بلدنا ؟؟ .... حسنا ذلك أفضل فلو كنا في بلدنا لربما تم استدعاء شرطة الآداب لنا ..... )
شهقت محمرة الوجه وهي تضرب ذراعه .... لكن قلبها يغرد بذهول غير مصدق لتلك المعجزة التي تحققت صباح هذا اليوم .... بعد أن كانت قد تأكدت من أن علاقتها بعمر شبه انتهت ...
همست بخجل و هي تعيد احكام ثوبها ...
( كيف عرفت المكان أصلا ؟؟ .... و غرفتي ... و كل تلك التفاصيل ؟؟ ...... )
قال عمر بحرج وهو يحك رأسه قليلا
( حسنا ..... من والدتك طبعا , لقد تطوعت بكل التفاصيل رغم تشديدك عليها بألا تفعل .... )
مطت رنيم شفتيها و هي تهمس
( نعم .... أمي حبيبتي , لا أمل فيها مطلقا ...... منذ أن تعرفت عليك و انا أشعر بأنك أنت ابنها و ليست أنا )
قال عمر بحرج
( ليس تماما ..... حسنا لقد كنت ..... في حالة غباء مفاجىء , حيث ظللت أهتف كالمتظاهرين .... ابنتكم سافرت دون اذني ... ابنتكم تسللت و رتبت دون علمي .....)
شهقت رنيم بجزع و هي تقول
( لابد أن والدي طردك ......... انه لا يتحمل اساءة التصرف ولو على بعد أميال !! )
عقد عمر حاجبيه وهو ينظر اليها شزرا
(طردني !! ......... )
ارتبكت رنيم قليلا وهي تهمس
( لم اقصد ....... لكن )
قاطعها عمر بصرامة
( حسنا ..... لعلمك أنه قال حرفيا " اذهب و احضرها من شعرها " ..... )
هتفت رنيم بغضب
( لم يقل ذلك ......... )
رفع عمر حاجبه ببساطة
( بلى قال ذلك بمنتهى الوضوح ........ صدقيني يا رنيم , لو كنا في زمنٍ غير الزمن لكنت ضربتك الى أن كسرت عظامك على أفعالك .... لذا نصيحة مني لا تستفزيني بعد اليوم , فلقد بالغتِ حقا ..... و فاض الكيل منكِ )
أطرقت برأسها وهي تهمس بحزن
( ستضربني حقا ......... )
قال بكل جدية
( نعم ...... فقط افعلي شيئا خاطئا واحدا مجددا ...... )
رفعت عينيها اليه لتهمس
( ولو رجوتك بأن توافق على اجرائي للجراحات ..... هل يعد ذلك خطأ ؟؟ .... )
أمسك بوجهها بين كفيه , يرفعه اليه فتواجهت عينيها الناعمتين مع عنف نظراته وهو يقول بتوحش
( لن يحدث أن تخدشك شفرة مجددا ...... لو كان هناك داعيا طبيا لربما فكرت قليلا .... لكن أن تعرضي نفسك لمخاطر عدة جراحات من أجل أن تبدين أفضل شكلا ..... فقط فلتحاولي و سترين ماذا سأفعل ..... )
عادت الدموع الزجاجية لتغطي حدقتيها قبل أن تهمس
( تطلب منك الأمر عدة أيام موجعة قبل أن تتخذ قرارك ......... )
ظل ينظر لعينيها قليلا قبل أن يهمس
( نعم ...... تطلب مني الأمر عدة أيام لأقرر بأن لاشيء في هذا الوجود سيعوضني عنكِ ان ابتعدتِ .... )
انسابت دمعتان ناعمتان على وجنتيها قبل أن تهمس
( وكأني في حلم .......... )
تلمس وجنتها برقةٍ وهو يتشرب من عذوب ملامحها .... كم اشتاق الي تلك الملامح و تلك النعومة !! ....
الى ذلك الصوت الذي يدخل لقلبه دون استئذان فيحجب عنه كل حماقاتها السابقة ......
عادت لتهمس
( عمر ..... هل حقا سامحتني ؟؟ ...... )
لم يجب للحظة , قبل أن يجلس على السرير من خلفه .. ليجلسها على حجره ... صامتا ... شاردا وهو يتلمس ركبتها الصغيرة الناعمة ....
قبل أن يقول بخشونة
( ظننت أنني لن أستطيع مسامحتك ما حييت ....... لكن مع ذلك لم يخطر ببالي ولو لحظة أن أتخلى عنكِ , و حين ابتعدت ....... و اقتربت النهاية بشكل أسرع مما تخيلت , وجدتني أهرع اليكِ ..... )
بكت رنيم بنعومة و هي تتعلق بعنقه لتخبىء وجهها به هامسة
( و أنا انتابني نفس الإحساس لكن قبلك بكثير .... منذ يوم زفافنا , حين ادركت بأنني قد خسرتك للأبد و في لحظات سألت نفسي .... اي زواج آخر سيعوضني عنك !! فيما كنت افكر حين فعلت ما فعلته !! .....
و علمت بأنك إن تركتني لن أكون لغيرك يوما ..... بل لن أكون قادرة على الحياة نفسها ..... )
سكتت حين انقطع صوتها بين بكاءٍ عنيف مختنق ,..... فضمها أكثر لصدره وهو يقبل شعرها بنعومته المنسابة على شفتيه ....
كم اشتاق لتلك النعومة ...و هو يلامسها بهذا الشكل , يشعر و كأنه يفترش فراشا من المخمل , يحيطه بإغراء ....
رفع وجهها الباكي اليه ... لينظر الي عينيها الحمراوين , قبل أن يطيل النظر الي شفتيها اللتين تتورمان حين تبكي تلقائيا ... ففقد قدرته على مناقشة المزيد و هو يعود ليتذوق رحيق زهرته الوردية .....
تاها بمشاعرهما طوييلا قبل أن يسمعا طرقة على الباب من المجهول تبعتها دخول ممرضة أجنبية صغيرة ... من المفترض أن تساعد رنيم ...
الا أنها توقفت فجأة مبتسمة ببشاشة لتقول بلغتها دون أي إحساس بالحرج
( ااوه ..... آسفة جدا , هل أخرج ؟؟ ..........)
احمر وجه رنيم بشدة و هي تحكم غلق ثوبها الطبي ... على الرغم من أنها كانت للتو تخضع لمعاينة مباشرة ...
الا أن عمر في حد ذاته يشعرها بالرقة و الأنوثة و الحياء ......
الا أن عمر اجابها بهدوء رغم الإحمرار الطفيف الظاهر على وجهه و الذي لم يخف على عيني رنيم
( لا بأس ..... زوجتي تستعد لأننا سنخرج الآن ..... )
قالت الممرضة بدهشة
( موعد الجراحة بعد عدة ساعات .......... )
قال لها عمر بتصميم
( زوجتي لن تخضع لاي جراحات .....لقد اتخذنا قرارنا )
هزت الممرضة رأسها بدهشةٍ قبل أن تستأذن في أن تذهب لتخبر الطبيب المسؤول ... فعضت رنيم على شفتها بخجل و هي تهمس بالقرب من عنقه
( إنها لطيفة تماما ..... و ذات نفسٍ مرنة للغاية )
ضحك عمر قليلا وهو يميل برأسه ليقبل وجنتها
( نعم .... لو كانت ممرضة في بلدنا , لطلبت لنا شرطة الآداب )
نظر الي عينيها الجميلتين قبل أن يتابع ...
( الليلة سنقضيها هنا بأحد الفنادق ...... و أعتبريها ليلة زفاف مؤجلة كثيرا )
احمر وجهها أكثر و أكثر .... الا أنها رفعت حدقتيها جانبا و هي تتظاهر بالتفكير .... تعض على شفتها ذات الوشم الوردي الذي دائما ما يثير جنونه ثم همست ببراءة
( ومن قال أن ليلة زفافنا مؤجلة !!........)
قال عمر بصرامة
( أنا قلت ...... مؤجلة اي مؤجلة ... أم أن لكِ رأيا آخر ......)
هزت رأسها نفيا و هي تنظر الى عينيه بعشق أحمق ... هامسة
( اذن هي مؤجلة ............... )
ترددت قليلا قبل أن تهمس بعد فترة
( عمر ...... لازالت أمامنا الفرصة لأقوم بالجراحات .... جراحات التجميل تطورت كثيرا خلال الست سنوات الأخيرة .... و لقد اكد لي الطبيب أن النتيجة ستكون مختلفة تماما عن السابق )
عقد عمر حاجبيه وهو يقول بغضب
( لا تذكري لي موضوع الطبيب مجددا .... فأنا أحاول جاهدا أن أتناساه و الا فسأخرج لأقتله ثم أطرق رأسك في الحائط بعدها ....... )
كان يتكلم بجدية شديدة ... حتى انها همست له بقلق
( أنا آسفة يا عمر ...... حقا .... لم أظن أن الموضوع سيجرحك بهذا الشكل )
نظر اليها بجفاء قبل أن يقول بحنق
( قليلة الأدب .......... )
همست مجددا تسترضيه ( آسفة ............. )
اخذ نفسا عميقا وهو يحاول جاهدا الا يفسد صلحهما بعد أن نال منه فراقها مناله .... ثم نظر اليها ليقول بجدية
( لقد أحببتك ككيان واحد ... حتى جروحك أحببتها , و ثقي أنكِ لن تكوني أكثر جمالا في عيني من الآن .... مهما فعلتِ....... )
ارتجفت شفتاها قليلا و هي تنظر اليه بحب يملأ قلوب العاشقين جميعا قبل أن تهمس أخيرا
(؛ هل أنتِ واثق ؟؟ ......... بما أن اليوم ليلة زفافنا المؤجلة , فكرت في أنه ربما ..... ربما ..... من الممكن أن أكون أكثر جمالا ........ )
راقت ملامحه قليلا قبل أن يطوف بعينيه فوق ملامحها المخملية وهو يهمس بشوق ملتاع
( فاجئيني .............. )
.................................................. .................................................. ...........................
في غرفة الفندق تلك الليلة ....
أخذ يجول في عرضها و طولها .... و كأنه عريس حديث في ليلة زفافه بالفعل , ... لا يصدق تلك المشاعر التي تتملكه و كأنه مراهق ينتظر عروسا صغيرة ....
عرف اليوم بأن تلك المرأة مهما فعلت , فهو لن يتمكن من مجافاتها طويلا .... انها قطعة من قلبه .....
قطعة أرسلها القدر له ذات يوم ...... كهدية مغلفة ....
حين دخل في شجارٍ كاد يودي بحياته ...
لينقذه شخص لم يحبه يوما ...
فيصبح فجأة أكثر من أخٍ له ...
ليقرر رد دين صديقه ....
بالعودة لرعاية زوجته سرا .....
و التي جاءت للعمل عن طريق توصية من عاصم رشوان ....
و الذي بدوره قام بتوصية مماثلة ....
فأرسل اليه فتاة مدللة ....
لم تعرف العمل يوما ....
تملك جروحا في جسدها , لم يراها أبدا ...
لكنه رأى جروح روحها ....
ليقرر بأنه قد عاد من البداية اليها .....
ليشفي جروح روحها .....
و لن يمنعه شيء من متابعة مهمته مجددا ..... لقد أهداها القدر له كي يرعاها .... و سيكون أهلا للهدية من الليلة ...
تأفف بنفاذ صبر و هو يتسائل عن سر الذرة الذي تكتشفه في الحمام منذ أكثر من ساعة ....
حتى أنه لم يرها تقريبا منذ ساعات ... وهي تهاتفه من مكانٍ الى مكان .... من تلك الأماكن الأنثوية في الفندق ....
تمنعه بقوةٍ من مجرد الإقتراب ولو على بعد مئة متر من اي مكان تتواجد به الى أن تجهز تماما
فالليلة ... هي ليلة زفافهما المؤجلة ....
وها هو في الغرفة منذ أكثر من ساعة ..... ومنذ أن دخل و هي في الحمام ....تدندن بنعومةٍ قاصفة لقلبه المسكين .... وما أن يطرق الباب حتى تصرخ بأنها لم تجهز بعد .....
انه يوشك على أن يحطم الباب و ليحدث ما يحدث ......
اقترب من الباب ....ليجدها قد سكتت اخيرا عن الغناء و عن الحركة .... فطرق الباب طرقتين وهو يقول بخشونة
( رنيم ..... لا داعي للعجلة , يمكنك المبيت عندك ..... أنا سأنزل لتناول العشاء )
صرخت رنيم بجزع
( لا .... لا .... انتظر ..... )
ابتسم عمر قليلا .... قبل ان يقول بخشونة
( أمامك عشر ثوانٍ لتخرجي قبل أن أنزل تاركا لكِ حرية البقاء في الغرفة التي دفعت ثمنها من عرق جبيني )
سمع صوت ضحكةٍ انثوية خافتة أشعلت أعصابه أكثر ....قبل أن يصله صوتها خجولا مترددا
( حسنا ........... اذهب الى نهاية الغرفة , ارجوك ......... اياك أن تغش )
ابتسم بمكر و هو يفكر جديا بأن يغش ..... لكنه سيرحمها تلك المرة فقط
فاتجه لآخر الغرفة , لينظر الى صورته في المرآة وأخذ يعدل من ربطة عنقه .... و ياقة سترته السوداء الأنيقة
لقد كلفه هذا الصلح كثيرا , و سوف يخصم ثمن هذه التكلفة من مصروف البيت الأعوام المقبلة .....
سمع فجأة صوت قفل الباب ... فاستدار منظرا بشوق ....
و كان أول ما رآه هو ساقها الطويلة تخط من الباب و من خارج شق طويل على ما يبدو في ثوبها ....
لم يكن لديه الوقت ليتحقق مما ترتديه و عيناه تتسعان ذهولا و هما تلحقان الساق الطويلة التي تبعتها الأخرى ...
لتظهر لرنيم بكاملها أمامه ..... مطرقة بخجل ....
زفر عمر طويلا بعد أن توقفت أنفاسه للحظات .... ثم أخذ يتحقق منها مليا قبل أن يهمس بصوت مختنق
( اقتربي ......... )
شاهدها تقترب منه ببطء ... مرتدية ثوبا أبيضا ضيقا كجلد ثاني لها ... منسوج من خيوط بها شعيرات فضية .. فأصبح يلمع دون بهرجة ....
مربوط خلف عنقها بأناقة ... ليشد صدرها و يظهر نحافة خصرها ....
أما شعرها فكان مرفوعا لأعلى بشكل عفوي و غير منتظم لم تعتده من قبل ... و بضع خصلات ناعمة انسابت منه
كانت هناك أشياء صغيرة تضوي على وجهها لكنها لم يتحقق منها لطول المسافة ....
لكنها حين كانت تقترب منه بخطواتها أكثر .... عاد بنظره الى ساقيها الظاهرتين بتعاقب أنيق من شق طويل في منتصف تنورة الثوب الضيقة .....
كانت ساقاها !!! ..... مذهلتين !! .....
الجروح الطولية بهما كانت لا تزال موجودة .... لكن بمعجزةٍ ما .... كان لونها فضيا و لها فروعها الصغيرة ...
لينتهي كل فرع من تلك الفروع بوردة موشومة ماسية ......
فغر عمر شفتيه و هو غير قادر حتى على النطق ....فرفع عينيه ببطء الى ذراعيها فكانتا بالمثل ... تحتويان على أفرع جراحاتها ..... لكن فضية و تنتهي بنفس الوردات الماسية .....
ابتلع ريقه بغصةٍ وهو يرتفع بنظره أكثر ..... ليرى الحرق الكبير الممتد على عظمة الترقوة و كتفها الأيمن ....
ليجد أنه قد تحول الى لوحةٍ براقة صغيرة ..... تظهر بخجل من كتف ثوبها المكشوف ...
تجمع في لونها بين لون الحرق الوردي الداكن .... بذلك الجرح الذي قبله مرارا من قبل ... و بين عدة ألوان ما بين ذهبية و فضية بسيطة ......
وصلت اليه ووقفت أمامه .... و كانت قد تخلت عن خجلها منذ نصف المسافة , لترفع عينيها اليه و تراقب ردة فعله ....
شردت بإثارة في ملامح وجهه المذهولة و كأنه ينظر الى ملكةٍ متوجةٍ على عرش الجمال .....
لتتجرأ أكثر و تهمس لافتة نظره الى جرح شفتيها المنتهي بماسة واحدة رقيقة ....
( لازال هناك المزيد .......... )
و قبل أن يفهم تماما و قد شعر بغباء مفاجىء ...... استدارت اليه ..... لتريه ظهرها المكشوف .....
و الذي كان يحتوى على شبكةٍ من عدة جروح و جراحات ..... فتحولت بقدرة قادر ... الى رسم العقرب المعروف في الوشوم .... لكن بلونٍ فضي و أذنابٍ ماسية منتشرة على مساحة ظهرها الناعم المغري .....
رفع أصابعه المرتجفة بعد فترة ..... ليلامس العقرب الماسي بمفاصله الوردية و هي لون الجروح الحقيقي ...
همس بصعوبةٍ و اختناق بعد فترة طويلة ...
( في حياتي كلها ....... لم أرى روعةٍ كهذه ........ )
أطرقت برأسها للأمام ... قبل أن تهمس بنفس اختناقه
( هذا لأنك أنت الرائع .......... مهما كنت و مهما فعلت ..... ستظل تراني جميلة )
كان قلبها يخفق بعنف رهيب و هي تخضع لتفحصه لعقربها .... الى ان مد كلتا يديه ليمسك بكلتا كتفيها ليحرك أصابعه عليهما قليلا قبل أن يديرها اليه ببطىء شديد الى أن واجهته أخيرا ....
ابتلع غصة مسننة .... لم يعرف يوما مشاعر اعجاب و اثارة تختلط بحزنٍ ووجع كتلك التي يعيشها حاليا ...
ثم همس اخيرا وهو يداعب خصلة متطايرةٍ بجوار اذنها دون تركيز .....
( كيف فعلتِ كل ذلك ؟؟ ........... )
فتحت شفتيها قليلا لفترة قبل أن تهمس .... منذ عدة أيام و أنا أخضع للفحص في مركز التجميل , تعرفت على خبيرة تجميل .... هي فنانة من نوع خاص .... تحب أن تجمل الخارجين من جراحات التجميل الخاصة بالحوادث و الحرائق ... لتجعلهم أكثر تقبلا لنتيجة تلك الجراحات ...
بعد أن تحدثت معها قليلا .... طال بي الحديث عنك .... عن كوني لم اشعر يوما بأنوثتي كما شعرت بها معك ...
عن حبي لك و خوفي من فقدانك ..... ظلت تستمع و تستمع ... الى ان أنهيت حواري بأن قلت بحزن
" أكثر ما سأشتاق اليه في تلك الجروح و الحروق هو نظرتك اليها .... احساسي بأنني جميلة في عينيك أنت فقط "
حينها ... صمتت لفترة قبل أن تخبرني , أنني سأكون أفضل بدون تلك الجراحات ... لأن جروحي ربطت بيننا بقوة و طلبت مني اذا أنا غيرت رأيي و قررت عدم الخضوع للجراحة .... ان أهاتفها و هي ستصنع من جروحي لوحة تجعلني أكثر تقبلا لشكلي )
توهمت أنها رأت عينيه دامعتين .... فذهلت و هي ترتفع على أطراف أصابعها قليلا كي تتحقق من عينيه ...
الا أنه طرف بهما سريعا قبل أن تتأكد وهو يتنحنح ليقول بخشونة و تحشرج
( لقد آذيتك كثيرا .... اليس كذلك ؟؟ ..... لقد أفسدت لكِ الحلم الذي عشتِ تتمنينه منذ طفولتك ... و افسدت لك أكثر وقت كان من المفترض أن تكوني سعيدة به ...... )
فغرت شفتيها بذهول قبل أن تتأوه بأسى و هي تهمس مغمضة عينيها ....
( توقف عن كونك الأروع أرجوك ......لأنني لن أحبك أكثر مما أحبك الآن و في هذه اللحظة تحديدا )
سعل عمر قليلا قبل أن يقول بصوت صارم
( حسنا يا عاشقة ..... يؤسفني أن أنزلك من سماء أحلامك , ..... فأنا لن أسمح لكِ بأن تخطي باب هذه الغرفة و أنتِ تبدين ........ بهجة للقلب و العين )
نطق آخر كلمتين بصوت هامس ذاهب الأنفاس و كأنه فقد صوته فجأة .....
افترت شفتاها عن ابتسامةٍ حالمة و هي تهمس بينما تقترب منه لتقف على أطراف أصابعها
( لم أتخيل حتى أن أخرج من باب هذه الغرفة ..... لذلك اخترت ثوب زفاف من نوع خاص )
ضاعت آخر كلماتها في صبرٍ نفذ ووصل لآخر حدود مقدرة البشر ...... ليجذبها اليه مدمدما بصرامة قبل اعصار شوقه
( اصمتي و كفاكِ ثرثرة ......ثرثارة و قليلة الحياء أيضا )
.................................................. .................................................. .............................
وقفت حور متشنجة .... مستندة الى جدار الممر الداكن , بعينين فاترتين و كأنها فقدت القدرة حتى على الخوف ....
بينما وقف عاصم على مسافةٍ منها على الجدار المقابل ..... بعينين صلبتين قادرتين على بث الرعب في من يرى ما بهما من نوايا الشر ..... ينظر اليها ... لينظر حوله ... انتظارا ...
و كانت صبا واقفة بجواره مكتفتة ذراعيها و ملامحها تبدو قلقة متوترة ... خاصة بعد أن عرفت الموضوع بكل تفاصيله و عرفت من يكون القذر الذي فعل ذلك بحور ....
حتى أنها لن تتعجب من معرفة ان موضوع الصور هو من تدبير والده ربما ..... لن تستبعد أبدا ......
حانت منها التفاتة لتجد فتاة ممشوقة القوام ... حمراء الشعر ... تبدو عليها علامات الثراء و الدلال الفارغ ... لكنها لم تخطىء قراءة عينيها ... بهما خوف و توتر .....
يلحقها محامٍ كبير معروف ..... له وزنه ......
عبرت صبا الممر في خطوتين الى حور لتهمس لها
( حور هذه هي أسيل اليس كذلك ؟؟ ....... )
رفعت حور عينيها و نظرت بعينين فارغتين قبل أن توميء برأسها بصمت ......
اتجهت صبا دون تأجيل اليها في خطوات حازمة تحت أنظار عاصم الصارمة قبل أن يستطيع منعها ....
وصلت صبا لاسيل و محاميها .... قبل ان تقول بهدوء
( أسيل ؟؟ ........ )
رمقتها أسيل بنظرات استعلائية قليلا قبل أن تقول خيلاء
( ربما ......... )
أخذت صبا نفسا و هي تدعو الله أن يهديء تهورها و عنفوانها الغبي في تلك اللحظة كي لا تفسد الأمر
فتنازلت و رسمت على وجهها ابتسامة مزيفة .. ذات معنى واحد " مصلحتنا واحدة "
ثم قالت بهدوء ....
؛( بإختصار لأن ليس لدينا الوقت الكافي ...... أريد أن أخبرك بأن مصلحتك حاليا مع حور لأنكِ إن تعاونتِ معنا فستعترف بما فعلته تفصيليا ..... لأنه بشهادتك سنوقع الضرر كله على المدعو رامز الدالي حيث انه هو من خطط لكل تلك القذارة ...... )
توترت أسيل و هي غير قادرة على التفكير بشكل سليم ... بينما لمس محاميها ذراعها في اشارةٍ عن اهتمامه بسماع ما لدى صبا ......
بينما تابعت صبا بهدوء
( انتِ لا ذنب لكِ فيما حدث ...... حتى أنكِ لم تكوني على علمٍ بنيته في اغتصابها , و ابتزازها بصورٍ مفبركة ... و كل هذه تهم خطيرة .... حتى مركز والده لن يحميه منها ..... )
ارتبكت أسيل أكثر و قد ضاعت منها نظرتها الإستعلائية ... فنظرت بخوف الى محاميها الذي تطوع قائلا لصبا دون مقدمات
( اذن ما المطلوب ؟؟ ......... )
قالت صبا منتهى البساطة
( لا شيء أكثر من الحقيقة ......... سعيه خلفها طويلا , و شهادتك برفضها له و لإزعاجه مؤخرا .... وأن أقصى سبب لوجوده في شقتك بأنه أوهمك بانه يريد ان يعتذر لها .........لكن لا معرفة لكِ اطلاقا بما كان ينتويه
حينها ستعترف حور بالدفاع عن نفسها و هي ستخرج من الموضوع بمنتهى السهولة و يستطيع محاميك تأكيد ذلك .....
فقط كانت في شقتك و لم يكن لديها لم بمجيئه ......
لكن بخلاف ذلك بنحن سننتهج طريق آخر تماما و حور رشوان ليس من الصعب أن تخرج من الأمر بطريق أو بآخر .... لكن ان سلكتِ غير طريق الحق
فتهمتي الإبتزاز .. و محاولة الإعتداء ... تحت سقف بيتك كافيتين على الأقل لزلزلة اسم والدك اجتماعيا و اقتصاديا و .....و سياسيا ..... و صدقيني هو لن يحب ذلك إطلاقا )

مالت صبا اليها مرة أخيرة قبل أن تقول
( اخرجي نفسك من الأمر و لا تكذبي في سبيل أي شخص .... فقد يكلفك ذلك الدخول في تهمتين لا ذنب لكِ بهما )
استدارت صبا و تركتهما ليفكرا بالأمر ..... مع معرفتها بأن أسيل ليست سليمة النوايا ,و انها كانت تنوي حتما الإيقاع بحور
الا انها ضغطت على نفسها لتقنعها بانها بريئة و مظلومة ..... فقط كي تتخلى عن رامز ..
و ما لا تعرفه اسيل أن حور في اليوم التالي لما حدث , حررت محضرا تجاه رامز بالفعل تتهمه فيه بالإعتداء عليها , لذا تم استدعائها الآن لبدء التحقيق ...
اتجهت صبا الى عاصم ووقفت بجواره وهو يتكلم في الهاتف باهتمام ..... يتكلم عن البورصة ... يتابع اخبارها بنتهى الاهتمام وكأنه ينتظر لحظة معينة ....
الا أنها استنتجت أن الأمر له علاقة بشيءٍ ما ينوي فعله ....
سمعته يقول بتركيز و نبرة مخيفة .....
( لا ليس بعد ..... انتظر قليلا .... و افني بكل تطور في كل لحظة )
أغلق الهاتف لينظر الى صبا بصمت دون أن يسألها عما كانت تقوله للمدعوة أسيل .... بينما هي لم تتمالك نفسها و هي تسأله بقلق
( ماذا تنتوي يا عاصم ؟؟ ....... لا تتصرف وحدك و أخبرني )
ضحك عاصم بخشونة وهو يقول
( لا تخافي .... لن أتصرف ضد القانون ........ )
عقت صبا حاجبيها و هي تهمس بضعف
( لم ألمح لأنك قد تفعل .......فقط أخبرني , لا تكن وحدك )
نظر اليها طويلا قبل أن يقول بجفاء
( دائما كنت وحدي منذ أن تزوجنا يا صبا ..... لقد فات الأوان كثيرا )
عاد ليستند الى الحائط بظهره ... بينما وقفت تنظر اليه بصمت و قلبها ينزف ألما قبل أن تستند هي الأخرى الى الجدار بجواره و كلا منهما غارقا في عالمه ....
.................................................. .................................................. .........................
سار ببطىء في ممر المشفى ... بملامح متجمدة بلا تعبير ... ذقن غير حليقة على غير عادته , و عينين حمراوين شكلهما يدل على حالة ذلك الرجل في الأيام السابقة ....
وصل الى زميل له ... ليبتسم بدون أي أثرٍ للمرح فيسأله عن اسمٍ معين , جاء خصيصا من أجله ....
حين وصلا للغرفة المنشودة نظر نادر دون اهتمام الى الحراسة الأمنية الضخمة على الباب ...
ابن الدالي يجب أن يكون له مثل تلك الحراسة بالطبع بعد ما أصابه ..... حين حاول زميله الدخول و نادر خلفه مد أحد أفراد الحراسة ذراعه ليمنعهما قبل ان يسأل عن هوية نادر .... أو بمعنى أصح يطلب رؤيتها ...
حين بدأ زميله في التذمر من تلك الإهانة , منعه نادر بكل هدوء وهو يخرج هويته من حافظته وهو يقول مبتسما دون أثر للمرح
؛( لا بأس .... السيد رامز شخصية مهمة في البلد و أعداؤه كثر ..... و نحن لا نتمنى أن يصيبه مكروه مجددا , فسنخسر الكثير بخسارته ..... )
ظل حارس الأمن الشخصي يتحقق من الهوية فترة طويلة وهو ينقل نظره منها الى نادر .... ثم أعادها اليه بوجه صارم قبل أن يمد يده يسمح له بالدخول و كأن المشفى بيت أهله ......
لكن نادر لم يتجهم وهو يوجه الى ابتسامة فارغة دون معنى ....
حين دخل طالعه الوجه الوسيم وسامة الأفاعي اللزجة ... راقدا مغمضا عينيه فظل يتأمله طويلا قبل أن يلتفت الى زميله طالبا منه أن يتركه مع رامز قليلا .....
و بعد أن أصبحا بمفردهما ....اقترب منه أكثر ببطىء الى أن وقف بجواره تماما .... كان مضمد الرأس متورم الوجنة ......ليست حالتة خطيرة أبدا , بضع قطبات في مقدمة رأسه .... لكن قوة الضربه مع جسده المشبع بالمخدر ساهم في سقوطه كالثور .....
أي شخص طبيعي ما كان يبقى في المشفى بسبب اصابة تافهة كتلك .... لكن رامز الدالي له أن يبقى في غرفة تشبه جناح ملكي في أرقى المستشفيات ....ما أن يصاب بخدش
انحنى نادر ليربت على وجنتة باصبعين كي يفيق .... لكنه تنهد قليلا و عاد للنوم ...
ليفتح عينين متسعتين فجأة و هو ينتفض على مطرقةٍ هبطت على وجنته لا يعلم مصدرها تماما .....
رمش بعينيه عدة مرات قبل أن يستوعب وجود نادر ... لتتسع عيناه قبل أن يبحث بيديه عن جرس الأستدعاء , الا أن نادر سبقه ليبعد يده قبل أن يقبض بيده على عنقه ....
اتسعت عينا رامز أكثر و اكثر و ضغط قبضة نادر يتزايد ......قبل أن ينحني اليه ليهمس مبتسما بقسوة
( ما رأيك الآن و أنت تحت قبضتي .... لا تستطيع حتى مناداة حراسك الذين يقفون كالثيران أمام باب غرفتك , يحمونك كالنساء ......)
مد رامز كلتا يديه كي يبعد قبضة نادر عن عنقه ... الا أنه لم يتمكن حين نزع نادر قبضته ليضغط بإصبعيه أسفل عنقه فيؤلمه بدرجةٍ أكبر حتى بدأت مؤشراته تتحرك سلبا ....
قال نارد بمنتهى الهدوء
( هل تعلم بأنني أستطيع قتلك الآن بأصابعي ... تماما كما لامست زوجتي بأصابعك القذرة ..)
أخذ رامز يلهث و يحمر وجهه وهو يرجع رأسه للخلف ... بينما أصبحت عيناه الآن على اقصى اتساعٍ لهما حتى بات شكله مخيفا مخزيا ....
بينما تابع نادر بهدوء
( هل تعلم ماذا تكون ؟؟ ..... أنت آفة .... لست أكثر من مرض قاتل , لكن في نفس الوقت يمكن قتلة بوخزة ..... مجرد وخزة .... لأنك بلا قيمة في الواقع .... دون والدك و حراسك .... انت لست أكثر من لاشيء ..
مجرد نكرة تلقى حذاء زوجتي على رأسه و على وجهه ما أن تمادى معها .....)
مد أصابعه ليلامس القطبات في مقدمة رأسه و الممتدة لأول شعره وهو يتابع بأكثر هدوءا
( هل تعلم أن القطبات في الرأس عادة لا ينمو الشعر بها مجددا ؟؟ ..... و بعد أن عرف الأمر في وسطك كله , سيظل كل من ينظر اليك يتذكر أن حذاء حور رشوان قد نزل على رأسك يوما ..... لأنك قذر .. متحرش .... مريض و تعاني من خلل نفسي على الرغم من كل مال والدك )
أوشك رامز على أن يغيب عن الوعي الى أن قرر نادر أن يتركه أخيرا .... فحرر عنقه فأخذ يسعل و يسعل وهو يدلك عنقه ...... قبل أن يقول نادر
( للأسف لن أتمكن من فعل ما يليق بك الآن .... مجرد وجودك في هذا الفراش يمنعني , لذا اعتبر أن حسابنا لم ينتهي بعد .............)
ثم خرج بمنتهى الهدوء ليبتسم بسخرية الى حارس الأمن الذي رمقه بإستعلاء من مجرد حراسته لشخصية مثل رامز الدالي ........
.................................................. .................................................. .........................
دخل غرفته ليلا بعد يوم مرهق طويل .... و أول ما خطف قلبه و عينه هو مرآها وهي تجلس متربعة على فراشه ... و شعرها الطويل منسدل على كتفيها ... تتابع شيئا ما على حاسبها و قد تراصت أمامها عدة ملفات ....
رفعت رأسها اليه ما أن دخل .... لتطالعه من تحت عدسات نظارتها الرقيقة .....
و كأنهما أعتادا حوار العيون قبلا ...فقد ظلا لفترة ينظران الي بعضهما قبل أن يدخل بهدوء وهو يقول بخفوت
؛( السلام عليكم ............ )
ردت بخفوت و هي تطالعه بعينين متسعتين حزينتين قليلا
( عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ...... لقد تأخرت )
ابتسم بسخرية دون أن يرد عليها ..... اتجه الى دولابه , فأغلقت حاسبها لتنهض واقفة ثم اتجهت اليه لتقف خلفه هامسة
( أين كنت يا عاصم ؟؟ ...... لقد أقلقتني عليك )
تحولت الإبتسامة الساخرة الى ضحكة خافتة .... دون أن يرد أيضا .... فلم تستسلم و هي تقول بحزم
( لقد وافقت على أن أتي الى هنا كي أجنبك القلق من شيء لم اعرفه وقتها ..... حتى دون أن أسألك عن التفاصيل , تبعتك و أنا مغمضة العينين ..... بينما انت الآن ترفض أن تريح قلبي ولو بكلمة )
نظر عاصم جانبا دون أن يستدير اليها و هو يسأل بتشكك ساخر
(اريح قلبك ؟؟ ...... هل أنتِ واثقة بأن قلبك متعب بسببي ؟؟ )
صمتت صبا خلفه قليلا قبل أن تهمس قائلة بلا تعبير
( الن تتوقف عن تجريحي ؟؟ ......... )
لم يرد عاصم ثم تركها ليتجه الى الحمام دون كلمةٍ أخرى .... بقت صبا واقفة مكانها .... تسأل نفسها عن السبب الذي أحضرها الى هنا مجددا ....فلم تجد إجابة , أو ربما وجدتها و لم ترغب في الإعتراف بها ....
ذهبت الى فراشها لتلملم أوراقها و حاسبها بصمت , ثم أطفأت الضوء و استلقت بصمت ......
خرج عاصم من الحمام ... فسمعته يتحرك في الغرفة دون أن يفتح النور .... و بعد دقائق اقترب ليستلقي بجوارها .. ناظرا الي السقف مثلها تماما .....
أخذ قلبها يخفق بعنف ..... دون أن ترغب في النطق بكلمةٍ تعيدهما الى جو الحرب من جديد .....
بعد فترة طويلة تكلم عاصم بصوت عميق
( صبا .......... )
توقفت انفاسها قليلا و هي تنتظره ليتابع و حين صمت همست
( همممم ........ )
قال بخفوت
( لم أشكرك على ثقتك بي و مجيئك الى هنا دون سؤال .......... )
انتظرت أن ترى أي اشارةٍ تدل على أنه يسخر منها ... لكنها فوجئت به يعني ما يقول .....ألجمتها المفاجأة قليلا قبل أن تهمس بعد فترة
( لا داعي للشكر ..... في الحياة أولويات , يجب أن يتوقف فيها الإنسان عن التفكير في نفسه فقط )
صمت قليلا قبل أن يقول بصوت أكثر خفوتا
( صحيح ......... )
و بعد فترة أطول قال مجددا
( صبا ............ )
أغمضت عينيها و هي تأخذ نفسا صعبا ملتاعا دون أن تصدر أي صوت ... ثم همست
( همممم ........ )
رد عاصم بخفوت
( أعتذر ...... عما فعلته آخر مرة ....... )
لم يستطع أن يكمل ... بينما شغرت بقسوة الذكرى توجع أعماقها ... لكنها همست بعد حين
( أنا ...... أنا اعذرك على ما فعلته , لكنني لن ابرره ..... لهذا .... اخبرتك أننا دائما ما يجرح كلانا الآخر , لذلك كان ارتباطنا خطأ من البداية ........ )
سكت عاصم قليلا قبل أن يقول
( نعم ...... معك حق )
اشتد انطباق جفنيها من شدة الألم ... وانسابت دمعة من تحتهما ...... ليتابع عاصم بصوت لا يكاد يسمع
( أنا لازلت عند وعدي ....... و ....سأنفذ طلبك ما أن أطمئن أنكِ ستكونين بخير ..... )
توالت الدموع المنسابة خلف بعضها و هي تداوي جرحا نافذا .... .... جرحا كان بيدها هي , لكن كان لابد منه .....
همست بصوت مختنق
( شكرا ........... )
و لم تجد القدرة على المتابعة .... لكن النشيج الهامس ظهرر متسللا الى حروف تلك الكلمة الوحيدة ... فاستدار رأس عاصم اليها , ليميل اليها بعد لحظة مستندا الى مرفقه ... قبل ان يمد اصابعه كي يتحقق من ظنونه ...
و بالفعل حين لامس رطوبة دموعها .... تسمر في مكانه قبل أن يهتف همسا في ظلام الليل
( صبا !!! ...... لماذا الدموع يا بنت السلطان ؟ أليس هذا هو ما تريدينه ؟؟ ......... )
ابتلعت دموعها قبل أن تهمس مختنقة
( الا تعلم لماذا ؟؟ ...... لأنني ... سأنتزع قطعة من روحي في سبيل الا نجرح بعضنا البعض مجددا , ..... كي لا نكره بعضنا في يومٍ ما ...... سأنتزع القطعة التي تبث في الحياة من يوم أن عرفتك ......... )
صمتت ليتحول صوتها الي بكاء ناعم .... جعله يستوعب كل حرف من كلامها الهامس قبل أن يتأوه بعذاب في قلب الليل دون أن يرى ملامحها بوضوح
( آآه يا حبيبتي ...... لو فقط تعلمين ...... )
مد يده ليتلمس دموعها .... قبل أن يحيط وجنتها بكفه , ليرسم بأصابعه حدود عنقها .... و حين وجد أنها لا تمانع على عكس ما توقع .... بل أن نبضات عنقها ازدادت فورانا تحت أصابعه الملامسة لها .....
هبط بوجهه اليها ... يلتقط كل دمعةٍ من دموعها و هو يهمس مع كل دمعة ....
( أحبك ....... أحبك با ابنة المستشار ..... )
شهقت باكية بعذاب و هي ترفع يدها لتلامس وجهه
( لا ...... بل بنت السلطان ....... )
أومأ برأسه موافقا وهو يقول من بين أتون شوقه المستعر
( أحبك يا بنت السلطان ........... )
بعد تلك الكلمة فقدت كل الكلمات معانيها وهو يبثها حبه في دمغاتٍ لن تزول أبدا ... مهما طال بهما الزمن و مهما أبعدت بينهما المسافات .....
.................................................. .................................................. ..........................
استيقظت صبا صباحا .... على صوت همهمات عاصم وهو يقف بجوار النافذة .... فرمشت بعينيها لتتأكد تماما مما حدث .... و بعد أن استوعبت تماما , لكن قبل أن تشتم نفسها بأقسى الشتائم على استسلامها له ليلة أمس
كان استيعابا من نوعٍ آخر يتسرب الى عقلها .... و هي تسمع صوت عاصم بوضوح
( نعم اليوم ...... قدم البلاغ اليوم للنائب العام , وكل الأوراق التي معك .... دون أن تغفل عن أسهم البورصة للحظةٍ واحدة
أريد ان أسمع خبر الدالي اليوم في كل مكان ..... )
.................................................. .................................................. ...........................
( سأساعدك ............ لقد فعلتها عدة مرات , فلماذا ترفض الآن ؟؟ )
اتكأ جاسر على فراشه وهو يصرخ غضبا
( لن تساعديني في الدخول للحمام ..... اليس هناك أي قدر من الخصوصية , أخرجي الآن و عودي للبيت , لقد سئمت وجودك هنا ........ )
أخذت حنين نفسا وهي تغمض عينيها لتهدىء نفسها ....
شهر كامل مر وهي تعاني حماقته و شكواه ..... يبدو كطفلٍ ذو تربية سيئة يوما بعد يوم .....
كم تتمنى لو ضربته ..... ربما ارتاح عقله قليلا
قالت محاولة السيطرة على نفاذ صبرها
( أتريد أن أستدعي لك الممرضة ؟؟؟ ........ )
زم جاسر شفتيه وهو يحاول الإستناد الى عكازيه قبل أن يقول بغضب
( أريد ممرض ........... )
زفرت حنين بقوة .... قبل ان تقول متشككة
( و هل هذا سيريحك بالفعل ؟؟ ,..... أن تستعين برجل غريب ؟؟ ..... )
لم يرد عليها جاسر وهو يدمدم بشيء ما .... و على الأرجح أنه كان يشتمها همسا .....
نظرت اليه بحنق .... الا أنها بعد لحظات , بدأت تشعر بنفسها ترق اليه ... وهو يبدو كطفل غاضب .... خجول ....
فابتسمت رغما عنها .... و أخذت تذكر نفسها باليوم الأول حين ظنته هالك لا محالة .....
لذا اتبعت غريزتها و هي تقترب لتجثو أمامه على الأرض و بين ركبتيه ..... لترفع وجهها اليه قبل أن تقول بخفوت
( لماذا تضع الحواجز بيننا ؟؟ ..... ألست أنت من أزالها من قبل مصمما على أن نكون شخصا واحد ؟؟ .... )
رفع جاسر حاجبيه وهو يصرخ بإنفعال
( اي حواجز ؟؟؟!!! ...... كل ما أطلبه هو بعض الخصوصية في الحمام !!! ..... هل أطلب الكثير ؟؟!!! )
حاولت حنين أن تمنع ضحكتها و هي تعض على شفتيها .... ثم أخذت نفسا لتحاول الكلام باتزان مجددا
( لست أتكلم عن هذا فقط ...... عن كل شيء ... عن رغبتك في ابعادي عنك بإستمرار )
عبس جاسر بشدةٍ و زم شفتيه ..... قبل أن يقول حانقا
( ليس هذا أمرا جذابا لتعايشينه .............. اذهبي الي بيت عمك حالا , و ما أن أتمكن في الوقوف على قدمي مرة أخرى حتى آتي لآخذك ......... )
رفعت حنين حاجبها لتقول
( كضيفة تقصد ؟؟؟ ..... لا يا حبيبي ... يبدو أنك نسيت أنه بيتي , و أنا لن أغادره مطلقا , تماما كما لن أغادر هذه المشفى .... فما رأيك ؟؟ ...... والله إن أردت أنت أن ترحل فتفضل , الباب يمرر جملا .... لأنني عن نفسي باقية )
ظل جاسر ينظر الى ملامحها بغضب قبل أن يسأل بحنق
( ماذا أخطأت في حياتي كي أعاقب بك ؟؟؟ ............ )
رفعت حنين إحدى حاجبيها .... و هي تمط شفتيها قائلة
( فعلت الكثير في الواقع ...... لذا دع الطابق مستورا و لا تجعلنا ننبش في غسيلنا الغير نظيف ... )
زم جاسر شفتيه قبل أن تسأله حنين بهدوء
( اذن ...... هل أساعدك أم أستدعي ايا كان ؟؟ ............ )
ظل ينظر اليها بحقد قبل أن يقول بحنق
( سأسمح لكِ هذه المرة فقط ...... مفهوم ؟؟ .... و لا تدققي النظر )
تنهدت حنين بيأس قبل أن تنهض على قدميها , لتتلقى وزنه الثقيل فوق جسدها الهش بأقصى ما تستطيع من قوةٍ وهي تقول
( من عيوني ........ هل من أوامر أخرى يا سيدي و تاج رأسي ؟؟؟ ....... )
نظر اليها وهو يستند اليها كعكاز في نفس طول العكاز القابع تحت ذراعه الأخرى تقريبا .... لكن مع فارق ضخم ... وهو أنها عكاز لين ... هش .... ناعم و جميل ...... احساسه بها تحت ذراعه وهو عاجز عن حملها بين ذراعيه كالألم الحارق ....
قال أخيرا بجفاء ....
( نعم ......... قبلة صغيرة , لأصمد بها في الطريق الطويل ....... )
ابتسمت حنين رغما عنها .... بينما شعرت بشوقٍ لا يوصف و لا يبرر لإحدى قبلاته .... لذا قررت أن تصدمه حين رفعت نفسها من تحت ذراعه لتقف على أطراف أصابعها وحين ظن مذهولا أنها ستقبله بملء ارادتها ....
استطالت مجددا لتطبع القبلة فوق جبهته و هي تهمس
( هذه من أجل سماعك للكلام ........ ... )
ابتسمت أكثر لرؤية الإحباط في عينيه ... فقال بخشونة وهو يسير معها الخطوات الثقيلة
( لا بأس ....... انتظري الى أن أستعيد قوتي ........ )
قالت بهدوء
( لا بأس استعدها أنت فقط ..... و أنا سأنتظر ..... لن أذهب لأي مكان .....فلقد اعتدت على وقاحتك و بت أكثر منك وقاحة ........ )
كان ينظر الى قمة رأسها الناعم مذهولا من تلك التطورات التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة .... قبل أن يقول
( واضح ............... )
ثم انحنى ليطبع قبلة على فرق الشعر الأسود الحريري وهو يهمس
( شكرا .......... )
لكنه لم يرى ابتسامة لم يكن ليرى أجمل منها من قبل ... و هي تقول ببساطة
( العفو .......... ) 

بأمر الحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن