38

116K 2.2K 56
                                    


  تتداخل السحب مع أعمدة النور المطفئة كروحها ..... تنام قليلا لتعود و تفيق على صوت مزمار سيارة مفاجىء , لينغلق جفناها مرة بعد مرة .....
حالة الوعي لديها تتضائل بشدة .... بينما قلبها يخفق بعنف يكاد يؤلم صدرها ......
رفعت يدا مرتجفة من بين ملامح غيابها لتضعها على صدرها المتألم ..... لكنها سمعت من بين سحب الغيامات المحيطة بها صوته يأتي اليها صارما بشدة جعلتها تفيق لبرهة
( ماذا بكِ ...... هل يؤلمك صدرك ؟؟ )
أومأت بضعف دون أن ترد ..... فامتدت يده لتلقط معصمها , يستشعر نبضها من جديد , قبل أن يهمس بخشونة عنيفة مكبوتة
( غبية ......... )
لكنه لم يتخلى عن معصمها .... و بالرغم من أن غضبه أنساه مدى قوة قبضته التي كادت أن تهشم معصمها النحيل , الا أنها كانت السبب الذي جعلها تستسلم أخيرا و تغمض عينيها تاركة نفسها لنوم عميق يبعدها مؤقتا عن هول ما تشعر به من ألم ......
أفاقت بعد فترة على صوت نادر وهو يقول بخشونة
( هيا استيقظي ....... حور , لقد وصلنا لبيتك هيا )
فتحت عينيها ببطء الا أنها فضلت عدم المقاومة و عادت لتغلقهما من جديد .... فشد نادر على معصمها وهو يناديها مجددا بصرامة
( حور ...... افتحي عينيك ِ )
لكنها لم تعبأ به .... وعيها الضائع أخبرها بقليل من الإستيعاب , إن كانت قد وصلت لبيتها أخيرا فلا خوف , فليتركها في أي مكان لتكمل نومها ....
لكنها فجأة انتفضت على صوت صفقة باب قوية ..... قبل أن تغمض عينيها من جديد , لكن بابها فتح لتشعر بقبضتين قويتين تمسكان بذراعيها لترفعانها على قدميها واقفة خارج السيارة ....
رمشت عدة مرات لأشعة الشمس التي احرقت وجهها الناعس .... قبل أن تتخاذل ساقيها تحتها , لكنها وجدت نفسها مرفوعة فجأة بذراعيه القويتين ..... ليتجه بها الي باب البيت , فمالت برأسها لتنام على كتفه قليلا .... فقط بضع دقائق لتستجمع استيعابها و بعدها ستفتح عينيها ....
لكن الإنتفاضة الثانية وصلت الي اذنها بعد أن فتح الباب ..... و سمعت شهقة رعب و صوت امها يصرخ بجزع
( بسم الله الرحمن الرحيم ...... بنتي .... بنتي ماذا بها )
تكلم نادر بصوت خافت يحاول السيطرة عليه
( لا تقلقي يا أمي .... انها بخير , سأحملها لغرفتها لتستريح قليلا ...... فقط لو أمكنك تحضير شراب ساخن لها )
كانت روعة تضرب صدرها و تشهق بصدمةٍ خلفه و هو يتجه الى السلم , قبل أن يستدير اليها قائلا بخفوت
( لا تقلقي يا أمي .... أنها تشعر بدوار ليس الا و أنا بحاجة للتكلم معها قليلا , من فضلك أحضري لها شيء ساخن محلى لتشربه ...... هل أصعد لغرفتها مباشرة أم تتفقدين لي الطريق ..... )
كانت روعة لا تزال تضرب صدرها , لكن بضربات خافتةٍ و هي تهذي باسم حور ... و قلبها يأبى أن يطمئن , لكنها قالت من بين دموعٍ حبيسة ملتاعة ....
( اصعد يا ابني ..... ليس هناك أحد غيري هنا )
فصعد نادر السلم دون كلمةٍ أخرى , بينما وقفت روعة مكانها و قد انفجرت دموعها و هي تهمس متمسكة بحاجز السلم
( أين كان مخبأ لكِ كل هذا يا ابنتي ؟؟ ....... )
.................................................. .................................................. .........................
دخل نادر الى غرفتها ليضعها فوق سريرها ببطء قبل أن ينحني اليها , ليربت على وجنتها بقوة مناديا بصلابة
( حور ...... حور أفيقي )
فتحت عينيها الى وجهه القريب من وجهها القريب منها , لتنظر الى عينيه ربما المرة الأولى لليوم .... حينها لم تشعر بالرغبة في الإستسلام للنوم وهي تراقب عينيه قبل أن تهمس فجأة
( أنت تمتلك نفس عيني معتز ......... )
الحقيق أنه أنه لم يأخذ الا عينيكِ أنتِ .....
كانت تلك هي أول جملة تبادرت الى ذهن نادر لكنه لم ينطق بها و هو يهديها إحدى نظراته الصاعقة القاتمة , ليقول بلا مقدمات ....
( ماذا كنت تتعاطين في الفترة الأخيرة ؟؟ ........ )
لم ترد عليه وهي تستدير الى جانبها لتدفن وجهها في وسادتها لتهمس بإختناق و هي على وشكِ البكاء
( أخرج من هنا يا نادر و اتركني ....... لم آتي اليكِ الا رؤية ابني , فابتعد عني .......)
لكن نادر كان قد تحرك بالفعل وهو يذرع الغرفة ...... لينظر فوق طاولة الزينة , و منها اتجه الي الطاولات الجانبية ليفتح أدراجها قبل أن تتسع عينيه و هو يلتقط عدة أشرطة أقراص , قلبها لينظر اليها كي يتأكد مما يراه ,
لم تسمع حور همسته الخشنة ..... قبل أن يندفع ليلتقط حقيبتها الثمينة الملقاة على أحدى الكراسي , ففتحها و قلب جميع محتوياتها على الكرسي و أخذ يقلب بينها , الى أن وجد شريطين آخرين .....
ثم اتجه الى الحمام الملحق و أخذ يصدر ضجة من الداخل الى أن خرج و في يده المزيد من الأشرطة ....
حين وصل اليها كانت إمارات الجنون تعلو وجهه قبل أن يجلس بجوارها ليرفعها من معصميها بقبضتين من حديد لتستقيم جالسة , الا أن رأسها سقط كزهرةٍ ذابلة .....
لكنه أمسك بذقنها يرفع وجهها اليه بالقوة قبل أن يربت على وجنتها بأكثر منها قوة وهو يقول بغضب عاصف
( حور ...... أفيقي و انظري الي , من أين حصلتِ على تلك الأدوية ؟؟ ...... )
فتحت عينيها قليلا لتنظر الي ما بيده , قبل أن تنظر الي عينيه المجنونتين و هي تهمس بضعف
( و فيما يهمك ذلك ؟؟ ........ فقط ارحل ....... )
شدد نادر على ذقنها ليهتف بجنون
( احدى هذه الأدوية يعتبر مخدرا و محظور صرفه ..... كيف تمكنتِ من الحصول عليه ؟؟ )
أمالت رأسها كي لا تنظر اليه , ثم همست بلا حياة
( ليس صعبا ........ )
صرخ نادر بجنون وهو ينشب قبضتيه في ذراعيها
( طبعا ليس صعبا ...... كيف .... لست حتى أستطيع أن ....... )
توقف هذيانه المجنون ما أن دخلت روعة تحمل الكوب بيدها و هي تنقل نظراتها بينهما برعب .... فأخذ نادر نفسا مرتجفا من الغضب قبل أن يقول بصوت مكتوم
( شكرا يا أمي ..... هل لي أن أتكلم مع حور على انفراد قليلا ...... )
همست روعة و هي تضع الكوب من يدها
( لماذا ؟؟ ..... ماذا فعلت حور ؟؟ ..... اخبرني بالله عليك , لماذا لا يخبرني أحد ؟؟ ...... )
أخذ نادر نفسا مجددا قبل أن يقول بهدوء
( لا تخافي .... انها بخير الآن و سالمة , و سأتأكد من ذلك .......... )
نظرت روعة الى حور المطرقة الرأس ووجهها مخفي بين شعرها تماما و كأنها طفلة تنتظر العقاب , قبل أن تهمس وهي تبتلع ريقها
( ترفق بها قليلا يا نادر يا ولدي .... إنها لم تعد تحتمل الضغط الزائد ....... أرجوك , من أجلي أنا ..... )
لانت ملامح نادر قليلا قبل أن يقول بخفوت
( لا تخافي ...... نحن فقط في حاجةٍ لأن نتكلم ...... )
أومأت روعة برأسها في أسى قبل أن تنظر لحور نظرة أخيرة .... ثم استدارت لتخرج و المرارة تقطر من ملامحها
عاد نادر لينظر الي حور بنظراته القاتمة قبل أن يشد على معصمها لترفع وجهها المجهد اليه ليسألها بشراسة
( كم قرصا أخذتِ من هذا ؟؟ ........... )
نظرت حور الي الشريط في يده قبل أن تقول بهمس و هي تتجنب النظر اليه
( فقط واحد ..... اليوم صباحا )
هزها نادر ليقول بقسوة
( لا تكذبي يا حور ........... )
هتفت هي الأخرى بعصبية ( لا أكذب ..... فقط واحد و لم أفعلها سابقا )
سكتت قليلا قبل أن تهمس
( سوى مرة ..... لكني لم أكررها الا اليوم )
اتسعت عينا نادر بذهول مجنون لما يسمعه منها , قبل أن يمسك بشريطين آخرين , ثم نظر اليها ليقول بقسوة أكبر
( و مضادات الإكتئاب هذه ....... كم قرصا أخذت اليوم و لا تكذبي )
نظرت الى الشريطين في يده قبل أن تهمس
( اثنين فقط ................ )
هتفت نادر بغضب
( لا عجب اذن من تزايد نبضاتك بهذه الصورة ....... )
رفعت حور كفيها الى جبهتها لتهتف
( و أنت تزيدها أكثر .............. )
لكنه انتزع يديه عن وجهها وهو يصرخ بغضب
( الى متى ستظلين بتلك الحالة ؟؟ ..... الى متى ؟؟ )
رفعت وجهها اليه هائجة ببعض القوة التي تسربت اليها بفعل الغضب
( و ما يهمك أنت ؟؟ ...... و متى همك أمري , ......... اذهب يا نادر .... اذهب و اتركني , فلم يعد لديك شيء أريده .......... )
قال نادر بقسوة ( ولا حتى معتز ؟؟ ....... )
رفعت حور وجهها اليه بشراسه , قبل أن تنفجر و هي تضرب صدره بقبضتيها بعنف و جنون صارخة
( لا تعاقبني بابني ....... من أين لك بمثل هذه القسوة ؟؟ !! )
الا أنه أمسك بمعصميها وهو يهزها صارخا
( من أين لي بمثل هذه القسوة ؟؟!!! ..... أنا ؟!!! ...... و ماذا عنكِ ؟؟ .... كم مرة طعنتي بها في مقتل ؟؟ .... و كم مرة آذيتي فيها ابني بتصرفاتك المتهورة ؟؟ .......
حتى أخذك لذلك المخدر الآن كأول تصرف منكِ بعد أزمة ؟؟؟ ..... ماذا تسمين هذا ؟؟ ...... رقة شعور من جانب سيادتك ؟؟!! .......... )
صرخت حور هي الأخرى
( لا أتحمل المزيد من الألم ..... لم أعد أتحمل معاملة الجميع لي و كل ما تفعلونه بي ..... )
هتف نادر
( بل أنتِ من تفعلين كل ذلك بنفسك ....... و لا زلتِ تدمرين كل ما تبنينه ..... )
نظرت اليه تلهث قليلا قبل أن تقول برجاء
( اعد الي ابني و سأكون أهلا لذلك ........ سترى , فقط أعده لي ........ )
نظر نادر اليها بازدراء قبل أن يقول بقسوة
( بحالتك تلك ؟؟ .............. )
لم ترد عليه و قد تصلبت عيناها من مدى قسوته .... لكن نادر كان قد ابعد عينيه عنها , و مد يده الي كوب الشراب الموضوع بجانبها , ليمده اليها وهو يقول
( اشربي ............ )
قالت بتعبير أجوف و كره غريب بدأ يتصاعد بداخلها
( لا أريد ........... )
الا أنه مد يده الى مؤخرة رأسها ليثبته بقوةٍ بينما رفع الكوب بيده الأخرى الى شفتيها يحرق شفتها السفلى بسخونته الا أنها لم تتأوه بينما ألم قلبها كان أفظع ....
قال نادر بصلابة
( افتحي فمك .......... )
هزت حور رأسها نفيا و الدموع تنساب على وجنتيها بصمت .... فكرر نادر بصرامةٍ أكبر
( افتحي فمك ........ )
فتحت شفتيها قليلا لترتشف بعضا من الشراب الساخن .... لعل تلك اللحظات الموجعة تنقشع و يرحل سريعا ...
قربه منها يعذبها و هي تستشعر منه الصقيع بدلا من الدفيء .....
كانت عيناه عليها و هو قريبا منها يراقبها بلا رحمة .... و رغما عنه كانت أصابعه التي تثبت رأسها قد أخذت تتلمس شعرها و هو يهمس فجأة
( لقد قتلتني هذه المرة يا حور ........)
شهقت باكية لكن دون صوت و هي تغمض عينيها بأسى .... لكنها ظلت تشرب ببطء عله يرحل .... ليته يرحل .....
لكنه تابع هامسا
( الا تدركين احساسي الفترة السابقة !! ..... هل لديكِ القدرة حتى على التخيل و أنا أتصور لقائك به ... أتخيله ... و اتخيل ما تلى من تهجمه عليكِ ...ملامسته لكِ ..... كل الكذب الذي ادعى به عليكِ .. هل يمكنك أنتِ التخيل مما عانيته !! ..... )
همست دون وعي و هي تشهق باكية
( يمكنني التخيل ....... يمكنني ...........)
همس نادر بصعوبة و هو يقترب منها
( الألم هذه المرة كان أفظع من أي شيءٍ مضى ........ )
همست بصعوبةٍ و هي مغمضة عينيها تبكي بصمت يكاد يمزق صدرها ...
( لم يسبق أن نال مني أي أحد ما لا أريده ...... لا أعرف لماذا عميت عنه و عن تصرفاته .... لماذا كنت مشتتة و ضائعة ....... لماذا كنت ....)
سأل نادر هامسا بقسوةٍ و عذاب وهو يقرب رأسها منه
( كنتِ ؟!!! ..... و هل أنتِ الآن لستِ مشتتة أو ضائعة ؟!!!! ..... )
بكت بقوةٍ فأبعد الكوب عنها وهو ينظر اليها بأسى .... رغما عنه كان يتمنى لو يضمها الى صدره ... لكنه ببساطة فقد القدرة على ذلك .....
نهض من على السرير .... فرفعت رأسها اليه متوسلة
( لا تعاقبني بابني يا نادر أرجوك ........... )
ظل نادر ينظر اليها طويلا بصمت قبل أن يقول بلا تعبير
( لن أعاقبك به يا حور ....... لكن تأكدي أنتِ من الا تعاقبيه مجددا و حتى هذا الحين افعلي ما يستحقه منكِ ... )
ثم أخذ نفسا مجهدا ليقول بخشونة
( سأخبر أمك و أخاك و الجميع عن تلك الأقراص لو اقتضى الأمر ذلك ..... لن يمكنني في حالتك هذه أن أثق بكِ , أنتِ تدمرين نفسك ببطء .......و لو أخذت منها مجددا صدقيني سأعلم و صدقيني حينها سأبعد معتز عنك ...... و الخيار لكِ )
ثم خرج دون أن ينتظر جوابها .... بينما رفعت يديها الى وجهها تبكي بقوةٍ و تتسائل الى متى ستضيع المزيد من سنوات عمرها و عمر ابنها
.................................................. .................................................. ........................
( سأشتاق اليكِ جدا يا عمتي ..... على الأرجح سيكون مجيئي الى هنا أكثر صعوبة في الفترة القادمة )
امسكت حنين بساق روعة ... و أسندت وجنتها الي ركبتها و هي تجلس أرضا أمامها , بينما كانت روعة تضفر لها شعرها الطويل , تماما كما كانت تفعل دائما .... و كأن الأيام لم تمر على آخر جلسة جلستها كي تضفر لها روعة شعرها .....
تنهدت روعة تنهيدة مثقلة بالهموم و هي تأخذ نفسا مرتجفا , لتقول بخفوت مختنق
( لا أعلم سبب ذهابك الي بيتك وحيدة ..... لما لا تبقين هنا حتى يخرج زوجك ؟؟ ..... بيتك بعيد خارج المدينة , فلما تقلقينا عليكِ أكثر ؟؟..... الا يكفينا ما نحن فيه ؟؟ ...... )
تنهدت حنين هي الأخرى .... ثم قالت بخفوت
( مكان المرأة في بيت زوجها ..... أنسيت جملتك الشهيرة يا عمتي و التي كنتِ تتباهين بها ..... )
انهت روعة الضفيرة الطويلة لتربط نهايتها , فاستدارت حنين اليها تحتضن ركبتها و هي تتابع برقة
( كما أنني أريد تجهيز العديد من الأشياء في البيت لحين عودة جاسر ..... أشياء لن يفهمها غيري )
زمت روعة شفتيها و هي تقول بإستياء
( يا ابنتي كل شيء له أوانه ...... ابقي هنا معنا حتى يخرج زوجك )
مالت حنين برأسها مبتسمة بحزن لحزن زوجة عمها ثم همست
( صدقيني يا عمتي أسبابي وجيهة جدا ....... ارجوك , لا أريد الذهاب و أنت حزينة هكذا )
تنهدت روعة تنهيدة أخرى , الا أنها اقترنت في نهايتها بشهقة بكاء مختنقة , لم تستطع أن تكتمها .... فتأوهت حنين باسى و هي تنهض لكن لتجلس بجوارها على الأريكة لترتمي في حضنها قائلة بحزن
( لماذا البكاء الآن يا عمتي ؟؟ .......... هل هكذا ستودعيني و أنا سأغيب عنكِ لفترة ؟؟ )
هزت روعة رأسها و هي تقول بإختناق باكٍ
( يصعب علي ما تمر به حور ...... و كم كنت أنتظر مجئيك , .... دائما ما كنت ونيستي قبل أن تكوني ابنتي , منذ رحيلك و أنا ابقى الوقت الطويل بمفردي ..... لا أملك سوى ان اغرق في الأفكار السوداء عما يحدث لحور و يخفونه عني ..... و أنا هنا جالسة بين الجدران , لا أملك شيئا سوى التكهن , بينما أراها تذبل أمامي كل يوم حتى أصبحت مجرد كتلة ضعيفة فاقدة الحياة ....... )
سكتت قليلا قبل أن تتابع
( حتى اليوم الذي تمنيته طوال عمري وهو يوم زفاف مالك .... سيأتي و أنا لا أشعر بأي ذرة فرح حتى ... ستأتي أثير لتقيم معنا هنا حتى موعد الزفاف و أنا لست أعلم كيف سأقابلها و أجهزها و أنا لا أقوى حتى على الإبتسام )
عضت حنين على شفتها و هي تدلك ذراعي زوجة عمها برفق , علها تريحها قليلا .... انها في اشد الحاجة اليها الآن , ..... لكنها هي في اشد الحاجة كذلك للذهاب لبيتها و انتظار جاسر هناك ..... انتظاره في البيت سيعتمد عليه أشياء كثيرة ... خاصة بعد ان صلب رأسه و أصر على رحيلها .....
تنهدت حنين و هي تتعذب ...... ثم همست بعد فترة
( عمتي ....... لو كنتِ في حاجة الي ....إن أردتِ أن أبقى فسوف ..... )
قاطعتها روعة متراجعة بحزن و هي تأخذ وجه حنين بين كفيها لتربت على وجنتيها بعطف , لتقول من بين دموعها
( لا يا حبيبتي ..... كفانا أنانية تجاهك , اذهبي لبيتك , و انتظري زوجك كما قررتِ ..... لكن هل ستكونين آمنة في هذا المكان البعيد ؟؟ ...... )
أومأت حنين برأسها , ثم قالت بخفوت
( بعد أن أصريت ... و بعد مشادة عنيفة ... اضطر عاصم للرضوخ , بشرط أن يترك رجلين من رجاله هناك على البوابة و امرأة طيبة ستساعدني .... بخلاف سائق جاسر الذي سيكون تحت طلبي بالسيارة في أي وقت ...... )
تنهدت روعة باستسلام و هي تومىء برأسها ... لتقول بعد لحظة
( اذن اذهبي و ابدأي حياتك من جديد ..... و أنسي كل ما فات , لا تفكري سوى بسعادتك )
ظلت حنين تنظر اليها قليلا و قلبها يؤلمها و كأن شيء مسنن موجع يقبع به .... لكنها أومأت قبل أن تهمس بخفوت
( قبل أن أرحل ...... أريد أن أخبرك بشيء ربما , لم أخبرك به من قبل ..... لقد كنتِ دائما أمي التي فقدتها مبكرا , لتعود الي فيكِ .....
تفاصيل كثيرة تضيع مني رغما عني و التي تخص أمي رحمها الله ..... لتتبدل بتفاصيلك أنتِ ....لا أذكر موقف في حياتي لم تكوني جزءا منه ...... لذا ..... لذا ..... تفاجئت اليوم , حين اكتشفت بأنني لم أشكرك يوما لأنك أمي ....... )
ابتسمت روعة بتأوه من بين دموعها الغزيرة قبل أن تجذب حنين الى صدرها الرحب .. لتقبل قمة رأسها و هي تقول بإختناق
( كيف يمكنني تركك الآن بعد هذا الكلام ؟؟ ...... انتِ قطعة من قلبي يا حنين , .... سامحيني حبيبتي إن كنت قد آذيتك يوما ..... سامحيني أرجوكِ )
مسحت حنين دموعها و هي تتنعم قليلا بحضن زوجة عمها قبل أن تبتعد الى بيتها و هذه المرة هي الأكثر تأكيدا لها .... ثم همست بخفوت تبتسم
( ليس هناك ما أسامحك عليه و يوازي كل ما قدمتهِ لي ....... فقط كوني راضية عني و لا أريد أكثر من ذلك )
عادت روعة لتقبل رأسها و هي تهمس مختنقة
( والله دائما كنت راضية عنكِ يا حنين ....... و سأكون لآخر يوم في حياتي )
رفعت حنين وجهها المبلل بالدموع الي عمتها ...... لتقول برقة تحاول السيطرة على نفسها
( فليعطيك الله الصحة يا عمتي ..... حسنا كفى بكاءا , سنغرق المكان )
ثم اعتدلت و هي تمسح دموعها و تلتقط أنفاسها قبل أن تهمس
( يجب أن أذهب الآن يا عمتي ........... )
أمسكت روعة بذراعها لتقول بلهفة
( اصعدي لأبنة عمك قبل ذهابك ..... ربما استطعت تغيير حالتها قليلا )
توترت حنين قليلا .. قبل أن تتنحنح لتقول محاولة التهرب
( ربما .... ربما مرة أخرى يا عمتي , فأنا ......... )
الا ان زوجة عمها تشبثت بها بقوةٍ اكبر و هي تقول باستعطاف
( اصعدي اليها يا حنين و حاولي معها ..... لربما تمكنتِ من جرها للحديث أو الأكل أو أي شيء شبيه لطبيعتها المحبة للحياة ...... )
اطرقت حنين برأسها .... الحقيقة انها آخر شخص يمكن أن يخرج حور من حالتها , خاصة و أنها لم تصفى لها منذ شهور عديدة ....
لم تكن يوم سوداء القلب الى هذه الدرجة .... لكن الحديث الأخير بينهما و آخر كلمات حور لها في هذا البيت كانت القشة الأخيرة في طريق طويل من المعاملة السيئة و التجريح ....
انفجر كله دفعة واحدة مع كلماتها الأخيرة .... فأقسمت حنين بينها و بين نفسها أن تكون الأخيرة بالفعل , و الا تسمح لحور بتجريحها مرة أخرى ... حتى ولو اقتضى ذلك قطع كل صلةٍ بينهما ....
لكن الآن ... و في تلك اللحظة العاطفية التاريخية بينها و بين روعة , ..... لا تستطيع ان تخذلها , لذا فليكن ....
ستصعد لتلقي اليها بتحيةٍ خالية الود ..... مجردة الشعور ..... هذا لا يمنع في أنها تشفق عليها من كل ما أصابها , الا أنه اشفاق يخص شخص غريب ... لا تربطها به صلة روحية .. أو حتى رابطة دم ....
نطقت حنين أخيرا بصوتٍ أجوف خافت
( حسنا يا عمتي ..... تحت أمرك )
.................................................. .................................................. ...........................
حين طرقت الباب و لم تسمع ردا .... تنفست الصعداء و استدارت شاكرة أن الفرصة قد واتتها لتتهرب من ذلك الحمل .... الا أنها لم تتحرك خطوة واحدة ....... بقت واقفة مكانها صامتة قليلا , قبل أن تزفر بغضب ....
لتستدير مجددا للباب , فتفتحه دون اذن ....
للوهلة الأولى لم تستطع التعرف على تلك الكومة مشعثة الشعر و الملقاة على السرير دون أي بادرة من بوادر الحياة تظهر عليها ...
عقدت حنين حاجبيها و هي تتقدم الى السرير قليلا .... قبل أن تهمس بحذر
( حور !! ........... )
لم تتلقى ردا ..... فتابعت بهدوء
( لقد جئت لأسلم عليك لأنني ربما لن أتمكن من زيارتكم لفترة قادمة بسبب ظروفي ......... )
أيضا لم تتلقى أي رد .... فكتمت زفرة ملل قبل أن تقول
( حسنا ...... سعدت بالتحدث اليكِ , الي اللقاء ...... )
لكنها همست بداخلها " او ربما وداعا ستكون أفضل " .....
أمسكت حنين بمقبض الباب ... تتردد قليلا في الخروج , الى أن دفعها عفريت مشاكس لقول
( لقد صعدت الى هناك بإلحاح من عمتى على فكرة ..... لولا ذلك لما كنت عبرتك من الأساس )
حضرت نفسها لسماع رد لاذع .... لكن لاشيء .... فتابعت تقول و قد استبد بها الغيظ
( سمعت أنك كنت تتعاطين أقراص الهلوسة ....... أنت لا تحتاجينها على فكرة , فلديك من الهلاوس النرجسية ما يكفي ........... )
حين طال الصمت مرة أخرى ..... قالت بلامبالاة
( هل أصابتك أقراص الهلاوس بالصمم أيضا ؟؟ ........... )
لم تسمع رد ...... انها ليست نائمة , بضع حركات ضئيلة من أصابعها الملقاة على الوسادة تخبرها بذلك .... لكن لماذا لا تقفز من السرير لتهجم عليها .... حتى أنها تقف الآن متحامية بالباب خوفا من بطش حور في أي لحظة .....
هل حقا حالتها بهذه الجدية كما صورت لها زوجة عمها ؟؟!! .....
انتابها القلق للحظات ....فقالت
( حور ..... هل أنتِ بخير ؟؟ ...... )
لم تتلقى رد لفترة طويلة .... قبل أن تتحرك تلك الكومة قليلا ثم سمعت صوتا يكاد يكون رنانا من شدة ما هو أجوف ( أخرجي من هنا ............ )
زمت حنين شفتيها بغضب ..... حسنا , إنها هي حور و لن تتغير مهما يصيبها .... أوشكت على المغادرة و لتذهب حور الي الجحيم , خاصة و هي تتطلع الى تلك الغرفة التي شهدت أسوأ كلمات من الممكن أن تسمعها في حياتها ...
تلك التي رمتها بها حور في نفس المكان منذ شهور طويلة ...... تكاد تتذكر صدى الكلمات بالحرف الواحد ...
( كيف تجرؤين على التدخل فيما يخص حياتي ...... من أعطاك الحق لتبدي رأيك أصلا , يبدو أننا قد تهاونا معكِ طويلا.... أفيقي ..... أفيقي يا حنين واعرفي مركزك في هذا المنزل ...... هل اعتقدت حقا بأنك بمثابة أختنا ولك نفس حقوقنا ؟........
لن تستطيعي إخفاء مرارتك من أن عاصم لم يفكر في الزواج منكِ ...... ليفضل عليكِ دانا ابنة العز و النسب .......لا تستطيعين تمني السعادة لغيرك اليس كذلك ؟......)
هزت حنين رأسها قليلا لتبعد الذكرى الصدئة لمذاق تلك الكلمات في اذنيها .... و أخذت تستبدلها بصورة زوجة عمها الكسيرة الجالسة بالأسفل ....
فأخذت نفسا عميقا , لتقترب منها بحزم , ثم جلست بجوارها على حافة الفراش ... و كانت حور ملقاة عليه لا يظهر منها وجهها الملقى جانبا بين كومة من الشعر الطويل ....
لكن ذلك الجسد لم يكن يوما نحيفا بتلك الصورة المخيفة .....
اخذت حنين نفسا آخر قبل أن تقول بهدوء
( ماذا بكِ يا حور ؟؟ ....... لماذا تفعلين كل ذلك بنفسك ؟؟)
حين لم تتلقى ردا مرة أخرى مالت اليها لتزيح كومة الشعر الباهت من فوق وجهها ..... فتوقفت فجأة بخوف من تلك الأعين المتسعة المفتوحة تنظر للبعيد .... تحتها هالات زرقاء لم تعرفها تلك العيون من قبل ....في وجه غائر القسمات بشدة .....
همست حنين بجزع
( يالهي ... ماذا بك ؟؟ ....... )
لم ترد حور و لم تنظر اليها , فعقدت حنين حاجبيها قبل أن تقول بصرامة
( لماذا تفعلين ذلك ؟؟ .... و ماذا إن تعرضتِ لموقف صعب ؟؟!!! ..... ليس هذا مبرر لأن تفعلي كل ذلك بنفسك ., ليس خوفا عليكِ على فكرة ..... لكن على عمتي التي هي أمك بالمناسبة ؟؟ ..... هل أعمتكِ أنانيتك عن رؤية الهلع الذي تسببينه لها ؟؟ ....... صحتها و عمرها لم يعودا في قدرةٍ على احتمال مثل هذا الضغط .....)
أوشكت على قول المزيد ..... الا أن تحرك حور الطفيف جعلها تتحرك الى مؤخرة السرير خوفا من أن تجد اناء الماء الزجاجي المجاور مضروبا في رأسها دون تحذير .....
لكن حور تحركت بضعف شديد , الى أن أصبحت شبه مستلقية ... تنظر الي حنين بملامح متجمدة , متبلدة ..... و عينين فارغتين
قبل أن تقول بخفوت لكن القسوة كانت تحيط بذك الخفوت
( لقد فقدت ابني ............ )
ذابت عينا حنين قبل أن تقول بلهفة و تأوه
( بعيد الشر عنه ..... لا تقولي فقدتيه , إنه بخير ........ لكن بما أنك تفتقدينه , فأخبرك بأنني أيضا أفتقده بشدة , لدرجة العذاب ........ هل تتذكرين حين كان يوما كل حياتي ؟؟ الى أن حرمتيني منه ....... )
أخفضت حنين رأسها لتهمس بحزن
( أنا أيضا أفتقده بشدة يا حور ..... و منذ شهور طويلة ..... طويلة جدا ...... )
لم تتوقع حنين العاصفة التي انفجرت فجأة كقاذفة لهب حين استقامت حور هائجة بهالة شعرها الهوجاء و هي تصرخ صرخة واحدة
( انه ابني ............ )
انتفضت حنين مذعورة و هي تتراجع للخلف مرة أخرى الى أن تشبثت بحاجز السرير و هي تظن بأن حور تتعاطى بعض الأشياء المريبة , لذا لم يكن من الحكمة إستفزازها الآن .....
لكن حور لم تهجم عليها كما كانت تتوقع .... بل رفعت قبضة يدها المضمومة و ضربت بها صدرها عوضا عن رأس حنين و هي تتابع بقهر يقطر من كل حرف
( انه ابني ..... ابني أنا .... أي وضعين تقارنين بينهما !!! ........ أنت تفتقدينه ربما ..... لكني أنا انتزعت مني قطعة من أحشائي ....... أيمكنك أن تتخيلي هذا الشعور ؟؟!!!! )
غامت عينا حنين للحظة ....
" نعم أستطيع أن أتخيل جيدا , حين فقدت طفلتي .... لكنها كانت مجرد حلم لم يكتمل و لم يتسنى لي الوقت حتى لمحبتها و الإعتذار لها ..... أما معتز ... فهو انسان كامل له حياة و له وجود و كيان ... لذا أستطيع التخيل جيدا .... "
لكنها لم تنطق بذلك و هي تنظر لحور .... قبل أن تهمس بتردد
( لكنك ..... لم تعطيني هذا الإنطباع من قبل , كنت أظن أن كل ما يهمك هو الإطمئنان بأنه بخير .... لكنك لم تحاولي يوما التشبث به أو الوصول اليه ....... )
انحنت عينا حور وداخلها يصرخ عاليا بفظاعة " مجددا !!!! ..... يالهي مجددا !!! ..... ألن ينتهي هذا العذاب !!! "
لكن حنين تابعت بهمس حزين
( لم أقصد أن أؤلمك.... لكن ..... لكنك انتزعتي مني طفلي أنا أيضا , لقد كان النسمة التي تضيء حياتي .... كانت بيننا لغتنا الخاصة ..... حتى أنه كان يفهمني و افهمه ..... حتى أنني علمته أول اشارة .
و أنتِ لم تبدي أي اعتراض , فجعلتني أتعلق به أكثر و اكثر ... يوما بعد يوم ..... الى أن انتزعتيه مني فجأة و دون أي إنذار ... )
عقدت حور حاجبيها بقسوة ... الا أن عينيها كانتا تنطقان بالألم حين همست بنفس القهر
( كنت أحاول أن أبني أنا لغتي الخاصة معه ..... كنت أحاول أن أكمل تعليمه باقي الإشارات ...... لذا فاعذريني ان كنت لا أتعاطف حاليا مع ما انتزعته منكِ ......
فما إنتُزِع مني كان أكبر ...... كان أكبر بكثير ......... )
ثم رفعت أصابعها دون سابق إنذار لتضغط بها على عينيها قبل أن تنفجر في بكاءٍ مرير .....
شعرت حنين بالصدمة لرؤية حور تبكي بهذا الشكل ... لقد رأتها تبكي مرارا , بدلالٍ و ميوعة ... و رغبة في تحقيق طلباتها التي لا تنتهي
الا أنها المرة الأولى التي تراها تبكي فيها بهذا الشكل ..... شكل اوجع قلبها بإحساس غريب .....
منحتها حنين الفرصة لتبكي ما تشاء .... و لا تعلم كم مضى من الوقت تحديدا ..... وهي تراقبها بصمت ...
الى أن همست أخيرا
( أتعلمين ..... لا أدري لماذا تذكرت الآن اليوم الذي انتقلت فيه الي بيتكم بعد وفاة والدي ...... )
رفعت حور عينيها الحمراوين المتورمتين الى حنين , تنظر اليها بصمت .... فتابعت حنين ...
( كنت أشعر بالضياع ..... حتى أن الشعور بالضياع طغى على الإحساس بالحزن , و تحول الي خوف كبير ......... لكن أتعلمين ماذا كان أكثر شيء يبهجني بما يناقض الحزن بداخلي ؟؟ ....
هو انتقالي معك في غرفة واحدة ......
لطالما تمنيت أن تكون لي اخت ...... أنام بجوارها و ألعب بدمياتها و حتى أسرق ملابسها ..... و أنت كنت تمثلين لي كل هذا الحلم .... بكل أركانه .....
الأخت الجميلة . ذات الغرفة الرائعة و الملابس الحمراء ... و الدمى المتناثرة ..... و السرير الذي سننام فيه سويا )
ظلت حور تنظر اليها دون رد وهي تتابع
( لكن فجأة بدأ الحلم يتضائل .... اولا باخراجي من غرفتك ... ثم تجنبي شيئا فشيئا ... حتى صداقتنا التي كانت من قبل بدأت في التضاؤل .... الى أن انتهت بالتجريح المستمر ...... )
فتحت حور شفتيها قليلا .... ثم اغلقتهما , ثم عادت لتفتحهما و هي تهمس
( كنت مجرد طفلة .......... )
نظرت اليها حنين لتقول بلا تعبير
( آخر تجريح منكِ كان في هذه الغرفة منذ عدة أشهر ...... حين أخبرتني بحقيقة وضعي في هذا البيت )
مصت حور شفتيها بتوتر قبل أن تهمس
( كنت أعاني من ضغط انفصالي و ابني و حالته الخاصة ..... لما لا تقدرين ظروف الناس ؟؟ )
أطرقت حنين برأسها قليلا ... قبل أن تهمس
( دائما ما كنت أجيد تقدير ظروف الجميع ..... لكن الآن و بما أنني قد ابتعد لفترة , أريد أن أسألك لمرة واحدة و أخيرة ..... لماذا كنتِ تبغضين وجودي بينكم الى هذا الحد ...... )
ظلت حور صامتة لفترة ....تنظر الي رأسها المنكس و هي تمسح وجهها المبلل و عينيها و أنفها بأصابعها المرتجفة .... قبل أن تهمس بجفاء
( لأنك و منذ أن حططتِ قدمك في هذا البيت و أنتِ المفضلة ..... المميزة ..... لقد احتللتِ مكاني مع سبق الإصرار )
رفعت حنين رأسها مذهولة متسعة العينين و هي تصرخ بإستنكار واضعة يدها على صدرها
( أنا ؟؟!!!!!! ...... انها أسوأ حجة يمكن لكِ أن تتحججين بها على الإطلاق , بل و اكثرها فشلا أيضا , لما لا تجدين شيئا أفضل ...... )
اومأت حور برأسها و هي تقول بخفوت مصرة و بملامح ميتة لا حياة بها
( بل أنتِ كذلك ...... ربما كنت أنا أميرة أبي حتى آخر يوم و مدللة الجميع ..... لكني لم أكن عمياء لكي لا أعلم بأنكِ كنتِ المميزة لدى الجميع ....... )
صمتت قليلا ثم أخفضت نظرها لتهمس
( هل تظنين بأنني لم أكن أشعر و أحس بوجودك الذي يتزايد و يتأصل في البيت يوما بعد يوم ؟؟ .... لم يكن الدلال هو المقياس أبدا ..... لكن وجودك كان مسلما به , ...... في حياة كل من هم في حياتي .....
لم يعرف أحد حنين و يقترب منها الا و أحبها و أعجب بها ..... و لم يعرف أحد حور و يقترب منها الا و ينفر من تصرفاتها ......
حنين يجب أن تعامل معاملة خاصة نظرا لوضعها ......
حنين يمكنها أن تتحمل هذا الشيء أو آخر ... لأنها الأقدر على التحمل .....
حنين يمكنها ..... حنين تستطيع بينما حور لا يمكنها .....
كم هي مريحة للقلب .... كم هي مرنة .... كم هي قوية العود و صلبة , لكن في نفس الوقت مريحة للقلب و غير مسببة لأي متاعب ...... )
كانت حنين تنظر اليها مذهولة من تلك النظرية الغريبة الأطوار .... فرفعت حور عينيها الى عيني حنين المذهولتين لتتابع بخفوت
( كنت المميزة لدى الجميع حتى و إن لم تكوني المدللة ......
أتعلمين ..... دائما ما كنت أعتقد أن الجميع يدللونني , لإتقاء شري ليس إلا ........)
فغرت حنين شفتيها تحاول أن تجد ما تنطق به .... الا أن حور سبقتها لتقول
( دائما ما كنت تتأقلمين و تتكيفين في لمح البصر مع أي بيئة توضعين بها ....... لكِ طبيعة مرنة تكيفت مع كل التغيرات التي مررنا بها ..... في التعليم و العمل و في البيت و في كل مكان تعاملين معه سواء كان شعبيا أم راقيا .... يمكنك التلون و التكيف معه ببساطة بحيث لا تكونين ملحوظة أو منفرة ......
أما أنا فلا أنكر أنني شعبية حتى النخاع ...... لا أستطيع السيطرة على ألفاظي أو حركاتي أو ملامحي ... و لا حتى مصمصة شفتي و ضحكتي المجلجلة ...... إنه شيء لا يتغير بالتدريب أبدا مهما حاولت ......
لذا دائما ماكنت في غير موضعي ..... سواء و أنا في المدرسة الرهيبة التي ارسلني والدي اليها لأتعامل مع أبناء طبقة مختلفة تماما عنا .... لأعود بعدها في سيارة والدي الى حينا القديم لأخلع حذائي الغالي و أنزل للعب حافية القدمين مع باقي الأطفال .....
دائما ما كنت موضع رفض و في غير محلي ..... في الحي الشعبي أو في الحي الراقي و ظل الحال الى مراهقتي و شبابي ثم زواجي ......
بينما أنظر اليكِ ..... و أتعجب كيف يمكنك التأقلم بمثل هذه البساطة في أي مجتمع و في أي بيت !!! ......
كيف يمكنك أن تكوني جزء من أي بيئة .... و قريبة من كل قلب !!........
ثم علمت الإجابة مؤخرا ...... لأنكِ ببساطة , بسيطة ...... بسيطة الروح و الطباع ..... بعكسي ...... )
أطرقت برأسها فانسدل شعرها فوق وجهها ليخفيه تماما وهي تكتف ذراعيها بضعفٍ و أسى .....
قبل أن تتابع هامسة ....
( كنت أتعامل بصورة غير مرئية مع مشاعري تجاهك تلك .... و كنت مسيطرة عليها تماما .....الى أن تزوجت .....
من بعد زواجي يوما بعد يوم و أنا أفقد جزءا من نفسي محاولة التكيف و التغير و التلون لأكون كما يحب نادر أن أكون ..... فشل بعد فشل .... و مرارة بعد مرارة ..... و أنا أستجدي مشاعره , و لا أجد السبيل لقلبه , ليس لقلبه فقط بل حتى لعقله ..... لم يكن مقتنعا بي كلية ..... أنا وهو كنا على النقيض تماما في كل شيء ....
بيت الزوجية .... كان أكثر الأماكن التي زاد فيها شعوري بأنني دخيلة على أصحابه ....... فاق كل ما مررت به في التعليم و التنقل من حيٍ لنقيضه ....... )
رفعت حور وجهها المتورم الغائر لحنين ..... ثم همست بقهر
( أنتِ لا تعرفين إحساس الزوجة المرفوضة .......إحساس يمكنه أن يخلق شيطانا من امرأة ...... و في غمرة هذا كله , أسمع منه هو دون غيره عن مدى صلابة حنين و بساطتها و شجاعتها ..... و احترامه لها ........ و كيف انني لم أتخذها صديقة بدلا عن المجتمع التافه الذي أختلط به ....... )
سكتت قليلا قبل أن تهمس بإختناق
( حتى ابني ....... حتى ابني الذي تذكرين الآن بكل بساطة أنكِ كنتِ أمه في سنواته الأولى , لأنني كنت و لازلت أكبر فاشلة في التاريخ....... )
سكتت لتأخذ نفسا مرتجفا قبل أن تهتف بقهر غريب
( كيف يمكنني أن أتقبلك بعد كل هذا ............ )
ظلت حنين تنظر اليها قليلا بإنشداه ...... قبل أن تنطق أخيرا ببطء
(يالهي ... أنتِ تغارين من ظلك ............ لكن معرفة شعورك هذا رفع من كبريائي الهش كثيرا )
انتظرت قليلا قبل أن تتابع
؛( حقا يا حور أنتِ أكثر حماقة و سذاجة مما كنت أتصور ....... ألم تفكري للحظة و بعد كل هذا الوصف الرائع عن مدى مكانتي لدى الجميع .... أنه في أول اختبار حقيقي , فضلك عمي رحمه الله بينما تنازل عني ببساطة )
عقدت حور حاجبيها و هي تقول
( لم يتنازل عنكِ لقد كان قدرك ...... لا تتكلمي عن والدي بهذا الشكل بعد كل ما فعله من أجلك )
ابتسمت حنين بمرارة و هي تطرق برأسها جانبا .. هامسة لنفسها " لا فائدة " ....
ثم رفعت وجهها لتقول بثبات
( لن أنكر فضل عمي علي الى يوم مماتي ...... فقط كنت اخبرك بمكانتك لديه , حين فضل أن يحميك من مستقبل مظلم مع شخص لا يليق بك )
رفعت حور حاجبها لتقول بلامبالاة
( لا يمكنك الكلام الآن و أنتِ سعيدة معه و تذوبين به .... لقد بطلت حجتك )
هزت حنين رأسها بعنف و هي تقول
( بغض النظر ...... لكن لا يظل أن عمي اختارني أنا لأقف في وجه النار )
قالت حور باستفزاز
( لما لا تقولي أن والدي كان له بعد نظر و أدرك بأنكِ ستقعين في غرامه .... بينما كان متأكدا من استحالة ذلك معي )
هتفت حنين مدافعة بغضب
( لم أقع في غرامه !!! ............. )
رفعت حور و هي تتابع بمنتهى السماجة
( لقد قلتِ بغض النظر .......... )
هتفت حنين بغضب تكاد تصرخ
( ليس معنى هذا أنني وقعت في غرامه و أنكم قد تبرأتم من تلك الفعلة قديما ..... )
هزت حور كتفها لتكرر
( لقد قلتي بغض النظر ........ )
بدت حنين متوحشة و قد انتفش شعرها مؤازرا لحالتها و هي تهتف
( توقفي عن تكرار تلك الكلمة ..... ليست معناها أننني وقعت في غرامه وأن كل الأطراف سعيدة و لم يظلم أحد حنين ....... )
انتظرت حور قليلا قبل أن تقول
( لقد قلتي بغض ..... )
الا أن حنين كانت قد هجمت عليها لتطبق يدها على فم حور هامسة بخطورة .... مشددة على كل كلمة امام عينيها الغائرتين
( لقد قلت توقفي ...... هذا الموضوع .... يضايقني .... فلا تعبثي معي به )
هزت حور كتفيها بلامبالاة .... الى أن نزعت حنين يدها بغضب و هي تزفر بجنون , قبل أن تعدل من ملابسها بعنف ... لترتمي جالسة مرة أخرى و هي تهمس بشراسة
( مستفزة ...... حتى في حالات ضعفك مستفزة و لا تمنحي لأحد الفرصة كي يتعاطف معك )
أخذت نفسا عميقا لتهدىء نفسها .... قبل أن تنظر اليها بغضب , الا أنها وجدت ملامح حور قد عادت مجددا لشرودها الضائع .... فقالت حنين بنفاذ صبر
( ماذا الآن ؟؟ ........ )
نظرت اليها حور بضياع لتهمس بطريقة مست قلب حنين رغما عنها
( هل تعتقدين أنني لو ذهبت لنادر و رجوته من جديد ...... ربما يترك لي ابني , أو ربما يقبل بعودتي ؟؟ .... )
التمعت عينا حنين بصلابة قبل أن تقول بغضب
( يا الله ....., اسمعي يا بنت الحاج اسماعيل رشوان , تحلي ببعض الكرامة بالله عليكِ .... نعم لقد أخطأتِ , لكن الحل هو أن تتحملي بعض عواقب الأمر بشجاعة .....
التذلل لن يفيدك .. الأمل الوحيد هو أن يجدك قد تغيرت بالفعل و أنكِ قد نزعته من حياتك و كل همك قد أصبح في استعادة ابنك و أن تصبحي جديرة به كأم .... حينها سيلهث خلفك ... و حينها أيضا سنخرج عينيه قبل أن يستعيدك )
ظهر الألم جليا في عيني حور قبل أن تقول بمرارة
( أنتِ كعاصم ..... تظنين أن همي هو استعادة نادر الآن , بينما أنا في الحقيقة في استعداد على دهس كرامتي و الحنث بقسمي و العودة اليه في سبيل أن أبقى مع ابني .......لقد فكرت أن أستعين بصبا بعد أن تخلى عني الجميع
فالإقناع جزء من عملها )
رفعت حنين حاجبيها لتقول
( صبا !!! ......
حسنا في حالة الإستعانة بصبا سيكون أمامك خيارين .... إما أن تخربين بيتها .... و إما أن تخربين بيتك أكثر مما هو مخروب اصلا .....
ففي آخر مرة أستعنت بها كاد عاصم أن يبطش بها و بي و بجاسر و بالمارة في الطريق أيضا لو أمكنه ...... )
عادت عينا حور لغيمتها من جديد و هي ترفع يديها الى جبهتها تستند على كفيها بإعياء تهمس بضياع
( ماذا أفعل ؟؟ ...... أكاد أراه وهو يتجول في كل غرفة بحثا عني و يتسائل بداخله عما ارتكبه كي أتركه و أرحل )
نظرت اليها حنين بصمت قليلا قبل أن تقول
( اهتمي بنفسك أولا يا حور ...... على الرغم من كل أنانيتك المعتادة و التي أمتعتنا بها طويلا , الا أنك في حاجةٍ لأن تهتمي بنفسك , دون الإهتمام بالآخرين بما يظنونه أو يشعرون به ..... و حينها سيعود ابنك لك و أنت في حال أفضل لكليكما ........ )
نهضت حنين ببطء قبل أن تقول بتردد
( أنا ...... يجب أن أذهب الآن , لن أبتعد كثيرا ...... هل تعديني أن تكونين بخير من أجل عمتي ؟؟ )
نظرت اليها حور نظرة خاوية دون أن ترد ...... فاستدارت حنين لتغادر , لكنها التفتت اليها مرة أخيرة و هي تقول بخفوت
( و توقفي عن تناول أقراص الهلاوس , فهلاوسك تكفي الجميع و تزيد )
همست حور بخواء ( ليست أقراص هلاوس ...... )
ابتسمت حنين بتردد قبل أن تهمس ( فقط توقفي عنها لأجل أمك و ابنك ......... )
ثم استدارت لتغادر مغلقة الباب خلفها بهدوء ..... بينما تراجعت حور ببطء و هي تستنجد بوسادتها من جديد في حمل رأسها و قد عجزت عن حمله لفترة أطول ..... و الألم لا يهدأ و لا يبارح .....
.................................................. .................................................. .............................
• كانت تنظر الي أنحاء المرآب الواسع بكل ما به من أجزاء صغيرة و كبيرة ملقاة .......... العمل أمامها كثير و الفترة محدودة ...........يجب أن تنهي كل شيء تريده ......... لقد تأخر تجهيز هذا البيت أكثر مما يجب
لقد انتهى السور بالكامل ولا ينقص سوى تركيبه ..........و لقد أعادت دهان الحوائط ذات الدهان المتقشر بفعل الرطوبة ............ لقد أفادها السلم الطويل و الذي يماثل وزنها و هي تنقله معها من مكان الى آخر
انحنت لتمسك ببوابة حديدية صغيرة طولها يصل الي خصرها و قد نال منها الصدأ ........... لو عملت على تغييرها فسوف يغيرونها كل عام بسبب البحر ، لذا ليس عليها سوى أن تجلي الصدأ قليلا قبل ان تعيد طلائها بلون جذاب و قد اختارت لون نحاسي يناسبها تماما
إنها البوابة الصغيرة التي خرج منها جاسر ذات يوم يحملها على إحدى كتفيه قبل أن يرميها في البحر
الأحمق المجنون ............ توقفت حنين قليلا عن جليها و هي تشرد بعينيها بعيدا مبتسمة ........ كم اشتاقت لجنونه
لم تظن يوما أن تشتاق لهذا الأحمق ........... الأحمق ذو الطفل الصغير بداخله يناديها محتاجا لها في كل لحظة من حياته
رن هاتفها مقاطعا أفكارها فنظرت بسرعة اليه بضربات قلب متسارعة و هي تتعرف على هوية الطالب قبل أن ترى الأسم ، فقد خصصته بنغمة خاصة تلائمه تماما
ردت على الهاتف بسرعة لكن قبلا أخذت نفسا عميقا كي تهدىء من خفقات قلبها ليبدو صوتها متزنا وهي ترد مبتسمة
( لماذا تتصل في مثل هذا الوقت ؟؟ .............. لماذا لست نائما ؟؟ )
وصلها صوته خشنا دون مقدمات
(ماذا تفعلين ؟؟...............)
نظرت حنين حولها قبل أن تتسع ابتسامتها وهي تجيب
( لا شيء مهم ............ متراخية في فراشي بدلال )
سألها جاسر بصوت خافت قليلا
( ماذا ترتدين ؟؟..........)
ضحكت حنين عاليا قبل أن تقول
( حقا يا جاسر إنه أكثر سؤال تقليدي ممكن أن تسأله ...........، قليل من الإبتكار من فضلك ...........)
سمعته يتنفس بخشونة قبل أن يقول بنفاذ صبر
( لما لا تردين ببساطة ،.........لسانك أصبح أطول منك )
ابتسمت حنين و هي تعض على شفتها ناظرة الى الجينز المهترىء الضيق قبل أن ترد برقة
( أرتدي قميص نوم أبيض ...........)
سمعت انفاسه الخشنة مجددا قبل أن يقول بخشونة أكبر
( ذلك الأبيض ذو الشريط الأخضر على الصدر ........... و الذي يصل الي ركبتيك ؟؟.............)
كان في بالها أن تخدعه بصورة أكثر إغراء .............لكن ما لفت انتباهها هو وصفه لقميصها المحبب وهو تقريبا شبه فستان بيتي طفولي المظهر
عقدت حاجبيها و هي تتسائل
من أين عرفه هو الآخر ؟ ................ إنها متأكدة أنها تركته في غرفتها ببيت عمها
لا ينقصه سوى أن يعرف أماكن ملابسها الداخلية أيضا و عددها و ألوانها
المتسلل ،،، المترصد و المتطفل أيضا
قالت حنين بحزم
(من أين عرفت ذلك القميص ؟؟ ........ )
سكت جاسر قليلا قبل أن يقول بهدوء
( الحقيقة أن الأمر لم يتطلب الكثير من الجهد و أنت تطلين به كل صباح على شباب الحي الشاكرين لكرم أخلاقك و أنت تعرضين مثل هذا العرض الفعال ...... بقميص يبدو في الشمس بشفافية شاشة عالية الوضوح ............)
اتسعت عينا حنين بصدمة و فغرت شفتيها
لقد سمعت هذا الكلام من قبل
لكن أين ؟؟ ................ لا لم تسمعه ، لقد قرأته
نعم في ورقة سلمها لها الصبي الصغير الذي يحضر الملابس المكوية
همست بتلعثم
( أنت ........ من ،.............. أين كنت ،................. هل كنت أنت من ؟؟ )
رد عليها بخشونة
( نعم كنت أنا يا قليلة الحياء ....................)
عبست حنين و هي تنهض من مكانها بغضب فسقطت البوابة أرضا لتحدث ضجيجا عاليا ،، فقال جاسر
( ما هذا الصوت ؟؟ ............. هل سقطت من على السرير من الإنفعال ؟؟ ............ انتظري الي أن أصف لك قوامك النحيف كقوام غزال شارد ............. )
احمر وجهها و هي تهتف بصرامة
( توقف حالا ............لا أصدق كل هذا ، أكاد أن أجدك متسربا بين أنفاسي .............)
سكت قليلا قبل ان يقول بخفوت
( أو بين ملابسك ............... )
صرخت حنين مجددا
( أصمت حالا يا جاسر رشيد ..................)
الا أنه لم يضحك ، بل قال بخشونة
( اذن هل هو ما ترتدينه الآن ؟؟ ............)

زمت شفتيها بعناد قبل أن تقول كاذبة
( نعم ..............)
قال جاسر بحدة و هو يتميز غضبا
( و هل تخرجين به من غرفتك أمام زوج الثيران أبناء عمك ؟ .............)
قالت حنين بحنق
( لآخر مرة يا جاسر ............ لا تطلق ذلك الاسم على أبناء عمي و احترم نفسك )
قال جاسر بخشونة أكبر
( اذن احترمي نفسك و بدلي ما ترتدينه ........... لقد تركتك أمانة لديك فحافظي عليها ..............)
عبست حنين بعدم استيعاب و هي تهز رأسها مستفهمة
( تركت ماذا أمانة لمن ؟. ،............ هلا تكلمت العربية من فضلك لأفهمك ؟ .............)
قال جاسر بجدية
( تركت ما يخصني كأمانة بين يديك حتى أعود ............)
ارتبكت قليلا و هي تتمشى ببطء متشبثة بهاتفها لتهمس بخفوت
( وما هو ذلك الذي يخصك و تركته أمانة .........)
رد جاسر دون مواربة
( أنت ،......... )
عادت حنين لتبتسم برقة قبل أن تهمس
( وهل هي أمانة غالية ؟؟؟ ........)
رد جاسر بخشونة صادرة من أعماقه
( بل أغلى مما تتصورين يا حنين ......أغلى أغلى مما تتصورين )
ابتسمت حنين مجددا ...... تتجول في أنحاء المرآب ، تركل حصاة هنا و مسمار هناك
ثم همست
( اذا لماذا أبعدتها ؟.......... )
رد جاسر بعد فترة
( خفت عليها .........)
همست حنين تتوقف قليلا
( مما ؟............ )
سكت قليلا ،...... لكن الفترة طالت و هبط قلبها بين قدميها الى أن قال
( من نفسي ربما ........ )
سكتت حنين هي الأخرى ....... ثم همست أخيرا
( ما دامت الأمانة غالية عليك الى تلك الدرجة فمن المستحيل أن تضر بها ،........)
قال جاسر بحذر
( لكني سبق وفعلت ........)
عادت حنين لتصمت ..... ثم تحركت هامسة
( نعم ...... كان هناك سوء تخزين و توزيع ........ استخدام مريع .....لكن أقل ما يمكنك هو ألا تلقي بها بعيدا بعد كل ما فعلته)
صمت جاسر قبل أن يضحك بخفوت ليقول بعد فترة
( اشتقت لحماقتك يا حنين ...... اشتقت لحماقتك و طيبة قلبك و رقتك ،......و قبل كل ذلك اشتقت لعينيك حبيبتي قلبي ....... )
عضت على ابتسامتها و عصف قلبها .......لا تصدق أن جاسر رشيد هو من يتكلم بهذا الشكل
لكن حمامات الرومانسية طارت حين أردف بخشونة
( أذن و بعد كل هذا الحوار ،....أياك و الخروج بذلك القميص أمام زوج الثي...... أمام أبناء عمك ، مفهوم ؟؟ .........)
عادت حنين لتنظر الى أنحاء مرآب بيتهما قبل أن تقول بوداعة
( حاضر ....... سأرتدي كيس بطاطس )
قال جاسر بخشونة متذمرا
( ليس كافيا ......... )
ضحكت حنين لتقول ( أذن سأخلعه ......... )
قال جاسر بصرامة
( احترمي نفسك يا حنين ...... و لا تستفزيني فأنا أصلا في حال كبت ميؤوس منها ........)
همست حنين لنفسها بجرأة ......." و أنا أعاني من نفس الكبت الميؤس منه "
لكن جرأتها لم تتخطى شفتيها فاستعاضت عن الكلمات بضحكة خجولة
فتنفس جاسر بخشونة ليقول بحدة
( من الظلم بعدك عني كل تلك المسافة ........ حنين اشتقت اليك .........)
فهمت تلك ال " اشتقت اليك " و لم تحاول ادعاء العكس ... فقالت محاولة التخفيف عنه بصوتٍ هامس
( كيف تتدبر أمورك ؟؟ ............. )
تنهد بقوةٍ قبل ان يقول بوجوم
( أتدبرها جيدا بمفردي ...... لا تقلقي , )
فسألت حنين برقة أكثر
( الا يأتي أحد لزيارتك ؟؟ ............ )
سكت جاسر قليلا قبل أن يقول بصوتٍ خافت
( لا يأتي سوى ..... عمر ..... )
همست حنين
( آآآه يا مسكين فقط عمر ؟؟ ........ أما من أحدٍ غيره ؟؟ )
قال جاسر بهدوء و هو يحاول التعامل مع طبيعية صوتها في نطقها لاسم عمر , فقال بخفوت
( كان رجالي المقربين يأتون الى المشفى ليقفون كالأبواب في الممر خارج الغرفة .... و حين شعرت بأنهم يثيرون الفزع أمرتهم بعدم المجيء ..... )
ضحكت حنين برقة و هي تحتضن الهاتف قليلا الى أذنها ... بينما تابع جاسر
( و قد أتت أحلام عدة مرات ........ )
فهمست حنين ( ممتاز ........ )
قال جاسر ( أما باقي الأقارب فينتظرون موتي ........ )
شهقت حنين بصمت , ثم همست مرتجفة
( بعيد الشر عنك ...... توقف يا جاسر , عن مثل هذا الكلام الغبي .... )
فانتهز جاسر الفرصة ليقول بخشونة
( انتِ لا تطيعين الأوامر أبدا ...... و لقد أمرتك بأن تدعي مدير أعمالي يقوم بكافة الإجراءات كي ..... )
قاطعته حنين بحزم
( جاسر توقف الآن ...... هذا الحديث بغيض جدا على قلبي , فأرجوك توقف )
جاء رجاؤها متنهدا ناعما ... هامسا , بخلاف كل كلمة " توقف " حازمة كانت تأمره بها , لذا صمت جاسر بفعل صوتها الذي تسلل حزينا الى قلبه ليمزقه و يجعله راغبا في اجتياز المسافات , كي يذهب اليها طائرا ليغمرها بين ذراعيه بقوةٍ كما يتمنى .....
لم يجد في نفسه المحبطة القوة سوى الهمس بوجوم
( هل أنتِ سعيدة في بيت عمك ؟......... لا بد أنكِ كنتِ في شوقٍ لهم )
همست حنين و هي تنحني لتلتقط الخرقة القديمة التي مسح بها يديها ذات يوم بالبنزين , لتتشممها مغمضة عينيها , ....... حتى رائحة البنزين أصبحت تمثل لها ذكرى يرجف لها قلبها .....
منذ أن أجلسها على حجره كي يطعمها بعد أن مسح لها يديها ووجهها .... شيء ما تولد بينهما بسرعة السحر ....
لتسلمه نفسها في تلك الليلة روحا و جسدا .....
همست حنين و هي تفتح عينيها
( نعم أنا في شوقٍ لهم .......... )
قال جاسر بوجوم
( جيد ....... استمتعي بوقتك اذن )
ابتسمت حنين برقة ..... " طفلي المسكين يقبع هناك وحيدا و هو يحتاجني , لكن عناده الغبي يمنعه من ادراك ذلك " ...
همست حنين أخيرا
( أنا في انتظارك يا جاسر ...... فلا تتأخر )
سمعت صوت أنفاسه الخشنة قبل أن يقول
( لن أتأخر ليومٍ واحد ....... و سآتي لأختطفك مجددا , ثقي في هذا )
ضحكت حنين بخفة لتهمس
( لن تحتاج لذلك ............ )
أوشك حينها أن يهتف بحبها ..... كان على بعد لحظةٍ من أن يهتف لها بذلك دون قيود , الا أنها همست متنهدة
( جاسر ...... يجب أن أذهب الآن , انهم ينادونني للعشاء ...... )
شعر جاسر بالإحباط يقبع بداخل صدره كحجرٍ ضخم وهو يقول بوجوم
( حسنا اذهبي ......... )
ثم هتف بخشونة قبل أن تغلق الخط
( لا تنسي أن تخلعي ذلك القميص .......... )
ضحكت حنين لتهمس وهي تؤرجح ساقها بدلال
( أتريد أن أصور لك نفسي و أنا أفعل كي تنام قرير العين ........ )
تحولت الأنفاس الخشنة الى تأوه مكتوم و كأنه تلقى لكمة في معدته , فضحكت حنين عاليا وهو يقول
( الشيء المؤكد الوحيد هو أنني لن أنام قرير العين للحظة ..... لكن ارسليها في كل الأحوال فقط اعتدت السهر )
ضحكت حنين بخفوت تلك المرة و احمر وجهها و هي تعض على شفتها المسكينة التي تورمت منذ أن بدأ هذا الحوار من شدة ما عضت عليها .... ثم همست أخيرا
( تصبح على خير يا جاسر ......... )
ناداها بلهفة قبل أن تغلق الخط
( حنيييين .......... )
همست مبتسمة حالمة ( همممممم ........ )
قال جاسر بصوتٍ خشن بعد فترة
( آسف لأنني كنت قاسيا معك في آخر لقاء بيننا ..... حنين ... أنتِ لا تدركين ما أشعر به ... لم أكن ... )
قاطعته بهمس في رقة النسيم
( بل أشعر .... و أعرف ..... لا تقلق فقد أعتدت منك الحماقة )
لم ترى ابتسامته الحزينة ... ثم قال بخفوت
( اذن فقد اعتاد كلا منا على شيءٍ يخص الآخر ....... )
ابتسمت حنين وهي تهمس بنعومة
( نعم ...... على ما يبدو ....... )
ظل الصمت بينهما طويلا .... و كأن استماع كلا منهما لصوت تنفس الآخر كان كفيلا كي يطمئنه , .... الى أن همس جاسر أخيرا
( تصبحين على خير .......... )
ردت حنين بهمس
( و أنت من أهل الخير ......... )
ثم أغلقت الخط قبل أن تخونها مشاعرها أكثر فتنفجر باكية ..... وضعت هاتفها جانبا , و هي تأخذ نفسا مرتجفا , قبل أن تعود لبوابتها القصيرة لكن ثقيلة جدا ..... العمل سيشجعها و يصبرها لحين عودته ....
بينما الكانت المذيعة منمقة الصوت في المذياع القديم الموضوع على أحد الرفوف ... تعلن عن بدء الفترة المسائية للأغاني الأجنبية .... و ستبدأ بأغنية قديمة
"especially for you"
فدب النشاط في جسد حنين الضئيل و هي تعمل مبتسمة تحت أنغام و كلمات تلك الأغنية التي كانت تسمعها و هي طفلة .... لكن الليلة بدا مذاقها مختلفا ...
especially for you
I wanna let you know what I was going through
All the time we were apart I thought of you
You were in my heart, my love never changed
I still feel the same
Especially for you
I wanna tell you I was feeling that way too
And if dreams were wings, you know
I would have flown to you to be where you are
No matter how far and now that Im next to you

بأمر الحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن