5 ـ جزيرة المفـــاجــآت
لمدة يومين بعد وصولهما , أصرت الممرضة على ملازمة
روبرتو للفراش , فالرحلة كانت مرهقة له أكثر مما يبدو , وبالرغم
من إقراره بتعبه , فقد أصرت بعناد , وكان إصرارها محقاً إذ أن
جيني كلما ذهبت لزيارته تجده بين النوم واليقظة , فينظر إليها
مترنحاً من النعاس ويقول :
ـ يبدو أن السفر قد أنهك قواي . . . آسف يا جيني .
فتقف قرب سريره تمرر أصابعها على وجهه :
ـ لا بأس روبرتو . . . سوف تستعيد قوتك عما قريب .
بينما هو مستلق ومتعب , كانت تتجول في حدائق الفيلا وكأنها
تستعيد ذكرى ما مضى . . . كلما أطلت على منظر جديد كان
يذكرها بحدة بلحظات من الماضي , وكانت تتخيل نفسها كما كانت
منذ ستة سنوات . ومن نظراتها الناضجة الآن , استطاعت أن تدرك
كم كانت صغيرة , دون خبرة , دون أي معرفة بأخلاق الرجل الذي
تعيش معه , غير واثقة لا منه ولا من نفسها , شديدة الحساسية
ورقيقة . لذلك كانت هدفاً سهلاً لـ جيسكا , ولا عجب أن تلك الفتاة
الايطالية ضحكت عليها !
صباح اليوم الثالث , أصبح روبرتو بصحة جيدة سمحت له
بالوقوف مستنداً إلى الممرضة , وهو يصر بأنه قادر على الوقوف .
وكم كانت تتمنى أن تبقيه في فراشه لبضعة أيام أخرى لو
استطاعت , ولكن طباعه المستبدة تغلبت على عنادها خاصة بعد
استعادته لنشاطه . صاح بها وعيناه السوداوان شرستان :
ـ سوف أقف !
كانت جيني في غرفتها عندما سمعته يصرخ , واستدارت
لتنصت وشبح ابتسامة يتراقص على شفتيها . إنه روبرتو الذي
تذكره . لم تسمع هذه اللهجة في صوته منذ الحادثة .
خرجت لتدق باب غرفته , وتقدمت الممرضة لتفتح لها ,
والانزعاج بادٍ عليها , وهمست بغضب :
ـ إنه يتلاعب سيدة باستينو .
وكأنمــا روبرتو ولد صغير عنيد يلعب حيث لا يسمح له باللعب
وبحاجة إلى ضرب على قفاه . . آه كم تتمنى لو تفعل . لو أنها
تجــــرؤ .
وحدق روبرتو بهما وصـــاح :
ـ لِمَ كل هذا الهمس ؟ جيني تعــالي إلى هنا ! لن أسمح بالتــآمر
علي من خلف ظهــري !
.
فابتسمت جيني للممرضة , وكأنها تعتذر . . ثم تقدمت نحوه
وعيناه مثبتتان عليها . . . وأحست بالغضب للاهتمام الذي يظهر في
نظراته . . وأحست أكثر فأكثر برغبة في ضربه . وتجولت عيناه في
بلوزتها وسروالها الأســـود .
ـ لِمَ ترتدين هذه الملابــس ؟ أكره النساء اللواتــي يرتدين
الســــروال . . . اخلعيهـــــا .
فنظرت إليه ببـــرود وقد رفعت حاجباً واحداً :
ـ أعصابنا متوترة هذا الصباح . . . أليس كذلك أيتها الممرضـــة ؟
فردت الممرضــة بارتياح :
ـ نحن هكــذا دائماً كلما أحسسنا ببعض التحسن .
ونظــر إليهما روبرتو بغضب :
ـ لا تتحدثا عني هكذا ! وكــأني طفل . . . لأجل الله . . . ! لن
أحتمل هــذا !
فردت عليه جيني بعذوبة :
ـ إذن عليك الاستلقــاء والراحة . أنت لا زلت ضعيفــاً على
الوقوف .
فقال من بين أسنانــه :
ـ جيني . . . ســـأقف !
فهزت رأسها مبتسمة , وهي تعلم أن لا شـــيء يثير جنونه أكثــر
مما تفعــل :
ـ لا يا حبيبي . . . يجب أن تفعل ما تقولـــه الممرضــة .
وصــر على أسنانـه بصوت مسموع , وبرزت عظام فكيه . . وبدا
الحبور على الممرضة التي روعها من قبل بعصبيته , وقالت له :
ـ زوجتك محقة . . . سيد باستينو .
وأردفت جيني بصــوت ناعم خافت :
ـ الممرضة تعرف ما هو أفضــــل لك .
وبدا عليه السكــون , يداه ممدودتان إلى جانبيه وقبضتاه
مشدودتان . ثم تمتم :
ـ يا إله السمـــاوات !
واستدار ليستلقي على جانبه كــي لا يراهما . . كل حــركه فــي
جسده تنم عن الغضب . فغمزت الممرضــة لـ جيني وخرجت . ووقفت
جيني تنظر إلى الرأس الأسود . تراقب التوتر البارز على عضلات
عنقه من خلال تجاعيد شعـــــره :
ـ هل ستبقى مقطبــاً طوال اليوم ؟
فاستدار بحدة :
ـ ومن المقطــب ؟
فـسـخــرت منه وعيناها تضحكان :
ـ أوه . . . روبرتو . . . !
ـ لقد سئمت البقاء مقيداً في السرير . . . وفكرت بقضاء بضع
ساعات معاً .
شـــيء ما في طريقة كلامه جعلها تجفل , وتتراجع خطوة إلى
الوراء , وتندفع نبضاتها متسارعة . وبطريقة ما استطاعت أن تقول
ببرود :
ـ لا زلت مريــضــاً روبرتو . . . أعلم أن الأمــر صعب عليك ,
ولكن يجب أن تواجه الواقع . الرحلة كانت مرهقة لك . فــأعطِ
نفســك فرصة للراحــة .
ـ ابقــي معــــي إذن .
في لهجته دعــــوة أكثــر مما تعني الكــلمــات , فــأحسـت بالــحرارة
تشتــعــل داخــــل جسدهـــــا , فــأشــاحت بنظــرهــــا عنه .
ـ لــو بقيت معـك فلن تــرتاح . . ستستــمر في الكلام . . . يجب
أن تتعلم كــيف ترتاح . . . يجب أن تمــضــي ســاعات يومياً دون أن
تفعل شيئاً على الإطلاق .
فتمتم :
ـ هــذا يبدو مضجــراً للغاية .
فــاستدارت عنه متجهة إلى الباب :
ـ مهما يكن , هــذا ما يجب أن تفعله .
جلس روبرتو فوراً في فراشه , عيناه تلمعان , ورأسه مرتفع
بكبرياء :
ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟
ـ ســأتمشى قليلاً . . أراك لاحقــاً .
ـ عــودي إلى هنــا !
ولكنها تجاهلته وتابعت طريقها , حيث التقت بالممرضــة التي
ابتسمت لها شاكرة فقالت لها جيني :
ـ راقبيه جيداً , فهو سيحاول الخلاص .
ـ لا تقلقي سيدة باستينو . . ســأفعل .
أحست جيني بلذة الانتصار , وخرجت من الفيلا عبر الحديقة
المتدرجة باتجاه البحر . وهبت ريح لاذعة لعبت بشعرها , وأعادت
اللون الزهري إلى خديها . . لقد أحست بسعادة ولذة أكبر في
إجباره على الطاعة , وأحست أنها قادرة على التعامل معه . . . إنه
رجل اعتاد على إصــدار الأوامر , أفسدته سنوات من الثراء
والسلطة , ومع أنه دللها فــي أول أشهر زواجهما , إلا أنها كانت
دائماً تشعر بأنها العبدة وهو السيد . لا يسمح لها أبداً بأن تنسى أنه
المتفوق عليها بكل ما فــي الكلمة من معنى . يعاملها بترفع حتى
وهو يحبها وكأنما هي قطة خائفة تائهة التقطها من الشارع وجاء بها
إلى بيته .
تعمدت جيني البقاء بعيدة عنه لما تبقى من اليوم , مع أنه
أرسل عدة رسائل مع ماريا تفيد بأنه يرغب في رؤيتها , إلا أنها
كانت تشكر المرأة , وتستدير مبتعدة تحت أنظارها الفضولية المليئة
بالدهشة والاستغراب .
آوت إلى الفراش باكراً بعد تأكيد الممرضة لها أنها أعطت
روبرتو دواءً منوماً , وأنه نام بسرعة . نزهتها الطويلة على الشاطئ
أتعبتها وغطت في النوم على الفور تقريباً .
في الصباح التالي كان روبرتو يقرأ جريدة إيطالية عندما وصـــلــت
إلى غرفته . ونظــر إليها ببرود كما نظرت إليه . وعلمت على الفور
أن تصرفاته تغيرت . وقال لها بصوت ملــيء بالشر :
ـ تعالي إلى هنا .
فردت متظاهرة بأنه لم تسمعه :
ـ ســأتمشى قليلاً على الساحل الصخـــري اليوم .
وقال لها وعيناه تضيقان بتهديد :
ـ تعالي إلى هنا , وإلا ســأنهض لآتــي بك .
فاستدارت تتظــاهر بالدهشة :
ـ مــا الأمــر َ؟ أتحس بالتوتر ثانية ؟ الممرضــة تقول أن هذه
علامات التعافــي . . . وســرعان ما ستشعر بالراحــة .
وكشــر عن أسنانه بوحشية وتمتم :
ـ يا إلهــي ! أنت ترغبين بالمشاكــل . . تعالي إلى هنا .
وتقدمت إلى السرير تحدق به . . هل تتخيل , أم إنها تشاهد
أمامها روبرتو القديم , تلك الشخصية القاسية , المتسلطة , القوية ,
التي لم تظهر منذ مرضــه ؟ وقالت بصوت خافت :
ـ لا تكلمني هــكــذا روبرتو .
ومد يده ليمسك بيدهـــا ويجرهـــــا لتجلس على الـــسرير , بحيث لا
يمكن لها أن تتخلص إلا إذا قاومت بعنف وآذته . فــصـــاحــت تتلوى
لتتجنب فمه الذي اقترب منها ليمر فوق خدهــا باحثاً . . .
ـ اتركـــــني !
.
ولكنه لم يرد , وتابع محــاولاته للسيطرة عليها وأحست بغضــــبه
لمقاومتها , وسمعت أنفــاسه المتحشــرجة , وحركات يديه عليها .
وأدارها إليه بالرغم من مقاومتها وعندما نظرت في عينيه عرفت . .
ســألته والذهــول في صوتها ونظراتها :
ـ أنت . . . تتذكــــر ؟
فابتسم ابتســامة متجهمة , ولم يرد . تصــاعد غضبها ليماثل
غضبه . غضب مرير محرق ســرى في شرايينها وكأنه النار في
الهشيم , وبرز في عينيها الخضراوين .
وأطبق فمه عليها قبل أن تستطيع الانسحاب , دون عاطفة ,
ودن اهتمام . إنه يظهر لها غضبه ويطلب منها الخضوع . ووضعت
يديها على صدره , محاولة صده رافضة أن تلين أمام قوته , وأخيراً
سمح لها بأن تبتعد . . . أخذت أنفاسها تتسارع وهــي ترتجف
ونظرت إلى عينيه الساخرتين .
ـ متى استعدت ذاكرتك ؟
ـ بعد ثانـــي زيارة لك إلى المستشفـــى .
وجمدت , تحدق به غير مصدقة , وجهها شديد الشحوب من
جراء الصدمة التي تلقتها ثم همست بخــشـونة :
ـ أيها الخنزير الكــاذب .
وقاومته لتترك السرير :
ـ اتركني ! لن أبقــى هنا بعد الآن . إني راحلة .
ـ سباحة كمــا أعتقد ؟
وســخــرت منها عيناه . . أوه يا إلهــي . . . بالتأكيد , كيف
سترحل ؟ وصاحت به :
ـ ســـأجد مركب صيد يوصني إلى نابولـي .
فرفع حاجباً واحداً :
ـ أتعتقدين هذا حقــاً ؟
ليس هناك رجل في كل الجزيرة يجرؤ على المخاطر بتلقي
غضب روبرتو باستينو . . . وكلاهما يعرف هذا . وتصاعد غضبها
بعد أن عرفت المأزق الذي رمت نفسها فيه . . . لقد ســارت بقدميها
إلى هذا الكمين وعيناها مفتوحتان .
ونظرت إليه بمرارة .
ـ ولِمَ كــذبت علي طوال هذه الأســـابيع ؟
ـ هل تعنين أنه لم يخطــر ببالك أنني استعدت ذاكرتي ؟
ـ لقد فكرت بهذا طبعاً .
ـ إذن ؟
ـ لم أكن أعتقد أنك ستكون خنزيراً قذراً هكذا . كـــان علي أن
أعرف , فهذا يتوافق مع أمثالك , ولكنني لا زلت أجد صعوبة في
التصديق أن هناك من بإمكانهم التصرف هكذا دون تردد أو خجل .
وأصابت الهدف . . . ضاقت عينا روبرتو و وأصبحتا كالبـركان
الثائر , واشتد فكاه , ولكنه استمر في الابتسام , وكأن كلامها مثل
الماء على ظهر بطة . وعندما عادت لمحاولة الخلاص منه شدها
إليه أكثر وقال بنعومة فائقة :
ـ لا . . لن تفعلـــي .
فقالت بقســوة وهي تنظــر إلى وجهه باحتقار .
ـ لا أطيق أن تلمســـني .
ارتجفت شفتاه , ولكنه استمر في الابتسام , وزاد ضغط يديه على
ظهرها , وأحست برغبة الأذية تغطيها تلك الابتسامة , وقالت , وهي
تتمنى لو أنهـــا تثق بمــا تقول :
ـ لن تستطيع استبقائي هنا رغمــاً عني .
ـ ألن أستطيع .
ـ ســأجد سبيلاً للهرب من الجزيرة !
فضحك عالياً :
ـ كما قلت لك . . بإمكانك السباحة , وأرجو أن تكون
سباحتك قد تحسنت . آخر مرة رأيتك في البحر كنت تعومين
كالـكـلب , ولم تستطيعي اجتياز مسافة قصيرة .
وكان الغضب قد استبد بها حتى لم تستطع أن تجيب ,
فأشاحت بوجهها عنه . وبعد لحظات قالت :
ـ لا بأس إذن . بإمكانك حجزي هنا . . ولكنك لن تجبرني
على رؤيتك .
وتمتم بكلمات إيطالية ثم قال :
ـ لا ؟ . . . وبعد كل هذه الأسابيع من اللطف والمحبة ؟ لقد
تمتعت حقاً بوجودك إلى جانبي كل يوم . . . حلوة مطيعة . بالكاد
تعرفت إليك . لقد ظننت حقاً أنك تغيرت !
ـ ولكنك كنت مخطئاً .
ـ هذا ما يبدو , لأسف . لقد أحببت تمثيلك المحتشم . .
حقاً . . كدت تخدعيني .
ـ كدت أخدعك ؟ وتقولها بأعصاب باردة ؟
ـ كان يجب أن تكونـــي ممثلة .
ـ أنا لست من صنفك , فتمثيلك متقن , لقد أحسـســت فعلاً
بالأسف عليك . لقد أقنعتني كمــا أقنعت أمك بأنك ستموت .
وظهرت الحدة في عينيها :
ـ ولكن هل هذا ما حدث حقاً ؟ أم أن إيفا كانت تشاركك ؟ هل
كانت تعلم بأنك تمثل ؟ أعتقد هذا !
وأحست بألم لا معنى له . . لقد كذبت عليها إيفا . وهذا
يؤلمها والجواب ظــاهر على وجهه . . .
ـ يا إلهي . . لم يكن بمقدوري تصديق هذا عنها . . . كيف
يمكن لها أن تفعل هذا بي؟
وتراجعت يداه عنها , وقال ببرود :
ـ لقد فعلت هذا لأجــلــي . وإذا كنت تريدين لوم أحد . .
فلوميــني أنا . فأنا منعتها من إخبارك بأنني استعدت ذاكرتي . . لقد
كانت معي عندما عاد كل شــيء إلى رأســي . وكانت ستقول لك لولا
أنــني توسلت إليها .
واستدار لينظــر عبر النـافــذة . . فــســألته , كــارهة نفسها لهذا
الســـؤال :
ـ لماذا ؟ لمــاذا أردت إخفاء الأمــر عني ؟ لماذا استمــريــت بالتمثيل
يوماً بعد يوم ؟
فهــز كتفيه ببطء :
ـ كــنت أتمتع بالأمور كــمـــا هي .
ـ لقد استغفلتــني . وكذلك إيفا . لطالما أفســدتك . . .
واحمــر وجههــا ذلاً . فضحك ضحكــة متوترة :
ـ أنــا ؟ . . أنت من أفــســدك الدلال يا جيني !
فـــحــدقت به غير مصدقة مــا تسمع :
ـ ومــاذا تعني بكلامك هــذا ؟
ـ لقد ترك لك والـــدك حرية العيش كما يحلو لك . كان لديك
الكثير من الحرية . . . فنــشــأت غير مبالية وعنيدة , أمــــام حاجات
ورغــبات الآخــرين .
ـ أنت تعـــني حـــاجــاتك . . ورغباتــك !
ـ كــنــت زوجــك !
ـ بل سجاني . كنت تمتلكــني كما تمتلك قطــة أعجبتك من
الشارع . . . أوه . . . لقد أعطيتــني الحرير والفرو والمساحيق التي
أرغب بها , ولكن لم يكن لـي مكان حقيقي في حياتك روبرتو .
كانت عائلتك تهمك أكثر منــي بكثير . لم أكــن سوى مجرد دمية
تمتلكهـــا .
تحركت لتقف , ولكن يداه أمسكتـــا بها , بقــوة لم تستطع
مقاومتها وجذبها هذه المرة فوقه حتى أصبح جسدها مستلقياً فوق
جســده , وقال بخشونة .
ـ دمية لها مخالب . لقد تركت مخالبك آثــاراً عل جســدي
مراراً .
ـ فقط عندما كنت تعاملــني بقسوة .
ـ ولكنك لم تكونـــي مستاءةً من قسوتــي . . . أليس كذلك ؟
فهمست بصوت كــالفحيح :
ـ أكـــرهك .
فاقترب منها :
ـ قد يتحول هذا إلى تحدٍ . . . ألم يخطــر ببالك هذا ؟ قد أجــد
حقدك ورفضك محفــزاً لـي أكثر من الإذعان .
ـ هذا يحدث مع متوحش يتمتع بأذية النساء .
أزعجــه هذا الكلام , وسمعت صوت تنفســه الحاد . واشتدت
قبضة يديه عليهــا , وحجزها بعنف :
ـ لا تجعليني أغضب , وإلا ستكتشفين كم أستطيع أن أكـــون
متوحشـــاً .
ـ لست بحــاجة إلى درس آخـــر . . فأنا أعرف .
صمت للحظــــات . . ثم تمتم :
ـ وهل كراولي متوحش يا جيني ؟
وأحســت بخديها يحترقان :
ـ غرانت ؟
ـ هل هو متوحش ؟ لطالمــا اعتبرته كلباً مدللاً أكثــر منه
رجلاً . . . فلا تقولــي إنك وجدته العاشق الملائم يا حلوتي ؟
فردت بصــوت متوتر :
ـ أنا أحب غرانت . . ولن أتحدث عنه معك .
ـ وهل تستخدمين مخالبك عليه ؟ أم إن الأمــور تجـــري بلطف
بينكما ؟
ـ أوه . . أخــرس ! غرانت رجــل صبور وكريــم و . . .
وقاطعها بلهجة فيها غضب غريب محــرق :
ـ صبور ؟ أوه . . أجــل . . . إنه هــكــذا . وسيبقى دائمــاً
موجوداً . . . ينتظرك أليس كــذلك ! حتى خــلال زواجنا . . كنت
تتسلليــن ســراً إليه .
ـ كنت أذهب لأســاعد أبــي في تصاميمه , وكــان غرانت يزوره
من وقــت لآخـــر .
فضحك بخــشــونة :
ـ تساعدين أباك . . كم أنت مقنعة بهــذا العذر !
وصــدمها هذا الكلام بقســوة , وارتفع غضبها , فنـظــرت إليه :
ـ صدق أو لا تصــدق . . . فأنا رســامة أزياء ممتازة . . . فاستبقِ
سخــريـتـك لنفسك . . فلقد بدأ اسمـــي يظهر فــي عالم الأزياء , واللعنة
علــيــك !
ـ أنت تعنين أن كراولي يصنع لك ذلك الاسم . . لقد قلت لـــي
مرة أن صاحب دار الأزياء هو من يصنع أو يحطم المصمم الفنان .
وهو يتأكــد من فع تصاميمك للتنفيذ كلما سنحت له الفرصــة . .
فأنت من صنعه فـــي عالم الأزياء .
فردت صــارخة :
ـ هذا كذب ! أنت تكــره الإقرار بأن المرأة يمكن أن تكـــون
ناجحة في أي شــيء .
ـ بالعكــس . . . فالمرأة ممتازة . . . لشـــيء وحد .
ـ أنت الخبير . . فلديك مـا يكفي منهن !
فرفــع رأسها إليه قبل أن تستطيع منعه :
ـ ليس ما يكفــي . . لا يا جيني .
وحدقا ببعضهما , ثم حاولت إرجــاع رأسها إلى الوراء ولكن
يده خلف عنقها منعتها , وعندما لامس فمه وجهها كــان في عناقه
نوايا عديدة . فقد جعلها عن قصــد تشعر بمــا يشعر به .
ولكنها لم تستجب , بل تمــاسكت متصلبة رغم أن أحــاسيسها
كانت تشتعل بحركاته المغرية . ورفع رأسه ليقول بلؤم :
ـ كراولي لم يعلمك الكثير .
ـ لقد علمني أن العلاقات العابرة تثير الاشمئزاز .
فــأجفل لكلامهــا الجارح , فاغتنمت الفرصــة لتتخلص منه
وتهرب خــارج الغرفة . ثم سعت إلى الحرية عند الــشــاطئ
والصخور , لتجد في تغريد الطيور , وهدير الأمواج , راحة النفس
التي تحتاجها .
إنها غلطتها . . لقد حذرها داني و غرانت . . . وكذلك حذرها
تفكيرها السليم . . . ولكنها وقعت في حبائل خداعه كالغبية , أطبق
عليها فخ ضعفها أمام الرجــل الذي يـجب أن تكــره .
وغطت وجهها بيديها . . أوه . . يا إله السمــاوات , كم دخلت
الفخ بكــل إرادتها , وكــأنها نعجة تساق للذبح . ليس هو من جعلها
تعمى عن الحقيقة , بل هي أرادت لنفسهــا هذا , وتعاونت معه
بصمت . . . وإيفا كذلك . . ولكن لا عجب فــي هذا بعد وضوح
رغبتها هي في ذلك .
مشت فوق الصخور تلوم نفسهــا . . ماذا ستفعل ؟ الطريقة
الوحيدة هي على متن قارب وما من أحد من الصيادين سيأخــذها
مهما عرضت عليه من ثمن . فـروبرتو رجل له نفوذ , ومصالح كبيرة
في إيطاليا . . . وستكون عاجزة عن القيام بأي عمل إذا ما استخـدم
هــذا النفوذ .
وتذكرت أن هناك ممراً بين الصخور يفضي إلى الطريق العام
ثم إلى الفيلا دون أن تضطر للعودة أدراجها من حيث أتت . وهكذا
استدارت لتسير عبره فوق الصخور الخشنة غير المستوية تحت
قدميها . . . هناك بضع سيارات في الجزيرة , ولكن أهل الجزيرة إما
يسيرون أو يستخدمون الحمير الصغيرة الحجم التي تتسلق الوعر
وكأنها المــاعز .
صوت محرك أجفلها حتى أنها للحظات جمدت من الدهشة .
ثم ركضت عبر الدغل المنخفض , تلوح , وتنظر إلى الطريق لترى
غيمة كثيفة من الغبار لا بد أنه ناتج عن مرور سيارة .
كانت السيارة مســرعة , فزادت هي من سرعة ركضها , خائفة
ألا يراها راكب السيارة , كانت تركز انتباهها بشدة , حتى أنها لم
تشــاهد الصخور البارزة أمامها إلا بعد فوات الأوان . واهتز جسدها
كله وهي ترتمي على معدتها فوق الصخور . وصرخت من قوة
السقطة , ثم لاذت بالصمت على أثر الألم الذي صدمها واستلقت
بين الشجيرات الصغيرة الشائكة , لا تحس بـــشــــيء سوى الألم في
عظامها .
ما هي إلا لحظات حتى شعرت بيدين ترفعانها عن الأرض ,
وتديران وجهها إلى فوق . ومرت يدان مرتبكتان بسرعة على
جسدها , تبحثان عن إجابات محتملة . وفتحت عينيها , تتأوه من
الألم , ليطل عليها وجه أسمــر يتوج رأسه شعر أشقــر ملون
بالغبار بعينيه الزرقاوين المتلألئتين المليئتين بالقلق .
ـ أنت بخير ؟
كان يركع إلى جانبها يسند رأسه بيده بعد أن تفحصها باحثاً
عن إصابات . . . ويتكلم الانكليزية . فأجابته غير واثقة :
ـ أجــل . . . هل أنت إنكليزي ؟
فــابتسم :
ـ بل أميركي . . . وأنت كذلك . . ما هذه الصدفة !
ـ وماذا تفعل هنا ؟
ـ ألتقط الصـــور .
وأحست فجأة أن يده الأخرى ترتاح على خصرها بطريقة
حميمة جعلت الاحمرار يعلو خديها البيضاويين . وحــاولت
الجلوس , فدارت الدنيا حولها . فقال لها بصوت مفعم بالاهتمام .
ـ هــاي . . لا يجب أن تتحركــي . . سقطتك كانت قوية .
فلفت جيني ذراعيها حول ركبتيها وأراحت رأسها عليهما ,
تتنفس ببطء وعمق . وتركها هكذا لبضع لحظات , وعندما توقف
الدوار . رفعت رأسها ببطء , فســألها مبتسماً :
ـ هل أنت أفضــل حالاً الآن ؟
فهزت رأسها وردت تأدباً :
ـ شكــــراً لك .
ـ لقد ظننت نفســـي أتخيل عندما خرجت نحوي راكضــة .
ـ وهذا يجعل منا أثان , فآخر شــيء كنت أتوقع رؤية هو
سيارة .
فضحـــك :
ـ هذا يوضح ما حصل . فالسيارات نادرة هنا . . أليس كذلك ؟
السيارة الوحيدة الأخرى هي لباستينو . ولكن , لا بد تعرفين هذا . .
فأين يمكن أن تقيمي في هذا الجزء من الجزيرة سوى في فيلتهم ؟
سمعت أنه هنا . . . لا بد أنك ممــرضته .
فــأجابت بسرعــة ودون تفكــير :
ـ ممرضــة ؟ . . . لا !
ـ لا . . ولكنك تقيمين في الفيلا التي يملكها أليس كذلك ؟
أوه . . أنا آسف لم أقصــد أن أطرح أسئلة ذات مغزى .
وفهمت جيني ما يجول في ذهنه . نظرته السريعة إلى يدها
اليسرى أوضحت أنه يفكر بوضعها , وأنه قرر أن روبرتو قد جاء
بإحدى عشيقاته معه . وبدا عليها الغضب . . . فتراجع الرجل إلى
الوراء لرؤيته بريق اخضرار عينيها . ووقفت . . . فتحرك لمساعدتها
بعد أن رآهــا تترنح . . وقال :
ـ ســأوصلك إلى الفيلا . . . أهذا مــا كنت ستطلبينه ؟
ـ أجل . . . شكــراً لك .
وســـار إلى جانبها نحو السيارة وعيناه تحدقان بها باهتمام . .
وقال لها بعد قليل :
ـ يجب أن نعرف عن أنفسنا . . أنا تومــاس مارشال .
ـ وأنا جيني نيوهام .
ـ جيني . . . اسم غير مألوف . . ولكنه يناسبك .
فتح لها باب الروفر . . فصعدت إليه , ثم انضم إليها . أدار
المحرك فانطلــقت السيارة , وســألته :
ـ مــاذا تفعل على الجزيرة ؟
ـ أنا عالم اجتماعات .
ـ يا إلهي !
ـ ولماذا يجيب الناس هكذا على نوع عملي , ما الخطـــأ في
دراسة الجنس البشري ؟
ـ أهذا ما تفعله هنا . . . تدرس أهــل الجزيرة ؟
ـ أجول في الجزر أدرس حياة الناس الاجتماعية , فأنا اخضر
لأطروحة التخرج , التي تتناول مجتمعات الجزر .
ـ يبدو الأمر مذهــلاً .
ـ هذا صحيح .
ـ وأين تقيم ؟
ـ فــي الفيلا .
ـ ماذا ؟ ولكنني لم أشاهدك هناك .
ـ آه . . هذا لأنني لم أكن موجوداً . لقد ذهبت إلى الجبال
لأزور ابن جوزيبي , الانرو . وبقيت هناك لبضع أيام للتعرف على
نمط حياته إنه شاب طيب , وقد اتفقت معه بشكــل جيد .
ـ وهل يعلم روبرتو أنك تقيم في الفيلا ؟
ـ لقد اتفقت معه منذ أشهــر . في الواقع هذه السيارة له . وهل
ظننت أنني ســأستخدم بيته كفنــــدق دون إذنه .
ـ آسفة . . . بالطبع لا . كل ما في الأمر أن أحداً لم يذكرك
لـي . ولم يكن لدي فكرة عن وجود غريب . وكم ستبقى هنــا ؟
ـ ليومين آخــرين .
عندها فقط خطرت فكرة لها , فتنفست بحدة , فالتفت تومــاس
مارشال متسائلاً , فبادرته بالسؤال :
ـ وكيف ستغــادر ؟
فضحك :
ـ بالمركب طبعاً . وســأذهب إلى محطتي التالية . . لقد رسمت
خط رحلتي منذ سنة . ولا يزال أمــامي رحلة طويلة .
ـ وهل سيأخذك أحد الصيادين ؟
ـ بل صديق في الواقع . إنه يعمل في (( سودينية )) ويملك مركباً .
وهو يحب الإبحــار إلى حد الجنون . . . سيأخــذني من هنا ويوصني
إلى محطتي التالية , ثم يغيب بضعة أيام قبل أن يعود ويلتقطني
ثانية .
ـ وهل هو أميركــــي ؟
ـ تقريبــاً .
ـ وماذا يعني هذا ؟
ـ لديه جواز سفر أميركــي , ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ
سنوات طويلة . التقيته في اليونان منذ خمس سنوات ومنذ ذلك
الوقت سكن في إفريقيا , ثم الخليج العربي , وأخيراً في تركيا ,
قبل أن يستقـــر مؤخراً في سردينيا .
وتنفست جيني ببطء :
ـ وهل يمكن أن يأخذ معه راكباً ؟
فاستدار تومــاس إليها وحاجباه يرتفعان :
ـ أنتِ ؟
ـ أنا . . . أريد الهرب من الجزيرة .
ـ وهل يعرف باستينو ؟
ـ لا تقل له أرجوك . لا يجب أن يعرف . . ولكن يجب أن
أهرب من هنــا .
يأسها كــان واضحاً في صوتها , مما أوضح له الأمــر . فصفر :
ـ أوه . . فهمت . . لقد سمعت عنه أنه ذئب كــاسر . . . لماذا
جئت معه وأنت تعرفين هذا عنه ؟
ــ لابد أنــني فقدت عقلــي . أتساعدني ؟
كانت لهجتها شديدة الإقناع ولم يتردد :
ـ بالطبع , ويجب أن تسافري خـفيفة , دون حقائب , فالمركب
ليس كبيراً . كل ما يمكنك أخذه حقيبة صغيرة . وتعلمين أنك
يجب أن تعملي للمساعدة . . أتجيدين الطبخ ؟ فهذه مساعدة جيدة .
وأجابت بارتياح وحبور :
ـ أجيد الطبخ . . . شكــراً لك . لن تستطيع تصور كم أنا شاكرة
لك .
فضحك لهــا :
ـ هذا سيعلمك أن لا تسيري في أماكن خطرة . . . لا بد أن
أمك علمتك أن لا تتعاملي مع رجال من أمثال روبرتو باستينو ؟
ـ لم يكن لــي أم .
فلانت عيناه , ونظــر إليها بلطف :
ـ آسف . . . انسي ما قلته .
وصلا الفيلا , أوقف السيارة خارج الباب الرئيسي . . فنزلت
متصلبة تنفض الغبار عن ثيابها . وانفتح الباب , وحدقت ماريا
بهما , فابتسم لها توماس وقال :
ـ لقد عدت ثانية . الاندرو يرسل لكما حبه . . . ولدي أربع
قبلات لك من أحفــادك .
فابتسمت ماريا ابتسامة خفيفة . . . ثم تحولت عيناها السوداوان
إلى جيني .
ـ أين كنت ؟ لقد قلقنا عليك , قد غبت ســاعــات .
.
وتحركت جيني داخــل الباب وتوماس إلى جانبها :
ـ لقد ســرت طويلاً على الشاطئ .
ـ من الخطــر الابتعاد عن الفيلا سيدة باستينو .
كانت تستخدم الاسم متعمدة , وأحســت جيني أن توماس
أجفل . وسمعت صوت تنفسه العميق . وأعماها الغضب , فقالت
ببرود لاذع محــدقة إلى ماريا بتحدٍ .
ـ أنا لست السيدة باستينو .
وسمعت صوتاً بارداً من خــلــف ماريا يقول :
ـ ستعطين السيد مارشال فكــرة خاطئة عنك جيني .
وخفق قلبها لرؤية روبرتو يقف هناك . . . وتابع بسخرية :
ـ أحببت هذا أم كرهته , فلـدي صورة زفافنا تثبته . أمـا الباقــي
فأعطني قليلاً من الوقت بعد .
احمــر وجه توماس مارشال , وبدا عليه الغضب . ونظــرت إليه
جيني يائســة وهي تعرف تماماً ما يفكر به . قال وهو يفرك مؤخرة
عنقــه :
ـ عذراً . . فأنا بحاجــة لحمــام وحلاقــة ذقن .
صعـد السلم , واختفت ماريا , فنظرت جيني إلى روبرتو
بمــرارة :
ـ يا إلهـــي كم أكرهك !
وبدت القســوة على وجهه :
ـ حقــاً ؟ حسناً . . لـدي أخبار سارة لـك يا حبيبتــي . . . مــا
تشعرين به لــي هو بسيط جــداً بالنسبة لمـا أشعر به نحوك .
* * *
![](https://img.wattpad.com/cover/96657411-288-k669284.jpg)
أنت تقرأ
الدوامة - شارلوت لامب روايات احلام
Romanceالملخص. الجراح تكون أكثر إيلامــاً ممن نحب . جيني التي عذبتها ودمرتهــا خيانة زوجها لها , عانت الكثير من هذه الآلام . لكن . . . هل يخبو حبها له بعد انفصـــال خمس سنوات , أم يعود القدر ليجمعهما من جديد ؟ وهل تتزوج من غرانت , الرجل اللطيف المحب , أم...