بطلي الخارق

1K 22 16
                                    


الفصل الأول :

اهداء :

إلى الطائر الصغير الذي علمني الحياة ، إلى الطائر الذي رفع منقاره ليشرب من قطرات ماء حنفية فناء منزلي حين كانت تغضبني وتؤرقني ، إلى ذاته التي علمتني معنى العودة إلى الذات !

*************************************************************************************

بطلي الخارق

22 جويلية/تموز عام 2007

خرجت اليوم رفقة والدي للتسوق ، كنت طوال سنواتي القليلة السابقة أخرج مع أختي الكبرى أو حتى أمي للاطلاع على العالم الخارجي ورؤيته بعدة نظرات مختلفة فكانتا أحيانا تأخذانني لمحلات الملابس وأخرى لأدوات المطبخ وأخرى للمنوعات من كل شيء ! وأحيانا كثيرة ما كانت أمي تأخذ بيدي من أجل الفرح بحفل صديقاتها اللاتي كن يعزمنها عليها ، أظن أن والدتي كانت صاحبة طموح فكانت ترى في الكثير .. الكثير مما كان عمري الصغير لا يتصوره أو يتحمل مسؤولياته ...

أما في هذا اليوم ورغم أني لم أكن أحب كثيرا الخروج من منزلي الصغير فإنني سعدت للغاية حينما عرفت أن والدي هو من سأذهب معه لا أمي، أبي رجل صارم ..قليلا جدا ما أشعر أنه أب حنون بالفعل ! لأنه لم يسبق وأن أعطانا ولو القليل من وقته الثمين.. لا أنا ولا اختي الكبرى كنا نشكل فارقا في حياته أي أننا كنا – كما نقول بالجزائرية – مجرد خضر فوق طبق الكسكس!!

اهتمامه بي هذا اليوم جعلني أشعر بالسعادة .. جعلني أشعر أن والدي قد يتغير يوما ما من حياة اهمال الأسرة إلى الاهتمام بها فاستيقظت باكرا هذا اليوم فقط لكي أمسك بيديه الضخمتين مثلما كنت افعل مع أمي كثيرا وأحظى بخرجة مميزة مع بطلي الخارق..

بطلي الخارق ، تعجبني هذه العبارة .. تعجبني كثيرا خصوصا وأنني أؤمن بها حقا ! لطالما كنت أفكر في صغري أنني لن أكون ذات فائدة لأسرتي الصغيرة ما حييت ، فوالدي هو المهتم بشؤون الشراء والحماية و الحياة داخل المنزل بصفة عامة .. وأمي كانت صاحبة القرارات و الأعمال الشاقة و التربية وغيرها .. وأختي الكبرى (وردة) هي من كانت تهتم بالطبخ والتنظيف وأعمال كثيرة أخرى ، أما أنا فلم أكن شيئا على الاطلاق ! وقصة عبارة ( بطلي الخارق) قصة أخرى قد تحتاج مني الكثير من الحبر لسردها وكتابتها فإنها تحمل سرا كبيرا من أسرار التربية التي لم أكن يوما لأفقهها لو أنني لم ألتقِه بذلك اليوم !...

على الساعة 8:30 انطلقنا مشيا على الأقدام – رغم أن أبي لم يسبق وأن ذهب للسوق بلا سيارته – كنت أقول له بثرثرتي الطفولية المعتادة : " أبي ما رأيك لو نذهب لشراء بعض الخضروات من محل الخضروات ثم نعود لمحل الملابس فأشتري بعض القطع الجديدة ومن ثم نذهب ..... " لقد كان صامتا وصامت فقط ، لم ينطق بكلمة طوال ذلك الطريق وطوال فترات ثرثرتي الزائدة لم أكن أعلم ما ان كان يمتلك صبرا لا حدود له وبرودة أعصاب جبارة حتى يستطيع تحملي وتحمل بلاهتي في فراغه وهدوئه المعتاد ! أو ربما لم يكن يسمعني أصلا .. إلا أنني كنت سعيدة جدا بكل شيء رغم عدم مبالاته بي وعدم اكتراثه لما أقول ولما أسأله بين الفينة والأخرى فعلى الأقل حظيت بمتعة الحديث مع أبي الصارم بدون أن أسمع منه كلمة تذمر واحدة او حتى نهر يقطع فيه كل سبل التواصل بيننا إلى أجل مسمى.

لقد بت أعلم تمام العلم أن بطلي الخارق كان يستمع إلي بدون انقطاع ، بت على علم مطلق بأنه كان يستمتع بكل كلمة قلتها آن ذاك وبكل سؤال سخيف سألته إياه .. ومع أنه لم يكن ليجيبني مهما بدا سؤالي ملحا إلا أنه في أعماقه كان لا يكف عن الإجابة بطرقه عن كل أسالتي ، لعله بنفس الأسلوب كان يتواصل معي بدون أن أدري ! .

توقف والدي فجأة عند بائع الأعشاب فنظرت له نظرة بلهاء تبحث في قسمات وجهه عن أجوبة بسيطة تقول لها لم توقف والدها عند ذلك المكان ؟ ما الذي يريده هناك ؟ هل أبي مريض مثلا ؟ على كل حال فهذا لم يكن يهمني بالقدر الذي كنت مهتمة بتفسير نظراته التي بدت لي مختلفة ذلك الحين أظنها كانت جميلة جدا وساحرة إلى حد بعيد لقد كان يطالع المحل بكل شغف وحب لقد أصبحت نظراته تشبهني عندما أطالع وجه دمية من خلف زجاج المحلات ! ما عسى تأثيره كان عليك يا أبي ؟ .

ابتسمت وأنا أراه شاردا وضائعا في ملامح كل شيء !! هل يعقل أن يكون للجماد ملامحا تماما كما الانسان ؟ هل يعقل أن يكون له تأثير تماما كما تؤثر عيون الانسان ؟ لا اظن أنني أعرف ولا أظنني سأعرف ولكن أعتقد أني سأسعى للتعرف ، انتبهت بعد لحظات أن والدي كان قد شرد عني وترك يدي التي لم يسبق وأن تركتها أمي عند الخروج من المنزل .. كنت دائمة التساؤل لماذا قد تمسك أمي يدي فلا تتركها لحظة ؟ هل امي لا تثق بي لهذه الدرجة حتى لا تؤمنني على نفسي ؟ ولكنني هذا اليوم عرفت تماما لماذا كانت تفعل ذلك ، أظنك يا أمي كنت على حق في عدم ثقتك بي . انسحبت مع سيلان الأشخاص الجارف إلى اللاهدف وتركت أبي يقبع حيث كان أمام نافذة العشاب ، لا أدري لماذا تركته تلك اللحظة ولا أدري لماذا مشيت أصلا فقط كنت أسير وأنا كلي فخر فقد بقي في اعتقادي أن الطفلة الصغيرة التي تمسك بيد أمها دائما تستطيع أن تعود لمنزلها وحدها .

بعد أن مشيت طويلا دخلت ما نسميه ( البازار ) وهو محل كبير منوع ورغم اني لم أكن لأحب دخوله يوما إلا أنني استمتعت بدخوله وأنا غير مربوطة بأمي أو حتى بوالدي ، هكذا سرت داخله وتوقفت مرارا عند بائعي الألعاب والدمى و عند صاحب المثلجات والمأكولات وعند هذا وعند ذاك .. المهم أني تحررت في هذا اليوم وأصبحت طليقة ! لقد طرت بعيدا وحلقت إلى أبعد مدى حتى وجدت نفسي وقعت في عش غير عشي و بعدت كثيرا عن موطني الأصلي ! لربما كان قفصي الصغير الذي يحميني وأشعر فيه بالأمان هو الحرية بذاتها ، لربما كان الشعور بالاختناق ذا طعم طيب اذا ما قارناه بطعم ... الضياع !

كنت خائفة كثيرا حينها ، خائفة من أن أكون قد ذهبت إلى لا رجعة .. خلت نفسي قد خطوت في الطريق الخطأ حتى وجدتني خطوت في طريق الضياع ! وجدتني لا أعرف شيئا ، لا أفهم شيئا ، ولا أفقه للعالم قولا .. ألست التي كان يجب أن تفخر لانها رسمت بمفردها طريقها الخاصة؟ نعم كان يجب أن أكون كذلك لولا أني عرفت من أكون قبل ذلك !! لولا أني عرفت لمن أنتمي قبل كل ذلك !

" تجرد من كل شيء ولكن إياك أن تتجرد منهويتك و ذاتك ! " 

ذاتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن