6

317 12 0
                                    

-
نظرت هدير باستغراب للخاتم الذهبي في يد بشرى , منتظرة منها تفسيرا , لكنها منذ الصباح تغرق نفسها بالعمل , و حاجبيها منعقدان بشدة , ولا ترد حتى على سؤال كيف الحال , لكنها كادت تموت غيظا ..
تريد أن تعرف ..
اقتربت حيث تجلس مكانها المعتاد , نظرها على الورق ولكنها سارحة النظرات , جلست قربها تمد لها فنجان قهوة مرة كما تحبها بشرى , انتبهت لها لتتناوله منه ترشف منه على الفور و كأنها كانت تحتاجه و بشدة ..
و هي كذلك , يجب أن يكون ذهنها صافيا حتى تقدر على مجاراته في الحديث ..
فذاك الرجل ظهر من اللاشيء في حياتها و أصبح كل شيء في حياتها !
أصبح ... زوجها !
تصنعت هدير ابتسامة , لتقول بمرح
*إذن .. ألم تخبريني ما سبب الخاتم في يدك ..؟
نظرت بشرى لخاتمها لعدة لحظات قبل أن تقول
*خاتم زواج ..
ارتفع حاجب هدير لترد ساخرة
*و لمَ تلبسينه ؟ انتظري حتى يأتي من يلبسك إياه ..
لم تنظر لها بشرى , بل رشفت من قهوتها , و همست ببرود
*عقد قراني بالأمس , نسيت أن أخبرك ..
*ماذا !
هتفت هدير مصعوقة من الخبر , فلم تكن تتوقع أن تتزوج بشرى يوما ما , خاصة بعد فضيحة الغاء زواجها , فالكل يتساءل عن السبب و هي لا تتعب نفسها بالتبرير ..
التوى فك بشرى بازدراء لتهمس بلامبالاة جارحة
*و لماذا صدمك الأمر , ألم تتوقعي يوماً أن أتزوج , أم لأنني ..
و سكتت لتنظر لها مبتسمة
*ربما لأنني الوحيدة التي تعرف أنك فسخت خطبتك , و أن الرجال الذين تحدثيهم لم يلبسك أحدهم خاتماً من بعده ..
شهقت هدير و أوشكت على الانكار , لكن بشرى أكملت
*نعم هدير , أعلم .. لكنني تركتك تكذبين على نفسك قبل الناس حولك , و لكنني الآن و بهذه اللحظة أخبرك أن عرض جسدك على رجال ليسوا حلالا  لك ليس سوى عهر أخلاقي بامتياز ..
و افتعلت ضحكة مرحة
*لذلك خففت المسير معك بالشارع و بت أتهرب منك أكثر مؤخرا حتى مع عتاب والدتك لي ..
اتسعت عيني هدير و قد ألجمت لسانها لتسأل بعدم استيعاب
*كيف .. كــ..
قاطعتها بشرى
*كيف عرفت ؟ حسنا هدير منذ لاحظت أن خاتمك تغير , و أنه ليس سوى تقليد رخيص تبدلينه كل فترة ,  كما و لاحظت أنك تخلعينه من إصبعك بارتباك ما أن يتواجد أحد من عائلتك ..
ابتسمت تعاطف لها حقا لتكمل برقة
*توقفي عن هذه التصرفات يا هدير أنت تسيئين لنفسك فقط , و صدقيني البضاعة المعروضة .. دائما رخيصة ..
ابتلعت هدير ريقها بصعوبة تنظر لعيني بشرى بعدم تصديق ..
لكن لحظات ضعفها مرت بسرعة لتقف على الفور بذات غرورها و اعتدادها بنفسها
*لا شأن لك بحياتي بشرى ..
و تركتها وحدها تغادر الديوان .. و بشرى تشيعها بنظرات تائهة ..
فهي تخشى أن تبتعد عنها فتضيع أكثر .. و تخشى أن تبقى قربها .. فتخسر سمعتها ..
نظرت لساعتها , ها قد اقترب الموعد .. تشحذ كل أسلحتها لتواجهه ..
تساءلت عابسة
( ترى هل جرحت هدير بكلامها ! )
لكنها عادت لتهز كتفيها , فهي بالنهاية لم تقل سوى الحقيقة , و على أحدهم أن يجعلها تعي ما تفعله ..
فلتحزن بضعة أيام , أفضل من العمر بأكمله ..
ترى هل تأخرت عنها وقتا طويلا و فات الأوان ؟
لكنها قالت ما كانت تنوي قوله لها .. و ارتاحت , لن يعذبها ضميرها بعد الآن لأجلها ..
لملمت أشيائها وخرجت على انتهاء وقت العمل وهدير لم تظهر سوى حينها أخذت حاجياتها وغادرت دون أي كلمة ..
أما هي , رمت حقيبتها على كتفها باستياء , لتبلغ أمها أنها سترى أرمادا ..
و اتجهت تنوي أخذ سيارة أجرة إلى حيث مقهى مشوار حيث اتفقا على اللقاء ..
لكنها أبدا لم تتوقع رؤيته يقف عند سيارته ينتظرها !
و بعناد و حقد تظاهرت أنها لم تره , لتشير لسيارة أجرة مرت قربها تركبها متجاهلة ندائه لها ..
و على شفتيها ابتسامة نصر ..
مغفل هو لو ظن أنها ستفعل ما يريده .. لم تنظر خلفها , فقد تظاهرت أنها لم تره أو تنتبه لوجوده ..
جميل هو انتقامها الأول و مريح لنارها المتوهجة بمشاعر لا تطاق و كلها .. له  وحده ..
تجاهلت كذلك هاتفها الذي يرن باتصال منه , حولته للوضع الصامت و رمته في الحقيبة ..
لتنزل بعد دقائق قرب المقهى , مرفوعة الرأس , للمكان الذي شهد خيبتها الأولى معه ..
دخل خلفها بدقيقة لا أكثر , عابس الوجه غير راضٍ عن تصرفها ..
يقدر أنها غاضبة , لكن التجاهل أمر يكرهه و بشدة , متأكد أنها رأته , لكنها فقط تريد إثارة جنونه ..
لذلك عب أنفاساً طويلة متتابعة قبل أن يراها حيث جلست للتو على طاولة مطلة للبحر ..
فاتجه لها على الفور ..
جلس معها دون أن يلقي التحية , فهي ليست أقل منه عناداً !
تبادلا النظر باستياء , و لم ينطق أحدهما بكلمة , لتمر عشر دقائق كاملة ينظران لبعض بصمت حتى جاء النادل , فطلبت هي وجبة خفيفة و عصير , و هو مستغربا منها طلب القهوة فقط ..
نفخت تنتظر منه أن يبدأ الحديث لكنه فقط ساكت بغيظ و ينظر لها ..
ألم يطلب هذا اللقاء ليتحدث ! لمَ هذا الصمت الكريه إذن ؟
وصلت وجبتها و لم ينطق بعد ... لم تتحمل أكثر من هذا لتقول بصوت حاولت أن تظهره هادئا مخفيا غيظها
*إذن هل جئت  لتصمت سيد زوجي  المستقبلي أم  لتتكلم ؟
لم يرد يراقبها تأكل بنهم , تشفي غليلها من الطعام على ما يبدو ..
رفعت عينيها عن طبقها مستغربة صمته .. و عادت لطبقها الذي أوشك على الانتهاء بلحظات فقط ..
تمتمت بإحراج
*كنت .. جائعة ..
ابتسم لحرجها , و علق بهدوء
*لا عليك أنهِ طعامك ..
لوت شفتيها تنظر للبطاطا المقلية في طبقها قبل أن تقرر أن إكمال طعامها أكثر متعة من الحديث معه !
و أكملته بالفعل .. راضية لتسمعه يقول
*تتلذذين بالطعام !
لم ترد , أبعدت طبقها الفارغ .. و سألت دون مقدمات
*لماذا أنا ؟
ابتسم و هو ينظر لملامحها , خديها الممتلئان كتفاحة ناضجة , كم تمنى أن يقرصهما !
*لأنك جميلة ..
مالت شفتيها بازدراء
*هذه أكبر كذبة بالتاريخ ... ألم يكن بإمكانك اختيار كذبة , تنهضم معي أكثر من هذه !
ارتفع حاجبه ليقول ببرود
*أنت حقا بعيدة عن الجمال المثالي .. و لم تكوني يوما مثالا للبنت التي أريد الزواج منها ..
ابتلعت ريقها مصدومة من كلماته الفاترة , التي أصابتها في الصميم  ..  أصابت القشرة الواهية التي تتمسك بها بأنوثتها , لم تتوقع منه جوابا بهذه الصراحة رغم أنها سألته لتحرجه في الجواب .. تمنت حقا جوابا لا يجرحها ..
ألجم لسانها للحظات لم يمنحها الفرصة لتفكر بشكل سليم و ترد عليه ..
*أنت جميلة يا بشرى ..
قالها مبتسما و قد تغيرت ملامحه لتتسع عينيها و هو يكمل
*لديك عينان معبرتان , واسعتان , لا تقدران على الكذب حتى لو كذبت , ستفضحك عينيك ..
رفرفت بعينيها عدة مرات , لا تصدق ما تسمعه و هو يكمل بهمس
*لديك قدرة على أن تكوني طبيعية , ليست موجودة لدى البعض , لسانك لا يجامل و إن فعل فيفعلها بسخرية لاذعة ..
نظر لها و قد صمتت , لا تجد ما ترد به ليردف
*كما أنك قمة في الرقي و الطيبة ..
التوت شفتيها بابتسامة مترددة لتهمس بخجل قل ما يصيبها
*لطالما كنت معروفة أني أبعد ما يكون عن الرقي لذا ابحث عن كذبة أخرى ..
لكن حتى و هي تقول هذا الكلام الساخر , كان صوتها ساخرا مهتزا بنبرة ضعيفة غير جدية كعادتها ..
فضحك بخفوت
*أصبحت زوجتي وانتهى الأمر ..
و كأنه قال الكلمة السحرية لتنفض عنها الغيمة الوردية التي جعلها كلامه تركبها , ليشع النفور منها و يرى عينيها تتحولان للشر هاتفة به
*هل يمكنك اخباري لمَ وضعتني في موقف محرج كهذا !
اتسعت عينيه مستغربا
*أي موقف !
صرت على أسنانها
*الخطبة السريعة و عقد القران السخيف و كل هذه الحماقة ..
ارتفع حاجبه قليلا
*حماقة ! هل يعتبر قراننا حماقة ..
وضع كفيه على الطاولة أمامه , لتنظر لهما بتدقيق .. أصابع طبيب حقا !
طويلة , ناعمة , ليست خشنة كأغلب الرجال ..
*بشرى ..
هتف اسمها بصرامة , لترفع عينيها له فسألها وملامحه لا تلين
*هل أجبرك أحد على الموافقة ؟
كانت على وشك أن تقول نعم , و كم تمنت حقا قولها , لكن الحيرة ظهرت على ملامحها , و هي ليست قادرة أبدا على الكذب , صحيح أن عمها أخافها قليلا من الرفض وأن أمها , لم تسمح لها بالرفض , لكنها ..
اتسعت عينيها ذعرا و هي تدرك حقيقة أنها أرادت رغم كل تمنعها هذه الخطبة !
و هذا الأمر بحد ذاته كافٍ لإثارة ذعرها ..
لا تريد أن تحب الأمر وتتعلق به .. لا تريد أن تتعلق به هو كذلك ..
لا ينقصها جرح جديد ..
لاحظ القلق الذي بدا على ملامحها والخوف الذي ارتسم واضحا في حدقتيها ليسألها متعاطفا
*ما الأمر بشرى هل الجواب صعب لهذه الدرجة ؟
انتبهت له لتهز رأسها مدعية قوة لا تشعر بها في هذه اللحظة ..
*لا .. لم يجبرني أحد ..
اهتزاز الثقة بصوتها , جعله يقول بتسامح
*لا تقلقي لن أتخلى عنك ..
انتفضت من كلماته القليلة , لتشتعل غضباً , فهي لا تريد الشفقة من أحد  , لا منه و لا من غيره , فقالت بصلابة
*لا يهمني الأمر , في الواقع يمكنك الانسحاب حتى هذه اللحظة , أنا قوية و لن أبكي إن قررت الرحيل !
*كاذبة..
همس بذلك ما أن سكتت عن غرورها الأحمق و كلماتها المتباهية ..
اتسعت عينيها , فهذه أول مرة ينعتها أحدهم بالكاذبة , لطالما كانت معروفة بصدقها , لم تشعر بنفسها إلا وهي تهمس
*حقير ..
و نهضت بقوة تحمل حقيبتها , تتركه خلفها , تغادر الطاولة بخطوات غاضبة مستاءة , فقط لأنه ..  لأنه ربما .. كان صادقاً !..
و ما إن أصبحت خارج المكان حتى تباطأت خطواتها ..
توقعت أن يتبعها , لكنه ببساطة لم يفعل !
تباطأت خطواتها أكثر بالشارع وتعمدت عدم الركوب , عله يصل خلفها , لكنه لم يفعل .. لم يتبعها ..
هل تخلى عنها ..
توقفت خطواتها , كرامتها تأبى أن تنظر للخلف , وقلبها ينتفض ذعرا أن يفعلها ..
لكن الكرامة أسقطت تماما , حين رأت سيارته تمر من قربها ..
و يتركها .. مغادرا !
ترنحت في وقفتها , لا تفهم ما حصل , هل تركها للتو .. هل تخلى عنها !
و لكن يا إلهي في المرة الأولى كانت مجرد خطبة أما الآن فعقد قران , هل ستحمل لقب مطلقة !
ما الذي ستفعله الآن , ما الذي ستقوله لعمها , لقد أهنت الرجل الذي هو من المفروض زوجي , و لذلك قرر أنني لا أناسبه ..
ستجن أمها بلا شك ستجن و لن ترحمها هذه المرة لا هي و لا عمها ..
عادت للبيت بخطوات متثاقلة , متعبة ..
مترددة و خائفة , لا تعرف كيف تواجههم ..
هل تكلمه وتعتذر ؟
لكن هو من استفزها !
يا رب ..
دخلت غرفتها على الفور , متعللة بالصداع والتعب , لتغلق الباب خلفها غير سامحة لأمها بأي حديث , و ما أن ارتمت على السرير بعد حمام دافئ حتى سمحت لنفسها بالبكاء , ألهذه الدرجة , ألهذا الحد لا يستطيع أي رجل احتمال قربها و البقاء معها..
أيعقل أنها سيئة ولا تعلم ..
مجروحة من تصرفه ..
متعبة من التفكير ..
نامت دون أن تشعر ..
***********************

بشرة خيرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن