امضت جيسيكا عطلة نهاية الأسبوع في توضيب حاجياتها و إعادة ترتيب أثاث المنزل بطريقة تتناسب و ذوقها. بدأت فكرة العيش وحدها في مسكنها الصغير القابع على كتف حديقة آل أوبريان الغناء، فهنا ستحقق أمنية أمها و تكون طبيبة و امرأة في آن معاً
في ساعة مبكرة من صباح الاثنين، اصطحبها بيتر إلى المنزل القديم في إحدى ضواحي المدينة و الذي يشغله كعيادة بعيداً عن الضوضاء و الزحمة أول من التقت كانت الممرضة اميلي هانسن التي بالرغم من علامات الدهشة الفاضحة التي ارتسمت على وجهها عند تعارفهما، رحبت بها بحرارة متمنية لها التوفيق في عملها، ثم استدارت ناحية الدكتور أوبريان
اميلي: اتصل الدكتور ترافورد منذ دقائق و سيتأخر في المجيء إلى العيادة
بيتر: هل أعطاك سبباً لذلك؟
اميلي: ذهب عند الفجر إلى مزرعة آل كرايسون
بيتر: ماذا حصل؟
اميلي: رفس ثور هائج أحد العاملين في المزرعة، و حالته تتطلب ادخاله المستشفى لاجراء عملية مستعجلة
التفت بيتر نحو جيسيكا قائلاً:
بيتر: يبدو أنك ستمضين اليوم الأول بمفردك يا دكتورة. هل بمقدورك تسيير الأمور إلى حين رجوعي؟
أجابت الطبيبة الشابة بهدوء و ثقة:
بكل تأكيد
بيتر:حسناً، إن اردت الاستفسار عن شيء، نادي الآنسة هانسن و سأكون في المستشفى ان احتجتما إلي
دخلت جيسيكا عيادتها بعد رحيل بيتر، تلقي نظرة على محتوياتها و تتفحص خزانة الملفات و أسماء المرضى، حين دخلت عليها الممرضة
اميلي: هل تودين القيام بجولة للتعرف على المكان؟
جيسيكا: و لم لا؟
سارتا في الرواق الأبيض و قد زينت جدرانه لوحات هادئة الألوان و المناظر. توقفت الممرضة أمام إحدى الغرف قائلة:
هذه الغرفة تابعة لعيادتك (و اشارت بإصبعها إلى الغرفتين المجاورتين) و هاتان الغرفتان للدكتور أوبريان و تلك للدكتور ترافورد
جيسيكا: و لماذا غرفتان؟
ابتسمت الممرضة اميلي معلقة: لن تطرحي هذا السؤال بعد أن تشاهدي شدة الازدحام هنا
جيسيكا: مازلت لا أرى فائدة من وجود غرفتين لكل طبيب
اميلي : وجودهما يتيح لك الكشف على مريضين في آن معاً. تعالي
و أخرجت معطفاً قصيراً أبيض
اميلي : من المؤسف أنه ليس مقاسك، فقد كان معداً لرجل
فتحت جيسيكا حقيبتها الجلدية و تناولت سترة بيضاء مطوية بعناية و وضعتها على المقعد خلف مكتبها
جيسيكا: لا بأس، فقد جلبت سترتي معي
ابتسمت الممرضة بلطف و علقت:
تصرف ذكي من جانبك يا عزيزتي، فهذه السترات الجاهزة لا تعجبني أبداً
جيسيكا: متى يبدأ المرضى بالتوافد؟
اميلي: اعتقد أنهم بدأوا لتوهم، فأنا اسمع جلبة في غرفة الانتظار
جيسيكا: إذن، من الأفضل أن تباشري عملك في الحال و لا تدعيهم ينتظرون. أليس كذلك؟
اميلي : في الحال يا دكتورة
ما إن أغلقت الممرضة الباب خلفها، حتى أسرعت جيسيكا إلى ارتداء سترتها البيضاء ملقية نظرة سريعة على الغرفة تتحقق من مكان وجود آلات الطبابة. إنها عيادة صغيرة و مريحة تحوي كل ما قد يلزمها أثناء الكشف على المريض. سرير جلدي طويل و عالي مكسو بغطاء أبيض، و خلفه شاشة مربعة تظهر عليها نتائج الفحوص مباشرة. قرب المكتب، خزانة زجاجية صفت عليها آلات معقمة و بعض الأدوية الضرورية. إنها تجربة جديدة و غريبة تمر بها، فعملها هنا يختلف تماما عما كانت تقوم به في جوهانسبرغ
لقيت جيسيكا بعض الصعوبات في تعاملها مع الدفعة الأولى من المرضى، و راعها ما لاحظته من تعابير متناقضة على وجوههم. فمن دهشة عند ولوجهم الغرفة إلى حيرة و ارتباك خلال الكشف، لينتهي الأمر باذعان حذر لارشاداتها. لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها ان حيرتهم هذه ستزول فور مغادرتهم العيادة و في حوزتهم الوصفة الطبية
تطلعت إلى ما تبقى من أسماء على اللائحة المعلقة أمامها، و نادت بأعلى صوتها
المريض التالي
دخل مزارع ضخم الجثة لفحت وجهه شمس البيادر و فتلت ساعديه أعمال الحقل، خلع قبعة القش الكبيرة عن رأسه الضخم بوقاحة سائلاً بصوت أجش:
هل استعان الدكتور أوبريا بممرضة أخرى؟
جيسكا: لست ممرضة يا سيد بوشوف، بل طبيبة مساعدة
فتح المزارع فاه مشدوهاً
المزارع: أأنت الطبيب الجديد؟
ردت جيسيكا ببرود متعمدة:
هذا صحيح. مما تعاني يا سيد بوشوف؟
أشار باصبعه الغليظة إلى صدره شارحاً:
إنها الكحة يا... يا دكتورة. تكاد تقتلني و تسبب لي ألماً مبرحاً هنا. هل بإمكانك اعطائي دواء ناجعاً لها؟
تقدمت منه على مهل ممسكة بسماعتها
جيسيكا: سأكشف عليك أولاً
انتفض الرجل فجأة و تراجع إلى الوراء مزمجراً بانفعال:
تكشفين علي؟
لم تأبه جيسيكا لردة فعله، و أشارت إلى العازل
جيسيكا: اخلع قميصك يا سيد بوشوف و استلق على السرير
تناول قبعته ملوحاً بها و كأنه يحمي نفسه
المزارع: لن أخلع قميصي أمام امرأة. صفي لي الدواء و لن أزعجك بعد ذلك
حدجته جيسيكا بنظرة فاحصة و هتفت بتذمر:
اسمع يا سيد، ليست المرة الأولى التي تقع عيناي على رجل كاشف الصدر، فاخلع قميصك و دعنا من هذه الحركات السخيفة
المزارع: لن أفعل امام امرأة غير زوجتي. و أنت
قحة مفاجئة صدرت خلف المزارع قاطعة عليه عبارته، فاستدارت جيسيكا ناحية الباب، لتلتقي عيناها بعينين رماديتين ترمقانها بنظرة شرهة، أثارت فيها ارتباكاً تخظى تأثيره حدود المفاجأة
لم تهتم بسؤاله عمن يكون، فهالة الرجولة المحيطة بقوامه الرشيق و منكبيه العريضين، شلتها قبل ان تتمكن من الكلام
الرجل الداخل: هل حدث سوء يا دكتورة؟
جيسيكا: أريد أن اكشف على السيد بوشوف لكنه يأبي خلع قميصه
تدخل المزارع معترضاً بانفعال:
انها امرأة يا دكتور ترافورد
التفتت جيسيكا من جديد ناحية المتطفل، عند سماعها اسمه، تمعن النظر فيه بذهول مشوب بالاضطراب. ما برح واقفاً على عتبة الباب، يبادلها النظرات بعينين وقحتين لا يرف لهما جفن
دكتور ترافورد : و لا تنس يا صديقي أنها أيضاً طبيبة، و من المؤكد أنها رأت خلال عملها مئات الرجال الكاشفين عن صدورهم. لا تكن غبياً يا رجل و اخلع قميصك
انصاع المزارع لأوامر الدكور ترافورد و خلع قميصه متلعثماً:
بئس هذه الأيام اللعينة، فالعالم و لاشك سائر إلى الخراب
غادر الطبيب ترافورد الغرفة بهدوء كما ظهر، فالتقطت جيسيكا آلتها و بدأت الكشف على المريض من غير ان يبدي اعتراضاً
استغرق الأمر دقائق قامت جيسيكا بعدها لتغسل يديها
جيسيكا : بامكانك ارتداء قميصك ياسيد بوشوف
المزارع: مالأمر يادكتورة؟
جيسيكا : احتقان في شعيباتك الرئوية،هل تدخن؟
المزارع: نعم
جيسيكا : كم سيكارة يومياً؟
المزارع: ادخن...ادخن كثيراً
اعادت جيسيكا السؤال بلهجة آمرة:
هيا ياسيد بوشوف،كم سيكارة؟
اجاب المزارع بتذمر:
حوالي الستين على مااعتقد،ولاتحاولي ان تسأليني التوقف عن التدخين
جيسكا: لن اطلب منك التوقف عن التدخين لكني سأسألك التقليل منه أو التوصل الى تدخين نصف العدد الحالي، ثم اردفت قبل ان تسمع اعتراضه
سأصف لك دواء وعد الى هنا بعد اسبوع
تناول المزارع قبعته بسخط واتجه نحو الباب:
من الأفضل ان ارى الدكتور اوبريان أو الدكتور ترافورد
ابتسمت جيسيكا وهي تكتب نوع الدواء على ورقة صغيرة امامها ثم تمتمت بتهكم:
كما تشاء ياسيد بوشوف
علت ضحكة جيسيكا بعد خروج المزارع حانقاً من عيادتها فالتحدي الخفي بين كونها امرأة وعدم اعتياد المرضى على ذلك ظهر جلياً منذ اليوم الأول لكن ضحكتها هذه لم تدم طويلا مع دخول المريض التالي