لا يغتفر أبداً

596 12 0
                                    


  شقت جيسيكا طريقها وسط الحشد الهائل من القرويين الذين تجمهروا أمام منزل زعيمهم يتسقطون الأخبار عن صحته بقلق ووجوم. و اضطرت للتوقف مراراً لتجيب على أسئلتهم من غير أن تسدي إليهم خدمة تذكر، فهي لا تفهم حرفاً مما يقولون. وصلت إلى المنزل شبه منهارة و سارعت إلى إغلاق الباب خلفها، تجاهد في منع الفضوليين من اقتحام الغرفة.
كان دان جالساً إلى جانب الزعيم و قد انتهى للتو من معاينته، فلم يلتفت إليها حينما دخلت، و لم يعرها أدنى اهتماما و هي تستوضح حالة المريض. اكتفى بأجوبة مقتضبة فظة متفادياً الخوض في التفاصيل، فلزمت الصمت و جلست قرب الممرضة تترقب بشوق ساعة العودة لمنزلها في لويزفيل. لا حاجة لبقائها هنا بعد اليوم، فصحة الزعيم في تحسن و يمكن أن يعهد الاعتناء به إلى الآنسة رافيل.
وقف دان و كأنه أدرك ما يجول في خلدها و خاطب الممرضة:
- زال الخطر كلياً و من الآن سيكون في عهدتك. سأطمئن الأهالي.
واجه في الخارج عشرات العيون الحائرة تمطره بنظرات قلقة، فطلب من باتريك أن يطمئنهم على صحة زعيمهم و زوال الخطر عنه. و بعد لحظات علت صيحات المتجمهرين و تقدم منه شيخ جليل متكلماً باسم الباقين و طلب منه و من جيسيكا مشاركة أهل القرية الافطار، فقبل دان الدعوة شاكراً.
بعد الفطور حزم الطبيبان حقيبتيهما و عرجا على خيمة الزعيم مرة أخرى لتوديعه قبل عودتهما إلى لويزفيل.
لفت انتباههما و هما يقتربان من الخيمة، صخب شديد في الاسطبل المجاور و صيحات الرعاة تدوي في كل مكان. و على بعد عدة أمتار من الاسطبل وقف باتريك يراقب ما يحدث مصدراً بين الحين و الآخر أوامره.
كل ما يحدث كان لغزاً بالنسبة إلى جيسيكا و لكن ما ان دخلا الخيمة حتى أدركت سبب الضجة بعد أن بادرهما الزعيم العليل قائلاً:
- لقد اختار أخي نخبة قطعاننا، أريدك أن تختار منها عشرة رؤوس مقابل ما بذلته من جهد لانقاذي. و لا تنسَ يا دكتور أن تجد لنفسك عروساً.
اختلفت وقع عبارته هذه المرة على جيسيكا، فالغبطة التي أحستها المرة الأولى حلت مكانها غصة خانقة بعد تصرف دان معها ليلة البارحة. حتى دان بدا منزعجاً من ملاحظة الزعيم اعتذر بنبرة مهذبة:
- أقدر لك اهتمامك بموضوع زواجي أيها الزعيم، أما الماشية فاعذرني عن عدم قبولها لجهلي أمور تربيتها و الاعتناء بها. و عن بدل الأتعاب فأنا أترك مناقشة ذلك لشريكتي.
لم يعلق الزعيم على رد دان مكتفياً بالابتسام، و صفق مرتين هرولت على الأثر زوجته و كأنها كانت تنتظر اشارته، حاملة علبة كبيرة وضعتها أمام زوجها و جثت على الأرض قرب فراشه.
راقبته جيسيكا بفضول و هو يحل رباط العلبة و يخرج منها جلد أفعى، و ازدادت عيناها اتساعاً حين مد يديه المرتجفتين إليها قائلاً:
- أفعى الدومبا تجلب الخير و الحظ. انها تساعد على انجاب ذرية جيدة.
توردت وجنتاها و ازداد ارتعاشها عندما لاحظت نظرات دان المسلطة عليها، فأجابت بصوت متهدج:
- لست متزوجة أيها الزعيم.
عاود الرجل المريض الابتسام و هتف:
- لا أهمية لذلك، فالرجل أيها الطبيبة يشبه أفعى الدومبا عندما يتهيأ للبحث عن عروس. و يزداد شراسة و نهماً كلما تمعن في البحث، و لا يترك لفريسته أية فرصة للهرب حينما يضرب ضربته.
لم يبد على جيسيكا أنها فهمت ما يقوله فرفع يده مودعاً:
- بأمان الله يا دكتور ترافورد و دكتورة نيل، سيرافقكما أخي إلى المطار.
جلسا في المقعد الخلفي لسيارة باتريك السوداء الكبيرة و نظر دان إلى الهدية في حضنها معلقاً:
- لقد أحسنوا اكرامك، فجلد الأفعى هذا لا يقدمونه سوى في المناسبات النادرة، و للأشخاص المميزين.
شعت عيناه القاتمتان ببريق اعتادت ملاحظته كلما حاول أن يسخر منها، فحولت نظرها عنه بانزعاج و قد عاودتها فجأة ذكرى الليلة الماضية، و تأججت نارها في فكرها من جديد تلسعها و تؤلمها. ستحتاج إلى بعض الوقت لتنسى خجلها بعد السماح له بالتمادي في تصرفاته معها.
لم تكن رحلتهما في الطائرة إلى لويزفيل مريحة كما تمنت جيسيكا أن تكون. فالطقس الغائم جعل الرؤية شبه معدومة، و تسبب في مطبات هوائية بذلت جيسيكا جهداً كبيراً لتفاديها.
- ما الذي دفعك لتعلم الطيران؟
- رافقت أخي مرة في تمارينه و أعجبتني الفكرة.
- هل تحتفظين بمفاجآت أخرى غير إجادتك الطيران؟
أقلعت جيسيكا عن التحديق في ساعات القيادة مبتسمة:
- لا أعتقد.
حطت الطائرة في المدرج المخصص لها في جو ممطر و عاصف اكتنزت فيه السماء بغيوم سوداء ثقيلة، يشق احشاءها بين الحين و الآخر لمعان برق كألسنة اللهب يصحبه رعد مخيف.
وصلت جيسيكا إلى سيارتها و قد بللها المطر من رأسها حتى أخمص قدميها، فجلست خلف المقود تنشف شعرها و يديها. و بعد لحظات وصل برنارد بشاحنة صغيرة و ترجل منها متوجها نحو سيارة دان ثم عاد أدراجه إلى الشاحنة مشيراً لهما، فقيادة السيارة في جو عاصف كهذا و في شوارع تملؤها السيول و الوحول، يعد ضرباً من الجنون. سار الثلاثة على مهل في شوارع المدينة العابقة بالضباب و قد تحولت الى بحيرات من شدة غزارة المطر المنهمر، و رافقهما برنارد حتى مشارف لويزفيل حيث أطلق منبه شاحنته عدة مرات مودعاً و قفل راجعاً من حيث أتى. فأكملا طريقهما كل في سيارته إلى أن وصلت إلى منزلها فاستسلمت لحمام ساخن كان أفضل ما حصلت عليه هذا الصباح.
و انتظرت حتى هدأت العاصفة ثم توجهت إلى العيادة حيث كان الدكتور اوبريان في انتظار سماع أخبار الزعيم سدريك.
تنبهت جيسيكا خلال رحلتها إلى مقاطعة فندا إلى وجوب تجديد رخصة الطيران، فعملت، في الأسبوع الذي تلا عودتها إلى لويزفيل، على تحضير ملفها الطبي و ضمنته كل ما تحتاجه من مستندات و أوراق و قدمته إلى بيتر أثناء تناولهما الغداء في العيادة.
- لا ينقصه سوى توقيعك يا دكتور اوبريان قبل أن أقدمه للدوائر المختصة.
ابتسم بيتر و هو يقطع شريحة اللحم في طبقه:
- لن يستغرق الأمر طويلاً.
- عظيم، فبودي أن أعاود ممارسة هوايتي المفضلة.
قطع عليهما حديثهما هدير شاحنة و جلبة قوية في الشارع أمام المبنى، فنهض بيتر عن مقعده هاتفاً بحدة:
- ما هذه الضوضاء المزعجة؟
و هرول الاثنان إلى النافذة المطلة على الطريق ليقع نظرهما على شاحنة ضخمة متوقفة أمام مدخل المبنى، محملة بعدة رؤوس من الماشية تتناحر و تتدافع في الصندوق الحديدي.
- ماذا تفعل شاحنة كهذه في وسط المدينة؟
بدأ الشك يساور جيسيكا، لكنها أحجمت عن ذكر شيء أمام بيتر و هو يحاول بانفعال ظاهر فتح النافذة  

رواية ( المجهول )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن