لم تعد تكترث

592 11 0
                                    

  كانت جيسيكا تقوم بجولتها الأسبوعية في المستشفى، عندما طلب منها عبر المذياع التوجه فوراً لمقابلة الدكتور اوبريان في العيادة. أدركت على الفور أن هناك طارئاً، فابدلت ملابسها و قادت سيارتها بسرعة جنونية غير مبالية بقوانين السير. و خلال دقائق وصلت أمام العيادة و توجهت مباشرة إلى مكتب بيتر لتجده مجتمعاً إلى دان. ما أن أغلقت الباب خلفها حتى بادرهما الدكتور اوبريان موضحاً:
- تلقيت مكالمة هاتفية من ممرضة خاصة تعمل في مقاطعة فندا، أخبرتني أن سيدريك كابوفو زعيم المقاطعة مريض و يحتاج لرعاية طبية عاجلة، و نظراً لسنه ارتأت الممرضة عدم نقله من منزله إلى المستوصف الذي يبعد عنهم حوالي العشر كيلو مترات.
سأله دان باهتمام:
- مما يشكو يا دكتور؟
- تظن الممرضة أنها الزائدة الدودية. الوقت يمر بسرعة و اقترح أن ترافقك جيسيكا.
- يلزمنا ساعتان أو ثلاث لنصل إلى هناك في السيارة، فأنت تعلم حالة الطرقات في تلك المنطقة.
- قد أطلب من برنارد إيصالكما بطائرته، لكنها لا تتسع لأكثر من راكبين.
تدخلت جيسيكا للمرة الأولى منذ وصولها مقترحة:
- بامكاني قيادة الطائرة ان وافق برنارد على اعارتي اياها.
التفتا إليها باندهاش و ذهول، و تقدم دان منها سائلاًً بسخرية:
- هل تجيدين قيادة الطائرة؟
ردت جيسيكا بالنبرة نفسها:
- أجل و أحمل أجازة في الطيران. هل تود رؤيتها؟
قاطعهما بيتر قائلاً:
- سأتصل بالمزرعة و ان لم أحظ ببرنارد سأدع أوليفيا تبلغه الرسالة.
تناول بيتر سماعة الهاتف على الفور، و ماهي إلا دقائق قليلة حتى استدار ناحيتهما مبتسماً بارتياح:
- سيهيىءبرنارد الطائرة لتكون مستعدة للاقلاع فور وصولكما. و في هذا الوقت سأتصل بالممرضة في فندا لاتخاذ التدابير اللازمة لاستقبالكما.
هتف دان بحزم متجهاً نحو الباب تتبعه جيسيكا:
- حسناً، فلنتحرك بسرعة قبل فوات الأوان.
وصلت سيارتا الطبيبين معاً إلى المزرعة، حيث كان برنارد في انتظارهما على المدرج الضيق بقرب طائرة صغيرة مخططة باللونين الأحمر و الأبيض. لم يحاول برنارد الاستفسار عن تفاصيل المهمة، مكتفياً بارشاد جيسيكا إلى الخط الواجب اتباعه أثناء تحليقها. ثم تقدم من دان الواقف بعيداً و ربت على كتفه ممازحاً:
- تشجع يا دان فان كانت جيسيكا تجيد التحليق كاجادتها الطب، فستكون في أيد أمينة.
- بأمكاني التفكير بأماكن أخرى أكثر أماناً.
سخرت جيسيكا منه معلقة:
- يا لك من جبان.
- و كيف لا أخاف و مصيري بين يدي امرأة؟
تجاهلت عبارته و التفتت نحو برنارد مصافحة:
- شكراً جزيلاً على مساعدتك يا برنارد.
و توجهت بخطى ثابتة نحو الطائرة و جلست خلف المقود، بينما تهادى دان على المقعد المخصص للركاب إلى جانبها. أشارت إليه بربط حزام النجاة قبل أن تضع جهاز الاتصال على أذنيها، فانصاع سائلاً بقلق:
- هل أنت متأكدة مما تفعلين؟
أدارت المحرك ضاحكة:
- لا تخش شيئاً فستصل إلى هناك كتلة واحدة.
- حياً أو ميتاً؟
- حيا كما أتمنى، و الآن هلا اقلعت عن المزاح؟
علا صوت المحرك مدوياً و بدأت الطائرة تهتز بهما، بينما أجرت جيسيكا اتصالاً تجريبياً مع أقرب قاعدة إلى المزرعة، ثم زادت من طاقة المحرك لتنطلق الطائرة بهما في سرعة هائلة على المدرج المعبّد. و ما أن أشار عقرب ساعة السرعة إلى الحد الاقصى، حتى ارجعت جيسيكا المقود إلى الوراء و ارتفعت الطائرة الصغيرة عن الأرض منطلقة كالسهم نحو السماء الزرقاء الصافية.
تمتم دان و قد اسند رأسه إلى حافة المقعد:
- لا بأس يا جيسيكا.
شغلها الفرح بالتحليق من جديد عن الانتباه إلى تعليقاته، فبالرغم من كرهها للأماكن العالية لم يزعجها الطيران أبداً، بل اتمت قبل قدومها إلى لويزفيل ما يقارب المئتي ساعة من التحليق بطائرات مختلفة الاحجام و الأنواع.
الجو صحو و مناسب لرحلة كهذه، لا غيوم و لا رياح بل امتدادأزرق نقي تموج في وسطه أشعة شمس ساطعة. اتجهت إلى الشمال – الشرقي و تستدل على خط تحليقها بواسطة خارطة صغيرة معلقة في سقف الطائرة. و ان سارت الأمور طبيعية فستحط في أرض فندا بعد ثلاثين دقيقة من الآن.
خرقت جو الصمت المخيم عليهما منذ الاقلاع سائلة:
- هل لديهم غرفة للجراحة في المستوصف؟
- لا أعتقد ذلك، بل لديهم ما يكفي للحالات الطارئة.
- ماذا سنفعل إذا تعذر علينا نقل المريض؟
- عندها سنجري العملية في المنزل.
ابتسمت بسخرية معلقة:
- يبدو أنك تحمل غرفة الجراحة في حقيبتك!
- ماذا تعنين بكلامك هذا؟ تعلمين جيداً أننا قد نضطر إلى اجراءالعملية بما قد نملك من تجهيزات بدائية.
تخلت عن مراقبة اتجاهها لتواجه عينيه الغاضبتين:
- أعلم ذلك. لكني أردد ما قلته لي مرة، أتذكر؟
- آه فهمت. تقصدين ملاحظتي لك لعدم نقلك أوليفيا إلى المستشفى أثناء ولادتها. أليس كذلك؟
- أجل.
- لكن الظروف مختلفة الآن.
- لا أرى أي أختلاف بين ما قد نضطر للقيام به و ما قمت به مع أوليفيا. لا بل المخاطرة أكبر بكثير هذه المرة.
أجاب بتململ ظاهر:
- دعينا من المناقشة الآن.
- حسناً، لن أتكلم من الآن و صاعداً.
- هل أنت غاضبة؟
- لست غاضبة يا دان. لكني لا أفهم تحديدك للحالة الطارئة.
- الأمر في غاية البساطة. عندما تصادفك حالة كالتي ستواجهنا بعد قليل فتسمى حالة طارئة. أي بامكانك التصرف بما هو متوافر لديك.
- حالة أوليفيا كانت من الحالات الطارئة التي تتكلم عنها، فتصرفت بما توافر عندي من أمكانات طبية، و لا أفهم لماذا انفعلت يومها.
- لأنه في مثل هذه الحالات،يحتفظ الرجال ببصيرتهم أما النساء...
قاطعته ضاحكة بالرغم من حنقها:
- لا تكرر علي هذا القول ثانية. أنت تخيب ظني يا دان، فأنا لم أتوقع أن تكون من الذين يميزون بين الجنسين.
- كل رجل يخفي في داخله نزعة للتمييز. إنما ليس هذا ما قصدته. النساء ينظرن إلى الأمور بمنظار العاطفة و أنت أصدق مثال على ذلك.
ثوان من الصمت نظرت خلالها إلى لوحة القيادة، ثم علقت ببرودة:
- لو كانت يداي حرتين في هذه اللحظة، لما توانيت عن صفعك.
قهقه دان معلقاً:
- لديك يدان ناعمتان يا جيسيكا و تسرني ملامستهما، غاضبة كنت أم لطيفة.
أيقنت أنها عاجزة عن مجاراته في الكلام و نظرت إليه بغضب:
- من الأفضل أن تساعدني في العثور على مدرج الهبوط قرب المستوصف، فلا شك في أنه يقع في مكان ما هنا.
حطت الطائرة الصغيرة بنجاح في المدرج الوحيد في فندا، و ما أن ترجلا منها حاملين حقيبتيهما الطبيتين، حتى هرول في اتجاههما رجل أسود قدم نفسه على أن باتريك كابوفو شقيق الزعيم المريض، فقادهما على جناح السرعة إلى سيارته السوداء الفخمة لتنطلق بهم إلى منزل آل كابوفو.
فوجئت جيسيكا لدى وصولهم بالبساطة الغالبة على منزل الزعيم و هو منزل خشبي أشبه بالكوخ، و مقسم إلى مطبخ و غرفة جلوس و غرفتي نوم، و مبني على الطريقة القديمة و أثاثه شبه بدائي، لكنه نظيف و مرتب و سقفه المكون من القش و أغصان الشجر، يبعث برودة منعشة بالرغم من الحر الشديد في الخارج.
بدا الزعيم بقامته المديدة و جسمه الضخم ككتلة من الشحم معدة للشواء، راح يتلوى من الالم و قد غطى الزبد فمه و جحظت عيناه، يضغط بيديه على حافتي السرير مطلقاً أنيناً خافتاً. بدا واضحاً أنه من الذين يولون بطونهم أهمية بالغة حتى أوشك السرير أن يتحطم تحت ثقله.
اقتربت منهما امرأة سوداء و قدمت نفسها على أنهاالآنسة رافيل ممرضة الزعيم الخاصة. و همست في أذن دان عدة كلمات توجه على أثرها نحو السرير و جثا بالقرب منه واضعاً يده على جبين الزعيم الملتهب.
- الألم يا دكتور، أنه يكاد يقتلني.
- أعلم أنه ألم رهيب أيها الزعيم لكنه سيزول بعد قليل.
مد الزعيم يداً مرتعشة ناحية جيسيكا سائلاً:
- من هذه السيدة؟ زوجتك يا دكتور؟
رمق دان جيسيكا بنظرة ساخرة مجيباً:
- كلا أيها الزعيم، فأنا لست متزوجاً. أنها الدكتورة جيسيكا و قد جاءت لتعاونني.
- على كل رجل أن يتزوج.
لم يعلق دان على كلام الزعيم، بل أمسك بيد جيسيكا و أومأ للمرضة بأن تتبعهما إلى خارج الغرفة.
تطلعت جيسيكا إلى وجهه العابس مستوضحة:
- ماذا سنفعل يا دان؟
- لا نستطيع نقله من هنا فالوقت يمر بسرعة عدا عن أن حياته ستكون بخطر ان نحن حركناه قيد أنملة.
التفتت إلى غرفة المريض ثم استدارت نحوه بذعر:
- هل ستجري العملية في تلك الغرفة؟
- ليس لدي خيار آخر (و التفت إلى الممرضة رافيل يعطيها تعليمات سريعة) سنحتاج إلى طاولة لوضع الزعيم عليها، ضوء قوي، ماء ساخن، و الكثير من الخرق المعقمة. بادرت الممرضة إلى تنفيذ التعليمات بسرعة مدهشة، بينما تدبر شقيق الزعيم أمر المصباح و أوصله إلى طاولة مستطيلة فتولت الممرضة التحضير للعملية.
نظر الزعيم بقلق إلى الطبيبين يتفحصان آلات الجراحة و قال مخاطباً دان:
- أشفني و سأعطيك عشر بقرات مهراً لعروسك.
ضحكت جيسيكا في سرها لالحاح الزعيم على فكرة الزواج، لكن دان بقي على عبوسه و أجاب و هو يتفحص قوة الضوء:
- لا تنسَ أن تقاليدنا تختلف أيها الزعيم  

رواية ( المجهول )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن